ﰡ
١ - ﴿وَالسَّمَاءِ﴾ وهي لغة: كل جرم علوي، فدخل فيه العرش والكرسي، ولكن المراد هنا: ما عداهما من السموات السبع. ﴿ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ أي: صاحبة البروج الاثني عشر، وهي الطرق التي تسير فيها الكواكب السبعة السيارة المجموعة في قول بعضهم:
زُحَلٌ شَرَى مِرِّيْخَهُ مِنْ شَمْسِهِ | فَتَزَاهَرَتْ لِعُطَارِدَ الأَقْمَارُ |
حَمَلَ الثَّوْرُ جَوْزَةَ السَّرَطَانِ | وَرَعَى اللَّيْثُ سُنْبُلَةَ الْمِيْزَانِ |
وَرَمَى عَقْرَبٌ بِقَوْسٍ لِجَدْيٍ | نَزَحَ الدَّلْوُ بِرْكَةَ الْحِيْتَانِ |
والمعنى: أقسم بالسماء ذات المنزل والمحال، والطرق التي تسير فيها الكواكب السبعة السيارة. وفي "البيضاوي": يعني: البروج الاثني عشر، شبهت بالقصور؛ لأنها تنزلها السيارات، كما أن القصور ينزلها الأكابر والأشراف، سميت تلك الطرق بروجًا لظهورها؛ لأن أصل معنى البرج: الأمر الظاهر، من التبرج، ثم صار حقيقة في العرف للقصر العالي؛ لظهوره، ويقال: لما ارتفع من سور المدينة برج أيضًا، كما في "الشهاب". وقيل: المراد بالبروج: هي النجوم التي هي منازل القمر، وهي ثمانية وعشرون نجمًا، ينزل القمر كل ليلةٍ في واحد منها، لا يتخطاها ولا يتقصر عنه، وإذا صار القمر إلى آخر منازله.. دق واستقوس، ويستتر ليلتين، إن كان الشهر ثلاثين يومًا، وإن كان تسعة وعشرين، فليلة واحدة، وإطلاق البروج على هذه النجوم مبني على تشبيهها بالقصور من حيث إن القمر ينزل فيها، ولظهورها أيضًا بالنسبة إلى بعض الناس، كالعرب؛ لأن البرج ينبىء عن الظهور مع الاشتمال على المحاسن، يقال: تبرجت المرأة؛ أي: تشبهت بالبرج في إظهار
تنبيه: واعلم أن البروج الاثني عشر: ستة منها في شمال خط الاستواء، وستة منها في جنوبه، فالتي في شماله ثلاثة ربيعية، وهي: الحمل والثور والجوزاء، وابتداء الحمل من الاعتدال الربيعي، ويصادف اليوم الثالث والعشرين من شهر مارس آذار، وثلاثة صيفية، وهي: السرطان والأسد والسنبلة، وابتداء السرطان من نقطة الانقلاب الصيفي، ويصادف اليوم الثالث والعشرين من شهر يونيو حزيران.
والستة التي في جنوب خط الاستواء، ثلاثة منها خريفية، وهي الميزان والعقرب والقوس، وابتداء الميزان من الاعتدال الخريفي، ويصادف اليوم الرابع والعشرين من شهر سبتمبر أيلول، وثلاثة شتائية، وهي: الجدي والدلو والحوت، وابتداء الجدي من الانقلاب الشتوي، ويصادف اليوم الثالث والعشرين من شهر كانون أول ديسمبر، فتكون السنة الشمسية ثلاث مئة وخمسة وستين يومًا وربع يوم، وهي مدة رجوع الشمس إلى النقطة التي فارقتها من تلك البروج، وكل برج ثلاثون درجةً، فمجموعها: (٣٦٠) ثلاث مئة وستون درجة، كل درجة بمقدار أربع دقائق، ومجموعها: أربع وعشرون ساعة، والشمس - كما مر - تقطع هذه البروج كلها مرة في السنة كل برج في شهر، وبها تتم دورة الفلك، ويقطعها القمر في ثمانية وعشرين يومًا وكسور، ومن أراد الخوض في هذا الباب.. فليراجع الكتب المدونة في فن الميقات.
وقد أقسم الله سبحانه بهذه الكواكب لما فيها من عجيب الصنعة، وباهر الحكمة، ولما فيها من مصالح ومنافع للناس في هذه الحياة، تدل على أن لها صانعًا حكيمًا مدبرًا إلا أنه يحثنا على البحث عن هذه العوالم؛ لنستدل بذلك على عظيم قدرته، وجليل حكمته.
٣ - ﴿وَشَاهِدٍ﴾؛ أي: واْقسم بشاهد؛ أي: بكل حاضر. وشاهد يشهد في ذلك اليوم، الأولين والآخرين، والإنس والجن، والملائكة والأنبياء والمرسلين. ﴿وَمَشْهُودٍ﴾؛ أي: وبكل ما يشاهد ويرى في ذلك اليوم من العجائب، فالشاهد بمعنى الحاضر من الشهود، بمعنى: الحضور، لا بمعنى الشاهد الذي تثبت به الدعاوى والحقوق، وتنكيرهما للإبهام في الوصف؛ أي: وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما، وإلا فلا يقسم بنكرة؛ لأنه لا يدرى من هي، وكذا إذ لوحظ فيها معنى العموم اندرج فيها المعرفة، فحسن القسم بها. كذا في "البحر".
وقيل: المشهود: يوم الجمعة، والشاهد: من يحضره من المسلمين للصلاة ولذكر الله سبحانه. وفي الحديث: "ما طلعت شمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله فيها خيرًا إلا استجاب له، ولا يستعيذ من سوء إلا أعاذه منه". وفيه أيضًا: "أكثروا علىَّ من الصلاة يوم الجمعة، فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة"، وقيل: المشهود: يوم عرفة، والشاهد: من يحضره من الحجاج، وحسن القسم بهما مع كونهما نكرةً تعظيمًا لأمر الحج وعددهم. وقيل: الشا هد: كل يوم، والمشهود: أهله، فيكون المشهود بمعنى المشهود عليه، والشاهد من الشهادة، كما قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: ما من يوم إلا وينادي: إني يوم جديد، وإني على ما يفعل فيَّ شهيد، فاغتنمني، فلو غابت شمس لم تدركني إلى يوم القيامة. وقيل: الشاهد: هو الله تعالى، لقوله: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾، وقيل: الشاهد: محمد - ﷺ -، لقوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾. قال أبو حيان: وقد اختلف في تفسير الشاهد والمشهود على سبع وعشرين قولًا، ولكل قول مُمْتَسكٌ، والقول الظاهر المناسب لما قبله من تلك الأقوال: ما قلنا أولًا؛ أي: تفسير الشاهد بمن يشهد يوم القيامة، والمشهود بيوم القيامة لقوله تعالى: ﴿وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾. وقيل: المعنى: أقسم بجميع ما خلق الله سبحانه في هذا الكون مما يشهده الناس ويرونه رأي العين، فمنهم من يتدبر ويستفيد
وقصارى ذلك: أنه سبحانه وتعالى أقسم بالعوالم كلها ليلفت الناظرين إلى ما فيها من العظم والفخامة، وليعتبروا بما حضر، ويبذلوا جهدهم في درك حقيقة ما استتر.
