تفسير سورة البروج

البحر المحيط في التفسير

تفسير سورة سورة البروج من كتاب البحر المحيط في التفسير
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة البروج
هذه السورة مكية.
ومناسبتها لما قبلها : لما ذكر أنه تعالى أعلم بما يجمعون للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من المكر، والخداع، وإذاية من أسلم بأنواع من الأذى، كالضرب، والقتل، والصلب، والحرق بالشمس، وإحماء الصخر ووضع أجساد من يريدون أن يفتنوه عليه ؛ ذكر أن هذه الشنشنة كانت فيمن تقدم من الأمم يعذبون بالنار، وأن أولئك الذين أعرضوا على النار كان لهممن الثبات في الإيمان ما منعهم أن يرجعوا عن دينهم أو يحرموا، وأن أولئك الذين عذبوا عباد الله ملعونون، فكذلك الذين عذبوا المؤمنين من كفار قريش ملعونون. فهذه السورة عظة لقريش وتثبيت لمن يعذب

سورة البروج
[سورة البروج (٨٥) : الآيات ١ الى ٢٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤)
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤)
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩)
وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢)
الْأُخْدُودُ: الْخَدُّ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الشِّقُّ وَنَحْوُهُمَا بِنَاءٌ، وَمَعْنَى الْخَقِّ وَالْأُخْقُوقِ، وَمِنْهُ:
فَسَاحَتْ قَوَائِمُهُ فِي أخاقيق جُرْدَانِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ، وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ، قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ،
441
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ، وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ، إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ، إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ، وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ، فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ، هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ، فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ، وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ، بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَا يَجْمَعُونَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَلِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمَكْرِ، وَالْخِدَاعِ، وَإِذَايَةِ مَنْ أَسْلَمَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْأَذَى، كَالضَّرْبِ، وَالْقَتْلِ، وَالصَّلْبِ، وَالْحَرْقِ بِالشَّمْسِ، وَإِحْمَاءِ الصَّخْرِ وَوَضْعِ أَجْسَادِ مَنْ يُرِيدُونَ أَنْ يَفْتِنُوهُ عَلَيْهِ ذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الشِّنْشَنَةَ كَانَتْ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ يُعَذِّبُونَ بِالنَّارِ، وَأَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ أُعْرِضُوا عَلَى النَّارِ كَانَ لَهُمْ مِنَ الثَّبَاتِ فِي الْإِيمَانِ مَا مَنَعَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ أَوْ يُحْرَمُوا، وَأَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ عَذَّبُوا عِبَادَ اللَّهِ مَلْعُونُونَ، فَكَذَلِكَ الَّذِينَ عَذَّبُوا الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ مَلْعُونُونَ. فَهَذِهِ السُّورَةُ عِظَةٌ لِقُرَيْشٍ وَتَثْبِيتٌ لِمَنْ يُعَذَّبُ.
ذاتِ الْبُرُوجِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ: هِيَ الْمَنَازِلُ الَّتِي عَرَفَتْهَا الْعَرَبُ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ عَلَى مَا قَسَّمَتْهُ، وَهِيَ الَّتِي تَقْطَعُهَا الشَّمْسُ فِي سَنَةٍ، وَالْقَمَرُ فِي ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: هِيَ الْقُصُورُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا: هِيَ النُّجُومُ. وَقِيلَ: عِظَامُ الْكَوَاكِبِ، سُمِّيَتْ بُرُوجًا لِظُهُورِهَا. وَقِيلَ: هِيَ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبُرُوجِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ. وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَيْ الْمَوْعُودِ بِهِ. وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ: هَذَانِ مُنَكَّرَانِ، وَيَنْبَغِي حَمْلُهُمَا عَلَى الْعُمُومِ لِقَوْلِهِ: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ «١»، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ لَا