ﰡ
قَسَم أَقْسَمَ اللَّه بِهِ جَلَّ وَعَزَّ وَفِي " الْبُرُوج " أَقْوَال أَرْبَعَة : أَحَدهَا : ذَات النُّجُوم ; قَالَهُ الْحَسَن وَقَتَادَة وَمُجَاهِد وَالضَّحَّاك.
الثَّانِي : الْقُصُور، قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة وَمُجَاهِد أَيْضًا.
قَالَ عِكْرِمَة : هِيَ قُصُور فِي السَّمَاء.
مُجَاهِد : الْبُرُوج فِيهَا الْحَرَس.
الثَّالِث : ذَات الْخَلْق الْحَسَن ; قَالَهُ الْمِنْهَال بْن عَمْرو.
الرَّابِع : ذَات الْمَنَازِل ; قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَة وَيَحْيَى بْن سَلَّام.
وَهِيَ اثْنَا عَشَر بُرْجًا، وَهِيَ مَنَازِل الْكَوَاكِب وَالشَّمْس وَالْقَمَر.
يَسِير الْقَمَر فِي كُلّ بُرْج مِنْهَا يَوْمَيْنِ وَثُلُث يَوْم ; فَذَلِكَ ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ يَوْمًا، ثُمَّ يَسْتَسِرّ لَيْلَتَيْنِ ; وَتَسِير الشَّمْس فِي كُلّ بُرْج مِنْهَا شَهْرًا.
وَهِيَ : الْحَمَل، وَالثَّوْر، وَالْجَوْزَاء، وَالسَّرَطَان، وَالْأَسَد، وَالسُّنْبُلَة، وَالْمِيزَان، وَالْعَقْرَب، وَالْقَوْس وَالْجَدْي، وَالدَّلْو، وَالْحُوت.
وَالْبُرُوج فِي كَلَام الْعَرَب : الْقُصُور ; قَالَ اللَّه تَعَالَى ; " وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوج مُشَيَّدَة " [ النِّسَاء : ٧٨ ].
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
أَيْ الْمَوْعُود بِهِ.
وَهُوَ قَسَم آخَر، وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة ; مِنْ غَيْر اِخْتِلَاف بَيْن أَهْل التَّأْوِيل.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَعَدَ أَهْل السَّمَاء وَأَهْل الْأَرْض أَنْ يَجْتَمِعُوا فِيهِ.
اُخْتُلِفَ فِيهِمَا ; فَقَالَ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس وَابْن عُمَر وَأَبُو هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ : الشَّاهِد يَوْم الْجُمْعَة، وَالْمَشْهُود يَوْم عَرَفَة.
وَهُوَ قَوْل الْحَسَن.
وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة مَرْفُوعًا قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( الْيَوْم الْمَوْعُود يَوْم الْقِيَامَة وَالْيَوْم الْمَشْهُود يَوْم عَرَفَة وَالشَّاهِد يَوْم الْجُمْعَة... ) خَرَّجَهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامِعه، وَقَالَ : هَذَا حَدِيث [ حَسَن ] غَرِيب، لَا نَعْرِفهُ إِلَّا مِنْ حَدِيث مُوسَى بْن عُبَيْدَة، وَمُوسَى بْن عُبَيْدَة يُضَعَّف فِي الْحَدِيث، ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْن سَعِيد وَغَيْره.
وَقَدْ رَوَى شُعْبَة وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَغَيْر وَاحِد مِنْ الْأَئِمَّة عَنْهُ.
قَالَ الْقُشَيْرِيّ فَيَوْم الْجُمْعَة يَشْهَد عَلَى كُلّ عَامِل بِمَا عَمِلَ فِيهِ.
قُلْت : وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَيَّام وَاللَّيَالِي ; فَكُلّ يَوْم شَاهِد، وَكَذَا كُلّ لَيْلَة ; وَدَلِيله مَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْم الْحَافِظ عَنْ مُعَاوِيَة بْن قُرَّة عَنْ مَعْقِل بْن يَسَار عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( لَيْسَ مِنْ يَوْم يَأْتِي عَلَى الْعَبْد إِلَّا يُنَادَى فِيهِ : يَا اِبْن آدَم، أَنَا خَلْق جَدِيد، وَأَنَا فِيمَا تَعْمَل عَلَيْك شَهِيد، فَاعْمَلْ فِيَّ خَيْرًا أَشْهَد لَك بِهِ غَدًا، فَإِنِّي لَوْ قَدْ مَضَيْت لَمْ تَرَنِي أَبَدًا، وَيَقُول اللَّيْل مِثْل ذَلِكَ ).