٤ - وقوله: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (٤)﴾؛ أي: لعنوا وأخذوا، ونزل بهم نكال الدنيا، وعذاب الآخرة، جواب القسم، واللام فيه مضمرة؛ أي: أقسمت بهؤلاء المذكورات على أن أصحاب الأخدود لعنوا وطردوا وأبعدوا من رحمة الله تعالى بسبب ما فعلوه من تعذيب المؤمنين، وهذا هو الظاهر، وبه قال الفراء وغيره، وقيل: أصله: لقد قتل أصحاب الأخدود؛ فحذفت اللام وقد، وعلى هذا تكون الجملة خبرية، والأظهر أن الجملة دعائية دالة على الجواب، لا خبرية، والجواب محذوف تقديره: أقسم بهذه الأشياء على أن كفار قريش ملعونون، كما لعن أصحاب الأخدود. وقيل: تقدير الجواب: لتبعثن، واختاره ابن الأنباري.
وإنما احتيج إلى حذف اللام وقد؛ لأن المشهور عند النحاة: أن الماضي المثبت المتصرف إذا وقع جوابًا للقسم.. تلزمه اللام، وقد لا يجوز الاقتصار على أحدهما إلا عند طول الكلام، كما في قوله تعالى: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (١)﴾ إلى قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩)﴾، أو في ضرورة. اهـ "شهاب".
وجه الأظهرية: أن السورة وردت لتثبيت المؤمنين على الإيمان، وتصبيرهم على أذية الكفرة، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان، وصبرهم على ذلك حتى يأنسوا بهم، ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم، ويعلموا أن هؤلاء عند الله بمنزلة أولئك المعذبين، ملعونون مثلهم، أحقاء بأن يقال فيهم ما قد قيل فيهم، فظهر من هذا التقرير أنه ليس دعاء على أصحاب الأخدود من قبل المقسم، وهو الله تعالى؛ لأنه ليس بعاجز، والأخدود: الخد في الأرض، وهو الشق العظيم المستطيل في الأرض كالنهر، غامض؛ أي: عميق القرار، وأصل ذلك: من خدي الإنسان، وهما ما اكتنفا الأنف على اليمين والشمال، وفي "عين المعاني": ومنه الخد لمجاري الدموع عليه، ومنه المخدة؛ لأن الخد يوضع عليها،
روي: أنه انفلت من أهل نجران رجل اسمه: دوس ذو ثعلبان، ووجد إنجيلًا محترقًا بعضه، فأتى به ملك الحبشة، وكان نصرانيًا فقال: إن أهل دينك أوقدت لهم نار فأحرقوا بها وأحرقت كتبهم، وهذا بعضها، فأراه الذي جاء به ففزع لذلك، فكتب إلى صاحب الروم يستمده نجارين يعملون له السفن، فبعث إليه صاحب الروم من عمل له السفن، فركبوا فيها، فخرجوا إلى ساحل اليمن، فخرج إليهم أهل اليمن فلقوهم بتهامة واقتتلوا، فلم يرَ ملك حمير له بهم طاقة، وتخوف أن يأخذوه، فضرب فرسه حتى وقع في الحرب فمات فيه، أو ألقى نفسه في البحر، فاستولى الحبشة على حمير وما حولها، وتملكوا، وبقي الملك لهم إلى وقت مجيء الإسلام.
وروي عن علي رضي الله عنه: أن بعض ملوك المجوس وقع على أخته وهو سكران، فلما صحا ندم وطلب المخرج، فأمرته أن يخطب الناس فيقول أن قد أحل
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والنسائي والترمذي والطبراني عن صهيب: أن رسول الله - ﷺ - قال: "كان ملك من الملوك فيمن كان قبلكم، وكان لذلك الملك كاهن يكهن له، فقال له ذلك الكاهن: انظروا لي غلامًا فهمًا، أو قال: فطنًا لقنًا فأعلمه علمي، فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم، ولا يكون فيكم من يعلمه، فقال: فنظروا له على ما وصف، فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن، وأن يختلف إليه، فجعل الغلام يختلف إليه، وكان على طريق الغلام واهب في صومعة، فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مر به، فلم يزل به حتى أخبره فقال: إنما أعبد الله، فجعل الغلام يمكث عند هذا الراهب، ويبطىء على الكاهن، فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام أنه لا يكاد يحضرني، فأخبر الغلام الراهب بذلك، فقال له الراهب: إذا قال لك الكاهن: أين كنت؟ فقل: عند أهلي، وإذا قال لك أهلك: أين كنت؟ فأخبرهم أني كنت عند الكاهن، فبينما الغلام على ذلك إذ مر بجماعة من الناس كثير، قد حبستهم دابة يقال إنها كانت أسدًا، فأخذ الغلام حجرًا فقال: اللهم إن كان ما يقول ذلك الراهب حقًا.. فأسألك أن أقتل هذه الدابة، وإن كان ما يقول الكاهن حقًا.. فأسألك أن لا أقتلها، ثم رمى فقتل الدابة، فقال الناس: من قتلها؟ فقالوا: الغلام، ففزع الناس، وقالوا: قد علم هذا الغلام علمًا لا يعلمه أحد، فسمع أعمى فجاءه فقال: إن أنت رددت علىَّ بصري.. فلك كذا وكذا، فقال الغلام لا أريد منك هذا، ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك.. أتؤمن بالذي رده عليك، فقال: نعم، فدعا الله تعالى، فرد عليه بصره، فآمن الأعمى، فبلغ الملك أمرهم، فبعث إليهم، فأتي بهم فقال: لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه، فأمر بالراهب والرجل الذي كان أعمى، فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله، وقتل الآخر بقتلة أخرى، ثم أمر بالغلام فقال: انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا، فألقوه من رأسه، فانطلقوا به إلى ذلك الجبل، فلما انتهوا إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه.. جعلوا يتهافتون من
٥ - ﴿النَّارِ﴾ بدل (١) اشتمال من الأخدود؛ لأن الأخدود مشتمل على النار، وهو بها يكون مهيبًا مشتد الهول، والتقدير: النار فيه، أو أقيم أل مقام الضمير على اختلاف مذهبي أهل البصرة والكوفة. ﴿ذَاتِ الْوَقُودِ﴾ صفة للنار؛ أي: صاحبة الوقود الكثيرة، وهو بفتح الواو: ما يوقد به، وفيه وصف لها بغاية العظم وارتفاع اللهب، وكثرة ما يوجبه من الحطب، وأبدان الناس ما يدل عليه التعريف الاستغراقي، ولو
وقرأ الجمهور (١): ﴿النَّارِ﴾ بالجر، وهو بدل اشتمال، أو بدل كل من كل على تقدير محذوف؛ أي: أخدود النار، وقرأ قوم: ﴿النارُ﴾ بالرفع، قيل: على معنى قتلهم، ويكون أصحاب الأخدود إذ ذاك المؤمنين، وقتل على حقيقته، وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة وعيسى: ﴿الوُقود﴾ بضم الواو، وهو مصدر، والجمهور: بفتحها، وهو ما يوقد به، وقد حكى سيبويه أنه بالفتح أيضًا مصدر كالضم
والمعنى: أن أصحاب الأخدود هم أصحاب النار التي لها من الحطب الكثير ما يشتد به لهيبها لا جرم يكون حريقها عظيمًا، ولهيبها متطايرًا.