يَقْتَضِيهِ، لَكِنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِيهِ، إِذْ لَا يُقْسَمُ بِنَكِرَةٍ وَلَا يُدْرَى مَنْ هِيَ. فَإِذَا لُوحِظَ فِيهَا مَعْنَى الْعُمُومِ، انْدَرَجَ فِيهَا الْمَعْرِفَةُ فَحَسُنَ الْقَسَمُ. وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ نَكِرَةً، كَقَوْلِهِ: وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ «٢»، وَلِأَنَّهُ إِذَا حُمِلَ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ عَلَى الْعُمُومِ دَخَلَ فِيهِ مَعْنَيَانِ: الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ، كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، فَيَحْسُنُ إِذْ ذاك القسم به.
(١) سورة التكوير: ٨١/ ١٤.
(٢) سورة الطور: ٥٢/ ١- ٢.
442
وَلَمَّا ذَكَرَ
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِاتِّفَاقٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُقْسَمُ بِهِ مَنْ يَشْهَدُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَنْ يُشْهَدُ عَلَيْهِ. إِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْحُضُورِ، فَالشَّاهِدُ: الْخَلَائِقُ الْحَاضِرُونَ لِلْحِسَابِ، وَالْمَشْهُودُ: الْيَوْمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ «١»، كَانَ مَوْعُودًا بِهِ فَصَارَ مَشْهُودًا، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَعْيِينِهِمَا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشَّاهِدُ: اللَّهُ تَعَالَى وَعَنْهُ
وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ علي وعكرمة: الرسول صلى الله عليه وسلم
وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذُرِّيَّتُهُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالْحَسَنِ: الشَّاهِدُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَفِي كُلِّ قَوْمٍ مِنْهَا الْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ
وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنُ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَقَتَادَةُ: وَشَاهِدٍ يَوْمُ الْجُمُعَةِ
وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ: يَوْمُ التَّرْوِيَةِ
وَعَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا: يَوْمُ الْقِيَامَةِ
وَعَنِ النَّخَعِيِّ:
يَوْمُ الْأَضْحَى. وَمَشْهُودٍ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَوْمُ عَرَفَةَ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَمَشْهُودٍ يَوْمُ النَّحْرِ وَعَنْ جَابِرٍ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَمَشْهُودٍ النَّاسُ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: ابْنُ آدَمَ، وَمَشْهُودٍ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: عَكْسُ هَذَا وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ: عِيسَى، وَمَشْهُودٍ أُمَّتُهُ،
وَعَنْ عَلِيٍّ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَمَشْهُودٍ يَوْمُ النَّحْرِ
وَعَنِ التِّرْمِذِيِّ: الْحَكِيمِ الْحَفَظَةُ، وَمَشْهُودٍ عَلَيْهِمْ: النَّاسُ
وَعَنْ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى: محمد صلى الله عليه وسلم، وَمَشْهُودٍ عَلَيْهِ أُمَّتُهُ
وَعَنْهُ:
الْأَنْبِيَاءُ، وَمَشْهُودٍ أُمَمُهُمْ وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ الْجَوَارِحُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَشْهُودٍ أَصْحَابُهَا.
وَقِيلَ: هُمَا يَوْمُ الْإِثْنَيْنِ وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ. وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ الْمُتَعَاقِبُونَ وَقُرْآنُ الْفَجْرِ. وَقِيلَ:
النَّجْمُ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. وَقِيلَ: اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ، ومشهود به الوحدانية، وإِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «٢». وَقِيلَ: مَخْلُوقَاتُهُ تَعَالَى، وَمَشْهُودٍ بِهِ وَحْدَانِيَّتُهُ. وَقِيلَ: هُمَا الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَالْحَجِيجُ. وَقِيلَ: اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ وَبَنُو آدَمَ. وقيل: الأنبياء وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ لِكُلٍّ مِنْهَا مُتَمَسَّكٌ، وَلِلصُّوفِيَّةِ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذِهِ. وَالظَّاهِرُ مَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا، وَجَوَابُ الْقَسَمِ قِيلَ مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ: لَتُبْعَثُنَّ وَنَحْوُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَدُلُّ عَلَيْهِ قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَذْكُورٌ فَقِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ. وَقِيلَ: قُتِلَ وَهَذَا نَخْتَارُهُ وَحُذِفَتِ اللَّامُ أَيْ لَقُتِلَ، وَحَسُنَ حَذْفُهَا كَمَا حَسُنَ فِي قَوْلِهِ: وَالشَّمْسِ وَضُحاها «٣»، ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها «٤»، أي لقد
