تفسير سورة سورة البقرة من كتاب زهرة التفاسير
المعروف بـزهرة التفاسير.
لمؤلفه
محمد أبو زهرة
.
المتوفي سنة 1394 هـ
ﰡ
ﭑ
ﰀ
الم (١)
ابتُدِئَت السورة بهذه الحروف التي ينطق بها، فيقال: ألف لام ميم، وكذلك ابتُدِئَت عدة سور بهذه الحروف التي ينطق بها مفردة حرفا حرفا، وهذه الأولى، وقد اعقبت الحروف بذكر الكتاب وشرفه، وجاءت سورة آل عمران مبتدأة بهذه الأحرف نفسها (الم)، وعقبها ذكر جلال الله تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ).
ثم كانت سورة الاعراف مبتدأة بمثل هذه الأحرف وهي (المص)، وذكر بعدها الكتاب، وهو قوله تعالى: (كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُن فِي صدْرِكَ حَرَجٌ منْهُ...).
وكانت سورة يونس مبتدأة بحروف مفردة، وهي (الر) وذكر بعدها الكتاب وآياته فقال تعالى: (تِلْكَ آيَاث الْكِتَابِ الْحَكِيمِ).
وجاءت سورة هود مبتدأة أيضا بهذه الحروف (الر)، وذكر بعدها الكتاب، فقال تعالى بعدها: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)،
وسورة يوسف ابتدئت أيضا بهذه الحروف (الر)، وجاء بعدها ذكر الكتاب فقال تعالى عقبها: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ).
وجاءت أيضا سورة الرعد مبتدأة بهذه الحروف المفردة (المر)، وقد ذكر بعدها الكتاب الكريم فقال تعالى عقبها: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ من رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يؤْمِنونَ).
وابتُدِئت سورة إبراهيم بهذه الأحرف المفردة فقال تعالى: (الر)، وجاء بعدها ذكر الكتاب فقال تعالى بعدها: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ
ابتُدِئَت السورة بهذه الحروف التي ينطق بها، فيقال: ألف لام ميم، وكذلك ابتُدِئَت عدة سور بهذه الحروف التي ينطق بها مفردة حرفا حرفا، وهذه الأولى، وقد اعقبت الحروف بذكر الكتاب وشرفه، وجاءت سورة آل عمران مبتدأة بهذه الأحرف نفسها (الم)، وعقبها ذكر جلال الله تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ).
ثم كانت سورة الاعراف مبتدأة بمثل هذه الأحرف وهي (المص)، وذكر بعدها الكتاب، وهو قوله تعالى: (كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُن فِي صدْرِكَ حَرَجٌ منْهُ...).
وكانت سورة يونس مبتدأة بحروف مفردة، وهي (الر) وذكر بعدها الكتاب وآياته فقال تعالى: (تِلْكَ آيَاث الْكِتَابِ الْحَكِيمِ).
وجاءت سورة هود مبتدأة أيضا بهذه الحروف (الر)، وذكر بعدها الكتاب، فقال تعالى بعدها: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)،
وسورة يوسف ابتدئت أيضا بهذه الحروف (الر)، وجاء بعدها ذكر الكتاب فقال تعالى عقبها: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ).
وجاءت أيضا سورة الرعد مبتدأة بهذه الحروف المفردة (المر)، وقد ذكر بعدها الكتاب الكريم فقال تعالى عقبها: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ من رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يؤْمِنونَ).
وابتُدِئت سورة إبراهيم بهذه الأحرف المفردة فقال تعالى: (الر)، وجاء بعدها ذكر الكتاب فقال تعالى بعدها: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ
91
لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).
وجاءت سورة الحجر مبتدأة بحروف مفردة وهي (الر)، وذكر بعدها الكتاب فقال تعالى عقبها: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآن مّبِينٍ).
وجاءت سورة مريم مبتدأة بخمسة حروف وهي (كهيعص)، ولم يذكر بها (القرآن) عقب هذه الحروف، ولكن ذكَّرت برحمة الله تعالى على زكريا، فقال تعالى: (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (٣) قَالَ رَبِّ...)، ، وقد ذكر (الكتاب) في عدة مواضع بعد ذلك في السورة، فكان يأمر الله تعالى بذكره عند ذكر القصص عن أنبياء الله تعالى، فإذا كان (الكتاب) لم يُذكر في الكتاب الكريم عقب هذه الحروف، فقد تكرر ذكره تعالت كلماته في مواضع مختلفة بعد ذلك.
وجاءت سورة (طه) وإذا لم نعتبر كلمة (طه)، اسمًا فإنها تكون حروفًا مجردة، وذكر بعدها القرآن الكريم في قوله تعالى: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (٢) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (٣) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (٤).
وجاءت سورة الشعراء مبتدأة بحروف ثلاثة (طسم)، وجاء عقب هذه الحروف ذكر القرآن (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبينِ)، وابتُدِئَت سورة النمل بحرفين هما (طس)، وجاء ذكر القرآن بعدها فقال تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْقُرآنِ وَكِتَاب مُبِينٍ).
وجاءت سورة الحجر مبتدأة بحروف مفردة وهي (الر)، وذكر بعدها الكتاب فقال تعالى عقبها: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآن مّبِينٍ).
وجاءت سورة مريم مبتدأة بخمسة حروف وهي (كهيعص)، ولم يذكر بها (القرآن) عقب هذه الحروف، ولكن ذكَّرت برحمة الله تعالى على زكريا، فقال تعالى: (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (٣) قَالَ رَبِّ...)، ، وقد ذكر (الكتاب) في عدة مواضع بعد ذلك في السورة، فكان يأمر الله تعالى بذكره عند ذكر القصص عن أنبياء الله تعالى، فإذا كان (الكتاب) لم يُذكر في الكتاب الكريم عقب هذه الحروف، فقد تكرر ذكره تعالت كلماته في مواضع مختلفة بعد ذلك.
وجاءت سورة (طه) وإذا لم نعتبر كلمة (طه)، اسمًا فإنها تكون حروفًا مجردة، وذكر بعدها القرآن الكريم في قوله تعالى: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (٢) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (٣) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (٤).
وجاءت سورة الشعراء مبتدأة بحروف ثلاثة (طسم)، وجاء عقب هذه الحروف ذكر القرآن (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبينِ)، وابتُدِئَت سورة النمل بحرفين هما (طس)، وجاء ذكر القرآن بعدها فقال تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْقُرآنِ وَكِتَاب مُبِينٍ).
92
وابتُدِئَت سورة القصص بثلاثة أحرف (طسم)، وجاء بعدها ذكر القرآن الكريم، فقال تعالى عقب الحروف: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ).
وجاءت سورة العنكبوت مبتدأة بهذه الحروف (الم)، وجاء بعدها اختبار الناس وهو قوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ).
وجاءت سورة الروم مبتدأة بالحروف (الم)، ثم ذكر بعد ذلك انهزامهم ثم انتصارهم (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ).
وجاءت سورة لقمان مبتدأة بالحروف (الم)، وذكر بعدها الكتاب: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيم).
وجاءت سورة السجدة مبتدأة بهذه الحروف (الم)، وعقبت بذكر الكتاب (تَنزِيل الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ).
وابتُدئت سورة يس بحرف الياء والسين (يس)، وذكر بعد الحرفين القرآن الكريم، وذلك إذا لم تعد اسمًا.
وجاءت سورة (ص) مبتدأة بالحرف (ص)، وجاء ذكر القرآن الكريم فقال تعالى عقب هذا الحرف: (وَالْقُرْآنِ ذِي الذكرِ).
وابتُدئت سورة غافر بحرفين (حم)، ذكر بعدها القرآن فقال تعالى عقبها: (تَنزِيل الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيز الْعَلِيم).
وابتُدِئَت فصلت بالحرفين: (حم)، وعقبت بقوله تعالى عن الكتاب: (تَنزِيلٌ منَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).
وجاءت سورة العنكبوت مبتدأة بهذه الحروف (الم)، وجاء بعدها اختبار الناس وهو قوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ).
وجاءت سورة الروم مبتدأة بالحروف (الم)، ثم ذكر بعد ذلك انهزامهم ثم انتصارهم (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ).
وجاءت سورة لقمان مبتدأة بالحروف (الم)، وذكر بعدها الكتاب: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيم).
وجاءت سورة السجدة مبتدأة بهذه الحروف (الم)، وعقبت بذكر الكتاب (تَنزِيل الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ).
وابتُدئت سورة يس بحرف الياء والسين (يس)، وذكر بعد الحرفين القرآن الكريم، وذلك إذا لم تعد اسمًا.
وجاءت سورة (ص) مبتدأة بالحرف (ص)، وجاء ذكر القرآن الكريم فقال تعالى عقب هذا الحرف: (وَالْقُرْآنِ ذِي الذكرِ).
وابتُدئت سورة غافر بحرفين (حم)، ذكر بعدها القرآن فقال تعالى عقبها: (تَنزِيل الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيز الْعَلِيم).
وابتُدِئَت فصلت بالحرفين: (حم)، وعقبت بقوله تعالى عن الكتاب: (تَنزِيلٌ منَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).
93
وابتدِئَت سورة الشورى بخمسة أحرف، وهي (حمَ عَسَقَ)، وجاء بعدها ذكر لنزول القرآن فقال تعالى: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
وابتدئت سورة الزخرف بـ (حم)، وعقب الله تعالى هذين الحرفين بقوله تعالى: (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ).
وابتدأت سورة الدخان بحرفي (حم)، ثم جاء بعد ذلك ذكر القرآن فقال تعالى عقبها: (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ).
وابتدأت سورة الجاثية بحرفي (حم)، وعقبها الله تعالى بتنزيل القرآن فقال تعالى: (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).
وابتُدِئَت سورة الأحقاف بالحرفين (حم)، وذكر الله تعالى بعدهما القرآن، فقال تعالى: (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).
وابتُدِئَت سورة (قَ)، بحرف - وجاء بعده القسم بالكتاب (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ).
وابتُدِئَت سورة القلم بحرف (ن)، وجاء بعدها ذكر القلم فقال تعالى: (وَالْقَلَم وَمَا يَسْطُرُونَ)، وفيه إشارة إلى الكتاب الكريم.
هذه هي السور التي ابتُدِئَت بالحروف المفردة، ومن هذا الإحصاء يتبين:
أولاً: أن السور التي صُدِّرَت بهذه الأحرف سور مكية نزلت بمكة ماعدا ثلاث سور هي البقرة، وآل عمران، والرعد، فإن هذه السور الثلاث مدنية، بينما الباقي مكي نزل بمكة حيث كان أكثر التحدي بالقرآن الكريم، وإن كان هناك تحدٍّ به في
وابتدئت سورة الزخرف بـ (حم)، وعقب الله تعالى هذين الحرفين بقوله تعالى: (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ).
وابتدأت سورة الدخان بحرفي (حم)، ثم جاء بعد ذلك ذكر القرآن فقال تعالى عقبها: (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ).
وابتدأت سورة الجاثية بحرفي (حم)، وعقبها الله تعالى بتنزيل القرآن فقال تعالى: (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).
وابتُدِئَت سورة الأحقاف بالحرفين (حم)، وذكر الله تعالى بعدهما القرآن، فقال تعالى: (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).
وابتُدِئَت سورة (قَ)، بحرف - وجاء بعده القسم بالكتاب (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ).
وابتُدِئَت سورة القلم بحرف (ن)، وجاء بعدها ذكر القلم فقال تعالى: (وَالْقَلَم وَمَا يَسْطُرُونَ)، وفيه إشارة إلى الكتاب الكريم.
هذه هي السور التي ابتُدِئَت بالحروف المفردة، ومن هذا الإحصاء يتبين:
أولاً: أن السور التي صُدِّرَت بهذه الأحرف سور مكية نزلت بمكة ماعدا ثلاث سور هي البقرة، وآل عمران، والرعد، فإن هذه السور الثلاث مدنية، بينما الباقي مكي نزل بمكة حيث كان أكثر التحدي بالقرآن الكريم، وإن كان هناك تحدٍّ به في
94
المدينة؛ لأنه المعجزة الدائمة التي يُتحدى بها المنكرون في كل الأحيان والعصور (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨).
ثانيًا: أن السور التي صُدرت بهذه الحروف ذُكر الكتاب بعدها، مما يدل على أن للكتاب الكريم صلة بالابتداء بهذه الحروف، وثلاث سور فقط هي التي لم يأت ذكر للكتاب عقبها، وهي سورة مريم، فلم يذكر الكتاب عقب الحروف، وإن جاء ذكره بعد ذلك في مناسبات أخرى، وكرر ذكره بهذه المناسبات، وسورة العنكبوت فإن ذكر القرآن لم يعقب الأحرف، وكذلك سورة الروم، وما عدا هذه السور الثلاث ذكر القرآن الكريم في أعقابها.
ثالثا: أن عدد الحروف التي ابتُدِئَت بها السور أربعة عشر حرفا، وهي نصف الحروف الهجائية، وهي تشتمل على أنواع مخارج الحروف المختلفة، وهذه الحروف هي الألف، واللام، والميم، والصاد، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والراء، والسين، والطاء، والحاء، والقاف، والنون.
ولا يحفظها ويقرأها إلا من يعرف القراءة والكتابة، فالأُمي لَا يعرفها وإن عرف بعضها، لَا يعرفها كلها، وإلا كان قارئا كاتبا؛ ولذلك هي في القرآن على لسان النبي الأمي من دلائل إعجازه.
قال الله تعالى: (وَمَا كنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ).
وإنه بتتبع السور الكريمة التي صدرت بهذه الحروف التي قدسها الله سبحانه وتعالى بذكرها، وإعقاب القرآن في أكثرها بها يدل على الارتباط الوثيق بينها وبين القرآن الكريم؛ لأنه اشتمل عليها، ولأنها تشير إلى مقامه وإعجازه ومنزلته في هذا
ثانيًا: أن السور التي صُدرت بهذه الحروف ذُكر الكتاب بعدها، مما يدل على أن للكتاب الكريم صلة بالابتداء بهذه الحروف، وثلاث سور فقط هي التي لم يأت ذكر للكتاب عقبها، وهي سورة مريم، فلم يذكر الكتاب عقب الحروف، وإن جاء ذكره بعد ذلك في مناسبات أخرى، وكرر ذكره بهذه المناسبات، وسورة العنكبوت فإن ذكر القرآن لم يعقب الأحرف، وكذلك سورة الروم، وما عدا هذه السور الثلاث ذكر القرآن الكريم في أعقابها.
ثالثا: أن عدد الحروف التي ابتُدِئَت بها السور أربعة عشر حرفا، وهي نصف الحروف الهجائية، وهي تشتمل على أنواع مخارج الحروف المختلفة، وهذه الحروف هي الألف، واللام، والميم، والصاد، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والراء، والسين، والطاء، والحاء، والقاف، والنون.
ولا يحفظها ويقرأها إلا من يعرف القراءة والكتابة، فالأُمي لَا يعرفها وإن عرف بعضها، لَا يعرفها كلها، وإلا كان قارئا كاتبا؛ ولذلك هي في القرآن على لسان النبي الأمي من دلائل إعجازه.
قال الله تعالى: (وَمَا كنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ).
وإنه بتتبع السور الكريمة التي صدرت بهذه الحروف التي قدسها الله سبحانه وتعالى بذكرها، وإعقاب القرآن في أكثرها بها يدل على الارتباط الوثيق بينها وبين القرآن الكريم؛ لأنه اشتمل عليها، ولأنها تشير إلى مقامه وإعجازه ومنزلته في هذا
95
الوجود الإنساني، وإن كانت معانيه المحررة مستورة عنا، وهي في علم الله تعالى المكنون، ولكن لها إشارات توحي إلى معانٍ عالية، تليق بتصدرها لكثير من سور القرآن. هذا ما نشير إليه إجمالا ونعرض له ببعض التفصيل.
* * *
(الم) روي عن أبي بكر وعلى رضي الله عنهما أنهما قالا إن هذه الحروف التي ابتُدئَت بها السور هي سر الله تعالى في الكتاب، ولله تعالى في كل كتاب سر. وتبعهما في هذا القول عامر الشعبي وسفيان الثوري، وجماعة من المحدثين، بل قاله أكثر علماء السلف، وهي من المتشابه الذي اختص به علم الله تعالى، وروي عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا رضي الله عنهم: الحروف المقطعة في أوائل السور من المكتوم الذي استأثر به علم الله تعالى. وروي عن الرَّبيع ابن خيثم، أنه قال: إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء، وأطلعكم على ما شاء، فأما ما استأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه، وأما الذي أطلعكم عليه، فهو الذي تسألون عنه، وتخبرون به، وما بكل القرآن تعلمون، وما بكل ما تعلمون تعملون.