٦ - وقوله: ﴿إذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (٦)﴾ ظرف (٢) لـ ﴿قُتِلَ﴾، والضمير لأصحاب الأخدود، وقعود: جمع قاعد؛ أي: لعنوا حين أحرقوا المؤمنين بالنار قاعدين حولها في مكان مشرف عليها من حافات الأخدود، ولفظ ﴿عَلَى﴾ مشعر بذلك، تقول: مررت عليه، تريد مستعليًا بمكان يقرب منه، وفي بعض التفاسير: على سرر وكراسي قعود عند النار، ولو قعدوا على نفس النار لاحترقوا، فالقاتلون كانوا جالسين في مكان مشرف أو نحوه، ويعرضون المؤمنين على النار، فمن كان يترك دينه تركوه، ومن كان يصر ألقوه في النار وأحرقوه، وكان - ﷺ - إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ بالله من جهد البلاء، وهو الحالة التي يختار عليها الموت، أو كثرة العيال والفقر.. كما في "القاموس". والجهد بالفتح: المشقة، وجهد عيشه كفرح: نكد واشتد.
والمعنى (٣): أي قتلوا ولعنوا حين أحرقوا المؤمنين بالنار، وهم قاعدون حولها يشرفون عليهم، وهم يعذبون بها ويحرقون فيها،
٧ - كما أشار إلى ذلك بقوله: ﴿وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧)﴾ جمع شاهد؛ أي: إن أولئك الجبابرة الذين أمروا بإحراق المؤمنين كانوا حضورًا عند تعذيبهم، يشاهدون ما يفعله بهم أتباعهم، فـ ﴿عَلَى﴾ بمعنى: مع، والتقدير: وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين شهود؛ أي:
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
قال الزجاج: أعلم الله سبحانه قصة قوم بلغت بصيرتهم حقيقة إيمانهم إلى أن صبروا على أن يحرقوا بالنار في الله، هذا هو الذي يستدعيه النظم الكريم، وتنطبق به الروايات المشهورة، وقد ذهب بعضهم إلى أن الجبابرة لما ألقوا المؤمنين في النار، وهم قعود حولها.. علقت بهم النار، وفي رواية: ارتفعت فوقهم أربعين ذراعًا، فوقعت عليهم فأحرقتهم، ونجى الله المؤمنين سالمين، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، وقبض الله أرواحهم قبل أن تمسهم النار، كما فعل ذلك بآسية امرأة فرعون على ما سبق، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾؛ أي: لهم عذاب جهنم في الآخرة، ولهم عذاب الحريق في الدنيا.
٨ - ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ﴾؛ أي: وما أنكر أولئك الجبابرة على المؤمنين، وما عابوا عليهم، وما كرهوا منهم ﴿إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ﴾؛ أي: إلا إيمانهم وتصديقهم بوحدانية الله سبحانه وعبادتهم له ﴿الْعَزِيزِ﴾؛ أي: الغالب على كل متكبر عال ﴿الْحَمِيدِ﴾؛ أي: المحمود في كل حال. قال الزجاج: ما أنكروا عليهم ذنبًا إلا إيمانهم بالله، والاستثناء (٢) فيه مفرغ مفصح عن براءتهم مما يعاب وينكر بالكلية، على منهاج قوله:
وَلَا عَيْبَ فِيْهِمْ غَيْرَ أَنَّ ضُيُوْفَهُمْ | تُلَامُ بِنِسْيَانِ الأَحِبَّةِ وَالْوَطَنْ |
وَلَا عَيْبَ فِيْهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوْفَهُمْ | بِهِنَّ فُلُوْلٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ |
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿نَقَمُوا﴾ بفتح القاف، وقرأ زيد بن علي وأبو حيوة وابن أبي عبلة بكسرها، والفصيح: الفتح.
والمعنى (٢): أي إن هؤلاء الكفار لم يعاقبوا المؤمنين إلا على شيء لا يجوز العقاب عليه، بل ينبغي لكل أحد أن يكون عليه، ويدعو غيره إلى التمسك به، وهو الإيمان بالله تعالى العزيز الغالب الذي يخشى عقابه، وتهاب صولته، المنعم الذي يرجى ثوابه وترتقب نعماؤه.
٩ - ثم أكد استحقاقه للعزة والحمد بقوله: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: لأنه مالك الأمر كله فيهما، فلا مفر لأولئك الظالمين من سلطانه، ومن كان هذا شأنه.. فهو حقيق بأن يؤمن به ويوحد، ووصفه (٣) تعالى بكونه عزيزًا غالبًا يخشى عقابه، حميدًا منعمًا يرجى ثوابه، وتأكيد ذلك بقوله: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ للإشعار بمناط إيمانهم، وأخر هذه الصفة - أعني: صفة الملك -؛ لأن الملك التام لا يحصل إلا عند حصول الكمال في القدرة التي دل عليها ﴿الْعَزِيزِ﴾، وفي العلم الذي دل عليه ﴿الْحَمِيدِ﴾؛ لأن من لا يكون تام العلم لا يمكن أن يفعل الأفعال الحميدة.