(١) سورة هود: ١١/ ١٠٣. [.....]
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٩.
(٣) سورة الشمس: ٩١/ ١.
(٤) سورة الشمس: ٩١/ ٩.
443
أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَيَكُونُ الْجَوَابُ دَلِيلًا عَلَى لَعْنَةِ اللَّهِ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَطَرْدِهِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَتَنْبِيهًا لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، عَلَى أَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ بِجَامِعِ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَإِذَا كَانَ قُتِلَ جَوَابًا لِلْقَسَمِ، فَهِيَ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، وَقِيلَ: دُعَاءٌ، فَكَوْنُ الْجَوَابِ غَيْرَهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ مِقْسَمٍ بِالتَّشْدِيدِ، وَالْجُمْهُورُ بِالتَّخْفِيفِ.
وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ أَقْوَالًا فَوْقَ الْعَشَرَةِ، وَلِكُلِّ قَوْلٍ مِنْهَا قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ كَسِلْنَا عَنْ كِتَابَتِهَا فِي كِتَابِنَا هَذَا وَمُضَمَّنُهَا أَنَّ نَاسًا مِنَ الْكُفَّارِ خَدُّوا أُخْدُودًا فِي الْأَرْضِ وَسَجَّرُوهُ نَارًا وَعَرَضُوا الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهَا، فَمَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ تَرَكُوهُ، وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى الْإِيمَانِ أَحْرَقُوهُ وَأَصْحَابُ الْأُخْدُودِ هُمُ الْمُحَرِّقُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ إِسْحَاقَ: بَعَثَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ رِيحًا فَقَبَضَتْ أَرْوَاحَهُمْ أَوْ نَحْوَ هَذَا، وَخَرَجَتِ النَّارُ فَأَحْرَقَتِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى حَافَّتَيِ الْأُخْدُودِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقَتْلُ حَقِيقَةً لَا بِمَعْنَى اللَّعْنِ، وَيَكُونُ خَبَرًا عَنْ مَا فَعَلَهُ اللَّهُ بِالْكُفَّارِ وَالَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَفْتِنُوا الْمُؤْمِنِينَ عَنْ دِينِهِمْ.
وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَلِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقَصَصُ الَّذِي ذَكَرُوهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
النَّارِ بِالْجَرِّ، وَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، أَوْ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، أَيْ أُخْدُودِ النَّارِ. وَقَرَأَ قَوْمٌ النَّارُ بِالرَّفْعِ. قيل: على مَعْنَى قَتْلِهِمْ، وَيَكُونُ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ إِذْ ذَاكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقُتِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعِيسَى: الْوَقُودِ بِضَمِّ الْوَاوِ وَهُوَ مَصْدَرُ، وَالْجُمْهُورُ: بِفَتْحِهَا، وَهُوَ مَا يُوقَدُ بِهِ. وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ أَيْضًا مَصْدَرٌ كَالضَّمِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي إِذْ هُمْ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ يُحَرِّقُونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَذَلِكَ فِي وَهُمْ عَلَى قَوْلِ الرَّبِيعِ يَعُودُ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَيَكُونُ هُمْ أَيْضًا عَائِدًا عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ مَعْنَى عَلى مَا يَفْعَلُونَ: مَا يُرِيدُونَ مِنْ فِعْلِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ مُحْرِقٌ، وتم الكلام عن قَوْلِهِ: ذاتِ الْوَقُودِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَهُمْ قُرَيْشٌ الَّذِينَ كَانُوا يَفْتِنُونَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات، وإذا الْعَامِلُ فِيهِ قُتِلَ، أَيْ لُعِنُوا وَقَعَدُوا عَلَى النَّارِ، أَوْ عَلَى مَا يَدْنُو مِنْهَا مِنْ حَافَّاتِ الْأُخْدُودِ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