وإن هذه المأثورات عن كبار الصحابة، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وهي تدل على أن هذه الحروف من المتشابه الذي لَا يعلم به أحد إلا الله تعالى، وعلينا أن نكف عما لَا نعلم، عملا بقوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (٣٦).
ولكن العقل طُلَعَةٌ (١) يحاول تعرف المجهول أو المكتوم، وكلما كان الإبهام كان تعَرُّفُ كشفه، ولذلك حاول علماء أن يعرفوا سر وجود هذه الحروف وإن لم يعرفوا حقيقة المراد منها، وقالوا في ذلك أقوالا أربعة؛ ثلاثة منها متلاقية في صوابها وواحد حاول تفسيرها، فأخطأ فيما قصد.
________
(١) طُلَعَة: أي كثير الطلوع أو التطلع، ونفس طُلَعَة: كثيرة التطلع إلى الشيء. [الوسيط: (ط ل ع)].
* * *
(الم) روي عن أبي بكر وعلى رضي الله عنهما أنهما قالا إن هذه الحروف التي ابتُدئَت بها السور هي سر الله تعالى في الكتاب، ولله تعالى في كل كتاب سر. وتبعهما في هذا القول عامر الشعبي وسفيان الثوري، وجماعة من المحدثين، بل قاله أكثر علماء السلف، وهي من المتشابه الذي اختص به علم الله تعالى، وروي عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا رضي الله عنهم: الحروف المقطعة في أوائل السور من المكتوم الذي استأثر به علم الله تعالى. وروي عن الرَّبيع ابن خيثم، أنه قال: إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء، وأطلعكم على ما شاء، فأما ما استأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه، وأما الذي أطلعكم عليه، فهو الذي تسألون عنه، وتخبرون به، وما بكل القرآن تعلمون، وما بكل ما تعلمون تعملون.
وإن هذه المأثورات عن كبار الصحابة، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وهي تدل على أن هذه الحروف من المتشابه الذي لَا يعلم به أحد إلا الله تعالى، وعلينا أن نكف عما لَا نعلم، عملا بقوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (٣٦).
ولكن العقل طُلَعَةٌ (١) يحاول تعرف المجهول أو المكتوم، وكلما كان الإبهام كان تعَرُّفُ كشفه، ولذلك حاول علماء أن يعرفوا سر وجود هذه الحروف وإن لم يعرفوا حقيقة المراد منها، وقالوا في ذلك أقوالا أربعة؛ ثلاثة منها متلاقية في صوابها وواحد حاول تفسيرها، فأخطأ فيما قصد.
________
(١) طُلَعَة: أي كثير الطلوع أو التطلع، ونفس طُلَعَة: كثيرة التطلع إلى الشيء. [الوسيط: (ط ل ع)].
96
أولها: أن بعضهم حاول تفسيرها بأنها رموز للذات العلية، أو أنها رموز لله ولآخرين، فقال قائل إن (الم) ترمز إلى أن الله يقول أنا الله أعلم، فالألف:
أنا، واللام: الله، والميم: أعلم، وقالوا: (الم) أنا الله أرى، وقال بعضهم في (الم): إن الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد، وقيل الألف مفتاح اسم الله، واللام مفتاح لطيف، والميم مفتاح مجيد، وكل هذه التفسيرات ظنون، وإن الظن لَا يغني من الحق شيئا، ولم يرد واحد منها عن الرسول - ﷺ -، ولو وردت عنه لقبلناها صاغرين ولخرجت من المتشابه إلى المحكم.
ثانيها: ليس تعرفا لمعانيها، ولكنه تعرف لسر وجودها، أو لبعضها، وذلك بيان لإعجاز القرآن مع أنه مكون من حروفهم التي تتكون منها كلماتهم، ومع ذلك يعجزون عن أن يأتوا بمثله في تأليف نغمه، وسياق معانيه، وتآلف ألفاظه وفواصله، فهذا يدل على أنه من عند الله ويدل على عجزهم عن أن يأتوا بمثله.
وثالثها: وهو كسابقه يدل على بعض أسرار وجودها، ولا يتعرض لذات معانيها، وهي أنها تدل على نزول القرآن من عند الله تعالى، وأن محمدًا - ﷺ - لم يأت به من عنده، لأنه أُمي لَا يقرأ ولا يكتب، فهو النبي الأُميّ، والأُميّ ينطق بالكلمات ولا يعرف الحروف، فمجيء الحروف على لسانه - ﷺ -، وهي حروف كثيرة، هي نصف عدد الحروف الهجائية، وهي متنوعة المخارج، وتشمل المخارج كلها، وإن لم تشتمل كل عددها، إن هذا دليل على أنها من عند الله عالم الغيب والشهادة، الذيَ علَّم بالقلم، وعلم الإنسان ما لم يعلم.
رابعا: وهو كسابقيه فيه بيان سر وجود هذه الحروف، وذلك أن العرب المشركين كانوا يحسُّون بأثر القرآن في نفوسهم إذا سمعوه، حتى أنهم قد تفاهموا على ألا يسمعوه (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبونَ).
فكانوا يحاولون ألا يسمعوا، فكانت تلك الحروف الصوتية التي
أنا، واللام: الله، والميم: أعلم، وقالوا: (الم) أنا الله أرى، وقال بعضهم في (الم): إن الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد، وقيل الألف مفتاح اسم الله، واللام مفتاح لطيف، والميم مفتاح مجيد، وكل هذه التفسيرات ظنون، وإن الظن لَا يغني من الحق شيئا، ولم يرد واحد منها عن الرسول - ﷺ -، ولو وردت عنه لقبلناها صاغرين ولخرجت من المتشابه إلى المحكم.
ثانيها: ليس تعرفا لمعانيها، ولكنه تعرف لسر وجودها، أو لبعضها، وذلك بيان لإعجاز القرآن مع أنه مكون من حروفهم التي تتكون منها كلماتهم، ومع ذلك يعجزون عن أن يأتوا بمثله في تأليف نغمه، وسياق معانيه، وتآلف ألفاظه وفواصله، فهذا يدل على أنه من عند الله ويدل على عجزهم عن أن يأتوا بمثله.
وثالثها: وهو كسابقه يدل على بعض أسرار وجودها، ولا يتعرض لذات معانيها، وهي أنها تدل على نزول القرآن من عند الله تعالى، وأن محمدًا - ﷺ - لم يأت به من عنده، لأنه أُمي لَا يقرأ ولا يكتب، فهو النبي الأُميّ، والأُميّ ينطق بالكلمات ولا يعرف الحروف، فمجيء الحروف على لسانه - ﷺ -، وهي حروف كثيرة، هي نصف عدد الحروف الهجائية، وهي متنوعة المخارج، وتشمل المخارج كلها، وإن لم تشتمل كل عددها، إن هذا دليل على أنها من عند الله عالم الغيب والشهادة، الذيَ علَّم بالقلم، وعلم الإنسان ما لم يعلم.
رابعا: وهو كسابقيه فيه بيان سر وجود هذه الحروف، وذلك أن العرب المشركين كانوا يحسُّون بأثر القرآن في نفوسهم إذا سمعوه، حتى أنهم قد تفاهموا على ألا يسمعوه (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبونَ).
فكانوا يحاولون ألا يسمعوا، فكانت تلك الحروف الصوتية التي
97
تبتدأ بها السور الكريمة إذا قرئت مرتلة مجودة تسترعي أسماعهم، ويستغربون، وقد يستنكرون، وبينما هم في استغرابهم وعجبهم، يهجم عليهم رسول الله - ﷺ - بالقرآن ونغماته، وجميل ألفاظه، ورنة موسيقاه، فيخضعون للسماع، وينقضون ما أبرموا من قبل، فهذه الحروف كانت ليستغربوا ويفتحوا أسماعهم، ويسمعوا.
وإن هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة فيها بيان لسر وجود هذه الحروف، والله بكل شيء عليم.
* * *
(ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
* * *
وإن هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة فيها بيان لسر وجود هذه الحروف، والله بكل شيء عليم.
* * *
(ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
* * *
98
(ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتقِينَ) الإشارة هنا إلى الحروف (المَ) التي تتألف من كلمات الكتاب العزيز الحكيم؛ ولذلك قيل إن (الم) اسم للسورة، ولكن نقول إن هذه الإشارة إلى الحروف باعتبارين:
أولهما: أن هذه هي الحروف الذي كوِّن منها الكتاب المعجز الذي تحدى به الإنسانية كلها.
والثاني: أنها اسم للسورة التي افتتحت بها، وذلك من قبيل إطلاق اسم الكل وإرادة الجزء، أو أن جزء القرآن قرآن يتحدى. ألم تر أن الله تعالى تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله.
أولهما: أن هذه هي الحروف الذي كوِّن منها الكتاب المعجز الذي تحدى به الإنسانية كلها.
والثاني: أنها اسم للسورة التي افتتحت بها، وذلك من قبيل إطلاق اسم الكل وإرادة الجزء، أو أن جزء القرآن قرآن يتحدى. ألم تر أن الله تعالى تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله.
98
(ذَلِكَ الْكِتَابُ) والإشارة هنا للبعيد، وموضوعها قريب، لأن الحروف جاء بعدها فورًا ذكر الكتاب فكان الظاهر أن تكون الإشارة بما يدل على القرب، كـ (هذا) الكتاب، ولكن لأن (الم) تدل على السورة التي هي جزء متكامل من الكتاب، أو الكتاب نفسه، وقد نزل من الروح الأقدس، فنزل من العلا إلى النبي المرسل، فكان ذلك إشعارًا بالبعد بين الملكوت الأعلى وخلق الله سبحانه وتعالى، أو يقال: إن الإشارة بالبعيد تنويه بذكره وعلو مقامه فإنه تكون الإشارة بالبعيد في هذا المقام، وأي مقام يقارب كتاب الله تعالى؟! فهو عليٌّ في ذاته، ثقيل في ميزانه كما قال تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا).
وفى قوله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) ثلاثة وقوف:
أولها: الوقوف عند (الْكِتَابُ)، وتكون (ذَلِكَ) مبتدأٌ، والكتاب خبر، ويكون فيه تعريف الطرفين الذي يدل على القصر، أي ذلك وحده هو الجدير بأن يسمو، فلا يعلو علوه كتاب، ولا يُنَاصِى سَمْتَهُ مقروء سواه، إذ هو تنزيل من رب العالمين، وفيه علم بشرائع الله تعالى ويكون قوله تعالى: (لا رَيْبَ فِيهِ) جملة مستقلة على هذه القراءة، وهي تأكيد لمعنى العلو والسمو فيه، إذ إنه لَا شك في حقائقه، وهي بينة تهتدي إليها العقول، ولا ترتاب فيها فهو حجة بصدقه في ذاته، وإدراك العقول لحقائقه، وهذا شرف ذاتي فيه، وهو لَا ريب في أنه من عند الله، إذ تحدى المَقَاوِل (١) من قريش وفحول الكلام منهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فكان ذلك شرفا إضافيا فوق شرفه الذاتي.
والثاني: الوقف عند (لا رَيْب)، ومؤداها مقارب من مؤدى القراءة السابقة تقريبا، إذ المؤدى أن يكون المعنى: ذلك هو الكتاب بلا ريب، ويكون قوله تعالى:
________
(١) مَقاوِل: جمع مِقْوَل: أي حسن القول لَسِن. الوسيط (ق ول).
وفى قوله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) ثلاثة وقوف:
أولها: الوقوف عند (الْكِتَابُ)، وتكون (ذَلِكَ) مبتدأٌ، والكتاب خبر، ويكون فيه تعريف الطرفين الذي يدل على القصر، أي ذلك وحده هو الجدير بأن يسمو، فلا يعلو علوه كتاب، ولا يُنَاصِى سَمْتَهُ مقروء سواه، إذ هو تنزيل من رب العالمين، وفيه علم بشرائع الله تعالى ويكون قوله تعالى: (لا رَيْبَ فِيهِ) جملة مستقلة على هذه القراءة، وهي تأكيد لمعنى العلو والسمو فيه، إذ إنه لَا شك في حقائقه، وهي بينة تهتدي إليها العقول، ولا ترتاب فيها فهو حجة بصدقه في ذاته، وإدراك العقول لحقائقه، وهذا شرف ذاتي فيه، وهو لَا ريب في أنه من عند الله، إذ تحدى المَقَاوِل (١) من قريش وفحول الكلام منهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فكان ذلك شرفا إضافيا فوق شرفه الذاتي.
والثاني: الوقف عند (لا رَيْب)، ومؤداها مقارب من مؤدى القراءة السابقة تقريبا، إذ المؤدى أن يكون المعنى: ذلك هو الكتاب بلا ريب، ويكون قوله تعالى:
________
(١) مَقاوِل: جمع مِقْوَل: أي حسن القول لَسِن. الوسيط (ق ول).
99
(فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) جملة جديدة مستقلة وتكون لبيان كماله فوق أنه لَا ريب فيه.
والثالث: الوقوف عند كلمة (فِيهِ)، ويكون المعنى كالمعنى السابق، ثم يكون قوله (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) جملة مستقلة، وهذه القراءات تتجه كلها إلى سمو القرآن وعلوه، وأنه فوق طاقة البشر، وفوق علم الناس، إنه كتاب الله العلي الحكيم.
ومعنى (لا رَيْبَ فِيهِ) أنه لَا يعتريه الريب لكمال حقائقه ووضوح مقاصده، والبراهين القاطعة المثبتة أنه من عند الله تعالى، فلا مساغ لمرتاب أن يرتاب. وإذا كان قد وقع فيه إنكار، فلأنهم جحدوا آيات الله تعالى، واستيقنتها أنفسهم، والنفي لوقوع الريب منه في ذاته، ويضل ناس فيجحدون ولا يؤمنون، ولا ينفي ذلك أنه لا مكان للريب، ولا موضع له، إذ هو ارتياب حيث اليقين، وإنكار حيث يجب الإيمان، وهو الحق الذي لايأتيه الباطل من أي ناحية من نواحيه.
(هدًى لِّلمُتَّقِينَ) الهدى مصدر على وزن فعَل، كالسّرى، والبكى، ومعناه الدلالة على الطريق الموصل للغاية الذي لَا اعوجاح فيه، ولا تستعمل غالبا إلا للتوصيل إلى الخير، بدليل مقابلتها بالضلالة في قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)، وبدليل نسبة الهدى إلى الله تعالى، فقد قال تعالت كلماته: (قلْ إِنَّ الْهدَى هُدَى اللَّهِ...)
، والمهتدي من انتفع بما وجد من هداية (فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَفمِلُّ عَلَيْهَا...).
وإذا قيل: فإن الهداية إنما تكون للضالين ليسترشدوا، ويسيروا في طريق الحق، ويبتعدوا عن الغواية، وما يدفع إليه من ضلالة كما قال تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى).
والثالث: الوقوف عند كلمة (فِيهِ)، ويكون المعنى كالمعنى السابق، ثم يكون قوله (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) جملة مستقلة، وهذه القراءات تتجه كلها إلى سمو القرآن وعلوه، وأنه فوق طاقة البشر، وفوق علم الناس، إنه كتاب الله العلي الحكيم.
ومعنى (لا رَيْبَ فِيهِ) أنه لَا يعتريه الريب لكمال حقائقه ووضوح مقاصده، والبراهين القاطعة المثبتة أنه من عند الله تعالى، فلا مساغ لمرتاب أن يرتاب. وإذا كان قد وقع فيه إنكار، فلأنهم جحدوا آيات الله تعالى، واستيقنتها أنفسهم، والنفي لوقوع الريب منه في ذاته، ويضل ناس فيجحدون ولا يؤمنون، ولا ينفي ذلك أنه لا مكان للريب، ولا موضع له، إذ هو ارتياب حيث اليقين، وإنكار حيث يجب الإيمان، وهو الحق الذي لايأتيه الباطل من أي ناحية من نواحيه.
(هدًى لِّلمُتَّقِينَ) الهدى مصدر على وزن فعَل، كالسّرى، والبكى، ومعناه الدلالة على الطريق الموصل للغاية الذي لَا اعوجاح فيه، ولا تستعمل غالبا إلا للتوصيل إلى الخير، بدليل مقابلتها بالضلالة في قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)، وبدليل نسبة الهدى إلى الله تعالى، فقد قال تعالت كلماته: (قلْ إِنَّ الْهدَى هُدَى اللَّهِ...)
، والمهتدي من انتفع بما وجد من هداية (فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَفمِلُّ عَلَيْهَا...).
وإذا قيل: فإن الهداية إنما تكون للضالين ليسترشدوا، ويسيروا في طريق الحق، ويبتعدوا عن الغواية، وما يدفع إليه من ضلالة كما قال تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى).
