تفسير سورة البروج

فتح الرحمن في تفسير القرآن

تفسير سورة سورة البروج من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن.
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سُورَةُ البُرُوج
مكية، وآيها: اثنتان وعشرون آية، وحروفها: أربع مئة وأربع وستون حرفًا، وكلمها: مئة وتسع كلمات.

بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (١)﴾.
[١] ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ هي المنازل التي عرفتها العرب، وهي اثنا عشر على ما قسمته، وهي التي تقطعها الشمس في سنة، والقمر في ثمانية وعشرين يومًا، وتقدم ذكرها في سورة يونس، وفي الفرقان.
* * *
﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢)﴾.
[٢] ﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾ هو يوم القيامة.
* * *
﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣)﴾.
[٣] ﴿وَشَاهِدٍ﴾ يوم الجمعة؛ لأنه يشهد على كل عامل بعمله ﴿وَمَشْهُودٍ﴾ يوم عرفة؛ لأن الناس يشهدون مواسم الحج، وتشهده
الملائكة، وقيل في شاهد ومشهود غيرُ ذلك.
* * *
﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (٤)﴾.
[٤] وجواب القسم محذوف؛ كأنه قيل: إنهم ملعونون؛ يعني: كفار مكة؛ كما لعن أصحاب الأخدود، وقيل: الجواب.
﴿قُتِلَ﴾ أي: لُعن ﴿أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾ وهي شق مستطيل في الأرض كالنهر، وجمعه أخاديد، وأصحاب الأخدود كانوا ثلاثة، وهم أنطاليوس الرومي بالشام، وبخت نصر بفارس، ويوسف ذو نواس بنجران، شق كل واحد منهم شقًّا عظيمًا في الأرض، وكان طوله أربعين ذراعًا، وعرضه اثني عشر ذراعًا، وهو الأخدود، وملؤوه نارًا، وقالوا من لم يكفر، وإلا ألقي فيه، فمن كفر، تُرك، ومن أبي، أُلقي فيه، وقيل: إن القرآن إنما نزل في التي بنجران (١)، وفي ذلك خلاف يطول ذكره.
* * *
﴿النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (٥)﴾.
[٥] ﴿النَّارِ﴾ بدل من ﴿الْأُخْدُودِ﴾ بدل اشتمال ﴿ذَاتِ الْوَقُودِ﴾ والوقود -بفتح الواو-: ما- يوقد به.
* * *
﴿إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (٦)﴾.
[٦] ﴿إِذْ هُمْ عَلَيْهَا﴾ أي: حولها على جانب الأخدود على الكراسي.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٥٠٠).
﴿قُعُودٌ﴾ يعذبون الناس روي أنه احترق عشرون ألفًا.
* * *
﴿وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧)﴾.
[٧] ﴿وَهُمْ﴾ أي: الملك وأصجابه ﴿عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ من التعذيب ﴿شُهُودٌ﴾ أي حضور.
* * *
﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨)﴾.
[٨] ﴿وَمَا نَقَمُوا﴾ أي: عابوا ﴿مِنْهُمْ﴾ يعني: المؤمنين.
﴿إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ فلذلك أحرقوهم، وهذا الاستثناء نحو:
ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفهم بهنَّ فلولٌ من قراعِ الكتائبِ
ووصفه بكونه عزيزًا غالبًا يُخشى عقابُه، حميدًا منعمًا يرجى ثوابه (١).
* * *
﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩)﴾.
[٩] وقرر ذلك بقوله: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من أفعالهم ﴿شَهِيدٌ﴾ للإشعار بما يستحق أن يؤمن به ويعبد.
* * *
(١) انظر: "الكشاف" للزمخشري (٤/ ٧٣٣).
﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا﴾ عذبوا ﴿الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ بالإحراق.
﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾ بكفرهم ﴿وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ أشد من الأول؛ بإحراقهم المؤمنين، وجهنم والحريق طبقتان من النار.
* * *
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١)﴾.
[١١] ثم ذكر ما أعد للمؤمنين فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ إذ الدنيا وما فيها تصغر دونه.
* * *
﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ﴾ أي: أخذه بالعذاب ﴿لَشَدِيدٌ﴾ مضاعَف عنفُه.
* * *
﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ﴾ الخلقَ بخلقهم ابتداءً ﴿وَيُعِيدُ﴾ خلَقهم عند البعث.
* * *
﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ لمن تاب ﴿الْوَدُودُ﴾ المتودِّد إلى أوليائه بالمغفرة.
* * *
﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿ذُو الْعَرْشِ﴾ خالقُه ﴿الْمَجِيدُ﴾ العظيم في ذاته. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (الْمَجِيدِ) بالجر نعتًا للعرش، وقرأ الباقون: بالرفع نعتًا للغفور (١)؛ لأن المجد هو النهاية في الكرم، والله تعالى هو المنعوت بذلك.
* * *
﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ لا يمتنع عليه شيء يريده.
* * *
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿هَلْ﴾ أي: قد ﴿أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ﴾ خبرُ الجموع الكافرة.
* * *
﴿فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨)﴾.
[١٨] ثم بين تعالى من هم فقال: ﴿فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ﴾ وهذا تنبيه لكفار
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٧٨)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٢١)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٥٩١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٨/ ١٠٨).
مكة بما جرى للهالكين قبلهم؛ ليتعظوا بهم، فيؤمنوا.
* * *
﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩)﴾.
[١٩] فلما لم يؤمنوا، قيل إضرابًا عنهم: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من قومك يا محمد.
﴿فِي تَكْذِيبٍ﴾ لك وللقرآن؛ كدأبِ مَنْ قبلهم.
* * *
﴿وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ قدرتُه مشتملة عليهم، فلا يُعجزه منهم أحد.
* * *
﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿بَلْ هُوَ﴾ أي: ما كذبوا به.
﴿قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴾ عظيم القدر. قرأ ابن كثير: (قُرَانٌ) بالنقل، والباقون: بالهمز (١).
* * *
﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ لا يدركه الخطأ والتبديل. قرأ نافع: (مَحْفُوظٌ)
(١) سلفت عند تفسير الآية (٢١) من سورة الانشقاق.
332
بالرفع صفة لقرآن، وقرأ الباقون: بالجر صفة اللوح (١)، وهو اللوح المشهور بهذه الصفة، وهو في جبهة إسرافيل -عليه السلام-، قاله أنس، وقال ابن عباس: "هو من دُرَّةٍ بيضاءَ، طولُه ما بين السماء والأرض، وعرضُه ما بين المشرق والمغرب" (٢)، والله أعلم.
* * *
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٧٨)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٢١)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٥٩٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٨/ ١٠٩ - ١١٠).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٥٩٢)، و"تفسير ابن كثير" (٤/ ٤٩٨).
333
سورة البروج
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (البُرُوج) من السُّوَر المكية، وقد افتُتحت ببيان قدرة الله عز وجل وعظمتِه، ثم جاءت على ذكرِ قصة (أصحاب الأخدود)، وهم قومٌ فتَنوا فريقًا ممن آمن بالله، فجعلوا أُخدودًا من نار لتعذيبهم؛ وذلك تثبيتًا لقلوب الصحابة على أمرِ هذه الدعوة، وأن اللهَ - بعظمتِه وسلطانه - الذي أقام السماءَ والأرض صاحبَ البطش الشديد معهم وناصرُهم، وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه السورةَ في الظُّهر والعصر.