حَدِيث غَرِيب مِنْ حَدِيث مُعَاوِيَة، تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ زَيْد الْعَمِّيّ، وَلَا أَعْلَمُهُ مَرْفُوعًا.
عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد.
وَحَكَى الْقُشَيْرِيّ عَنْ اِبْن عُمَر وَابْن الزُّبَيْر أَنَّ الشَّاهِد يَوْم الْأَضْحَى.
وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : الشَّاهِد : التَّرَوِّيَة، وَالْمَشْهُود : يَوْم عَرَفَة.
وَرَوَى إِسْرَائِيل عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ الْحَارِث عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : الشَّاهِد يَوْم عَرَفَة، وَالْمَشْهُود يَوْم النَّحْر.
وَقَالَهُ النَّخَعِيّ.
وَعَنْ عَلِيّ أَيْضًا : الْمَشْهُود يَوْم عَرَفَة.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالْحُسَيْن بْن عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا : الْمَشْهُود يَوْم الْقِيَامَة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" ذَلِكَ يَوْم مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاس وَذَلِكَ يَوْم مَشْهُود " [ هُود : ١٠٣ ].
قُلْت : وَعَلَى هَذَا اِخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْعُلَمَاء فِي الشَّاهِد، فَقِيلَ : اللَّه تَعَالَى ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَسَعِيد - بْن جُبَيْر ; بَيَانُهُ :" وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا " [ النِّسَاء : ٧٩ ]، " قُلْ أَيّ شَيْء أَكْبَر شَهَادَة ؟ قُلْ اللَّه شَهِيد بَيْنِي وَبَيْنكُمْ " [ الْأَنْعَام : ١٩ ].
وَقِيلَ : مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَالْحُسَيْن بْن عَلِيّ ; وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس " فَكَيْف إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمَّة بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِك عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا " [ النِّسَاء : ٤١ ]، وَقَرَأَ الْحُسَيْن " يَا أَيّهَا النَّبِيّ إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا " [ الْأَحْزَاب : ٤٥ ].
قُلْت : وَأَقْرَأ أَنَا " وَيَكُون الرَّسُول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ".
وَقِيلَ : آدَم.
وَقِيلَ : عِيسَى بْن مَرْيَم ; لِقَوْلِهِ :" وَكُنْت عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْت فِيهِمْ " [ الْمَائِدَة : ١١٧ ].
وَالْمَشْهُود : أُمَّته.
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَمُحَمَّد بْن كَعْب : الشَّاهِد الْإِنْسَان ; دَلِيله :" كَفَى بِنَفْسِك الْيَوْم عَلَيْك حَسِيبًا " [ الْإِسْرَاء : ١٤ ].
مُقَاتِل : أَعْضَاؤُهُ ; بَيَانه :" يَوْم تَشْهَد عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتهمْ وَأَيْدِيهمْ وَأَرْجُلهمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " [ النُّور : ٢٤ ].
الْحُسَيْن بْن الْفَضْل : الشَّاهِد هَذِهِ الْأُمَّة، وَالْمَشْهُود سَائِر الْأُمَم ; بَيَانه :" وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاس " [ الْبَقَرَة : ١٤٣ ].
وَقِيلَ : الشَّاهِد : الْحَفَظَة، وَالْمَشْهُود : بَنُو آدَم.
وَقِيلَ : اللَّيَالِي وَالْأَيَّام.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ.
قُلْت : وَقَدْ يَشْهَد الْمَال عَلَى صَاحِبه، وَالْأَرْض بِمَا عُمِلَ عَلَيْهَا ; فَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ هَذَا الْمَال خَضِر حُلْو، وَنِعْمَ صَاحِب الْمُسْلِم هُوَ لِمَنْ أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِين وَالْيَتِيم وَابْن السَّبِيل - أَوْ كَمَا قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذهُ بِغَيْرِ حَقّه كَانَ كَاَلَّذِي يَأْكُل وَلَا يَشْبَع وَيَكُون عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْم الْقِيَامَة ).
وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَرَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَة :" يَوْمَئِذٍ تُحَدِّث أَخْبَارهَا " [ الزَّلْزَلَة : ٤ ] قَالَ :( أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارهَا ) ؟ قَالُوا : اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم.
قَالَ :( فَإِنَّ أَخْبَارهَا أَنْ تَشْهَد عَلَى كُلّ عَبْد أَوْ أَمَة بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرهَا، تَقُول عَمِلَ يَوْم كَذَا كَذَا كَذَا وَكَذَا.
قَالَ : فَهَذِهِ أَخْبَارهَا ).
قَالَ حَدِيث حَسَن غَرِيب صَحِيح.
وَقِيلَ : الشَّاهِد الْخَلْق، شَهِدُوا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْوَحْدَانِيَّةِ.
وَالْمَشْهُود لَهُ بِالتَّوْحِيدِ هُوَ اللَّه تَعَالَى.
وَقِيلَ : الْمَشْهُود يَوْم الْجُمْعَة ; كَمَا رَوَى أَبُو الدَّرْدَاء قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاة يَوْم الْجُمْعَة فَإِنَّهُ يَوْم مَشْهُود تَشْهَدُهُ الْمَلَائِكَة... ) وَذَكَرَ الْحَدِيث.
خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ وَغَيْره.
قُلْت : فَعَلَى هَذَا يَوْم عَرَفَة مَشْهُود ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَة تَشْهَدُهُ، وَتَنْزِل فِيهِ بِالرَّحْمَةِ.
وَكَذَا يَوْم النَّحْر إِنْ شَاءَ اللَّه.
وَقَالَ أَبُو بَكْر الْعَطَّار : الشَّاهِد الْحَجَر الْأَسْوَد ; يَشْهَد لِمَنْ لَمَسَهُ بِصِدْقٍ وَإِخْلَاص وَيَقِين.
وَالْمَشْهُود الْحَاجُّ.
وَقِيلَ : الشَّاهِد الْأَنْبِيَاء، وَالْمَشْهُود مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; بَيَانه :" وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاق النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة " إِلَى قَوْله تَعَالَى " وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ " [ آل عِمْرَان : ٨١ ].
أَيْ لُعِنَ.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : كُلّ شَيْء فِي الْقُرْآن " قُتِلَ " فَهُوَ لُعِنَ.
وَهَذَا جَوَاب الْقَسَم فِي قَوْل الْفَرَّاء - وَاللَّام فِيهِ مُضْمَرَة ; كَقَوْلِهِ :" وَالشَّمْس وَضُحَاهَا " [ الشَّمْس : ١ ] ثُمَّ قَالَ " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا " [ الشَّمْس : ٩ ] : أَيْ لَقَدْ أَفْلَحَ.
وَقِيلَ : فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير ; أَيْ قُتِلَ أَصْحَاب الْأُخْدُود وَالسَّمَاء ذَات الْبُرُوج ; قَالَهُ أَبُو حَاتِم السِّجِسْتَانِيّ.
اِبْن الْأَنْبَارِيّ : وَهَذَا غَلَط لِأَنَّهُ لَا يَجُوز لِقَائِلٍ أَنْ يَقُول : وَاَللَّه قَامَ زَيْد عَلَى مَعْنَى قَامَ زَيْد وَاَللَّه.
وَقَالَ قَوْم : جَوَاب الْقَسَم " إِنَّ بَطْش رَبّك لَشَدِيد " وَهَذَا قَبِيح ; لِأَنَّ الْكَلَام قَدْ طَالَ بَيْنهمَا.
وَقِيلَ :" إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا ".
وَقِيلَ : جَوَاب الْقَسَم مَحْذُوف، أَيْ وَالسَّمَاء ذَات الْبُرُوج لَتُبْعَثُنَّ.
وَهَذَا اِخْتِيَار اِبْن الْأَنْبَارِيّ.
وَالْأُخْدُود : الشِّقّ الْعَظِيم الْمُسْتَطِيل فِي الْأَرْض كَالْخَنْدَقِ، وَجَمْعه أَخَادِيد.
وَمِنْهُ الْخَدّ لِمَجَارِي الدُّمُوع، وَالْمِخَدَّة ; لِأَنَّ الْخَدّ يُوضَع عَلَيْهَا.
وَيُقَال : تَخَدَّدَ وَجْه الرَّجُل : إِذَا صَارَتْ فِيهِ أَخَادِيد مِنْ جِرَاح.
قَالَ طَرَفَة :
وَوَجْه كَأَنَّ الشَّمْس حَلَّتْ رِدَاءَهَا | عَلَيْهِ نَقِيّ اللَّوْن لَمْ يَتَخَدَّد |
أَتُوعِدُنِي كَأَنَّك ذُو رُعَيْن | بِأَنْعَم عِيشَة أَوْ ذُو نُوَاسِ |
وَكَائِن كَانَ قَبْلك مِنْ نَعِيم | وَمُلْك ثَابِت فِي النَّاس رَاسِ |
قَدِيم عَهْده مِنْ عَهْد عَادٍ | عَظِيم قَاهِر الْجَبَرُوت قَاسِ |
أَزَالَ الدَّهْر مُلْكهمْ فَأَضْحَى | يُنْقَل مِنْ أُنَاس فِي أُنَاسِ |
وَرُعَيْن حِصْن لَهُ وَهُوَ مِنْ وَلَد الْحَارِث بْن عَمْرو بْن حِمْيَر بْن سَبَأ.