100
نقول في الإجابة على ذلك: إن المراد بالمتقين ليس من وصلوا إلى أقصى درجات الهداية إنما المراد من شارفوها وطلبوها وأرادوها، وحاولوا الازدياد من العلم، ولم تكن قلوبهم متحجرة، مُبْلِسَة لَا تسترشد ولا تهتدي، وبيان ذلك أن الله تعالى خلق النفوس وسواها، وألهمها فجورها وتقواها.
فمن النفوس من فطرها الله تعالى على الفطرة المستقيمة المدركة للحق في ذاته، التي تتجه إلى الحق تبتغيه وتريده، وتظل في حيرة حتى تجد المرشد من السماء برسول مبين يرشدها إلى صراط مستقيم، كأُولئك الحنيفيين الذين رفضوا عبادة الأوثان لأنها لَا تنفع ولا تضر، ولا يتّبعها إلا الغاوون.
إن هذه نفوس متقية تبتغى الرشاد، فتكون مصغية للحق عند الدعوة إليه متبعة للنور إذا أشرق، وهذا ما نراه موضعًا للتعبير بقوله تعالت كلماته: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ).
والمتقون مشتق من الوقاية، يقال: وقاه الله تعالى، ووقى نفسه السوء، وقال تعالى: (وَمَن يُوقَ شحَ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفْلِحُونَ).
واتقى: افتعل، من وقى، فهي في أصلها: اوْتَقَى، ثم قلبت الواو تاء، فأدغمت في تاء الافتعال، فصارت اتقى، ومنه أخذت التُقى، والتُقاة، كما قال تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَموتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مًّسْلِمُونَ).
والمتقون مراتب في إدراكهم لتقوى الله تعالى، وأعلاها: إدراكهم لمعنى الحق وخضوعهم لما يطلبه، وإنهم بهذا يطيعونه ويستجيبون له، ويلتزمونه، وينطبق عليهم قول الله تعالى: (وَأَلْزَمَهُمْ +كَلِمَةَ التَّقْوَى...)، فإذا علا في نفوسهم طلب الحق والاستعداد له، تركوا شر الأشرار مهتدين بهديه، وتجنبوا الإساءة إلى غيرهم، فإذا ساروا في مدارج الهداية والتقوى نزهوا أنفسهم عن كل ما يخالف الحق، وصارت قلوبهم نورا مبصرا، وكانوا أولياء الله تعالى، وينطبق عليهم
فمن النفوس من فطرها الله تعالى على الفطرة المستقيمة المدركة للحق في ذاته، التي تتجه إلى الحق تبتغيه وتريده، وتظل في حيرة حتى تجد المرشد من السماء برسول مبين يرشدها إلى صراط مستقيم، كأُولئك الحنيفيين الذين رفضوا عبادة الأوثان لأنها لَا تنفع ولا تضر، ولا يتّبعها إلا الغاوون.
إن هذه نفوس متقية تبتغى الرشاد، فتكون مصغية للحق عند الدعوة إليه متبعة للنور إذا أشرق، وهذا ما نراه موضعًا للتعبير بقوله تعالت كلماته: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ).
والمتقون مشتق من الوقاية، يقال: وقاه الله تعالى، ووقى نفسه السوء، وقال تعالى: (وَمَن يُوقَ شحَ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفْلِحُونَ).
واتقى: افتعل، من وقى، فهي في أصلها: اوْتَقَى، ثم قلبت الواو تاء، فأدغمت في تاء الافتعال، فصارت اتقى، ومنه أخذت التُقى، والتُقاة، كما قال تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَموتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مًّسْلِمُونَ).
والمتقون مراتب في إدراكهم لتقوى الله تعالى، وأعلاها: إدراكهم لمعنى الحق وخضوعهم لما يطلبه، وإنهم بهذا يطيعونه ويستجيبون له، ويلتزمونه، وينطبق عليهم قول الله تعالى: (وَأَلْزَمَهُمْ +كَلِمَةَ التَّقْوَى...)، فإذا علا في نفوسهم طلب الحق والاستعداد له، تركوا شر الأشرار مهتدين بهديه، وتجنبوا الإساءة إلى غيرهم، فإذا ساروا في مدارج الهداية والتقوى نزهوا أنفسهم عن كل ما يخالف الحق، وصارت قلوبهم نورا مبصرا، وكانوا أولياء الله تعالى، وينطبق عليهم
101
قول الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ...)، ألا إن هؤلاء هم المتقون الذين ينتفعون بهداية الله، وإنَّ علم الله تعالى وهدايته قد مثله النبي - ﷺ - بغيث ينزل من السماء فيجيء إلى أرض طيبة فتنبت النبات الطيب، وينزل على أرض لَا تنبت، ولكن ينتقل منها إلى أخرى تنبت فيها النبات الطيب، وهناك أرض هي قيعان لَا تنبت، ولا ينتقل منها إلى غيرها (١).
ولقد ذكر الزمخشري في تنسيق هذه الآيات (الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢)
كلمات طيبة محققة مفادها أن قوله تعالى: (الم) جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها و (ذَلِكَ الْكِتَابُ) جملة ثانية، و (لا رَيْبَ فِيهِ) جملة ثالثة، و (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) رابعة، وقد أصاب بترتيبها من البلاغة، وموجب حسن النظم، حيث هي متناسقة هكذا من غير حرف نسق (أي عطف) وذلك لمجيئها متآخية آخذة بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، وهَلُمَّ جرا إلى الثالثة، والرابعة.
بيان ذلك أنَّه نبَّه أولا على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشار إلى أنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال، فكان تقريرًا لجهة التحدي وشدا من أعضائه، ثم نفَى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة وتسجيلا بكماله، لأنه لَا كمال أكمل مما للحقِّ واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة. وقيل لبعض العلماء: فيم لذتكَ؟ قال: في حجة تتبختر اتضاحا، وفي شبهة تتضاءل افتضاحًا.
________
(١) عن أبي موسي الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: " مَثَلُ مَا بَعَثني اللهُ به من الْهَدَى والْعلْم كمَثَلَ الغَيْث الكثيرِ أصَابَ أرضًا فكانَ منْها نَقيَّةٌ قبلتْ المَاءَ فانَبَتَتْ الكَلأ والعشْبَ الَكثَير، وكانتْ مَنها أجادبُ أمْسكَتْ المَاءَ فَنفَعَ اللهُ بهَا الناسَ فشرِبُوا وسقَوا وَزَرَعُوا، وأصابَتْ منها طائفَةٌِ أُخْرى إنَّما هِيِ قيعَان لا تُمْسكُ ماءً ولا تُنبت كَلأ، فَذَلكَ مَثَلُ منْ فَقُه في دينَ اللَّهُ به فَعَلمَ وَعَلَّمِ، وملْ من لَم يَرْفَع بذلكَ رأسا وَلَم يَقْبلْ هدى الله الَّذي أرسلتُ به " قالَ أبو عبدَ اللهَّ (أيً البخَاري): قال إسحَاقُ: " وكَانَ منْها طائفَة قبلتْ المَاء ". قاعٌَ: يًعْلُوهُ المَاءُ والصَّفْصَفُ: المُسْتَوي من الأرض [أخرجه البخاري: كتاب العَلم (٧٧) ومسلم بنَحوه: الفضائل: (٢٣٢ ٤) وأحمد: أول مسند الكوفيين (٨٧٥٢ ١) واللفظ للبخاري].
ولقد ذكر الزمخشري في تنسيق هذه الآيات (الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢)
كلمات طيبة محققة مفادها أن قوله تعالى: (الم) جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها و (ذَلِكَ الْكِتَابُ) جملة ثانية، و (لا رَيْبَ فِيهِ) جملة ثالثة، و (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) رابعة، وقد أصاب بترتيبها من البلاغة، وموجب حسن النظم، حيث هي متناسقة هكذا من غير حرف نسق (أي عطف) وذلك لمجيئها متآخية آخذة بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، وهَلُمَّ جرا إلى الثالثة، والرابعة.
بيان ذلك أنَّه نبَّه أولا على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشار إلى أنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال، فكان تقريرًا لجهة التحدي وشدا من أعضائه، ثم نفَى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة وتسجيلا بكماله، لأنه لَا كمال أكمل مما للحقِّ واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة. وقيل لبعض العلماء: فيم لذتكَ؟ قال: في حجة تتبختر اتضاحا، وفي شبهة تتضاءل افتضاحًا.
________
(١) عن أبي موسي الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: " مَثَلُ مَا بَعَثني اللهُ به من الْهَدَى والْعلْم كمَثَلَ الغَيْث الكثيرِ أصَابَ أرضًا فكانَ منْها نَقيَّةٌ قبلتْ المَاءَ فانَبَتَتْ الكَلأ والعشْبَ الَكثَير، وكانتْ مَنها أجادبُ أمْسكَتْ المَاءَ فَنفَعَ اللهُ بهَا الناسَ فشرِبُوا وسقَوا وَزَرَعُوا، وأصابَتْ منها طائفَةٌِ أُخْرى إنَّما هِيِ قيعَان لا تُمْسكُ ماءً ولا تُنبت كَلأ، فَذَلكَ مَثَلُ منْ فَقُه في دينَ اللَّهُ به فَعَلمَ وَعَلَّمِ، وملْ من لَم يَرْفَع بذلكَ رأسا وَلَم يَقْبلْ هدى الله الَّذي أرسلتُ به " قالَ أبو عبدَ اللهَّ (أيً البخَاري): قال إسحَاقُ: " وكَانَ منْها طائفَة قبلتْ المَاء ". قاعٌَ: يًعْلُوهُ المَاءُ والصَّفْصَفُ: المُسْتَوي من الأرض [أخرجه البخاري: كتاب العَلم (٧٧) ومسلم بنَحوه: الفضائل: (٢٣٢ ٤) وأحمد: أول مسند الكوفيين (٨٧٥٢ ١) واللفظ للبخاري].
102
ثم أخبر عنه أنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقينا لَا يحوم الشك حوله وحقا لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق، ونظمت هذا التنظيم السَّرِيَّ (١)، من نكتة ذات جزالة، ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه، وفي الثانية، ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة: الحذف ووضع المصدر الذي هو موضع الوصف الذي هو هادٍ، وإيراده منكرًا، والإيجاز في ذكر المتقين، زادنا الله اطلاعا على أسرار كلامه، وتبينا لنكت تنزيله وتوفيقا للعمل بما فيه.
________
(١) السري: الشريف. من سَرُ وَسَراوة، وسروا،: شَرُف. فهو سريّ، والجمع: أسرياء، وسُراة.
________
(١) السري: الشريف. من سَرُ وَسَراوة، وسروا،: شَرُف. فهو سريّ، والجمع: أسرياء، وسُراة.
103
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (٣) (هذا هو الوصف الأول للمتقين الذين يتلقون هدى الله تعالى كما تتلقى الأرض الطيبة الغيث فتأتي بأطيب الثمرات. والإيمان: التصديق، ويتعدى بالباء لتضمنه معنى الاعتراف والإقرار والإذعان، والخضوع، ويتعدى باللام ويتضمن حينئذٍ معنى الاستسلام أو الاستجابة كما قال تعالى: (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لنَا...)، قوله: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى...)
، ومن ذلك ما حكى الله تعالى عن اليهود إذ يتآمرون فيقول بعضهم لبعض، (وَلا تُؤْمنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ...).
وأول وصف من أوصاف المتقين الذي يميزهم - وهو في غالب أحوالهم سبب لتقواهم - الإيمان بالغيب. والغيب: كل ما يغيب عن الشخص، ويستتر، ولقد فسره العلماء بما يتفق مع أن يكون وصفًا للمتقين، فقالوا أقوالا مختلفة في ألفاظها، وتتلاقى في مضمونها أو المراد منها - فيما نعلم - كلها، ففسروه بأن الغيب هو الله تعالى؛ لأننا نؤمن به ولا نراه، فالبرهان يوجب الإيمان به، وهو لا يُرى بالحسِّ بل يرى بالقلب، وفسروه بأنه القدر، وفسروه بأنه الإيمان بالملائكة،
، ومن ذلك ما حكى الله تعالى عن اليهود إذ يتآمرون فيقول بعضهم لبعض، (وَلا تُؤْمنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ...).
وأول وصف من أوصاف المتقين الذي يميزهم - وهو في غالب أحوالهم سبب لتقواهم - الإيمان بالغيب. والغيب: كل ما يغيب عن الشخص، ويستتر، ولقد فسره العلماء بما يتفق مع أن يكون وصفًا للمتقين، فقالوا أقوالا مختلفة في ألفاظها، وتتلاقى في مضمونها أو المراد منها - فيما نعلم - كلها، ففسروه بأن الغيب هو الله تعالى؛ لأننا نؤمن به ولا نراه، فالبرهان يوجب الإيمان به، وهو لا يُرى بالحسِّ بل يرى بالقلب، وفسروه بأنه القدر، وفسروه بأنه الإيمان بالملائكة،
103
وفسروه بالقرآن وما فيه من أخبار الملائكة واليوم الآخر، والجنة، والنار. وقال آخرون: الغيب كل ما أخبر به الرسول - ﷺ - مما لَا تهتدي العقول إليه من علامات الساعة والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة... إلخ.
والحق أنه لَا تعارض بين هذه الأقوال، بل هي متلاقية في جملة معانيها.
وإنَا نَرى أن الإيمان، بالغيب هو الإيمان بما وراء الحس من أمور غيَّبها الله تعالى عن عقولنا، وبيان ذلك أن الناس قسمان: ضالون ومتقون.. فالضالون هم الذين لايؤمنون إلا بالمادة، ولا يعرفون غيرها، وينكرون ما عداها، ويقولون: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، ولا يؤمنون بشيء وراء ذلك، ويقول قائلهم: الطبيعة خلقتنا، ونُردُّ إليها، فلا يؤمنون بإلهٍ ولا بروح إلا أن تكون عرضًا من أعراض المادة، وهؤلاء منهم الملاحدة ومنكرو الأديان.
والقسم الثاني: أمارتهم أنهم يؤمنون بالحس على أنه خاضع للغيب، فهم لا يقصرون إيمانهم على ما يحسون وما يرون وما يبصرون، بل يؤمنون بأن وراء المادة عالماً كبيرًا، وأن مدبر الكون ومنشئه، هو صاحب السلطان المطلق فيه، فلله تعالى محيانا ومماتنا.
إن فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة هو الإيمان بالغيب، فالمؤمن أول خلاله الإيمان بالغيب، والزنديق لَا يؤمن إلا بالمادة.
إن الإيمان بالغيب يجعل النفس دائما خاضعة متطامنة (١) لَا تستنكف عن عبادة الله تعالى ولا تستكبر، ولقد كان ذلك لـ: (مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ)، وإذا كان الإيمان بالغيب يولد الخشية في النفس، فذلك هو لب الإيمان كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كبِيرٌ).
________
(١) تطامن: بهمز وبغير همز: سكن وانخفض. الوسيط: (طمن).
والحق أنه لَا تعارض بين هذه الأقوال، بل هي متلاقية في جملة معانيها.
وإنَا نَرى أن الإيمان، بالغيب هو الإيمان بما وراء الحس من أمور غيَّبها الله تعالى عن عقولنا، وبيان ذلك أن الناس قسمان: ضالون ومتقون.. فالضالون هم الذين لايؤمنون إلا بالمادة، ولا يعرفون غيرها، وينكرون ما عداها، ويقولون: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، ولا يؤمنون بشيء وراء ذلك، ويقول قائلهم: الطبيعة خلقتنا، ونُردُّ إليها، فلا يؤمنون بإلهٍ ولا بروح إلا أن تكون عرضًا من أعراض المادة، وهؤلاء منهم الملاحدة ومنكرو الأديان.
والقسم الثاني: أمارتهم أنهم يؤمنون بالحس على أنه خاضع للغيب، فهم لا يقصرون إيمانهم على ما يحسون وما يرون وما يبصرون، بل يؤمنون بأن وراء المادة عالماً كبيرًا، وأن مدبر الكون ومنشئه، هو صاحب السلطان المطلق فيه، فلله تعالى محيانا ومماتنا.
إن فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة هو الإيمان بالغيب، فالمؤمن أول خلاله الإيمان بالغيب، والزنديق لَا يؤمن إلا بالمادة.
إن الإيمان بالغيب يجعل النفس دائما خاضعة متطامنة (١) لَا تستنكف عن عبادة الله تعالى ولا تستكبر، ولقد كان ذلك لـ: (مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ)، وإذا كان الإيمان بالغيب يولد الخشية في النفس، فذلك هو لب الإيمان كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كبِيرٌ).