وفي "كشف الأسرار": وإنما وصف ذاته بهذه الصفات.. ليعلم أنه لم يمهل الكفار لأجل أنه غير قادر، لكنه أراد أن يبلغ بهؤلاء المؤمنين مبلغًا من الثواب لم
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
ثم وبخهم على ما صنعوا بالمؤمنين، وأوعدهم بأنهم سيلاقون جزاء ما فعلوا، فقال: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من أقوال الفريقين وأفعالهم وأحوالهم وشؤون غيرهما ﴿شَهِيدٌ﴾؛ أي: مطلع، فهو عليم بما يكون من خلقه، ومجازيهم عليه، لا تخفى عليه منهم خافية، وفي هذا وعيد شديد لأصحاب الأخدود، ووعد خير لمن عذبوه على دينه من أولئك المؤمنين، فإن علمه تعالى بجميع الأشياء التي من جملتها أعمال الفريقين يستدعي توفير جزاء كل منهما حتمًا. قال الإمام القشيري: الشهيد: العليم، ومنه قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ﴾؛ أي: علم الله، والشهيد: الحاضر، وحضوره بمعنى: علمه ورؤيته وقدرته، والشهيد: مبالغة من الشاهد، وإذا علم العبد أن الله تعالى شهيد يعلم أفعاله، ويرى أحواله.. سهل عليه ما يقاسيه لأجله. قالوا: ودلت هذه القصة على أن المكره على الكفر بنوع من العذاب، الأولى له أن يصبر على ما خوف منه، وان كان إظهار الكفر كالرخصة في ذلك.
حُكي: أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي - ﷺ -، فقال لأحدهما: تشهد أني رسول الله، فقال: نعم، فتركه، وقال للآخر مثله، فقال: لا بل أنت كذاب، فقتله، فقال النبي - ﷺ -: "أما الذي تركه فأخذ بالرخصة، فلا تبعة عليه، وأما الذي صبر.. فأخذ بالفضل، فهنيئًا له".
١٠ - ثم بين سبحانه ما أعد لأولئك الذين فعلوا بالمؤمنين ما فعلوا من التحريق فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ بالإحراق وغيره بسبب إيمانهم؛ أي: إن (١) الذين محنوهم في دينهم وآذوهم وعذبوهم بأي عذاب كان ليرجعوا عنه، كأصحاب الأخدود ونحوهم، كما روي أن قريشًا كانوا يعذبون بلالًا وأضرابه، فالموصول للجنس، وإنما لم يدفع البلاء قبل الابتلاء؛ لأن أهل الولاء لا يخلو عن البلاء:
وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ الصَّفَاءُ لِعَاشِقٍ | وَجَنَّةُ عَدْنٍ بِالْمَكَارِهِ حُفَّتِ |
﴿عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾ يعذبون به أبدًا ﴿وَلَهُمْ﴾ بسبب فتنتهم للمؤمنين ﴿عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾؛ أي: عذاب عظيم زائد في الإحراق على عذاب سائر أهل جهنم، فظهرت المغايرة بين المعطوفين، وإن كان كل منهما حاصلًا في الآخر، ويحتمل (١) أن يكون المراد بعذاب جهنم: بردها وزمهريرها، وبعذاب الحريق: حرها، فيرددون بين برد وحر، على أن يكون الحر لإحراقهم المؤمنين في الدنيا، والبرد لغيره، كما قالوا الجزاء من جنس العمل، والحريق: اسم بمعنى الاحتراق، كالحرقة.
يقول الفقير: الظاهر: أن الحريق هنا بمعنى: المحرق، كالأليم بمعنى: المؤلم، فيكون إضافة العذاب إلى الحريق، من قبيل إضافة الموصوف إلى صفته، ويستفاد زيادة الإحراق من المقابلة، فإن العطف من باب الترقي بحسب العذاب المترتب على الترقي من حيث العمل.
والمعنى (٢): أي: إن الذين امتحنوا المؤمنين والمؤمنات بالتعذيب ليردوهم عن دينهم، وثبتوا على كفرهم، ولم يتوبوا حتى أخذهم الموت، أعد الله لهم عذابًا في جهنم بالحريق وقد كان الضالون من كل أمة يؤذون أهل الحق والدعاة إليه حرصًا على ما ألفوا من الباطل، وتشيعًا لما وجدوا عليه أنفسهم وآباءهم الأقربين على غير بصيرة، ولا استشارة للعقل السليم، ولا يزال هذا شأنهم إلى يوم الدين، انظر إلى أصحاب الأخدود.. تجدهم قد عرضوا المؤمنين على النار، وأحرقوهم بها، وإلى كفار قريش.. ترهم قد فتنوا المؤمنين بالكثير من الإيذاء، فعذبوا آل ياسر
(٢) المراغي.
وفي قوله: ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ إيماء إلى أنهم لو تابوا قبل موتهم.. غفر الله لهم ما قدموا قبل التوبة من ذنب، كما مر.
١١ - وبعد أن ذكر ما أعد لأعدائه من النكال والعذاب الأليم.. أرشد إلى ما يكون لأوليائه من النعيم المقيم؛ ليكون ذلك أنكى للأعداء، وأشد في غيظهم، وأبعث للأسى والحزن في نفوسهم، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ على الإطلاق من المفتونين وغيرهم، والمعنى: إن الجامعين بين الإيمان وعمل الصالحات ﴿لَهُمْ﴾ بسبب ما ذكر من الإيمان، والعمل الصالح الذي من جملته الصبر على أذى الكفار، وإحراقهم. إيراد (١) الفاء أولًا، وتركها ثانيًا يدل على جواز الأمرين. ﴿جَنَّاتٌ﴾ يجازون بها بمقابلة النار ونحوها ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ الأربعة، يجازون بذلك بمقابلة الاحتراق والحرارة ونحو ذلك. قال في "الإرشاد": إن (٢) أريد بالجنات الأشجار، فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها، فالتحتية باعتبار جزئها الظاهر، وهو الشجر، فإن أشجارها ساترة لساحتها، كما يعرب عنه اسم الجنة. انتهى.