مَسْأَلَة : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَعْلَمَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة فِي هَذِهِ الْآيَة، مَا كَانَ يَلْقَاهُ مَنْ وَحَّدَ قَبْلهمْ مِنْ الشَّدَائِد، يُؤْنِسهُمْ بِذَلِكَ.
وَذَكَرَ لَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِصَّة الْغُلَام لِيَصْبِرُوا عَلَى مَا يُلَاقُونَ مِنْ الْأَذَى وَالْآلَام، وَالْمَشَقَّات الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، لِيَتَأَسَّوْا بِمِثْلِ هَذَا الْغُلَام، فِي صَبْره وَتَصَلُّبِهِ فِي الْحَقّ وَتَمَسُّكِهِ بِهِ، وَبَذْله نَفْسه فِي حَقّ إِظْهَار دَعَوْته، وَدُخُول النَّاس فِي الدِّين مَعَ صِغَر سِنّه وَعِظَم صَبْره.
وَكَذَلِكَ الرَّاهِب صَبَرَ عَلَى التَّمَسُّك بِالْحَقِّ حَتَّى نُشِرَ بِالْمِنْشَارِ.
وَكَذَلِكَ كَثِير مِنْ النَّاس لَمَّا آمَنُوا بِاَللَّهِ تَعَالَى وَرَسَخَ الْإِيمَان فِي قُلُوبهمْ، صَبَرُوا عَلَى الطَّرْح فِي النَّار وَلَمْ يَرْجِعُوا فِي دِينهمْ.
اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا مَنْسُوخ عِنْدنَا، حَسْب مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي سُورَة " النَّحْل ".
قَوْله تَعَالَى :" قُتِلَ أَصْحَاب الْأُخْدُود " دُعَاء عَلَى هَؤُلَاءِ الْكُفَّار بِالْإِبْعَادِ مِنْ رَحْمَة اللَّه تَعَالَى : وَقِيلَ : مَعْنَاهُ الْإِخْبَار عَنْ قَتْل أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ إِنَّهُمْ قُتِلُوا بِالنَّارِ فَصَبَرُوا : وَقِيلَ : هُوَ إِخْبَار عَنْ أُولَئِكَ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ اللَّه قَبَضَ أَرْوَاح الَّذِينَ أُلْقُوا فِي الْأُخْدُود قَبْل أَنْ يَصِلُوا إِلَى النَّار، وَخَرَجَتْ نَار مِنْ الْأُخْدُود فَأَحْرَقَتْ الَّذِينَ هُمْ عَلَيْهَا قُعُود : وَقِيلَ : إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ نَجَوْا، وَأَحْرَقَتْ النَّار الَّذِينَ قَعَدُوا، ذَكَرَهُ النَّحَّاس، وَمَعْنَى " عَلَيْهَا " أَيْ عِنْدهَا وَعَلَى بِمَعْنَى عِنْد، وَقِيلَ :" عَلَيْهَا " عَلَى مَا يَدْنُو مِنْهَا مِنْ حَافَات الْأُخْدُود، كَمَا قَالَ : وَبَاتَ عَلَى النَّار النَّدَى وَالْمُحَلِّق الْعَامِل فِي " إِذْ " :" قُتِلَ "، أَيْ لُعِنُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْت.
أَيْ حُضُور : يَعْنِي الْكُفَّار، كَانُوا يَعْرِضُونَ الْكُفْر عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَمَنْ أَبَى أَلْقَوْهُ فِي النَّار وَفِي ذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِالْقَسْوَةِ ثُمَّ بِالْجَدِّ فِي ذَلِكَ : وَقِيلَ :" عَلَى " بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ وَهُمْ : مَعَ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُود.
وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَة " نَقِمُوا " بِالْكَسْرِ، وَالْفَصِيح هُوَ الْفَتْح، وَقَدْ مَضَى فِي " التَّوْبَة " الْقَوْل فِيهِ : أَيْ مَا نَقَمَ الْمَلِك وَأَصْحَابه مِنْ الَّذِينَ حَرَّقَهُمْ.
أَيْ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقُوا.
أَيْ الْغَالِب الْمَنِيع.
أَيْ الْمَحْمُود فِي كُلّ حَال.
لَا شَرِيك لَهُ وَلَا نَدِيد
أَيْ عَالِم بِأَعْمَالِ خَلْقه لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَة.
أَيْ حَرَّقُوهُمْ بِالنَّارِ.
وَالْعَرَب تَقُول : فَتَنَ فُلَانٌ الدِّرْهَمَ وَالدِّينَارَ إِذَا أَدْخَلَهُ الْكَوْرَ لِيَنْظُر جَوْدَتَهُ.