________
(١) تطامن: بهمز وبغير همز: سكن وانخفض. الوسيط: (طمن).
104
(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) كانت الصفة الأولى للمتقين إيمانا بالغيب، وما يكنه من مستورات عن المحسوسات، تولد في النفس الخشية، والإحساس بحاجة الجسم إلى الروح، وبأن الروح فيما وراء المشاهد هي التي تسيِّر هذا الوجود الإنساني، وأن الله تعالى لم يخلق الإنسان إلا ليحاسب على ما قدم من شر أو خير، وأنه سيرى ما اكتسب إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
بعد ذكر هذه الصفة النفسية، ذكر صفتين أخريين تنبعثان من النفس، ولكنْ لهما مظهر عَملِي، وهما إقامة الصلاة والإنفاق مما رزقه الله سبحانه وتعالى.
والصلاة أصلها على وزن فَعْلَة، من صلى، فأصل الصلاة صَلْوة، فنقلت فتحة الواو إلى ما قبلها، فصارت صلاة، والصلاة كانت معروفة عند العرب بأنها الدعاء. ومنه قوله تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، وإطلاقها على الصلوات الخمس من قيام وقراءة، وركوع وسجود، وتحيات - اصطلاح إسلامي.
ولقد فسر بعض العلماء الصلاة هنا بالدعاء، أي الضراعة إلى الله تعالى، والاتجاه الروحي إليه راجيًا ما عنده مؤمنا به مستجيبا لقوله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).
ولكن الأكثرين - وهو الظاهر الذي يبدو من القول - على أن المراد بها الصلاة المكتوبة، وإن الاتجاه الروحي بالضراعة والدعاء تتضمنه الصلاة المكتوبة، وإن الصلاة قد فرضت في مكة، وصارت متعارفة، كغيرها من الكلمات التي كان في معناها عموم، ثم خصصها الإسلام.
وإقامة الصلاة الإتيان بها مستوية مقومة معدلة قد استوفت أركانها ظاهرا وباطنا، فكانت مشتملة على الخشوع والحضور، واستحضار عظمة الله تعالى في
بعد ذكر هذه الصفة النفسية، ذكر صفتين أخريين تنبعثان من النفس، ولكنْ لهما مظهر عَملِي، وهما إقامة الصلاة والإنفاق مما رزقه الله سبحانه وتعالى.
والصلاة أصلها على وزن فَعْلَة، من صلى، فأصل الصلاة صَلْوة، فنقلت فتحة الواو إلى ما قبلها، فصارت صلاة، والصلاة كانت معروفة عند العرب بأنها الدعاء. ومنه قوله تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، وإطلاقها على الصلوات الخمس من قيام وقراءة، وركوع وسجود، وتحيات - اصطلاح إسلامي.
ولقد فسر بعض العلماء الصلاة هنا بالدعاء، أي الضراعة إلى الله تعالى، والاتجاه الروحي إليه راجيًا ما عنده مؤمنا به مستجيبا لقوله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).
ولكن الأكثرين - وهو الظاهر الذي يبدو من القول - على أن المراد بها الصلاة المكتوبة، وإن الاتجاه الروحي بالضراعة والدعاء تتضمنه الصلاة المكتوبة، وإن الصلاة قد فرضت في مكة، وصارت متعارفة، كغيرها من الكلمات التي كان في معناها عموم، ثم خصصها الإسلام.
وإقامة الصلاة الإتيان بها مستوية مقومة معدلة قد استوفت أركانها ظاهرا وباطنا، فكانت مشتملة على الخشوع والحضور، واستحضار عظمة الله تعالى في
105
كل لفظ يذكره، ويعبد الله بهذه العبادة، كأنه يرى الله سبحانه وتعالى، ويتوالى ذلك في كل صلواته عامة النهار، أو أطرافًا من النهار وزلفًا من الليل، فإن كانت صلاته كذلك كان مُحِسّا برقابة الله تعالى، ومن أحس برقابة الله لَا يعصيه؛ ولذلك قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ]..). وقال عليه الصلاة والسلام: " الصلاة عماد الدين " (١).
وبعض المفسرين يفسر إقامة الصلاة بالمداومة عليها من غير تقصير، وبعضهم يفسرها بالمسارعة إليها عند النداء بها، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ...)، وبعضهم يفسرها بالسعي إليها عند إقامة الجماعة فيها، ولكن يَرُدُ ذلك ما روى أن النبي - ﷺ - أمر بأن يمشوا إليها في سكينة وو قار.
وإن التفسير الأول للإقامة هو الأوضح البين، والمعاني الأخرى تدخل في ضمنه، أو تقتضيها.
وبعد أن بين الله تعالى الوصف الذي يترتب على التقوى، والإيمان بالغيب، ذكر وصفا آخر عمليا ونفسيا، فكل ما يذكره الإسلام من تكليفات، وصفات للمؤمن، لاينظر فيها إلى ناحية العمل فقط، بل ينظر فيها إلى ناحية العمل والباعث عليه، والنية التي هي طهارة النفس؛ ولذلك قال النبي - ﷺ -: " إنَّما الأعْمَالُ بالنَياتِ وإنما لِكُلِّ امرِئٍ ما نَوى " (٢).
الوصف العملي النفسي ما عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ينفِقُونَ) وفي هذا الوصف بيان أن الخير الذي يكون بالصلاة في الضراعة إليه
________
(١) رواه البيهقي في شعب الإيمان عن عمر - رضي الله عنه.
(٢) صدَّر به البخاري صحيحه كتاب بدء الوحي (١)، كما رواه البخاري في الأيمان والنذور باب النية في الأيمان برقم ٦١٩٥ ومسلم في الأمارة (١٩٠٧).
وبعض المفسرين يفسر إقامة الصلاة بالمداومة عليها من غير تقصير، وبعضهم يفسرها بالمسارعة إليها عند النداء بها، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ...)، وبعضهم يفسرها بالسعي إليها عند إقامة الجماعة فيها، ولكن يَرُدُ ذلك ما روى أن النبي - ﷺ - أمر بأن يمشوا إليها في سكينة وو قار.
وإن التفسير الأول للإقامة هو الأوضح البين، والمعاني الأخرى تدخل في ضمنه، أو تقتضيها.
وبعد أن بين الله تعالى الوصف الذي يترتب على التقوى، والإيمان بالغيب، ذكر وصفا آخر عمليا ونفسيا، فكل ما يذكره الإسلام من تكليفات، وصفات للمؤمن، لاينظر فيها إلى ناحية العمل فقط، بل ينظر فيها إلى ناحية العمل والباعث عليه، والنية التي هي طهارة النفس؛ ولذلك قال النبي - ﷺ -: " إنَّما الأعْمَالُ بالنَياتِ وإنما لِكُلِّ امرِئٍ ما نَوى " (٢).
الوصف العملي النفسي ما عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ينفِقُونَ) وفي هذا الوصف بيان أن الخير الذي يكون بالصلاة في الضراعة إليه
________
(١) رواه البيهقي في شعب الإيمان عن عمر - رضي الله عنه.
(٢) صدَّر به البخاري صحيحه كتاب بدء الوحي (١)، كما رواه البخاري في الأيمان والنذور باب النية في الأيمان برقم ٦١٩٥ ومسلم في الأمارة (١٩٠٧).
106
سبحانه وتعالى ينعطف على التَّقِيِّ نفعا للناس يقصِدُ التقرب به إليه سبحانه وتعالى، فهو يتقرب إلى الله تعالى بذكره الدائم، وضراعته القائمة، ويتقرب إلى الله تعالى بالإنفاق على خلقه، ومد يد المعونة لغيره، وسد حاجتهم ورفع فاقتهم لرضا الله، وابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى.
والرزق هو: العطاء، وهو من رزق يرزق رزقا، وهو بمعنى اسم المفعول كـ " طِحْن " بمعنى مطحون، و " رِعْي " بمعنى مرعى، وذِبْع بمعنى مذبوح كقوله تعالى: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).
والمرزوق ما ينعم الله تعالى به على الإنسان من متاع الحياة الدنيا، من حيوان ونقود، ومطاعم ومساكن، والإنفاق إعطاؤها في كل سبل الخير، وتشمل بذلك الزكوات، والإنفاق على من يعولهم، والإنفاق على نفسه ليقوى على الحياة، ويقوم بما يجب عليه من طاعات، ومعاونة للضعفاء بقوته، وليقوى على الجهاد في سبيل رفع الحق وخفض الباطل، وإمداد جند الله تعالى بما يحتاجون إليه من عتاد وأسباب القوة كما قال تعالى: (وَأَنفِفوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأيْدِيكمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ...).
والإنفاق كالإنفاد، بيد أن الإنفاد يرمي إلى إنهاء المال، وألا يبقى منه شيء، والإنفاق يُبقى. وقد خص بعض العلماء الرزق بأنه خاص بالحلال، فإن الله تعالى لا يرزق إلا بالحلال، والحق أن الله تعالى يفيض على ابن آدم بكل ما يقيم به أوده، ويعين به غيره، كما قال تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْفهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا... )، وابن آدم هو الذي يجعل منها الحلال والحرام، فإن كسبه كسبًا طيبًا لَا خبث فيه فهو حلال، وإن كسبه من غير الحلال، أو أنفقه فيما حرم الله تعالى، فهو الذي أوجد فيه الحلال، وفي الحلال الثواب، وفي الحرام العقاب. ولقد قال تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهَ لَكُم من رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّه أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفتَرُونَ).
والرزق هو: العطاء، وهو من رزق يرزق رزقا، وهو بمعنى اسم المفعول كـ " طِحْن " بمعنى مطحون، و " رِعْي " بمعنى مرعى، وذِبْع بمعنى مذبوح كقوله تعالى: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).
والمرزوق ما ينعم الله تعالى به على الإنسان من متاع الحياة الدنيا، من حيوان ونقود، ومطاعم ومساكن، والإنفاق إعطاؤها في كل سبل الخير، وتشمل بذلك الزكوات، والإنفاق على من يعولهم، والإنفاق على نفسه ليقوى على الحياة، ويقوم بما يجب عليه من طاعات، ومعاونة للضعفاء بقوته، وليقوى على الجهاد في سبيل رفع الحق وخفض الباطل، وإمداد جند الله تعالى بما يحتاجون إليه من عتاد وأسباب القوة كما قال تعالى: (وَأَنفِفوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأيْدِيكمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ...).
والإنفاق كالإنفاد، بيد أن الإنفاد يرمي إلى إنهاء المال، وألا يبقى منه شيء، والإنفاق يُبقى. وقد خص بعض العلماء الرزق بأنه خاص بالحلال، فإن الله تعالى لا يرزق إلا بالحلال، والحق أن الله تعالى يفيض على ابن آدم بكل ما يقيم به أوده، ويعين به غيره، كما قال تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْفهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا... )، وابن آدم هو الذي يجعل منها الحلال والحرام، فإن كسبه كسبًا طيبًا لَا خبث فيه فهو حلال، وإن كسبه من غير الحلال، أو أنفقه فيما حرم الله تعالى، فهو الذي أوجد فيه الحلال، وفي الحلال الثواب، وفي الحرام العقاب. ولقد قال تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهَ لَكُم من رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّه أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفتَرُونَ).
107
والله تعالى يعد الرزق نعمة، وإذا أنفق في الحلال وكسب من الحلال كان من القربات التي يتقرب بها إلى الله تعالى، ولا يتقرب إليه سبحانه بكسب يكون طريقه ليس بحلال خالص. ويروى أن رجلا يكسب من الغناء والضرب على الدف فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ أرانِي لَا أُرْزَقُ إلا مِنْ دُفِّي بِكَفِّي فأذَنْ لِي بالغِنَاءِ فِى غَيْرِ فَاحِشَة، فقال له رسول الله - ﷺ -: " لا آذَنُ لَكَ وَلا كَرَامَةَ ولا نُعْمَةَ، كَذَبْتَ أيْ عَدُوَّ اللَّه، وَاللَّهِ لَقَدْ رَزَقَكَ اللَّهُ تعالَى حلالا طيبًا، فاخترْتَ ما حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ رِزْقِهِ مَكانَ مَا أحَلَّ اللَّهُ لكَ مِنْ حَلالِهِ " (١).
وفى العبارة السامية: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) إشارتان بلاغيتان:
إحداهما: تقديم (وَمِمَّا زَقْنَاهُمْ) على (يُنفِقُونَ) وفي ذلك بيان أنهم لا ينفقون من كسب خالص لهم بل إنهم ينفقون من رزق الله تعالى، فهو وحده الرزاق إن شاء أعطى، وإن شاء منع، ولست أيها المنفق ترزق نفسك إنما يرزقك الله وحده، فأنت تعطي مِن عندِه، وتجود على نفسك وعلى عباده مِن عِندِه، فالتقديم للقصر أولاً، وللاهتمام بالإنفاق ثانيا.
الثانية: أن الإنفاق لَا يكون بكل ما رزق الله تعالى بل يكون ببعضه وإن كان الكثير فـ " مِنْ " في قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) للتبعيض؛ أي: ينفقون بعض ما أعطاهم الله، فلا يكونون كالمبذرين، وإن المبذرين إخوان الشياطين، والإنفاق في سبيل اللَّه تعالى لَا يستكثر فيه الكثير، فكما قال ابن عباس رضي اللَّه عنه: إنفاق ألفٍ في برٍّ لَا سرف، وإنفاق درهم في غير بر سرف. وإنما موضع الإسراف أو الزيادة في الإنفاق على نفسه، والله تعالى عليم خبير.
________
(١) رواه ابن ماجه: كتاب الحدود: باب المخنثين (٣٦١٣).
وفى العبارة السامية: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) إشارتان بلاغيتان:
إحداهما: تقديم (وَمِمَّا زَقْنَاهُمْ) على (يُنفِقُونَ) وفي ذلك بيان أنهم لا ينفقون من كسب خالص لهم بل إنهم ينفقون من رزق الله تعالى، فهو وحده الرزاق إن شاء أعطى، وإن شاء منع، ولست أيها المنفق ترزق نفسك إنما يرزقك الله وحده، فأنت تعطي مِن عندِه، وتجود على نفسك وعلى عباده مِن عِندِه، فالتقديم للقصر أولاً، وللاهتمام بالإنفاق ثانيا.
الثانية: أن الإنفاق لَا يكون بكل ما رزق الله تعالى بل يكون ببعضه وإن كان الكثير فـ " مِنْ " في قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) للتبعيض؛ أي: ينفقون بعض ما أعطاهم الله، فلا يكونون كالمبذرين، وإن المبذرين إخوان الشياطين، والإنفاق في سبيل اللَّه تعالى لَا يستكثر فيه الكثير، فكما قال ابن عباس رضي اللَّه عنه: إنفاق ألفٍ في برٍّ لَا سرف، وإنفاق درهم في غير بر سرف. وإنما موضع الإسراف أو الزيادة في الإنفاق على نفسه، والله تعالى عليم خبير.
________
(١) رواه ابن ماجه: كتاب الحدود: باب المخنثين (٣٦١٣).
108
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) بعد هذه الأوصاف الذاتية التي يؤمنون فيها بالغيب، فتخشع قلوبهم لذكر الله، ويقيمون
108
الصلاة فتتجه قلوبهم إليه، وينفقون مما رزقهم الله تعالى على أنفسهم وعلى عباد الله تعالى إنفاقا في غير تبذير أو إسراف.
بعد ذلك بين الله تعالى أن من صفات هؤلاء المتقين أنهم من أجلِّ صفاتهم أنهم يؤمنون برسالات الله إلى خلقه بالكتب المنزلة التي أنزلها قبل القرآن، وبالقرآن المنزل من عند الله العلي الحكيم، ويؤمنون بالشرائع التي جاءت في القرآن الكريم وفى الكتب التي أنزلت، لَا يفرقون بين أحد من رسله، ولا بين كتاب من كتبه إلا أن يكون قد نسخ الله تعالى بعض أحكام في كتب أنزلها.
فقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) هم المتقون الذين يؤمنون ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، وتكرار (الاسم) الموصول في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) لَا يدل على المغايرة فيمن نزلت فيهم الآيات، إنما يدل على المغايرة في الصفات، وإن كان الموصوف واحدا، كما يقول الشاعر: إلى الملك القَرْمِ (١) وابن الهمام... وليث الكتيبة في المزدحم وقد ادعى بعض المفسرين أن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) إلى آخر الآية. إنما نزلت في اليهود الذين آمنوا بمحمد - ﷺ -: كعبد الله بن سلام وغيره، وينطبق عليهم قول النبي - ﷺ -: " ثَلاثَة يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرتيْنِ: رَجُل مِنْ أهْلِ الكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وآمَنَ بِي، ورَجُل مَمْلُوك أَدَّى حَقَّ اللَّه تَعَالَى وحَقَّ مَوَاليه، وَرَجُل أَدَّبَ جَارِيَتَهُ، فَأحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا (٢).