﴿ذَلِكَ﴾ المذكور العظيم الشأن، وهو حصول الجنات لهم ﴿الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ الذي لا يعدله فوز آخر، وتصغر عنده الدنيا وما فيها من فنون الرغائب بحذافيرها، فالحصر إضافي. قال في "برهان القرآن": ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ، و ﴿الْفَوْزُ﴾: خبره، و ﴿الْكَبِيرُ﴾: صفته، وليس له في القرآن نظير، والفوز النجاة من الشر، والظفر بالخير، فإن أشير بذلك إلى الجنات نفسها، فهو مصدر أطلق على المفعول مبالغةً، وإلا فهو مصدر على حاله.
(٢) أبو السعود.
ومعنى الآية (٢): أي إن الذين أقروا بوحدانية الله تعالى، وعملوا صالح الأعمال ائتمارًا بأوامره، وكفوا عن نواهيه ابتغاء رضوانه، لهم بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار، وهذا هو الظفر الكبير لهم، كفاء ما قدموا من إيمان وطاعة لربهم.
١٢ - وجملة قوله: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢)﴾ مستأنفة لخطاب النبي - ﷺ -، مبينة لما عند الله تعالى من الجزاء لمن عصاه، والمغفرة لمن أطاعه، إيذانًا بأن لكفار قومه نصيبًا موفورًا من مضمونه، كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره - ﷺ -، والبطش: تناول الشيء بصولة، والأخذ بعنف وشدة، يقال: يد باطشة. وحيث وصف البطش بالشدة فقد تضاعف وتفاقم، وهو بطشه بالجبابرة والظلمة، وأخذه إياهم بالعذاب والانتقام، وإن كان بعد إمهال، فإنه عن حكمة لا عن عجز؛ أي: إن أخذ ربك للظلمة والجبابرة لشديد، ومثل هذا قوله: ﴿إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.
والمعنى (٣): إن انتقامه من الجبابرة والظلمة، وأخذه إياهم بالعقوبة.. لهو الغاية في الشدة، والنهاية في الأذى والألم، وفي هذا إرهاب لقريش ومن معها، وتعزية لرسول الله - ﷺ - ولمن تبعه.
١٣ - وقد زاد سبحانه أمر قدرته توكيدًا فقال: ﴿إِنَّهُ هُوَ﴾ وحده ﴿يُبْدِئُ﴾، وقرىء ﴿يبدأ﴾ من بدأ ثلاثيًا، حكاه أبو زيد؛ أي: يبدأ الخلق، ويخرجهم من العدم إلى
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
والمعنى: أنه يخلق الخلق ابتداءً، ثم يعيدهم بعد أن صيَّرهم ترابًا، وإذا كان قادرًا على البدء والإعادة.. فهو قادر على شديد البطش بهم؛ لأنهم تحت قبضته، وخاضعون لسلطانه، فكأنه سبحانه يقول: إن مرجعكم إلى ربكم، فإذا لم يعاقبكم في هذه الحياة على ما تعملون مع أوليائه، فلا تظنوا أن ذلك إهمال منه أو تقصير في شأنهم، بل أخر ذلك ليوم ترجعون إليه، وهو اليوم الذي سيكون فيه البطش والانتقام منكم. وقيل: المعنى: أنه (١) يبدىء البطش والعذاب في الآخرة، ثم يعيده فيها، كقوله تعالى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن أهل جهنم تأكلهم النار، حتى يصيروا فيها فحمًا، ثم يعيدهم خلقًا جديدًا، فهو المراد من الآية، أو المعنى: يبدىء من التراب، ويعيده فيه، أو يبدىء من النطفة، ويعيده في الآخرة، يقال: بدأ الله الخلق وأبدأهم، فهو بادئهم ومبدئهم، بمعنى واحد، والمبدىء: المظهر ابتداءً، والمعيد: المنشىء بعدما عدم، فالإعادة ابتدأ ثانٍ. قال الإِمام الغزالي رحمه الله تعالى: المبدىء المعيد: معناه: الموجد، لكن الإيجاد إذا لم يكن مسبوقًا بمثله يسمى: إبداءً، وإن كان مسبوقًا بمثله يسمى: إعادةً، والله تعالى بدأ خلق الإنسان، ثم هو الذي يعيدهم؛ أي: يحشرهم، فالأشياء كلها منه بدت، وإليه تعود، وبه بدت وبه تعود. انتهى.
قال الإِمام القشيري رحمه الله: إن الله تعالى يبدىء فضله وإحسانه لعبيده، ثم يعيده ويكرره، فإن الكريم من يرب صنائعه، وخاصية الاسم المبدىء: أن يقرأ على بطن الحامل سحرًا تسعًا وعشرين مرة، فإن ما في بطنها يثبت ولا يزلق، وخاصية الاسم المعيد: يذكر مرارًا لتذكار المحفوظ إذا نسي لا سيما إذا أضيف له الاسم
١٤ - ثم ذكر سبحانه خمسة أوصاف من صفات الرحمة والجلال فقال:
١ - ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ﴾؛ أي: كثير المغفرة لمن تاب عن الكفر وآمن، وكذا لمن تاب عن غيره من المعاصي، ولمن لم يتب أيضًا إن شاء فتجاوز عن سيئاته.
٢ - ﴿الْوَدُودُ﴾؛ أي: المحب لمن أطاع أو تاب، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾، فالودود: فعول بمعنى الفاعل هاهنا، وهو الذي يقتضيه المقام، وقال سهل رحمه الله تعالى: الودود: المحب إلى عباده بإسباغ النعم عليهم ودوام العافية، فيكون بمعنى المفعول؛ لأنه يحبه عباده الصالحون، ومحبة العبد لله طاعته له، وموافقته لأمره، أو تعظيمه له، وهيبته في قلبه، وخاصية الاسم الودود. حصول محبة الله ومحبة طاعته لذاكره.
٣ - ١٥ ﴿ذُو الْعَرْشِ﴾؛ أي: خالق العرش ومالكه، وقيل: المراد بالعرش: الملك مجازًا؛ أي: ذو السلطنة القاهرة على المخلوقات السفلية، والمخلوقات العلوية، وإن لم يكن على السرير، يقال: ثُلَّ عرش فلان: إذا ذهب سلطانه، ومنه قول الشاعر:
إِنْ يَقْتُلُوْكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوْشَهُمْ | بِعُتَيْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شِهَابِ |
وقرىء بالجر على أنه صفة لـ ﴿الْعَرْشِ﴾، أو صفة لـ ﴿ذي﴾، ومجد العرش: علوه في الجهة، وعظم قدره، وحسن صورته وتركيبه، فإنه أحسن الأجسام تركيبًا وصورة.