تُشَبُّ لِمَقْرُورَيْنِ يَصْطَلِيَانِهَا وَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى وَالْمُحَلِّقُ
شُهُودٌ: يَشْهَدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عِنْدِ الْمَلِكِ، أَيْ لَمْ يُفَرِّطْ فِيمَا أُمِرَ بِهِ، أَوْ شُهُودٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا فَعَلُوا بِالْمُؤْمِنِينَ، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
444
نَقَمُوا بِفَتْحِ الْقَافِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِكَسْرِهَا، أَيْ مَا عَابُوا وَلَا أَنْكَرُوا الْإِيمَانَ، كَقَوْلِهِ: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ «١»، وَكَقَوْلِ قَيْسِ الرُّقُيَاتِ:
مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَّا أَنَّهُم يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا
جَعَلُوا مَا هُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ قَبِيحًا حَتَّى نَقَمُوا عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَا عَيْبَ فِيهَا غَيْرَ شُكْلَةِ عَيْنِهَا كَذَاكَ عِتَاقُ الطير شكلا عُيُونُهَا
وَفِي الْمُنْتَخَبِ: إِنَّمَا قَالَ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا، لِأَنَّ التَّعْذِيبَ إِنَّمَا كَانَ وَاقِعًا عَلَى الْإِيمَانِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَوْ كَفَرُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَمْ يُعَذَّبُوا عَلَى مَا مَضَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إلا أن يدعوا عَلَى إِيمَانِهِمْ. انْتَهَى. وَذَكَرَ الْأَوْصَافَ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا تَعَالَى أَنْ يُؤْمَنَ بِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَزِيزًا غَالِبًا قَادِرًا يُخْشَى عِقَابُهُ، حَمِيدًا مُنْعِمًا يَجِبُ لَهُ الْحَمْدُ عَلَى نِعْمَتِهِ، لَهُ ملك السموات وَالْأَرْضِ وَكُلُّ مَنْ فِيهِمَا يَحِقُّ عَلَيْهِ عِبَادَتُهُ وَالْخُشُوعُ لَهُ تَقْرِيرًا لِأَنَّ مَا نَقَمُوا مِنْهُمْ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَنْقِمُهُ إِلَّا مُبْطِلٌ مُنْهَمِكٌ فِي الْغَيِّ.
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ: وَعِيدٌ لَهُمْ، أَيْ إِنَّهُ عَلِمَ مَا فَعَلُوا فَهُوَ يُجَازِيهِمْ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ ابْتَلَى الْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات بتعذب أَوْ أَذًى، وَأَنَّ لَهُمْ عَذَابَيْنِ: عَذَابًا لِكُفْرِهِمْ، وَعَذَابًا لِفِتْنَتِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالَّذِينِ فَتَنُوا أَصْحَابَ الْأُخْدُودِ خَاصَّةً، وَبِالَّذِينِ آمَنُوا الْمَطْرُوحِينَ فِي الْأُخْدُودِ، وَمَعْنَى فَتَنُوهُمْ: عَذَّبُوهُمْ بِالنَّارِ وَأَحْرَقُوهُمْ، فَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ جَهَنَّمَ بِكُفْرِهِمْ، وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ: وَهِيَ نَارٌ أُخْرَى عَظِيمَةٌ تَتَّسِعُ كَمَا يَتَّسِعُ الْحَرِيقُ، أَوْ لَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَةِ، وَلَهُمْ عَذَابٌ الْحَرِيقِ فِي الدُّنْيَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّارَ انْقَلَبَتْ عَلَيْهِمْ فَأَحْرَقَتْهُمْ، انْتَهَى.
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ هَذَا الَّذِي جَوَّزَهُ، لِأَنَّ فِي الْآيَةِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، وَأُولَئِكَ الْمُحَرِّقُونَ لَمْ يُنْقَلْ لَنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ تَابَ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَمْ يُلْعَنُوا إِلَّا وَهُمْ قَدْ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا يُقَوِّي أَنَّ الْآيَاتِ فِي قُرَيْشٍ، لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي قُرَيْشٍ أَحْكَمُ مِنْهُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ. وَأَمَّا قُرَيْشٌ فَكَانَ فِيهِمْ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ مَنْ تَابَ وَآمَنَ، انْتَهَى. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، الْمُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ لَا الْمَطْرُوحُونَ فِي النَّارِ، وَالْبَطْشُ: الْأَخْذُ بِقُوَّةٍ. يُبْدِئُ وَيُعِيدُ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ والضحاك:
يبدىء الْخَلْقَ بِالْإِنْشَاءِ، وَيُعِيدُهُ بِالْحَشْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، أَيْ كلّ
(١) سورة المائدة: ٥/ ٥٩.
445
مَا يُبْدَأُ وَكُلُّ مَا يعاد. وقال الطبري: يبدىء الْعَذَابَ وَيُعِيدُهُ عَلَى الْكُفَّارِ وَنَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَأْكُلُهُمُ النَّارُ حَتَّى يَصِيرُوا فَحْمًا، ثُمَّ يُعِيدُهُمْ خلقا جديدا. وقرىء: يَبْدَأُ مِنْ بَدَأَ ثُلَاثِيًّا، حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ.
وَلَمَّا ذَكَرَ شِدَّةَ بَطْشِهِ، ذَكَرَ كَوْنَهُ، غَفُورًا سَاتِرًا لِذُنُوبِ عِبَادِهِ، وَدُودًا لَطِيفًا بِهِمْ مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ، وَهَاتَانِ صِفَتَا فِعْلٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَدُودَ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَادِّ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُتَوَدِّدُ إِلَى عِبَادِهِ بِالْمَغْفِرَةِ. وَحَكَى الْمُبَرِّدُ عَنِ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الْوَدُودَ هُوَ الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ، وَأَنْشَدَ:
وَأَرْكَبُ فِي الرَّوْعِ عريانة ذلول الجماع لفاحا وَدُودَا
أَيْ: لَا وَلَدَ لَهَا تَحِنُّ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْوَدُودُ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَرَكُوبٍ وَحَلُوبٍ، أَيْ يَوَدُّهُ عِبَادُهُ الصَّالِحُونَ. ذُو الْعَرْشِ: خَصَّ الْعَرْشَ بِإِضَافَةِ نَفْسِهِ تَشْرِيفًا لِلْعَرْشِ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ذُو بِالْوَاوِ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ: ذِي بِالْيَاءِ، صِفَةٌ لِرَبِّكَ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: ذُو الْعَرْشِ: ذُو الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَرْشِ: السَّرِيرُ الْعَالِي، وَيَكُونُ خَلَقَ سَرِيرًا فِي سَمَائِهِ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ، بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُ عَظَمَتَهُ إِلَّا هُوَ وَمَنْ يُطْلِعُهُ عَلَيْهِ، انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَسَنِ وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ وَالْأَخَوَانِ: الْمَجِيدُ بِخَفْضِ الدَّالِ، صِفَةٌ لِلْعَرْشِ، وَمَجَادَتُهُ:
عِظَمُهُ وَعُلُوُّهُ وَمِقْدَارُهُ وَحُسْنُ صُورَتِهِ وَتَرْكِيبُهُ، فَإِنَّهُ قِيلَ: الْعَرْشُ أَحْسَنُ الْأَجْسَامِ صُورَةً وَتَرْكِيبًا. وَمَنْ قَرَأَ: ذِي الْعَرْشِ بِالْيَاءِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَجِيدِ بِالْخَفْضِ صِفَةً لِذِي، وَالْأَحْسَنُ جَعْلُ هَذِهِ الْمَرْفُوعَاتِ أَخْبَارًا عَنْ هُوَ، فَيَكُونُ فَعَّالٌ خَبَرًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ صِفَتَيْنِ لِلْغَفُورِ، وفَعَّالٌ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ وَأَتَى بِصِيغَةِ فَعَّالٍ لِأَنَّ مَا يُرِيدُ وَيَفْعَلُ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ فِعْلُهُ لَا مُعْتَرِضَ عَلَيْهِ.
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ: تَقْرِيرٌ لِحَالِ الْكَفَرَةِ، أَيْ قَدْ أَتَاكَ حَدِيثُهُمْ، وَمَا جَرَى لَهُمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَاتِ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ، فَكَذَلِكَ يَحِلُّ بِقُرَيْشٍ مِنَ الْعَذَابِ مِثْلُ مَا حَلَّ بِهِمْ. وَالْجُنُودُ: الْجُمُوعُ الْمُعَدَّةُ لِلْقِتَالِ. فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ: بَدَلٌ مِنَ الْجُنُودِ، وَكَأَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ جُنُودِ فِرْعَوْنَ، وَاخْتَصَرَ مَا جَرَى لَهُمْ إِذْ هُمْ مَذْكُورُونَ فِي غَيْرِ مَا سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَذَكَرَ ثَمُودَ لِشُهْرَةِ قِصَّتِهِمْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ، وَذَكَرَ فِرْعَوْنَ لِشُهْرَةِ قِصَّتِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعِنْدَ الْعَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ أَيْضًا. أَلَا تَرَى إِلَى زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى وَقَوْلِهِ:
446
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَ تُبَّعًا وَأَهْلَكَ لُقْمَانَ بْنَ عَادٍ وَعَادِيَا
وَأَهْلَكَ ذَا الْقَرْنَيْنِ مِنْ قَبْلُ ما نوى وَفِرْعَوْنَ جَبَّارًا طَغَى وَالنَّجَاشِيَا
وَكَانَ فِرْعَوْنُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْهَلَاكِ، فَدَلَّ بِقِصَّتِهِ وَقِصَّةِ ثَمُودَ عَلَى أَمْثَالِهِمَا مِنْ قِصَصِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ وَهَلَاكِهِمْ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا: أَيْ مِنْ قَوْمِكَ، فِي تَكْذِيبٍ:
حَسَدًا لَكَ، لَمْ يَعْتَبِرُوا بِمَا جَرَى لِمَنْ قَبْلَهُمْ حِينَ كَذَّبُوا أَنْبِيَاءَهُمْ. وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ: أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ بِهِمْ مَا أَنْزَلَ بِفِرْعَوْنَ وَثَمُودَ وَمَنْ كَانَ مُحَاطًا بِهِ، فَهُوَ مَحْصُورٌ فِي غَايَةٍ لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعًا، وَالْمَعْنَى: دُنُوُّ هَلَاكِهِمْ.
وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ فِي تَكْذِيبٍ، وَأَنَّ التَّكْذِيبَ عَمَّهُمْ حَتَّى صَارَ كَالْوِعَاءِ لَهُمْ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَذَّبُوهُ وَكَذَّبُوا مَا جَاءَ بِهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَكَذَّبُوا فَقَالَ: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ: أَيْ بَلِ الَّذِي كَذَّبُوا بِهِ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، وَمَجَادَتُهُ: شَرَفُهُ عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ بِإِعْجَازِهِ فِي نَظْمِهِ وَصِحَّةِ مَعَانِيهِ، وَإِخْبَارِهِ بِالْمُغَيَّبَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي مَحَاسِنِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قُرْآنٌ مَجِيدٌ: مَوْصُوفٌ وَصْفَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ السميفع: قُرْآنٌ مَجِيدٌ بِالْإِضَافَةِ، قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ:
سَمِعْتُ ابْنَ الْأَنْبَارِيِّ يَقُولُ مَعْنَاهُ: بَلْ هُوَ قُرْآنُ رَبٍّ مَجِيدٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَكِنَّ الْغِنَى رَبٌّ غَفُورُ مَعْنَاهُ: وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى رَبٍّ غَفُورٍ، انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا أَخْرَجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ: قُرْآنٌ مَجِيدٌ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمَجِيدَ، انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ لِصِفَتِهِ فَيَكُونُ مَدْلُولُهُ وَمَدْلُولُ التَّنْوِينِ وَرَفْعُ مَجِيدٌ وَاحِدًا، وَهَذَا أَوْلَى لِتَوَافُقِ الْقِرَاءَتَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي لَوْحٍ بِفَتْحِ اللَّامِ، مَحْفُوظٍ بِالْخَفْضِ صِفَةٌ لِلَوْحٍ، وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ هُوَ الَّذِي فِيهِ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ يَعْمَرَ وَابْنُ السميفع: بِضَمِّ اللَّامِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: اللَّوْحُ: الْهَوَاءُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي اللَّوْحَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الَّذِي فِيهِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ مِنْ وُصُولِ الشَّيَاطِينِ إِلَيْهِ، انْتَهَى. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَنَافِعٌ بِخِلَافٍ عَنْهُ: مَحْفُوظٍ بِالرَّفْعِ صِفَةٌ لِقُرْآنٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «١»، أَيْ هُوَ مَحْفُوظٌ فِي الْقُلُوبِ، لَا يَلْحَقُهُ خَطَأٌ وَلَا تبديل.
(١) سورة الحجر: ١٥/ ٩.
447
سورة البروج
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (البُرُوج) من السُّوَر المكية، وقد افتُتحت ببيان قدرة الله عز وجل وعظمتِه، ثم جاءت على ذكرِ قصة (أصحاب الأخدود)، وهم قومٌ فتَنوا فريقًا ممن آمن بالله، فجعلوا أُخدودًا من نار لتعذيبهم؛ وذلك تثبيتًا لقلوب الصحابة على أمرِ هذه الدعوة، وأن اللهَ - بعظمتِه وسلطانه - الذي أقام السماءَ والأرض صاحبَ البطش الشديد معهم وناصرُهم، وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه السورةَ في الظُّهر والعصر.