ترتيبها المصحفي
85
نوعها
مكية
ألفاظها
109
ترتيب نزولها
27
العد المدني الأول
22
العد المدني الأخير
22
العد البصري
22
العد الكوفي
22
العد الشامي
22

* سورة (البُرُوج):

سُمِّيت سورة (البُرُوج) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقوله تعالى: {وَاْلسَّمَآءِ ذَاتِ اْلْبُرُوجِ} [البروج: 1]؛ وهي: الكواكبُ السيَّارة.

* كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظُّهر والعصر بسورة (البُرُوج):

عن جابرِ بن سَمُرةَ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يَقرأُ في الظُّهْرِ والعصرِ بـ{وَاْلسَّمَآءِ وَاْلطَّارِقِ}، {وَاْلسَّمَآءِ ذَاتِ اْلْبُرُوجِ}، ونحوِهما مِن السُّوَرِ». أخرجه أبو داود (٨٠٥).

1. قصة (أصحاب الأخدود) (١-٩).

2. التمييز بين الطائعين والعاصين (١٠-١١).

3. مشيئة الله تعالى، ونَفاذُ قُدْرته (١٢-٢٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /90).

يقول ابن عاشور: «... ضرب المثَلِ للذين فتنوا المسلمين بمكة بأنهم مثلُ قوم فتَنوا فريقًا ممن آمن بالله، فجعلوا أخدودًا من نار لتعذيبِهم؛ ليكون المثلُ تثبيتًا للمسلمين، وتصبيرًا لهم على أذى المشركين، وتذكيرًا لهم بما جرى على سلَفِهم في الإيمان من شدة التعذيب الذي لم يَنَلْهم مثلُه، ولم يصُدَّهم ذلك عن دِينهم.

وإشعار المسلمين بأن قوةَ الله عظيمةٌ؛ فسيَلقَى المشركون جزاءَ صنيعهم، ويَلقَى المسلمون النعيمَ الأبدي والنصر.
والتعريض للمسلمين بكرامتهم عند الله تعالى.
وضرب المثلِ بقوم فرعون، وبثمود، وكيف كانت عاقبة أمرهم لمَّا كذبوا الرسل؛ فحصلت العِبرة للمشركين في فَتْنِهم المسلمين، وفي تكذيبهم الرسولَ صلى الله عليه وسلم، والتنويه بشأن القرآن». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /236).