وَدِينَار مَفْتُون.
وَيُسَمَّى الصَّائِغ الْفَتَّان، وَكَذَلِكَ الشَّيْطَان، وَوَرِق فَتِين، أَيْ فِضَّة مُحْتَرِقَة.
وَيُقَال لِلْحَرَّةِ فَتِين، أَيْ كَأَنَّهَا أَحْرَقَتْ حِجَارَتهَا بِالنَّارِ، وَذَلِكَ لِسَوَادِهَا.
أَيْ مِنْ قَبِيح صَنِيعهمْ مَعَ مَا أَظْهَرَهُ اللَّه لِهَذَا الْمَلِك الْجَبَّار الظَّالِم وَقَوْمه مِنْ الْآيَات وَالْبَيِّنَات عَلَى يَد الْغُلَام.
لِكُفْرِهِمْ.
فِي الدُّنْيَا لِإِحْرَاقِهِمْ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّارِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ اِبْن عَبَّاس.
وَقِيلَ :" وَلَهُمْ عَذَاب الْحَرِيق " أَيْ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَة عَذَاب زَائِد عَلَى عَذَاب كُفْرهمْ بِمَا أَحْرَقُوا الْمُؤْمِنِينَ.
وَقِيلَ : لَهُمْ عَذَاب، وَعَذَاب جَهَنَّم الْحَرِيق.
وَالْحَرِيق : اِسْم مِنْ أَسْمَاء جَهَنَّم ; كَالسَّعِيرِ.
وَالنَّار دَرَكَات وَأَنْوَاع وَلَهَا أَسْمَاء.
وَكَأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ بِالزَّمْهَرِيرِ فِي جَهَنَّم، ثُمَّ يُعَذَّبُونَ بِعَذَابِ الْحَرِيق.
فَالْأَوَّل عَذَاب بِبَرْدِهَا، وَالثَّانِي عَذَاب بِحَرِّهَا.
أَيْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا آمَنُوا بِاَللَّهِ ; أَيْ صَدَّقُوا بِهِ وَبِرُسُلِهِ.
أَيْ بَسَاتِين.
مِنْ مَاء غَيْر آسِن، وَمِنْ لَبَن لَمْ يَتَغَيَّر طَعْمه، وَمِنْ خَمْر لَذَّة لِلشَّارِبِينَ، وَأَنْهَار مِنْ عَسَل مُصَفًّى.
أَيْ الْعَظِيم، الَّذِي لَا فَوْز يُشْبِههُ.
أَيْ أَخْذُهُ الْجَبَابِرَة وَالظَّلَمَة، كَقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ :" وَكَذَلِكَ أَخْذ رَبّك إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَة، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيم شَدِيد " [ هُود : ١٠٢ ].
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
قَالَ الْمُبَرِّد :" إِنَّ بَطْش رَبّك " جَوَاب الْقَسَم.
الْمَعْنَى : وَالسَّمَاء ذَات الْبُرُوج إِنَّ بَطْش رَبّك، وَمَا بَيْنهمَا مُعْتَرِض مُؤَكِّد لِلْقَسَمِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم فِي نَوَادِر الْأُصُول : إِنَّ الْقَسَم وَاقِع عَمَّا ذُكِرَ صِفَته بِالشِّدَّةِ.
يَعْنِي الْخَلْق - عَنْ أَكْثَر الْعُلَمَاء - يَخْلُقهُمْ اِبْتِدَاء، ثُمَّ يُعِيدهُمْ عِنْد الْبَعْث، وَرَوَى عِكْرِمَة قَالَ : عَجِبَ الْكُفَّار مِنْ إِحْيَاء اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْأَمْوَات، وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : يُبْدِئ لَهُمْ عَذَاب الْحَرِيق فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يُعِيدهُ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَة.
وَهَذَا اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ.
أَيْ السَّتُور لِذُنُوبِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَفْضَحهُمْ بِهَا.
أَيْ الْمُحِبّ لِأَوْلِيَائِهِ.
وَرَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَمَا يَوَدّ أَحَدكُمْ أَخَاهُ بِالْبُشْرَى وَالْمَحَبَّة.
وَعَنْهُ أَيْضًا " الْوَدُود " أَيْ الْمُتَوَدِّد إِلَى أَوْلِيَائِهِ بِالْمَغْفِرَةِ، وَقَالَ مُجَاهِد الْوَادّ لِأَوْلِيَائِهِ، فَعُول بِمَعْنَى فَاعِل.