وقرأ الجمهور: ﴿ذُو﴾ بالواو، وابن عامر في رواية: ﴿ذي﴾ بالياء على أنه صفة لـ ﴿رَبِّكَ﴾ في قوله: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ﴾ ولا يضر الفصل بينهما؛ لأنها صفات الله سبحانه.
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن وثاب والأعمش والمفضل عن عاصم والأخوان حمزة والكسائي: ﴿الْمَجِيدُ﴾ بكسر الدال على أنه صفة لـ ﴿الْعَرْشِ﴾، ومن
٥ - ١٦ ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ من الإبداء والإعادة قال عطاء: لا يعجز عن شيء أراده، ولا يمنع منه شيء طلبه، وإنما قال: ﴿فَعَّالٌ﴾ بصيغة المبالغة؛ لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة من الإحياء والإماتة، والإعزاز والإذلال، والإغناء والإقتار، والشفاء والإمراض، والتقريب والتعبيد، والعمارة والتخريب، والوصل والفرق، والكشف والحجاب، وغير ذلك.
١٧ - ثم ذكر سبحانه خبر الجموع الكافرة فقال: ﴿هَلْ أَتَاكَ﴾، والجملة مستأنفة مقررة لما تقدم من شدة بطشه سبحانه، وكونه فعالًا لما يريده، وفيه تسلية لرسوله - ﷺ -، والاستفهام فيه للتقرير؛ أي: قد أتاك وجاءك يا محمد ﴿حَدِيثُ الْجُنُودِ﴾؛ أي: خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائها، المتجندة عليهم في ماضي الأزمان،
١٨ - ثم بينهم فقال: ﴿فِرْعَوْنَ﴾ بدل من الجنود، مع أنه غير مطابق ظاهرًا للمبدل منه في الجمعية؛ لأن المراد بفرعون هو وقومه، ويحتمل أن يكون على حذف المضاف؛ أي: جنود فرعون ﴿وَثَمُودَ﴾ قوم صالح، معطوف على ﴿فِرْعَوْنَ﴾؛ أي: قد أتاك (١) حديث هؤلاء، وعرفت ما فعلوا من التكذيب، وما فعل بهم من التعذيب، فذكر قومك بشؤون الله فيهم، وأنذرهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك حين كذبوا أنبيائهم، وقد كانوا سمعوا قصة فرعون وجنوده قوم موسى عليه السلام، ورأوا آثار هلاك ثمود قوم صالح عليه السلام؛ لأنها كانت في ممرهم وفي بلادهم، وقصتهم مشهورة قد تكرر في الكتاب العزيز ذكرها في غير موضع، واقتصر على الطائفتين لاشتهار أمرهما عند أهل الكتاب، وعند مشركي العرب، ألا ترى إلى زهير بن أبي سلمى وقوله:
أَلَمْ تَرَ أنَّ اللهَ أَهْلَكَ تُبَّعًا | وَأهْلَكَ لُقْمَانَ بْنَ عَادٍ وَعَادِيَا |
وَأَهْلَكَ ذَا الْقَرْنَيْنِ مِنْ قَبْلِ مَا نَوَى | وَفِرْعَوْنَ جَبَّارًا طَغَى وَالنَّجَاشِيَا |
١٩ - ثم أضرب عن مماثلة هؤلاء المشركين في عصره - ﷺ - لمن تقدم ذكره، وبين أنهم أشد منهم في الكفر والتكذيب فقال: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من قومك ﴿فِي﴾ أشد ﴿تَكْذِيبٍ﴾ لك ولما جئت به، ولم يعتبروا بمن كان قبلهم من الأمم المكذبة المهلكة، فهؤلاء أشد منهم في الكفر والطغيان، وتنكير ﴿تَكْذِيبٍ﴾ للتعظيم، كأنه قيل: ليسوا مثلهم في ذلك، بل هم أشد منهم في استحقاق العذاب واستيجاب العقاب، فإنهم مستقرون في تكذيب شديد للقرآن الناطق بذلك، لكن لا أنهم يكذبون بوقوع الحادثة، بل يكذبون كون ما نطق قرآنًا من عند الله مع وضوح أمره وظهور حاله بالبينات الباهرة.
وحاصل معنى الآيات: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧)﴾؛ أي: هل (١) بلغك يا محمد ما صدر من أولئك الجنود من التمادي في الكفر والضلال، وما حل بهم من العذاب والنكال.
والخلاصة: أنه قد أتاك خبرهم، وعرفت ما فعلوا وما جازاهم ربهم به، فذكر قومك بأيام الله، وأنذرهم أنه سيصيبهم ما أصاب أماثلهم من أهل الضلال.
ثم بين من هم أولئك الجنود، فقال: ﴿فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨)﴾، وحديث هذين مشهور متعارف بينهم، فقد كانوا يعرفون من يهود المدينة وغيرهم ما كان من فرعون مع كليم الله موسى عليه السلام من العناد، والإصرار على الكفر، وما كان من عاقبة أمره، وأن الله أغرقه في اليم هو وقومه، وأذاقه الوبال في الآخرة والأولى، كما كانوا يعرفون قصة ثمود مع صالح عليه السلام، وأنهم عقروا الناقة التي جعلها الله لهم آية، فدمر بلادهم وأهلكهم، ولم يترك لهم من باقية، وهم يمرون على ديارهم في أسفارهم ويسمعون أخبارهم.
٢٠ - ولا يزالون في غمرة حتى يؤخذوا على غرة فقال: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مِنْ وَرَائِهِمْ﴾؛ أي: من خلفهم ﴿مُحِيطٌ﴾ بهم بالقدرة، وهو تمثيل لعدم نجاتهم من بأس الله بعدم فوت المحاط به المحيط إذا سد عليه مسلكه بحيث لا يجد هربًا منه؛ أي: إنه تعالى مقتدر عليهم، وهم في قبضة لا يجدون مهربًا، ولا يستطيعون الفرار إذا أرادوا، فلا تجزع من تكذيبهم، واستمرارهم على العناد، فلن يفوتوني إذا أردت الانتقام منهم.