والحق أن فصل (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) عن سياق ما قبلها من غير دليل - مُخَالَفَة لظاهر السياق من غير باعث يبعث على ذلك، والسياق واضح متسق
________
(١) القَرم: السيد العظيم، والجمع قروم. واستشهد به ابن كثير لمثل ما ذهب إليه المصنف رحمه الله تعالى.
(٢) متفق عليه [أخرجه البخاري كتاب العلم (٩٧)، ومسلم - واللفظ له - كتاب الإيمان (١٥٤)]..
بعد ذلك بين الله تعالى أن من صفات هؤلاء المتقين أنهم من أجلِّ صفاتهم أنهم يؤمنون برسالات الله إلى خلقه بالكتب المنزلة التي أنزلها قبل القرآن، وبالقرآن المنزل من عند الله العلي الحكيم، ويؤمنون بالشرائع التي جاءت في القرآن الكريم وفى الكتب التي أنزلت، لَا يفرقون بين أحد من رسله، ولا بين كتاب من كتبه إلا أن يكون قد نسخ الله تعالى بعض أحكام في كتب أنزلها.
فقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) هم المتقون الذين يؤمنون ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، وتكرار (الاسم) الموصول في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) لَا يدل على المغايرة فيمن نزلت فيهم الآيات، إنما يدل على المغايرة في الصفات، وإن كان الموصوف واحدا، كما يقول الشاعر: إلى الملك القَرْمِ (١) وابن الهمام... وليث الكتيبة في المزدحم وقد ادعى بعض المفسرين أن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) إلى آخر الآية. إنما نزلت في اليهود الذين آمنوا بمحمد - ﷺ -: كعبد الله بن سلام وغيره، وينطبق عليهم قول النبي - ﷺ -: " ثَلاثَة يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرتيْنِ: رَجُل مِنْ أهْلِ الكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وآمَنَ بِي، ورَجُل مَمْلُوك أَدَّى حَقَّ اللَّه تَعَالَى وحَقَّ مَوَاليه، وَرَجُل أَدَّبَ جَارِيَتَهُ، فَأحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا (٢).
والحق أن فصل (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) عن سياق ما قبلها من غير دليل - مُخَالَفَة لظاهر السياق من غير باعث يبعث على ذلك، والسياق واضح متسق
________
(١) القَرم: السيد العظيم، والجمع قروم. واستشهد به ابن كثير لمثل ما ذهب إليه المصنف رحمه الله تعالى.
(٢) متفق عليه [أخرجه البخاري كتاب العلم (٩٧)، ومسلم - واللفظ له - كتاب الإيمان (١٥٤)]..
109
على أن ذلك كله وصف للمتقين، فهم لإيمانهم بالحق، وخشوع قلوبهم يتقبلون الهدايات السماوية مذعنين غير معاندين ولا منحرفين، وإن المتقين يشملون من اتصف بتقوى الله تعالى مُصغين إلى تكليفه، مؤمنين بغيبه مقرِّين بحق عباده، وهم من كل خلق الله، لَا فرق بين عربي وكتابي، ولا من كان أصلا وثنيا، أو كان يهوديا أو نصرانيا، فمن اتقى الله واستقام على الجادة وآمن بالغيب واتجه إلى ربه، فالآية تشتمل عليه، ولا يخرج عنها، فالعموم أولى وأوفق مع السياق من الخصوص.
والذي أنزل إليك في قوله تعالى: (يُؤْمِنونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) هو القرآن الكريم، وما اشتمل عليه من تكليفات وشرائع، وما جاء به من أخبار الماضين، وقصص الغابرين، ولقد قيل إن القرآن لم يكن قد نزل كله، فكيف يكون الإيمان به قبل نزوله كله، وإنه يُرَدُّ ذلك القيل بأن بعض القرآن قرآن في دلائل إعجازه، وأن الإيمان بالجزء إيمان بالكل، وأنه يصح أن يطلق سماع القرآن على سماع بعضه، كما قال تعالى عن سماع الجن للقرآن، إذ قال: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعونَ الْقُرْآنَ...)، وما سمعوا إلا جزءا منه.
وإنه لَا وجه للاعتراض بأن القرآن لم يكن قد نزل إلا بعضه؛ لأن الله تعالى يقول: (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) وقد ابتدأ النزول، فابتداء التنزيل المستمر نزولٌ له كله، كما قال تعالى: (شَهْرُ رمَضَانَ الَّذِي أئزِلَ فِيهِ الْقُرانُ...)، فما نزل فيه إلا أَوَّلُه، ولكنه مستمر التنزيل إلى أن كمل الدين.
وإن الآية الكريمة تبين أن الإيمان الكامل بمحمد - ﷺ -، وما أنزل عليه من شرائع يتقاضى المؤمن أن يكون مؤمنا بكل النبيين السابقين وشرائعهم كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ...)، ولقد روي في الصحيح أن رسول الله - ﷺ - قال: " إِذَا حَدَّثكمْ أَهْلُ الكِتَابِ فَلا
والذي أنزل إليك في قوله تعالى: (يُؤْمِنونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) هو القرآن الكريم، وما اشتمل عليه من تكليفات وشرائع، وما جاء به من أخبار الماضين، وقصص الغابرين، ولقد قيل إن القرآن لم يكن قد نزل كله، فكيف يكون الإيمان به قبل نزوله كله، وإنه يُرَدُّ ذلك القيل بأن بعض القرآن قرآن في دلائل إعجازه، وأن الإيمان بالجزء إيمان بالكل، وأنه يصح أن يطلق سماع القرآن على سماع بعضه، كما قال تعالى عن سماع الجن للقرآن، إذ قال: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعونَ الْقُرْآنَ...)، وما سمعوا إلا جزءا منه.
وإنه لَا وجه للاعتراض بأن القرآن لم يكن قد نزل إلا بعضه؛ لأن الله تعالى يقول: (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) وقد ابتدأ النزول، فابتداء التنزيل المستمر نزولٌ له كله، كما قال تعالى: (شَهْرُ رمَضَانَ الَّذِي أئزِلَ فِيهِ الْقُرانُ...)، فما نزل فيه إلا أَوَّلُه، ولكنه مستمر التنزيل إلى أن كمل الدين.
وإن الآية الكريمة تبين أن الإيمان الكامل بمحمد - ﷺ -، وما أنزل عليه من شرائع يتقاضى المؤمن أن يكون مؤمنا بكل النبيين السابقين وشرائعهم كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ...)، ولقد روي في الصحيح أن رسول الله - ﷺ - قال: " إِذَا حَدَّثكمْ أَهْلُ الكِتَابِ فَلا
110
تكَذبوهم وَلا تُصَدِّقُوهُم، وَلَكِنْ قُولُوا آمَنَّا بالَّذي أُنْزِلَ إِلَيْنَا، والَّذي أُنْزِلَ إِلَيْكُم " (١).
وإن الإسلام دين الوحدانية، ودين الوحدة الإنسانية، ودين الرسالة الإلهية التي لَا تفرق بين نبي ونبي إلا في آيات الله تعالى المثبتة للرسالة التي تخص كل نبي، وكلها يجب الإيمان به وتصديقه، ومن لم يصدِّق فقد كفر.
ولقد قرر الله سبحانه وتعالى أن شأن أولئك المتقين (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) فهذا ما جاءت به الديانات الإلهية كلها، فأساس الإيمان في هذه الأديان، وفي كل دين حق أن يؤمن بأن الحياة الآخرة هي المآل، وأن الحياة الدنيا سبيل إلى الحياة الآخرة، ذلك أن هذه الحياة فيها تنازع الخير والشر، وأنه معتركها، وأن الشر كثيرا ما ينتصر على الخير فيها، فلابد للخير من أمل يكون فيه الانتصار للخير، وتجزى كل نفس ما كسبت؛ ولذلك كان الإيمان بالآخرة، إيمانا بانتصار الخير على الشر؛ ولذلك قال تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ...).
وقوله تعالى: (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)، فيه الإيقان مصدر أيقن، وهو إحكام العلم وإتقانه، بحيث لَا يكون شك ولا ريب في أية ناحية من نواحيه، ولا أي حقيقة من حقائقه، وبمقدار قوة الإيمان بالآخرة تكون قوة الإيمان فمن كان مؤمنا بربه حق الإيمان كان مؤمنا بالآخرة كأنها عَيَان.
وقد أكد سبحانه ضرورة الإيمان بها في تقديم الجار والمجرور على الفعل، فإن التقديم فيه مزيد من الاهتمام بهذا اليقين، واختصاص، أي أنه لَا يؤمن إلا بالحياة الآخرة، وما فيها من جنة ونعيم، وبعث وحساب، وجحيم، كأنه رَأْيَ
________
(١) أخرجه البخاري: كتاب التفسير (٤٤٨٥)، وأخرجه أبو داود: كتاب العلم (٣١٥٩)، وأحمد: مسند الشاميين (١٦٥٩٢).
وإن الإسلام دين الوحدانية، ودين الوحدة الإنسانية، ودين الرسالة الإلهية التي لَا تفرق بين نبي ونبي إلا في آيات الله تعالى المثبتة للرسالة التي تخص كل نبي، وكلها يجب الإيمان به وتصديقه، ومن لم يصدِّق فقد كفر.
ولقد قرر الله سبحانه وتعالى أن شأن أولئك المتقين (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) فهذا ما جاءت به الديانات الإلهية كلها، فأساس الإيمان في هذه الأديان، وفي كل دين حق أن يؤمن بأن الحياة الآخرة هي المآل، وأن الحياة الدنيا سبيل إلى الحياة الآخرة، ذلك أن هذه الحياة فيها تنازع الخير والشر، وأنه معتركها، وأن الشر كثيرا ما ينتصر على الخير فيها، فلابد للخير من أمل يكون فيه الانتصار للخير، وتجزى كل نفس ما كسبت؛ ولذلك كان الإيمان بالآخرة، إيمانا بانتصار الخير على الشر؛ ولذلك قال تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ...).
وقوله تعالى: (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)، فيه الإيقان مصدر أيقن، وهو إحكام العلم وإتقانه، بحيث لَا يكون شك ولا ريب في أية ناحية من نواحيه، ولا أي حقيقة من حقائقه، وبمقدار قوة الإيمان بالآخرة تكون قوة الإيمان فمن كان مؤمنا بربه حق الإيمان كان مؤمنا بالآخرة كأنها عَيَان.
وقد أكد سبحانه ضرورة الإيمان بها في تقديم الجار والمجرور على الفعل، فإن التقديم فيه مزيد من الاهتمام بهذا اليقين، واختصاص، أي أنه لَا يؤمن إلا بالحياة الآخرة، وما فيها من جنة ونعيم، وبعث وحساب، وجحيم، كأنه رَأْيَ
________
(١) أخرجه البخاري: كتاب التفسير (٤٤٨٥)، وأخرجه أبو داود: كتاب العلم (٣١٥٩)، وأحمد: مسند الشاميين (١٦٥٩٢).
111
العين، وأن الحياة الدنيا ليست موضع إيمان، فالحياة الآخرة وحدها هي الجديرة بالإيمان، وكان التأكيد بكلمة (همْ) فهو تصوير لليقين بصورة الجملة الاسمية، والجملة الاسمية تدل على بقاء اليقين واستمراره بحيث لَا يضطرب ولا يتزعزع ولا ينسى ذلك اليوم أبدًا.
وقد يقال ما موضع (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) من قوله تعالى: (يؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)؟ ونقول في ذلك إن قوله تعالى: (يُؤْمِنونَ بِالْغَيْبِ) كما فهمنا، وكما ذكرنا فيه أنهم لَا يؤمنون بأن الوجود مادة، ليس فيما وراءه وجود، كأولئك الملاحدة الذين يظنون المادة هي " الموجود " وحدها، بدون أن يكون وراءها ما يؤمنون به، فذكر الله سبحانه وتعالى أن النفس التقية الخاشعة الخاضعة، لَا تقول: خلقنا الله عبثا، بل تدرك بالفطرة أن وراء المادة معنى وحياة.
أما قوله تعالى: (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) فهي تخصيص من العموم، والله ولي المؤمنين في الدنيا والآخرة.
وقد يقال ما موضع (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) من قوله تعالى: (يؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)؟ ونقول في ذلك إن قوله تعالى: (يُؤْمِنونَ بِالْغَيْبِ) كما فهمنا، وكما ذكرنا فيه أنهم لَا يؤمنون بأن الوجود مادة، ليس فيما وراءه وجود، كأولئك الملاحدة الذين يظنون المادة هي " الموجود " وحدها، بدون أن يكون وراءها ما يؤمنون به، فذكر الله سبحانه وتعالى أن النفس التقية الخاشعة الخاضعة، لَا تقول: خلقنا الله عبثا، بل تدرك بالفطرة أن وراء المادة معنى وحياة.
أما قوله تعالى: (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) فهي تخصيص من العموم، والله ولي المؤمنين في الدنيا والآخرة.
112
(أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
ذكر الله تعالى ما تحلى به المتقون الذين يؤمنون بما غيَّبه الله تعالى عنهم، ودلت عليه الفطرة، والذين يقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله تعالى، ويؤمنون بالرسالات الإلهية، ويوقنون بالآخرة، وبعد أن ذكر هذا ذكر سبحانه وتعالى حُكْمَه - تعالت كلماته - عليهم، مؤكدا ذلك، فقال: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) وأولئك: إشارة إلى حالهم موصوفين بهذه الصفات قائمين بهذه الصفات، والإشارة إلى الصفات وتعقيب الحكم بعد الإشارة يومئ إلى أن هذه الصفات هي علة الحكم بأنهم على هدى من ربهم، وكررت الإشارة لبيان أن هذه الصفات أيضا هي سبب الفوز بالنعيم المقيم، والبعد عن العذاب الأليم، فالتكرار للتنبيه على أنها سبب للثانية كما هي سبب للأولى.
ذكر الله تعالى ما تحلى به المتقون الذين يؤمنون بما غيَّبه الله تعالى عنهم، ودلت عليه الفطرة، والذين يقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله تعالى، ويؤمنون بالرسالات الإلهية، ويوقنون بالآخرة، وبعد أن ذكر هذا ذكر سبحانه وتعالى حُكْمَه - تعالت كلماته - عليهم، مؤكدا ذلك، فقال: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) وأولئك: إشارة إلى حالهم موصوفين بهذه الصفات قائمين بهذه الصفات، والإشارة إلى الصفات وتعقيب الحكم بعد الإشارة يومئ إلى أن هذه الصفات هي علة الحكم بأنهم على هدى من ربهم، وكررت الإشارة لبيان أن هذه الصفات أيضا هي سبب الفوز بالنعيم المقيم، والبعد عن العذاب الأليم، فالتكرار للتنبيه على أنها سبب للثانية كما هي سبب للأولى.
112
والتعبير بـ (عَلَى هُدًى) بالتعدية بعلى إشارة إلى العلو على الهدى والتمكن، كما يقال: ركب فلان متن الغواية أو علا على الهداية، فكأنه صار مستمكنا عليها لا يفارقها، ولا تفارقه. فأصحاب هذه الصفات العالية ينالون الهداية ولا يزايلونها، فهم في هداية دائمة مستمرة.
وقوله تعالى: (مِّن رَّبِّهِمْ) معناها أن هذه الهداية جاءتهم من ربِّهم الذي رَبَّهم وكونهم ووفقهم إلى سبيل الخير والعمل الصالح، والإيمان واليقين باليوم الآخر، فإسناد الهداية إلى أنها من الرب الكريم بيان لشرفها واستمرارها مع تمكنهم منها، لأنها من رب هذا الوجود الذي رَبَّهُ ونماه وهذبه وأعلاه.
وهنا إشارتان بيانيتان:
إحداهما: الإشارة بالبعيد لوجود اللام، والبُعد هنا بُعد المنزلة، وعلوها وشرفها، فهؤلاء الأتقياء الأطهار الذين نزهت نفوسهم، وسامتوا (١) أعلى العلاء، يشار إليهم بالبعيد إعلاء وتشريفا وتكريما. الثانية: تكرار اسم الإشارة أولئك، ففي هذا التكرار بيان تنويع الفضل الذي حكم الله تعالى عليهم، فهو قد حكم سبحانه وتعالى عليهم حكمين كريمين أولهما: الهداية الكاملة الدائمة التي نالوها، وركبوا متنها وعلوا عليها، والحكم الثاني: أنهم ينالون الفوز، والفوز هنا هو الفوز في الدنيا بعلوِّ نفوسهم، واستقامتها، والاتجاه إلى معالي الأمور ورضا الله تعالى، وهو أكبر جزاء، فرضوان من الله أكبر، والفوز في الآخرة بالنعيم المقيم.
وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك الفلاح الذي ينالونه بالجملة الاسمية، فالتعبير بالجملة الاسمية يدل على دوام الفلاح، وأنه دائم بدوام من يعطيه، وهو رب
________
(١) سَامَتَ الشيء: قابله ووازاه وواجهه. [الوسيط - س م ت].
وقوله تعالى: (مِّن رَّبِّهِمْ) معناها أن هذه الهداية جاءتهم من ربِّهم الذي رَبَّهم وكونهم ووفقهم إلى سبيل الخير والعمل الصالح، والإيمان واليقين باليوم الآخر، فإسناد الهداية إلى أنها من الرب الكريم بيان لشرفها واستمرارها مع تمكنهم منها، لأنها من رب هذا الوجود الذي رَبَّهُ ونماه وهذبه وأعلاه.
وهنا إشارتان بيانيتان:
إحداهما: الإشارة بالبعيد لوجود اللام، والبُعد هنا بُعد المنزلة، وعلوها وشرفها، فهؤلاء الأتقياء الأطهار الذين نزهت نفوسهم، وسامتوا (١) أعلى العلاء، يشار إليهم بالبعيد إعلاء وتشريفا وتكريما. الثانية: تكرار اسم الإشارة أولئك، ففي هذا التكرار بيان تنويع الفضل الذي حكم الله تعالى عليهم، فهو قد حكم سبحانه وتعالى عليهم حكمين كريمين أولهما: الهداية الكاملة الدائمة التي نالوها، وركبوا متنها وعلوا عليها، والحكم الثاني: أنهم ينالون الفوز، والفوز هنا هو الفوز في الدنيا بعلوِّ نفوسهم، واستقامتها، والاتجاه إلى معالي الأمور ورضا الله تعالى، وهو أكبر جزاء، فرضوان من الله أكبر، والفوز في الآخرة بالنعيم المقيم.
وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك الفلاح الذي ينالونه بالجملة الاسمية، فالتعبير بالجملة الاسمية يدل على دوام الفلاح، وأنه دائم بدوام من يعطيه، وهو رب
________
(١) سَامَتَ الشيء: قابله ووازاه وواجهه. [الوسيط - س م ت].
113
العالمين، وأكده بتعريف الطرفين، وهما اسم الإشارة، وكلمة: " المفلحون "، وتعريف الطرفين يدل على القصر، أي أنهم هم المفلحون وحدهم دون غيرهم، فهم قد خلصت قلوبهم وعقولهم وكل مداركهم للحق جل جلاله، وفاضوا بخيرهم، وتحملوا المشاف في سبيلهم، وآمنوا بكل الرسالات، ولم يطمعوا بغير أن يعذوا أنفسهم لحكم ربهم.
وأكد سبحانه وتعالى الحكم بأنهم المفلحون دون غيرهم بضمير الفصل وهو (هُمُ) فإن في ذكره فضل التأكيد بأنهم المفلحون وحدهم، وأنه لَا ينال منالهم إلا من سلك مثل سبيلهم، واختار مثل طريقهم.. اللهم اجعلنا ممن يقتدي برسلك وبهم، فإنهم هم الفائزون.
والمفلح - من الفَلْح بمعنى الشق والقطع، ويطلق المفلح على الفائز، فكأنه قد شق الطريق، ونالته المتاعب حتى نال مطلوبه، وفاز بمرغوبه، فما وصل إليه إلا بجهد جاهد، وعمل ولُغوب حتى نال ما نال، وذلك هو الفلاح، فلا فلاح إلا إذا كان ثمرة لجد وجهاد، وطلب، وسير في الطريق إلى غايته، فالفوز الرخيص بأمر لا يعد فلاحا، وإن الإنسان يعلو على ملائكة الله تعالى بجده ومغالبته للأهواء الإنسانية، حتى ينتصر عليها، ويصل إلى الملكوت الأعلى؛ لأنه وصل بمغالَبة وجهاد، والملائكة لَا مغالبة فيهم؛ لأن الله خلقهم لايعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
* * *
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧)
وأكد سبحانه وتعالى الحكم بأنهم المفلحون دون غيرهم بضمير الفصل وهو (هُمُ) فإن في ذكره فضل التأكيد بأنهم المفلحون وحدهم، وأنه لَا ينال منالهم إلا من سلك مثل سبيلهم، واختار مثل طريقهم.. اللهم اجعلنا ممن يقتدي برسلك وبهم، فإنهم هم الفائزون.
والمفلح - من الفَلْح بمعنى الشق والقطع، ويطلق المفلح على الفائز، فكأنه قد شق الطريق، ونالته المتاعب حتى نال مطلوبه، وفاز بمرغوبه، فما وصل إليه إلا بجهد جاهد، وعمل ولُغوب حتى نال ما نال، وذلك هو الفلاح، فلا فلاح إلا إذا كان ثمرة لجد وجهاد، وطلب، وسير في الطريق إلى غايته، فالفوز الرخيص بأمر لا يعد فلاحا، وإن الإنسان يعلو على ملائكة الله تعالى بجده ومغالبته للأهواء الإنسانية، حتى ينتصر عليها، ويصل إلى الملكوت الأعلى؛ لأنه وصل بمغالَبة وجهاد، والملائكة لَا مغالبة فيهم؛ لأن الله خلقهم لايعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
* * *
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧)
114
ذكر الله سبحانه وتعالى أعلى صنف في الوجود الإنساني، وهم الذين علوا بنفوسهم وأعمالهم، وذكر في مقابلهم الذين أركسوا أنفسهم في مهاوي الباطل حتى سدت عليهم كل مسالك الإدراك للحق، ثم ذكر من بعدهم الحائرين بين الهداية والضلال، يرون نور الحق ويبصرونه، ثم يتركونه، فيتركون الحق وقد بدت لديهم معالمه، ويتجهون إلى الظلام، وقد أشرق نوره، ولمعت في الوجود شمسه، وأولئك هم المنافقون.
وقد روي عن مجاهد أنه قال: أربعُ آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة آية في المنافقين (١).
وقد تم بيان صفات المتقين، ونبتدئ في آيتي الكافرين، فقد قال:
________
(١) تفسير القرطبي - تفسير سورة البقرة آية (٨).
وقد روي عن مجاهد أنه قال: أربعُ آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة آية في المنافقين (١).
وقد تم بيان صفات المتقين، ونبتدئ في آيتي الكافرين، فقد قال:
________
(١) تفسير القرطبي - تفسير سورة البقرة آية (٨).
115
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تنذِرْهمْ لَا يُؤْمِنونَ).
بين سبحانه الذين يتقبلون هداية القرآن، فينزل على قلوبهم كما ينزل الغيث على الأرض الطيبة، فتنبت أطيب النبات، وتثمر خير الثمر. وهم المتقون الذي جرى في القرآن الكريم في الآيات السابقة وصفهم. والكافرون جاء وصفهم في الآيات الكريمة على نقيض المتقين، إذ إن هؤلاء المتقين امتلأت نفوسهم بالاتجاه إلى ما وراء المادة، فلم يستول على قلوبهم بريق المادة، ولم يستغرقهم سلطانها، بل انفعلت نفوسهم متأثرة بما وراءها متعرفة أسرار الوجود من الموجود، أما الذين كفروا فقد استغرقتهم المادة، وسيطرت عليهم، فلا يفكرون إلا فيها، وفيما تحيط به، والله سبحانه وتعالى خلق كل نفس، وهداها، فإن استقامت في إدراك الحقائق أوصلها إلى الحق، وإن عميت واعوجت ابتداء، فلم تر إلا المادة سارت في طريق غير سوي. والله سبحانه وتعالى يقول: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكم مِنْ بطُونِ أمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمونَ شَيْئًا
بين سبحانه الذين يتقبلون هداية القرآن، فينزل على قلوبهم كما ينزل الغيث على الأرض الطيبة، فتنبت أطيب النبات، وتثمر خير الثمر. وهم المتقون الذي جرى في القرآن الكريم في الآيات السابقة وصفهم. والكافرون جاء وصفهم في الآيات الكريمة على نقيض المتقين، إذ إن هؤلاء المتقين امتلأت نفوسهم بالاتجاه إلى ما وراء المادة، فلم يستول على قلوبهم بريق المادة، ولم يستغرقهم سلطانها، بل انفعلت نفوسهم متأثرة بما وراءها متعرفة أسرار الوجود من الموجود، أما الذين كفروا فقد استغرقتهم المادة، وسيطرت عليهم، فلا يفكرون إلا فيها، وفيما تحيط به، والله سبحانه وتعالى خلق كل نفس، وهداها، فإن استقامت في إدراك الحقائق أوصلها إلى الحق، وإن عميت واعوجت ابتداء، فلم تر إلا المادة سارت في طريق غير سوي. والله سبحانه وتعالى يقول: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكم مِنْ بطُونِ أمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمونَ شَيْئًا
115
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ... )، فالله " تعالى خلق الخلق، وأودع كل نفس طريق العلم، فأعطاه أدوات المعرفة كلها، وجعل السمع يستمعون به والأبصار يبصرون بها، والقلوب يدركون بها، فمن جعل هذه الأدوات متجهة إلى النور فقد أبصر، فيكون من المتقين، ومن أحاطت به مادة الدنيا، ولم ينفذ ببصره وقلبه إلى ما وراءها، فإنه لابد سائر في طريق الغواية، مبتعد عن طريق الهداية، وكل إنسان وما يُسِّر له، فإن غلبت عليه السعادة اتقى، وإن غلبت عليه الشقوة كفر.
والكفر في أصل معناه اللغوي السَّتْرُ، ومن ذلك إطلاق الكفار على الزراع لأنهم يسترون البذر لينبت نباتا طيبا كقوله تعالى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ...)، أي أعجب الزراع نباته، وقد أطلق من بعد ذلك على ستر الفطرة وطمس الحق، لأن الفطرة الإنسانية فطرة الله، فطر الناس عليها تتجه إلى الحق، وتدرك نوره، فالكفر ستر نور الفطرة الذي ينبثق نحو الحقيقة، كما يطلق الكفر على جحود النعمة، وإنكارها، ومن ذلك قوله تعالى: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِن عَذَابِي لَشَدِيدٌ).
ومن ذلك ما روي عن النبي - ﷺ - إذ قال: " أُرِيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء، قيل: بمَ يا رسول الله؛ قال: بكفرهن. قيل: أيكْفُرْن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفُرْن الإحسان، لو أحسنت إليهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئا، قالت: ما رأيت منك خيرا قط " (١). وذكر الله تعالى الكفر من غير مُتَعَلَّق فقال: (إِنَّ الَّذِينَ كفَرُوا) للدلالة على جحود كل خير، فلا يكفر الكفار بالله تعالى وحده، بل يكفرون بكل نعمة، وينكرون كل خير، وتغلب عليهم
________
(١) أخرجه البخاري: كتاب الإيمان - باب: كفر دون كفر (٢٩)، ومسلم: كتاب الكسوف - باب: ما عرض على النبي - ﷺ - (٩٠٧).
والكفر في أصل معناه اللغوي السَّتْرُ، ومن ذلك إطلاق الكفار على الزراع لأنهم يسترون البذر لينبت نباتا طيبا كقوله تعالى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ...)، أي أعجب الزراع نباته، وقد أطلق من بعد ذلك على ستر الفطرة وطمس الحق، لأن الفطرة الإنسانية فطرة الله، فطر الناس عليها تتجه إلى الحق، وتدرك نوره، فالكفر ستر نور الفطرة الذي ينبثق نحو الحقيقة، كما يطلق الكفر على جحود النعمة، وإنكارها، ومن ذلك قوله تعالى: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِن عَذَابِي لَشَدِيدٌ).
ومن ذلك ما روي عن النبي - ﷺ - إذ قال: " أُرِيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء، قيل: بمَ يا رسول الله؛ قال: بكفرهن. قيل: أيكْفُرْن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفُرْن الإحسان، لو أحسنت إليهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئا، قالت: ما رأيت منك خيرا قط " (١). وذكر الله تعالى الكفر من غير مُتَعَلَّق فقال: (إِنَّ الَّذِينَ كفَرُوا) للدلالة على جحود كل خير، فلا يكفر الكفار بالله تعالى وحده، بل يكفرون بكل نعمة، وينكرون كل خير، وتغلب عليهم
________
(١) أخرجه البخاري: كتاب الإيمان - باب: كفر دون كفر (٢٩)، ومسلم: كتاب الكسوف - باب: ما عرض على النبي - ﷺ - (٩٠٧).
116
مادية شرسة لَا يؤمنون إلا بها وينكرون ما عداها، وتسد عنهم مسامع الخير، فلا يصلون إليه، ولا يتجهون نحوه، وبذلك تسد مسامعهم عن كل إنذار بعاقبة ما يفعلون.
وإذا كانوا قد فقدوا كل الإنصات إلى ما يهديهم، فهم لايؤمنون سواء أأنذرتهم أم لم تنذرهم، والإنذار يفسره علماء اللغة بأنه تخويف من أمر مستقبل يتوقع وقوعه أو يؤكد وقوعه، وعند المنذر سعة من الوقت يمكنه فيه أن يتوقاه، وقالوا: إذا لم يكن متسع من الوقت لتفاديه يكون ذلك إشعارا.
ومعنى (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ)، أنه يستوي عندهم إنذارك وعدم إنذارك، فالاستفهام هنا للمعادلة، أي أنه يستوي الإنذار وعدمه، والمصدر هنا ثبت بالاستفهام، أو من غير أداة مصدر، كقولك: تسمع بالمُعِيدِيِّ خير من أن تراه أي: سماعُك بالمعيدي خير من أن تراه.
ومعنى ذلك أنه سجل عليهم الكفر والجحود، لأن الشر قد استغرق نفوسهم، ولم يكن ثمة موضع لسماع داعي الهدى حتى أغلق قلبه عن كل ما يدعو إلى الخير، ولقد قال - ﷺ -: " إن الرجل ليصدق فتنكت في قلبه نكتة بيضاء، وإن الرجل ليكذب الكذبة فيسود قلبه " (١). وروى الترمذي أن رسول الله - ﷺ - قال: " إن الرجل ليقترف الذنب فيسود قلبه "، فإن هو تاب صقل قلبه (٢)، وقال تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قلُوبِهِم مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ)، أولئك الذين كفروا وستروا الفطرة، وأطفأوا نور الإيمان بتوالي ذنوبهم، واستمراء جحودهم، تحيط بهم خطاياهم فلا يؤمنون بالحق سواء أأنذرتهم أم لم تنذرهم.
وقد أكد الله سبحانه وتعالى هذا المعنى بـ " إِنَّ " الدالة على توكيد حكم ما بعدها.
________
(١) رواه مالك في الموطأ: كتاب الجامع.
(٢) رواه الترمذي كتاب تفسير القرآن (٥٧ ٣٢)، وأحمد (٧٦١١)، وابن ماجه: الزهد (٤٢٣٤).
وإذا كانوا قد فقدوا كل الإنصات إلى ما يهديهم، فهم لايؤمنون سواء أأنذرتهم أم لم تنذرهم، والإنذار يفسره علماء اللغة بأنه تخويف من أمر مستقبل يتوقع وقوعه أو يؤكد وقوعه، وعند المنذر سعة من الوقت يمكنه فيه أن يتوقاه، وقالوا: إذا لم يكن متسع من الوقت لتفاديه يكون ذلك إشعارا.
ومعنى (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ)، أنه يستوي عندهم إنذارك وعدم إنذارك، فالاستفهام هنا للمعادلة، أي أنه يستوي الإنذار وعدمه، والمصدر هنا ثبت بالاستفهام، أو من غير أداة مصدر، كقولك: تسمع بالمُعِيدِيِّ خير من أن تراه أي: سماعُك بالمعيدي خير من أن تراه.
ومعنى ذلك أنه سجل عليهم الكفر والجحود، لأن الشر قد استغرق نفوسهم، ولم يكن ثمة موضع لسماع داعي الهدى حتى أغلق قلبه عن كل ما يدعو إلى الخير، ولقد قال - ﷺ -: " إن الرجل ليصدق فتنكت في قلبه نكتة بيضاء، وإن الرجل ليكذب الكذبة فيسود قلبه " (١). وروى الترمذي أن رسول الله - ﷺ - قال: " إن الرجل ليقترف الذنب فيسود قلبه "، فإن هو تاب صقل قلبه (٢)، وقال تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قلُوبِهِم مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ)، أولئك الذين كفروا وستروا الفطرة، وأطفأوا نور الإيمان بتوالي ذنوبهم، واستمراء جحودهم، تحيط بهم خطاياهم فلا يؤمنون بالحق سواء أأنذرتهم أم لم تنذرهم.