وَقَالَ اِبْن زَيْد : الرَّحِيم، وَحَكَى الْمُبَرِّد عَنْ إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق الْقَاضِي أَنَّ الْوَدُود هُوَ الَّذِي لَا وَلَد لَهُ، وَأَنْشَدَ قَوْل الشَّاعِر :
وَأَرْكَب فِي الرَّوْع عُرْيَانَة | ذَلُول الْجَنَاح لَقَاحًا وَدُودَا |
وَقِيلَ : الْوَدُود بِمَعْنَى الْمَوْدُود، كَرَكُوبٍ وَحَلُوب، أَيْ يَوَدُّهُ عِبَاده الصَّالِحُونَ وَيُحِبُّونَهُ.
قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ إِلَّا عَاصِمًا " الْمَجِيد " بِالْخَفْضِ، نَعْتًا لِلْعَرْشِ.
وَقِيلَ : لِـ " رَبّك " ; أَيْ إِنَّ بَطْش رَبّك الْمَجِيد لَشَدِيد، وَلَمْ يَمْتَنِع الْفَصْل، لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الصِّفَة فِي التَّشْدِيد.
الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ نَعْتًا لِـ " ذُو " وَهُوَ اللَّه تَعَالَى.
وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم ; لِأَنَّ الْمَجْد هُوَ النِّهَايَة فِي الْكَرَم وَالْفَضْل، وَاَللَّه سُبْحَانه الْمَنْعُوت بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَصَفَ عَرْشه بِالْكَرِيمِ فِي آخِر " الْمُؤْمِنُونَ ".
تَقُول الْعَرَب : فِي كُلّ شَجَر نَار، وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخ وَالْعَفَار ; أَيْ تَنَاهَيَا فِيهِ، حَتَّى يُقْتَبَس مِنْهُمَا.
وَمَعْنَى ذُو الْعَرْش : أَيْ ذُو الْمُلْك وَالسُّلْطَان ; كَمَا يُقَال : فُلَان عَلَى سَرِير مُلْكه ; وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَرِير.
وَيُقَال : ثُلَّ عَرْشه : أَيْ ذَهَبَ سُلْطَانه.
وَقَدْ مَضَى بَيَان هَذَا فِي " الْأَعْرَاف " وَخَاصَّة فِي " كِتَاب الْأَسْنَى، فِي شَرْح أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى ".
أَيْ لَا يَمْتَنِع عَلَيْهِ شَيْء يُرِيدهُ.
الزَّمَخْشَرِيّ :" فَعَّال " خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف.
وَإِنَّمَا قِيلَ :" فَعَّال " لِأَنَّ مَا يُرِيد وَيَفْعَل فِي غَايَة الْكَثْرَة.
وَقَالَ الْفَرَّاء : هُوَ رَفْع عَلَى التَّكْرِير وَالِاسْتِئْنَاف ; لِأَنَّهُ نَكِرَة مَحْضَة.
وَقَالَ الطَّبَرِيّ : رَفْع " فَعَّال " وَهِيَ نَكِرَةٌ مَحْضَة عَلَى وَجْه الْإِتْبَاع لِإِعْرَابِ " الْغَفُور الْوَدُود ".
وَعَنْ أَبِي السَّفَر قَالَ : دَخَلَ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَعُودُونَهُ فَقَالُوا : أَلَا نَأْتِيك بِطَبِيبٍ ؟ قَالَ : قَدْ رَآنِي ! قَالُوا : فَمَا قَالَ لَك ؟ قَالَ : قَالَ : إِنِّي فَعَّالٌ لِمَا أُرِيدُ.
أَيْ قَدْ أَتَاك يَا مُحَمَّد خَبَر الْجُمُوع الْكَافِرَة الْمُكَذِّبَة لِأَنْبِيَائِهِمْ ; يُؤْنِسهُ بِذَلِكَ وَيُسَلِّيه.
ثُمَّ بَيَّنَهُمْ فَقَالَ.
MenuBox ﴿ FONT - WEIGHT: bold; FONT - SIZE: ١٥; COLOR: #٠a٢٢٥f; FONT - FAMILY: ﷺrial; TEXT - تعالىECORATION: none ﴾ ﷺ.
MenuBoxLang ﴿ FONT - WEIGHT: bold; FONT - SIZE: ١١; COLOR: #٠a٢٢٥f; FONT - FAMILY: Tahoma; TEXT - تعالىECORATION: none ﴾ "،"
أَيْ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِك.
لَك ; كَدَأْبِ مَنْ قَبْلهمْ.
وَإِنَّمَا خَصَّ فِرْعَوْن وَثَمُود ; لِأَنَّ ثَمُود فِي بِلَاد الْعَرَب وَقِصَّتهمْ عِنْدهمْ مَشْهُورَة وَإِنْ كَانُوا مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَمْر فِرْعَوْن كَانَ مَشْهُورًا عِنْد أَهْل الْكِتَاب وَغَيْرهمْ، وَكَانَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْهَلَاك ; فَدَلَّ بِهِمَا عَلَى أَمْثَالهمَا فِي الْهَلَاك.