٢١ - ثم رد على تماديهم في تكذيب القرآن، وادعائهم أنه أساطير الأولين فقال: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١)﴾؛ أي: ليس الأمر كما قالوا، بل هذا الذي كذبوا به قرآن شريف عال الطبقة فيما بين الكتب الإلهية في النظم والمعنى، متضمن للمكارم الدنيوية والأخروية،
٢٢ - مكتوب ﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢)﴾ من التحريف ووصول الشياطين إليه، واللوح: كل صحيفة عريضة خشبًا، أو عظمًا. كما في "القاموس".
قال الراغب: اللوح واحد ألواح السفينة، وما يكتب فيه من الخشب ونحوه، والمراد به هنا ما قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله خلق لوحًا محفوظًا من درة بيضاء، دفتاه ياقوتة حمراء، طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، ينظر الله فيه كل يوم ثلاث مئة وستين مرة، يحيي ويميت، يعز ويذل ويفعل ما يشاء، وفي صدر اللوح: لا إله إلا الله وحده، ودينه الإِسلام، ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن به وصدق وعده واتبع رسله.. أدخله الجنة. وقال بعض المفسرين: اللوح: شيء يلوح للملائكة، فيقرؤونه.
قلت: والمذهب الأسلم: أن يقال: اللوح المحفوظ شيء أخبرنا الله به، وأنه أودعه كتابه، ولكن لم يعرفنا حقيقته، فعلينا أن نؤمن به، وليس علينا أن نبحث فيما وراء ذلك مما لم يأتِ به خبر من المعصوم صلوات الله وسلامه عليه.
وقرأ الجمهور: ﴿فِي لَوْحٍ﴾ بفتح اللام ﴿مَحْفُوظٍ﴾ بالخفض صفة للوح، واللوح المحفوظ: هو الذي فيه جميع الأشياء، معلَّق بالعرش. كما في القرطبي. وقرأ ابن يعمر وابن السميفع بضم اللام؛ أي: إنه يلوح، وهو ذو نور وعلو وشرف. قال ابن خالويه: اللوح: الهواء، وقال الزمخشري: يعني: اللوح فوق السماء السابعة الذي هو في اللوح المحفوظ من وصول الشياطين إليه، وقرأ الأعرج وزيد بن علي وابن محيصن ونافع بخلاف عنه: ﴿محفوظٌ﴾ بالرفع صفة للقرآن، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾؛ أي: هو محفوظ في القلوب لا يلحقه خطأ ولا تبديل.
الإعراب
﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩)﴾.
﴿وَالسَّمَاءِ﴾: ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم ﴿السَّمَاءِ﴾: مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا تقديره: أقسم، وجملة القسم مستأنفة استئنافًا نحويًا ﴿ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾: صفة لـ ﴿السَّمَاءِ﴾ مجرور بالكسر، ﴿وَالْيَوْمِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿اليومِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاءِ﴾، أو: ﴿الواو﴾: حرف قسم ﴿اليومِ﴾: مقسم به مجرور بواو القسم، فيكون قسمًا مستقلًا ﴿الْمَوْعُودِ﴾: صفة لـ ﴿ليوم﴾، ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣)﴾ معطوفان أيضًا على ﴿السَّمَاءِ﴾، ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (٤)﴾: فعل ماضٍ ونائب فاعل، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، ولكنه محذوف الصدر، تقديره: أقسم بهذه الأشياء لقد قتل أصحاب الأخدود، وإنما احتيج لهذا الحذف؛ لأن المشهور عند النحاة: أن الماضي المثبت المتصرف الذي لم يتقدم معموله إذا وقع جوابًا للقسم.. تلزمه اللام وقد، لا يجوز
﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (١٦)﴾.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللَّهُ مِنْ
﴿هَلْ﴾: حرف استفهام للاستفهام التقريري ﴿أَتَاكَ﴾: فعل ماضٍ ومفعول به ﴿حَدِيثُ الْجُنُودِ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب مسوقة لتقرير شدة بطشه تعالى، ﴿فِرْعَوْنَ﴾: بدل من ﴿الْجُنُودِ﴾ بدل كل من كل مجرور بالفتحة؛ لأنه غير منصرف للعلمية والعجمية، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: قوم فرعون، ﴿وَثَمُودَ﴾: معطوف على ﴿فِرْعَوْنَ﴾ مجرور بالفتحة للعلمية والتأنيث المعنوي، كزينب. ﴿بَلِ﴾: حرف عطف وإضراب عن محذوف إضرابًا انتقاليًا تقديره: ليس هؤلاء مثل من تقدم قبلهم من الأمم، بل هم أشد تكذيبًا ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول، ﴿فِي تَكْذِيبٍ﴾: خبر عن الموصول والجملة الاسمية معطوفة على تلك المحذوفة، ﴿وَاللَّهُ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿الله﴾: مبتدأ، ﴿مِنْ وَرَائِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿مُحِيطٌ﴾، و ﴿مُحِيطٌ﴾: خبر عن لفظ الجلالة، والجملة معطوفة على ما قبلها ﴿بَلِ﴾: حرف إضراب للإضراب الانتقالي عن بيان شدة كفرهم إلى وصف القرآن بما ذكر، والمعنى: ليس ما كذب هؤلاء مثل ما كذب من قبلهم، بل ما كذبوه ﴿قُرْآنٌ﴾ موصوف بهذه الصفات العالية، ﴿هُوَ﴾: مبتدأ ﴿قُرْآنٌ﴾: خبر ﴿مَجِيدٌ﴾: صفة ﴿قُرْآنٌ﴾، والجملة معطوفة على تلك الجملة المحذوفة، ﴿فِي لَوْحٍ﴾: صفة ثانية لـ ﴿قُرْآنٌ﴾، ﴿مَحْفُوظٍ﴾: صفة لـ ﴿لَوْحٍ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿السَّمَاءِ﴾ والسماء في اللغة: كل جرم علوي، فدخل فيه السحاب والعرش، واصطلاحًا: الأفلاك السبعة التي هي مركز الكواكب، والنجوم من السبعة السيارة والثوابت.
﴿ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ جمع: برج، وهو في الأصل: الركن والحصن والقصر، وكل بناء مرتفع على شكل مستدير، أو مربع يكون منفردًا، أو قسمًا من بناية عظيمة، والبرج أيضًا: أحد بروج السماء، وهي بحسب تعبير اللغويين اثنا عشر: الحمل والثور إلى آخر ما مر، وأصل هذه المادة للظهور يعني: أن أصل معنى البرج الأمر الظاهر من التبرج، ثم صار حقيقة في العرف للقصر العالي لظهوره، ويقال لما ارتفع من سور المدينة: برج أيضًا.
﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣)﴾ والشاهد والمشهود: جميع ما خلق الله تعالى في هذا العالم، فإن كل ما خلقه شاهد على جليل قدرته، وعظيم حكمته:
وَفِيْ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ | تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ |
﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (٤)﴾ الأخدود مفرد، وجمعه: أخاديد، والخد بفتح الخاء: بمعنى الأخدود، وجمعه: خدود، وهو الشق في الأرض، يحفر مستطيلًا، والأخاديد أيضًا: آثار الضرب بالسوط، ومنه: أخاديد الأرشية في البئر، وهي تأثير جرها فيه، ويقال للشيخ: قد تخدد، ويراد: قد تشنج جلده، وأصحاب الأخدود: قوم كافرون ذو بأس وقوةٍ، رأوا قومًا من المؤمنين، فغاظهم إيمانهم، فحملوهم على الكفر، فأبوا، فشقوا لهم شقًا في الأرض، وحشوه نارًا، وألقوهم فيه، وكان هؤلاء الغلاظ الأكباد على جوانب الشق يشهدون الإحراق ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ﴾؛ أي: عابوا عليهم الإيمان. وفي "المختار": نقم الأمر: كرهه، وبابه: ضرب، ونقم من باب فهم لغة. اهـ.
﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾؛ أي: ابتلوهم، وامتحنوهم، وعذبوهم بالنار، يقال: فتنت الشيء: إذا حرقته بالنار، والعرب تقول: فتن فلان الدينار: إذا أدخله الكور لينظر جودته، وفي "المختار": الفتنة: الاختبار، والامتحان، تقول: فتن الذهب يفتنه بالكسر فتنةً ومفتونًا أيضًا: إذا أدخله النار لينظر جودته، ودينار مفتون، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾؛ أي: حرقوهم، ويسمى الصائغ: الفتان، وكذا الشيطان، وقال الخليل: الفتن: الإحراق، قال تعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣)﴾. انتهى.
﴿عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾؛ أي: العذاب المحرق، فهو من إضافة الموصوف، إلى الصفة، وهو عذاب جهنم ذكر تفسيرًا وبيانًا له، وفي "المفردات": الحريق: النار، وكذا الحرق بالتحريك: النار أو لهبها. كما في "القاموس". وحرق الشيء: إيقاع الحرارة فيه من غير لهب كحرق الثوب بالدق، والإحراق: إيقاع نار ذات لهب في شيء، ومنه استعير أحرقني بلومه: إذا بالغ في أذيته بلوم.
﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ﴾ البطش: الأخذ بعنف وشدة. وفي "المختار": البطشة: السطوة، والأخذ بعنف، وقد بطش به - من باب ضرب ونصر - وباطشه مباطشةً. اهـ.
﴿وَيُعِيدُ﴾ أصله: يعود بوزن يفعل، نقلت حركة الواو إلى العين، فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مد، وحذفت منه همزة أفعل، فصار يعيد.
﴿وَهُوَ الْغَفُورُ﴾؛ أي: الذي يعفو ويستر ذنوب عباده بمغفرته.
﴿الْوَدُودُ﴾؛ أي: الذي يحب أولياءه، ويتودد إليهم بالعفو عن صغار ذنوبهم.
﴿ذُو الْعَرْشِ﴾؛ أي: صاحب الملك، والسلطان، والقدرة النافذة.
﴿الْمَجِيدُ﴾؛ أي: السامي القدر المتناهي في الكرم والجود، تقول العرب: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار؛ أي: تناهيا في الاحتراق حتى يقتبس منهما.
﴿حَدِيثُ الْجُنُودِ﴾ الجنود: تطلق تارة على العسكر، وتطلق أخرى على الأعوان، والمراد بهم هنا: الجماعات الذين تجندوا على أنبياء الله تعالى، واجتمعوا على أذاهم.
﴿فِرْعَوْنَ﴾ هو طاغية مصر صاحب موسى عليه السلام.
﴿وَثَمُودَ﴾ قبيلة بائدة من العرب، لا يعرف من أخبارها إلا ما قصه الله علينا.
﴿مُحِيطٌ﴾؛ أي: هم في قبضته تعالى وحوزته، كمن أحيط به فانسدت عليه المسالك.
﴿مَجِيدٌ﴾، أي: شريف عالي المرتبة من بين الكتب الإلهية في النظم والمعنى، متضمن للمكارم الدنيوية والأخروية.
﴿فِي لَوْحٍ﴾ قال الراغب: اللوح - بفتح اللام -: واحد ألواح السفينة، وكل صحيفة عريضة خشبًا وعظمًا، وهو هنا مخلوق عظيم خلق للبقاء كالعرش، كتب الله فيه الكائنات.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾؛ لأن البروج حقيقة في القصور التي تنزل فيها الأكابر والأشراف، فاستعيرت لمنازل الكواكب السيارة، ومقر الثوابت منها بجامع العلو في كل منهما.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣)﴾.
ومنها: تنكيرهما للإبهام في الوصف؛ أي: وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما.
ومنها: تأكيد المدح بما يشبه الذم في قوله: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨)﴾ وهو أن يستثنى من صفة ذم منفية صفة مدح، أو أن يثبت لشيء صفة مدح، ويؤتى بعدها بأداة الاستثناء تليها صفة مدح أخرى:
ومن الأول: بيت النابغة في مديح الغسانيين:
وَلَا عَيْبَ فِيْهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوْفَهُمْ | بِهِنَّ فُلُوْلٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ |
وَمَا نَقَمُوْا مِنْ أُمَيَّةَ إِلَّا | أَنَّهُمْ يَحْلُمُوْنَ إِنْ غَضِبُوْا |
وَلَا عَيْبَ فِيْهِ غَيْرَ أَنَّيْ قَصَدْتُهُ | فَأَنْسَتْنِيَ الأَيَّامُ أَهْلًا وَمَوْطِنَا |
تُعَدُّ ذُنُوْبِيْ عِنْدَ قَوْمٍ كَثِيْرَةً | وَلَا ذَنْبَ لِيْ إلَّا الْعُلاَ وَالْفَضَائِلُ |
مَا فِيْكِ مِنَ الْجَمَالِ سِوَى | أَنَّكِ مِنْ أَقْبَحِ الْقَبِيْحَاتِ |