ترتيبها المصحفي
85
نوعها
مكية
ألفاظها
109
ترتيب نزولها
27
العد المدني الأول
22
العد المدني الأخير
22
العد البصري
22
العد الكوفي
22
العد الشامي
22

* سورة (البُرُوج):

سُمِّيت سورة (البُرُوج) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقوله تعالى: {وَاْلسَّمَآءِ ذَاتِ اْلْبُرُوجِ} [البروج: 1]؛ وهي: الكواكبُ السيَّارة.

* كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظُّهر والعصر بسورة (البُرُوج):

عن جابرِ بن سَمُرةَ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يَقرأُ في الظُّهْرِ والعصرِ بـ{وَاْلسَّمَآءِ وَاْلطَّارِقِ}، {وَاْلسَّمَآءِ ذَاتِ اْلْبُرُوجِ}، ونحوِهما مِن السُّوَرِ». أخرجه أبو داود (٨٠٥).

1. قصة (أصحاب الأخدود) (١-٩).

2. التمييز بين الطائعين والعاصين (١٠-١١).

3. مشيئة الله تعالى، ونَفاذُ قُدْرته (١٢-٢٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /90).

يقول ابن عاشور: «... ضرب المثَلِ للذين فتنوا المسلمين بمكة بأنهم مثلُ قوم فتَنوا فريقًا ممن آمن بالله، فجعلوا أخدودًا من نار لتعذيبِهم؛ ليكون المثلُ تثبيتًا للمسلمين، وتصبيرًا لهم على أذى المشركين، وتذكيرًا لهم بما جرى على سلَفِهم في الإيمان من شدة التعذيب الذي لم يَنَلْهم مثلُه، ولم يصُدَّهم ذلك عن دِينهم.

وإشعار المسلمين بأن قوةَ الله عظيمةٌ؛ فسيَلقَى المشركون جزاءَ صنيعهم، ويَلقَى المسلمون النعيمَ الأبدي والنصر.
والتعريض للمسلمين بكرامتهم عند الله تعالى.
وضرب المثلِ بقوم فرعون، وبثمود، وكيف كانت عاقبة أمرهم لمَّا كذبوا الرسل؛ فحصلت العِبرة للمشركين في فَتْنِهم المسلمين، وفي تكذيبهم الرسولَ صلى الله عليه وسلم، والتنويه بشأن القرآن». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /236).