وَاَللَّه أَعْلَم.
أَيْ يَقْدِر عَلَى أَنْ يُنْزِل بِهِمْ مَا أَنْزَلَ بِفِرْعَوْن.
وَالْمُحَاط بِهِ كَالْمَحْصُورِ.
وَقِيلَ : أَيْ وَاَللَّه عَالِم بِهِمْ فَهُوَ يُجَازِيهِمْ.
أَيْ مُتَنَاهٍ فِي الشَّرَف وَالْكَرَم وَالْبَرَكَة، وَهُوَ بَيَان مَا بِالنَّاسِ الْحَاجَة إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَام الدِّين وَالدُّنْيَا، لَا كَمَا زَعَمَ الْمُشْرِكُونَ.
وَقِيلَ " مَجِيد " : أَيْ غَيْر مَخْلُوق.
أَيْ مَكْتُوب فِي لَوْح.
وَهُوَ مَحْفُوظ عِنْد اللَّه تَعَالَى مِنْ وُصُول الشَّيَاطِين إِلَيْهِ.
وَقِيلَ : هُوَ أُمّ الْكِتَاب ; وَمِنْهُ اُنْتُسِخَ الْقُرْآن وَالْكُتُب.
وَرَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ :" اللَّوْح مِنْ يَاقُوتَة حَمْرَاء، أَعْلَاهُ مَعْقُود بِالْعَرْشِ وَأَسْفَله فِي حِجْر مَلَك يُقَال لَهُ مَاطِرْيُون، كِتَابه نُور، وَقَلَمه نُور، يَنْظُر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ كُلّ يَوْم ثَلَاثمِائِة وَسِتِّينَ نَظْرَة ; لَيْسَ مِنْهَا نَظْرَة إِلَّا وَهُوَ يَفْعَل مَا يَشَاء ; يَرْفَع وَضِيعًا، وَيَضَع رَفِيعًا، وَيُغْنِي فَقِيرًا، وَيُفْقِر غَنِيًّا ; يُحْيِي وَيُمِيت، وَيَفْعَل مَا يَشَاء ; لَا إِلَه إِلَّا هُوَ ".
وَقَالَ أَنَس بْن مَالِك وَمُجَاهِد، إِنَّ اللَّوْح الْمَحْفُوظ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي جَبْهَة إِسْرَافِيل.
وَقَالَ مُقَاتِل : اللَّوْح الْمَحْفُوظ عَنْ يَمِين الْعَرْش.
وَقِيلَ : اللَّوْح الْمَحْفُوظ الَّذِي فِيهِ أَصْنَاف الْخَلْق وَالْخَلِيقَة، وَبَيَان أُمُورهمْ، وَهُوَ أُمّ الْكِتَاب.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَوَّل شَيْء كَتَبَهُ اللَّه تَعَالَى فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ " إِنِّي أَنَا اللَّه لَا إِلَه إِلَّا أَنَا، مُحَمَّد رَسُولِي، مَنْ اِسْتَسْلَمَ لِقَضَائِي، وَصَبَرَ عَلَى بَلَائِي، وَشَكَرَ نَعْمَائِي، كَتَبْته صِدِّيقًا وَبَعَثْته مَعَ الصِّدِّيقِينَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِم لِقَضَائِي وَلَمْ يَصْبِر عَلَى بَلَائِي، وَلَمْ يَشْكُر نَعْمَائِي، فَلْيَتَّخِذْ إِلَهًا سِوَايَ ".
وَكَتَبَ الْحَجَّاج إِلَى مُحَمَّد بْن الْحَنَفِيَّة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَتَوَعَّدهُ ; فَكَتَبَ إِلَيْهِ اِبْن الْحَنَفِيَّة :" بَلَغَنِي أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلّ يَوْم ثَلَاثمِائِة وَسِتِّينَ نَظْرَة فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ ; يُعِزّ وَيُذِلّ، وَيَبْتَلِي وَيُفْرِح، وَيَفْعَل مَا يُرِيد ; فَلَعَلَّ نَظْرَة مِنْهَا تُشْغِلك بِنَفْسِك، فَتَشْتَغِل بِهَا وَلَا تَتَفَرَّغ ".
وَقَالَ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ : اللَّوْح شَيْء يَلُوح لِلْمَلَائِكَةِ فَيَقْرَءُونَهُ.
وَقَرَأَ اِبْن السَّمَيْقَع وَأَبُو حَيْوَة " قُرْآن مَجِيد " عَلَى الْإِضَافَة ; أَيْ قُرْآن رَبّ مَجِيد.