وقد أكد الله سبحانه وتعالى هذا المعنى بـ " إِنَّ " الدالة على توكيد حكم ما بعدها.
________
(١) رواه مالك في الموطأ: كتاب الجامع.
(٢) رواه الترمذي كتاب تفسير القرآن (٥٧ ٣٢)، وأحمد (٧٦١١)، وابن ماجه: الزهد (٤٢٣٤).
117
أكد الله تعالى هذا المعنى شارحا حالتهم النفسية، وانطباعها على الشر، وعدم تقبل الهداية، فقال تعالى:
118
(خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ).
الختم مصدر ختصت ختما فهو مختوم ومعناه تغطية الشيء، والاستيثاق من الغطاء حتى لَا يدخله شيء من خارجه، والختم يكون محسوسا، وإطلاقه على الأمور المعنوية يكون مجازا أو استعارة، ويكون المعنى أن الله تعالى شبه ابتعادهم عن الهداية، والحيلولة بين قلوبهم ووصول الحق إليها، بسبب ما تواردت عليه من أسباب الشك والارتياب وإظلام القلوب، وعدم قبولها لنور الهداية - شبهه بحال ما ختم عليه بختم استيثاقا من ألا يفتح ويدخل عليه شيء من الإيمان، وكان على القلوب، فلا يكون معها مكان لهداية، وعلى السمع، فلا ينفتح لسماع كلمة حق هادية، وذلك من كثرة ما توارد عليها من أسباب العصيان والجحود، حتى طبع الله تعالى عليها بكفرهم، فقد قال - ﷺ -: " تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا (أي مقلوبًا) لَا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا " (١) رواه الصحيحان، ولقد قال ابن جرير في تفسيره: " إن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم الذي ذكره الله سبحانه وتعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ).
والمعنى أن الذين أركست قلوبهم بتضافر ذنوبهم، وتوالى جحودهم، واستغراق المادة تغلق عليهم مسالك الهداية، وتسد عليهم مسام النور، فلا تصل إليهم هداية.
________
(١) رواه مسلم: كتاب الإيمان: باب: بدأ الإسلام غريبا (٢٠٧).
الختم مصدر ختصت ختما فهو مختوم ومعناه تغطية الشيء، والاستيثاق من الغطاء حتى لَا يدخله شيء من خارجه، والختم يكون محسوسا، وإطلاقه على الأمور المعنوية يكون مجازا أو استعارة، ويكون المعنى أن الله تعالى شبه ابتعادهم عن الهداية، والحيلولة بين قلوبهم ووصول الحق إليها، بسبب ما تواردت عليه من أسباب الشك والارتياب وإظلام القلوب، وعدم قبولها لنور الهداية - شبهه بحال ما ختم عليه بختم استيثاقا من ألا يفتح ويدخل عليه شيء من الإيمان، وكان على القلوب، فلا يكون معها مكان لهداية، وعلى السمع، فلا ينفتح لسماع كلمة حق هادية، وذلك من كثرة ما توارد عليها من أسباب العصيان والجحود، حتى طبع الله تعالى عليها بكفرهم، فقد قال - ﷺ -: " تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا (أي مقلوبًا) لَا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا " (١) رواه الصحيحان، ولقد قال ابن جرير في تفسيره: " إن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم الذي ذكره الله سبحانه وتعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ).
والمعنى أن الذين أركست قلوبهم بتضافر ذنوبهم، وتوالى جحودهم، واستغراق المادة تغلق عليهم مسالك الهداية، وتسد عليهم مسام النور، فلا تصل إليهم هداية.
________
(١) رواه مسلم: كتاب الإيمان: باب: بدأ الإسلام غريبا (٢٠٧).
118
وعبر عن ختم قلوبهم وسمعهم بجمع القلوب، وإفراد السمع؛ لأن الأسباب التي تغلق القلب متعددة، بتعدد أصناف الهوى، فكأن كل واحدة تسكن قلبا، وتتعدد القلوب بتعدد ما ملأها من أهواء، وتتضافر هذه الأهواء، وأفرد السمع؛ لأنه طريق واحد، وجارحة واحدة، ونور الحق واحد، وصوته واحد، ولكن لَا يسمع.
والوقف على قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) وقوله تعالى: (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) فإن ختم القلوب يكون على القلب، وعلى السمع، أما الأبصار، فإن عليها غشاوة، وتكرار (عَلَى* في قوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) للدلالة على تقوية الختم، وتأكيده بحيث لَا يصل إلى النفس منه شيء عن طريق القلب المدرك أو السمع الواعى.
وقوله تعالى: (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) الغشاوة الغطاء الذي يحول بين البصر والرؤية، وذكر الأبصار بالجمع بدل الإفراد لتعدد المبصرات الموجهة التي يتوجه البصر إليها، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات أوتاد، وماء ينزل من السماء، ومرسلات حاملات للرياح، وخلق مجدد مستمر، وحياة وموت، قال تعالى: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠)، وهكذا تتعدد المبصرات، وفيها الآيات البينات الدالة على قوة القادر على كل شيء، القاهر فوق عباده.
فلتعدد هذه المبصرات ذكرت الأبصار بالجمع لَا بالمفرد، والله بكل شيء محيط.
ولقد ذكر الله تعالى عقاب أولئك الكافرين الذين لَا تجدي معهم النذر، ولا يجدي معهم بيان الحق في ذاته، وقد طبع الله تعالى على قلوبهم التي شعبتها الأهواء، وعلى سمعهم فلا يستمعون للحق، ووضع الله على أبصارهم غطاء يحول
والوقف على قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) وقوله تعالى: (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) فإن ختم القلوب يكون على القلب، وعلى السمع، أما الأبصار، فإن عليها غشاوة، وتكرار (عَلَى* في قوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) للدلالة على تقوية الختم، وتأكيده بحيث لَا يصل إلى النفس منه شيء عن طريق القلب المدرك أو السمع الواعى.
وقوله تعالى: (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) الغشاوة الغطاء الذي يحول بين البصر والرؤية، وذكر الأبصار بالجمع بدل الإفراد لتعدد المبصرات الموجهة التي يتوجه البصر إليها، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات أوتاد، وماء ينزل من السماء، ومرسلات حاملات للرياح، وخلق مجدد مستمر، وحياة وموت، قال تعالى: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠)، وهكذا تتعدد المبصرات، وفيها الآيات البينات الدالة على قوة القادر على كل شيء، القاهر فوق عباده.
فلتعدد هذه المبصرات ذكرت الأبصار بالجمع لَا بالمفرد، والله بكل شيء محيط.
ولقد ذكر الله تعالى عقاب أولئك الكافرين الذين لَا تجدي معهم النذر، ولا يجدي معهم بيان الحق في ذاته، وقد طبع الله تعالى على قلوبهم التي شعبتها الأهواء، وعلى سمعهم فلا يستمعون للحق، ووضع الله على أبصارهم غطاء يحول
119
بينهم وبين معرفة الآيات البينات، وبين سبحانه وتعالى ما قرره لهم من عقاب، فقال تعالى: (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) العذاب كالنكال، وقد ذكر الزمخشري المعنى اللغوي له، فقال في كشافه: العذاب مثل النكال بناء ومعنى؛ لأنك تقول أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه، كما تقول: " نكل عنه "، ومنه العذب، لأنه يقمع العطش ويردعه، ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخا لأنه ينقخ العطش أي يكسرَه، وفراتًا لأنه يرفته على القلب (١)، ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذابا، وإن لم يكن نكالا، أي عقابا يرتدع به الجاني عن المعاودة.
هذا تحليل لغوي كتبه الزمخشري ونقلناه، والذي نخرج منه أن العذاب نكال وإيلام فادح لمنع المعاودة، وأنه يلتقي مع العذاب، فسبحان الله يجعل من العذب الذي ينقع العطش عذابًا يمنع الجريمة.
وقوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، أي أنهم يستحقون استحقاق اختصاص ومِلْك، عذابا عظيما، كبيرا ليس بصغير، جزاء ما كان من تشويه فطرتهم، والطمس على قلوبهم، عذابا كبيرا، لَا يكتنه كنهه، ولا يعرف قدره.
وفي الحقيقة، إنهم ينالهم عقابان: أحدهما - ما فسدت به طبائعهم وتشوهت به مداركهم، فإن نزول الإنسان عن مرتبة الإنسان إلى ما دونه من مرتبة الحيوان والخنازير والقردة الذين ينزون إلى الشهوات نزوًا هو في ذاته عقوبة مستمدة من ذواتهم.
العقوبة الثانية أن لهم عذابا عظيما يوم القيامة. والتنكير في (غشَاوَةٌ) فيه إشارة إلى أنه نوع من أنواعها خاص بهم أساسه التعالييعلى الحق.
________
(١) كما في الكشاف/ ج ا/ ١٥٥، وفي لسان الرب: النَّقْخُ كسر الرأس عن الدماغ، والنُّقاخ: الماء العذب البارد الذي ينقخ العطش أي يكسره ببرده.
* * *
هذا تحليل لغوي كتبه الزمخشري ونقلناه، والذي نخرج منه أن العذاب نكال وإيلام فادح لمنع المعاودة، وأنه يلتقي مع العذاب، فسبحان الله يجعل من العذب الذي ينقع العطش عذابًا يمنع الجريمة.
وقوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، أي أنهم يستحقون استحقاق اختصاص ومِلْك، عذابا عظيما، كبيرا ليس بصغير، جزاء ما كان من تشويه فطرتهم، والطمس على قلوبهم، عذابا كبيرا، لَا يكتنه كنهه، ولا يعرف قدره.
وفي الحقيقة، إنهم ينالهم عقابان: أحدهما - ما فسدت به طبائعهم وتشوهت به مداركهم، فإن نزول الإنسان عن مرتبة الإنسان إلى ما دونه من مرتبة الحيوان والخنازير والقردة الذين ينزون إلى الشهوات نزوًا هو في ذاته عقوبة مستمدة من ذواتهم.
العقوبة الثانية أن لهم عذابا عظيما يوم القيامة. والتنكير في (غشَاوَةٌ) فيه إشارة إلى أنه نوع من أنواعها خاص بهم أساسه التعالييعلى الحق.
________
(١) كما في الكشاف/ ج ا/ ١٥٥، وفي لسان الرب: النَّقْخُ كسر الرأس عن الدماغ، والنُّقاخ: الماء العذب البارد الذي ينقخ العطش أي يكسره ببرده.
* * *
120
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)
* * *
بعد أن بين سبحانه وتعالى حال المتقين ثم حال الكافرين ومآلهم، بين الله سبحانه وتعالى حال الحائرين بين الحق والباطل، وبين العداوة وإظهار المودة، وهم المنافقون. وقد ذكرهم سبحانه وتعالت كلماته في ثلاث عشرة آية، لتنوع أعمالهم، وتغير أحوالهم، بسبب حيرتهم، ونفاقهم، وأوهامهم المضلة.
ابتدأ سبحانه وتعالى بيان حالهم. يقول تعالى عنهم:
* * *
بعد أن بين سبحانه وتعالى حال المتقين ثم حال الكافرين ومآلهم، بين الله سبحانه وتعالى حال الحائرين بين الحق والباطل، وبين العداوة وإظهار المودة، وهم المنافقون. وقد ذكرهم سبحانه وتعالت كلماته في ثلاث عشرة آية، لتنوع أعمالهم، وتغير أحوالهم، بسبب حيرتهم، ونفاقهم، وأوهامهم المضلة.
ابتدأ سبحانه وتعالى بيان حالهم. يقول تعالى عنهم:
121
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) نقل سبحانه وتعالى قولهم بقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقول آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ).
الناس أصلها الأناس، ويعبر بالناس في هذا بأنهم ليس لهم من الصفات إلا الوصف الآدمي الأصلي وهو أنهم ناس من الناس، فلا يقال متقون، ولا يقال مؤمنون، ويقال كافرون فقط؛ لأن لهم لونا اختصوا به، وهو أنهم كافرون، أما هؤلاء المنافقون، فإنهم حائرون، فلا يعبر عنهم إلا بأنهم ناس، لَا دين لهم ولا خُلق، وليس معنى ذلك أنهم خيرٌ حالا من الكافرين، بل هم أشد كفرا، وأبعد إيغالا في الشر، وأكثر فسادا، وإذا كان في الكافر وضوح، فهو يعلنه، فأولئك كافرون يُبهمون ويجبنون، ولا يصارحون.
ولم يذكرهم الله تعالى في الذين لَا يجدي فيهم إنذار نذير، وأن الله تعالى ختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة، لم يذكرهم الله في
الناس أصلها الأناس، ويعبر بالناس في هذا بأنهم ليس لهم من الصفات إلا الوصف الآدمي الأصلي وهو أنهم ناس من الناس، فلا يقال متقون، ولا يقال مؤمنون، ويقال كافرون فقط؛ لأن لهم لونا اختصوا به، وهو أنهم كافرون، أما هؤلاء المنافقون، فإنهم حائرون، فلا يعبر عنهم إلا بأنهم ناس، لَا دين لهم ولا خُلق، وليس معنى ذلك أنهم خيرٌ حالا من الكافرين، بل هم أشد كفرا، وأبعد إيغالا في الشر، وأكثر فسادا، وإذا كان في الكافر وضوح، فهو يعلنه، فأولئك كافرون يُبهمون ويجبنون، ولا يصارحون.
ولم يذكرهم الله تعالى في الذين لَا يجدي فيهم إنذار نذير، وأن الله تعالى ختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة، لم يذكرهم الله في
121
أولئك، وإن كانوا داخلين فيهم؛ لأنهم جمعوا مع هذه الأوصاف أوصافا أخرى، فكانوا أشد عند الله مقتا، وأبعد في الفساد والأذى، ذلك أنهم زادوا المراءاة والاستهزاء بالمؤمنين، وبث روح الفشل فيهم، وموهوا، وعادوهم أشد من عداء الآخرين، وحاربوا في العقيدة والفساد بأشد مما حاربوا فكانوا يحاربون بالعداوة يُسرونها فتكون أفعل وبإشاعة التردد وبث روح الهزيمة عند الإقدام، وبإشاعة المآثم والمفاسد في الذين آمنوا.
هنا يسأل سائل: كيف يُنفَى عنهم وصف الإيمان، وقد كانوا يعرفون النبي - ﷺ - كما يعرفون أبناءهم، كما قال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ...)، وأنهم كانوا يستفتحون على المشركين بنبي جاء أوانه، وأدركهم زمانه. كما قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ منْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لمَا مَعَهُمْ وَكانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ...).
وإذا كانوا كذلك فهم يعرفون النبي! فكيف يكون قولهم آمنا بالله وباليوم الآخر، ليس فيه إيمان، ومنفي بقوله تعالى: (وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ)؟ ونقول في الجواب عن ذلك: إن الإيمان ليس هو المعرفة المجردة، إنما هو التصديق والإذعان والتسليم، وهؤلاء مع معرفتهم الحق في عهد النبي - ﷺ - وكانوا من اليهود، فلم يذعنوا ولم يسلموا، ولم تصل المعرفة إلى تصديق؛ ولذلك نفَى الله سبحانه وتعالى الإيمان عنهم بقوله تعالى: (وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) أي ليسوا مؤمنين. واليوم الآخر وهو يوم القيامة، وما يجري فيه من حساب ثم ثواب أو عقاب.
فالله سبحانه وتعالى أكد نفي إيمانهم بالجملة الاسمية، أي أنه سبحانه نفَى الإيمان وأصله عن ذواتهم، كما أكدوا هم في نفاقهم الإيمان بالله، وباليوم الآخر، بتكرار الباء في بالله وباليوم الآخر.
هنا يسأل سائل: كيف يُنفَى عنهم وصف الإيمان، وقد كانوا يعرفون النبي - ﷺ - كما يعرفون أبناءهم، كما قال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ...)، وأنهم كانوا يستفتحون على المشركين بنبي جاء أوانه، وأدركهم زمانه. كما قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ منْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لمَا مَعَهُمْ وَكانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ...).
وإذا كانوا كذلك فهم يعرفون النبي! فكيف يكون قولهم آمنا بالله وباليوم الآخر، ليس فيه إيمان، ومنفي بقوله تعالى: (وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ)؟ ونقول في الجواب عن ذلك: إن الإيمان ليس هو المعرفة المجردة، إنما هو التصديق والإذعان والتسليم، وهؤلاء مع معرفتهم الحق في عهد النبي - ﷺ - وكانوا من اليهود، فلم يذعنوا ولم يسلموا، ولم تصل المعرفة إلى تصديق؛ ولذلك نفَى الله سبحانه وتعالى الإيمان عنهم بقوله تعالى: (وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) أي ليسوا مؤمنين. واليوم الآخر وهو يوم القيامة، وما يجري فيه من حساب ثم ثواب أو عقاب.