وَقَرَأَ نَافِع " فِي لَوْح مَحْفُوظٌ " بِالرَّفْعِ نَعْتًا لِلْقُرْآنِ ; أَيْ بَلْ هُوَ قُرْآن مَجِيد مَحْفُوظ فِي لَوْح.
الْبَاقُونَ ( بِالْجَرِّ ) نَعْتًا لِـ " لَوْح ".
وَالْقُرَّاء مُتَّفِقُونَ عَلَى فَتْح اللَّام مِنْ " لَوْح " إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْن يَعْمُر ; فَإِنَّهُ قَرَأَ " لُوح " بِضَمِّ اللَّام، أَيْ إِنَّهُ يَلُوح، وَهُوَ ذُو نُور وَعُلُوّ وَشَرَف.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ : وَاللَّوْح الْهَوَاء ; يَعْنِي اللَّوْح فَوْق السَّمَاء السَّابِعَة الَّذِي فِيهِ اللَّوْح.
وَفِي الصِّحَاح : لَاحَ الشَّيْء يَلُوح لَوْحًا أَيْ لَمَحَ.
وَلَاحَهُ السَّفَر : غَيْره.
وَلَاحَ لَوْحًا وَلُوَاحًا : عَطَش، وَالْتَاحَ مِثْله.
وَاللَّوْح : الْكَتِف، وَكُلّ عَظْم عَرِيض.
وَاللَّوْح : الَّذِي يُكْتَب فِيهِ.
وَاللُّوح ( بِالضَّمِّ ) : الْهَوَاء بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض.
وَالْحَمْد لِلَّهِ.
سورة البروج
سورة (البُرُوج) من السُّوَر المكية، وقد افتُتحت ببيان قدرة الله عز وجل وعظمتِه، ثم جاءت على ذكرِ قصة (أصحاب الأخدود)، وهم قومٌ فتَنوا فريقًا ممن آمن بالله، فجعلوا أُخدودًا من نار لتعذيبهم؛ وذلك تثبيتًا لقلوب الصحابة على أمرِ هذه الدعوة، وأن اللهَ - بعظمتِه وسلطانه - الذي أقام السماءَ والأرض صاحبَ البطش الشديد معهم وناصرُهم، وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه السورةَ في الظُّهر والعصر.
ترتيبها المصحفي
85نوعها
مكيةألفاظها
109ترتيب نزولها
27العد المدني الأول
22العد المدني الأخير
22العد البصري
22العد الكوفي
22العد الشامي
22* سورة (البُرُوج):
سُمِّيت سورة (البُرُوج) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقوله تعالى: {وَاْلسَّمَآءِ ذَاتِ اْلْبُرُوجِ} [البروج: 1]؛ وهي: الكواكبُ السيَّارة.
* كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظُّهر والعصر بسورة (البُرُوج):
عن جابرِ بن سَمُرةَ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يَقرأُ في الظُّهْرِ والعصرِ بـ{وَاْلسَّمَآءِ وَاْلطَّارِقِ}، {وَاْلسَّمَآءِ ذَاتِ اْلْبُرُوجِ}، ونحوِهما مِن السُّوَرِ». أخرجه أبو داود (٨٠٥).
1. قصة (أصحاب الأخدود) (١-٩).
2. التمييز بين الطائعين والعاصين (١٠-١١).
3. مشيئة الله تعالى، ونَفاذُ قُدْرته (١٢-٢٢).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /90).
يقول ابن عاشور: «... ضرب المثَلِ للذين فتنوا المسلمين بمكة بأنهم مثلُ قوم فتَنوا فريقًا ممن آمن بالله، فجعلوا أخدودًا من نار لتعذيبِهم؛ ليكون المثلُ تثبيتًا للمسلمين، وتصبيرًا لهم على أذى المشركين، وتذكيرًا لهم بما جرى على سلَفِهم في الإيمان من شدة التعذيب الذي لم يَنَلْهم مثلُه، ولم يصُدَّهم ذلك عن دِينهم.
وإشعار المسلمين بأن قوةَ الله عظيمةٌ؛ فسيَلقَى المشركون جزاءَ صنيعهم، ويَلقَى المسلمون النعيمَ الأبدي والنصر.
والتعريض للمسلمين بكرامتهم عند الله تعالى.
وضرب المثلِ بقوم فرعون، وبثمود، وكيف كانت عاقبة أمرهم لمَّا كذبوا الرسل؛ فحصلت العِبرة للمشركين في فَتْنِهم المسلمين، وفي تكذيبهم الرسولَ صلى الله عليه وسلم، والتنويه بشأن القرآن». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /236).