فالله سبحانه وتعالى أكد نفي إيمانهم بالجملة الاسمية، أي أنه سبحانه نفَى الإيمان وأصله عن ذواتهم، كما أكدوا هم في نفاقهم الإيمان بالله، وباليوم الآخر، بتكرار الباء في بالله وباليوم الآخر.
122
وهنا إشارة بيانية إلى أن المنافقين ليس من شأنهم الإيمان بشيء؛ لأن الإيمان بشيء من الأشياء يقتضي الإذعان والتصديق والتسليم، والعمل بموجب الاعتقاد والاستجابة، والمنافق قلبه غير مستقر، ولا مطمئن إلى شيء، هو قلب خاوٍ، والحقائق تتردد فلا تسكن، ولا تدفع إلى عمل ولا اطمئان، فلا يؤمن بشيء، ولقد قال - ﷺ -: " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين، لَا تدري إلى أيهما تذهب " (١)، وقال تعالى في وصفهم: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلا إِلَى هَؤُلَاءِ...)، ومهما تكن حالهم فهم أشد الكفر عنادا وعنتا وخبثًا ومقتا عند الله ورسوله، وعند الناس أجمعين. ولقد يبلغ النفاق أن يغلب على نفوسهم، فيظنون أنهم يخادعون الله، ويحسبون أنه ليس عليما بخفايا نفوسهم؛ ولذلك قال:
________
(١) سبق تخريجه.
________
(١) سبق تخريجه.
123
(يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) الخدع: أن يظهر الشخص أنه يريد أمرا ليخفي إرادته الحقيقية، ومقصده، ومن ذلك ضَبّ خادع إذا أخفى نفسه في جحره، وقد أراد أن يضلل من يراقبه، فأظهر الخروج من باب ويختفي في غيره.
وكذلك حال أولئك المنافقين أرادوا أن يظهروا الإيمان أو أظهروه، وهم يبطنون الكفر، ولا يريدون غيره، بل يريدون تضليل المؤمنين، كحال ذلك الضب الخادع الذي يوهم مراقبه أنه خارج من ناحية ليختفي في ناحية أخرى، فالنص الكريم تصوير لحالهم في فعلهم من إظهار الإيمان لأهل الإيمان، وإبطانهم الكفر، وتبادل كلماته فيما بينهم كما قال تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْفُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)، وفي آية أخرى: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئونَ).
وكذلك حال أولئك المنافقين أرادوا أن يظهروا الإيمان أو أظهروه، وهم يبطنون الكفر، ولا يريدون غيره، بل يريدون تضليل المؤمنين، كحال ذلك الضب الخادع الذي يوهم مراقبه أنه خارج من ناحية ليختفي في ناحية أخرى، فالنص الكريم تصوير لحالهم في فعلهم من إظهار الإيمان لأهل الإيمان، وإبطانهم الكفر، وتبادل كلماته فيما بينهم كما قال تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْفُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)، وفي آية أخرى: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئونَ).
123
فالآية الكريمة وصف لحالهم (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) فهي وصف لحالهم وما يرتكبون، فعملهم عمل المخادع الذي يخادع الله والذين آمنوا بأن يوهمهم ويخادعهم فيظهر الإيمان ويبطن الكفر والعداوة وتربص الدوائر، ويحسب أنه يخادع الله ورسوله والمؤمنين. والمخادعة مفاعلة بين اثنين كلاهما يريد خدع صاحبه، والمفاعلة بين أولئك المنافقين من جانب والله ورسوله من جانب آخر، وكيف يخادعون الله، وهو علام الغيوب الذي لَا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض؟ وكيف يخادعهم الله تعالى وهم في قبضته، وكل من في السماوات والأرض في قبضته يوم القيامة؟ وقد أجاب الزمخشري عن ذلك فقرر أن الله تعالى يعاملهم معاملة المؤمنين، فيتزوجون، ويرثون، ويعاملهم كأنهم المؤمنون الصادقون في الإيمان، فهم يخادعون بإظهار ما لَا يبطنون، والله تعالى يعاملهم بما يظهرون، ولا يعاملهم بما يبطنون، أو يقال إن المعنى أنهم ينزلون بالمؤمنين ما يحسبونه مخادعة لهم، وإيهامهم بأنهم آمنوا، وما هم بمؤمنين، أو يقال إن المخادعة للنبي - ﷺ - ومن معه، وهم يعاملونهم معاملة المخادع لهم، وإن كان النبي - ﷺ - يعلم من لحن قولهم خفيَّ أمرهم كما قال تعالى: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ...).
والمعنى في الجملة بعد أن خرَّجنا المخادعة تلك التخريجات المختلفة أنهم يظهرون ما لَا يبطنون محاولين أن ينزلوا بالمؤمنين ما تكون كالمخادعة، وقرر ذلك الراغب الأصفهاني في المفردات فذكر أن الخداع للرسول - ﷺ - وأوليائه من المؤمنين، وفى التعبير عن ذلك بخداع الله تعالى إشارة إلى أن الذين يخادعون النبي إنما يخادعون الله تعالى، وأن الله تعالى كاشف أمرهم لنبيه - ﷺ - وأنهم إذ يضارونه، ويخفون عليه أمورهم، يبطنون عنه سبحانه وتعالى ما لَا يبدون وهو من ورائهم محيط.
والمعنى في الجملة بعد أن خرَّجنا المخادعة تلك التخريجات المختلفة أنهم يظهرون ما لَا يبطنون محاولين أن ينزلوا بالمؤمنين ما تكون كالمخادعة، وقرر ذلك الراغب الأصفهاني في المفردات فذكر أن الخداع للرسول - ﷺ - وأوليائه من المؤمنين، وفى التعبير عن ذلك بخداع الله تعالى إشارة إلى أن الذين يخادعون النبي إنما يخادعون الله تعالى، وأن الله تعالى كاشف أمرهم لنبيه - ﷺ - وأنهم إذ يضارونه، ويخفون عليه أمورهم، يبطنون عنه سبحانه وتعالى ما لَا يبدون وهو من ورائهم محيط.
124
وإنهم إذ يخادعون المؤمنين بإظهارهم الإيمان، وإبطانهم الكفر، إنما يخدعون أنفسهم، بأن يظهروا لغيرهم الإيمان وأمرهم مكشوف غير مستور، وحالهم معروف، وكفرهم يبدو في لحن أقوالهم، فهم يحسبون أنهم يخفون على غيرهم أمرهم، وهو معروف لغيرهم، فهم المخدوعون أنفسهم؛ ولذلك قال تعالى: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرونَ)، أي أنهم يحاولون أن يخدعوا غيرهم فيظنوا أنهم ستروا كفرهم وهو مكشوف لمن يخدعونهم، وأن المؤمنين يعاملونهم بما يظهرون حتى يكون يوم الدين، فهم المخدوعون؛ لأنهم يعاملون كأنهم مسلمون حتى ينكشف أمرهم، ولكنهم لَا يشعرون، أي لَا يحسون بأنهم مخدوعون مغرورون وأمرهم بيِّن. والله من ورائهم محيط.
وإن في ذلك القول الحكيم تصويرا دقيقا لحال المنافقين، إذ إنهم لفرط ضلال نفوسهم، وفقدهم الإيمان تفسد مداركهم، وتضل أفهامهم، فيحسبون أمرهم خفيا على غيرهم وما هو بخفي، وتأخذهم عزة النفاق، فلا يدركون ويستمرئون كذبهم ونفاقهم، حتى يغتروا فيحيط بهم الضلال وهم لَا يشعرون،
وإن في ذلك القول الحكيم تصويرا دقيقا لحال المنافقين، إذ إنهم لفرط ضلال نفوسهم، وفقدهم الإيمان تفسد مداركهم، وتضل أفهامهم، فيحسبون أمرهم خفيا على غيرهم وما هو بخفي، وتأخذهم عزة النفاق، فلا يدركون ويستمرئون كذبهم ونفاقهم، حتى يغتروا فيحيط بهم الضلال وهم لَا يشعرون،
125
(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)
الآفات الاجتماعية والنفسية أمراض تصاب بها النفس الإنسانية، وهو ضعف يرد إلى النفوس، وأفحش هذه الأمراض النفاق، فهو ضعف يصيب النفوس يبتدئ من أحقر الأفراد إلى أن يصل إلى أعلاها، ولا يظن أن النفاق يكون فقط لجلب نفع آثم، أو لدفع ضرر جاثم، بل هو ضعف نفسي يحيط بالإنسان ويتغلغل في نفسه، وإطلاق كلمة (مَّرَضٌ) هنا، يصح أن يكون من قبل الحقيق؛ لأن المرض هو ما يؤذي النفس، ويلقى بها في الضعف، وليس ذلك مقصورا على المرض الذي يصيب الجسم بل هو يشمل ما يصيبه في أعصابه، كالجنون الذي يستر العقل، وكالعَتَه الذي يمنع الإدراك، وكالسفه الذي لَا يدري النفع من الضرر، فهذه كلها أمراض، وتعد
الآفات الاجتماعية والنفسية أمراض تصاب بها النفس الإنسانية، وهو ضعف يرد إلى النفوس، وأفحش هذه الأمراض النفاق، فهو ضعف يصيب النفوس يبتدئ من أحقر الأفراد إلى أن يصل إلى أعلاها، ولا يظن أن النفاق يكون فقط لجلب نفع آثم، أو لدفع ضرر جاثم، بل هو ضعف نفسي يحيط بالإنسان ويتغلغل في نفسه، وإطلاق كلمة (مَّرَضٌ) هنا، يصح أن يكون من قبل الحقيق؛ لأن المرض هو ما يؤذي النفس، ويلقى بها في الضعف، وليس ذلك مقصورا على المرض الذي يصيب الجسم بل هو يشمل ما يصيبه في أعصابه، كالجنون الذي يستر العقل، وكالعَتَه الذي يمنع الإدراك، وكالسفه الذي لَا يدري النفع من الضرر، فهذه كلها أمراض، وتعد
125
فى اللغة أمراضا، كذلك مرض النفاق الذي يصيب النفوس بالوهن والحيرة، والحقد والبغض لخير الناس، وأن يكون صاحب هذا المرض غير مستقر بل هو في بلبال مستمر، تزداد حاله كلما تمكن فيه هذا الداء، وهو ساكن في النفس لَا تخرج مظاهره، وكلما استتر واستكن ازداد قوة وإيغالاً في النفس حتى يصعب علاجه، فإذا كان الكذب المجرد قد يعالج، فالنفاق مرض لَا علاج له.
وكان يراد المجاز بتشبيه النفاق بالمرض العضال الذي لَا يشفى، ومرض النفاق فساد القلب، وقد صور ذلك الزمخشري في قوله: والمجاز أن يستعار لبعض أعراض القلب كسوء الاعتقاد، والغل والحسد، والميل إلى المعاصي والعزم عليها والبغضاء، لأن صدورهم كانت تغلي على رسول الله - ﷺ - والمؤمنين، غلا وحنقا، ويبغضونهم البغضاء التي وصفها الله تعالى في قوله: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صدُورهُمْ أَكْبَرُ...).
ومن التفسير المأثور أن المرض هو النفاق، وهو مرض إذا أصاب القلب فقد الإيمان بأي شيء من شئون الأخلاق أو الاتصال بالناس، فإنه يصبح في غربة عن أهل الحق وأهل العرفة، والاتصال بهم، فيكون في جو معتم، تسوده الكآبة ولا يظله نور الحق، وذلك شر ما يقع فيه الإنسان.
وإن المنافق إذا أوغل في قلبه النفاق انتقل به من دركة إلى دركة أسفل منها، فيزيد خسرانا بإيغاله. كالسائر في متاهة، كلما أوغل فيها ازداد ضلالا وبعدًا عن الطريق الجدد، حيث الأعلام (١). وهذا معنى: (فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) أي أنهم بسيرهم في هذا الطريق الضال يزدادون إيغالا فيه، فيزيد مرضهم بتقدير الله تعالى؛ لأنهم قد أوغلوا مختارين فيه.
________
(١) مفرد عَلَم: شيء منصوب في الطريق يهتدي به. [الوسيط ع ل م].
وكان يراد المجاز بتشبيه النفاق بالمرض العضال الذي لَا يشفى، ومرض النفاق فساد القلب، وقد صور ذلك الزمخشري في قوله: والمجاز أن يستعار لبعض أعراض القلب كسوء الاعتقاد، والغل والحسد، والميل إلى المعاصي والعزم عليها والبغضاء، لأن صدورهم كانت تغلي على رسول الله - ﷺ - والمؤمنين، غلا وحنقا، ويبغضونهم البغضاء التي وصفها الله تعالى في قوله: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صدُورهُمْ أَكْبَرُ...).
ومن التفسير المأثور أن المرض هو النفاق، وهو مرض إذا أصاب القلب فقد الإيمان بأي شيء من شئون الأخلاق أو الاتصال بالناس، فإنه يصبح في غربة عن أهل الحق وأهل العرفة، والاتصال بهم، فيكون في جو معتم، تسوده الكآبة ولا يظله نور الحق، وذلك شر ما يقع فيه الإنسان.
وإن المنافق إذا أوغل في قلبه النفاق انتقل به من دركة إلى دركة أسفل منها، فيزيد خسرانا بإيغاله. كالسائر في متاهة، كلما أوغل فيها ازداد ضلالا وبعدًا عن الطريق الجدد، حيث الأعلام (١). وهذا معنى: (فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) أي أنهم بسيرهم في هذا الطريق الضال يزدادون إيغالا فيه، فيزيد مرضهم بتقدير الله تعالى؛ لأنهم قد أوغلوا مختارين فيه.
________
(١) مفرد عَلَم: شيء منصوب في الطريق يهتدي به. [الوسيط ع ل م].
126
وهكذا كل المعاصي والذنوب التي هي أمراض القلب، من اختارها، فقد اختار الضلالة كلما سار فيها ازداد بعدا عن الحق وعن الطريق القويم فيوغل في المعاصي، لَا يعود ولا يتوب.
وقد بين الله تعالى عاقبتهم، فقال: (وَلَهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي عذاب مؤلم شديد، فأليم هنا بمعنى مؤلم، يصيب أجسادهم يوم القيامة كقوله تعالى: (بَدِيع السمَاوَاتِ وَالأرْضِ...)، أي مبدع السماوات والأرض يعني منشئها على غير مثال سبق، فيكون لهم جزاءان أحدهما دنيوي، وهو متولد من النفاق نفسه إذ يكونون في اضطراب لايستقرون على قرار، ولا يطمئنون؛ إذ الغل والحقد والحسد يقتل نفوسهم قتلا، ويستمرون على ذلك، حتى يكون هذا مرضًا خبيثًا يسكن نفوسهم، حتى ينغص عليهم كل حياتهم، وتكون كل نعمة تنزل بأهل الإيمان والحق نقمة عليهم.
الجزاء الثاني هو العذاب الشديد المؤلم الذي ينالهم يوم القيامة، وهو ينتظرهم، وهم واردون عليه بلا ريب، ولقد بين الله سبحانه وتعالى سبب ذلك العذاب الذي هو الجزاء الثاني فقال تعالت كلماته: (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) فالباء هنا باء السببية، أي بسبب الكذب المستمر الذي كانوا يقومون به، فـ " كانوا " هنا دالة على الاستقرار والدوام، كما في قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)، وكما في قوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهولًا).
فمعنى (بِمَا كَانوا يَكْذِبُونَ)، بسبب كذبهم المستمر الذي لَا ينقطع، وقد اتصفوا بالكذب:
(١) فكذبوا على أنفسهم، فكلما بدا لهم ضوء الحق طمسوه، وغروها الغرور، وخدعوها بأنهم أهل الحق، وموهوا عليها، كما موهوا على الناس، فصارت في عماء، وغلبت عليها شقوتها.
(٢) وكذبوا على الرسول وأصحابه، وقالوا آمنا بالحق وباليوم الآخر.
وقد بين الله تعالى عاقبتهم، فقال: (وَلَهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي عذاب مؤلم شديد، فأليم هنا بمعنى مؤلم، يصيب أجسادهم يوم القيامة كقوله تعالى: (بَدِيع السمَاوَاتِ وَالأرْضِ...)، أي مبدع السماوات والأرض يعني منشئها على غير مثال سبق، فيكون لهم جزاءان أحدهما دنيوي، وهو متولد من النفاق نفسه إذ يكونون في اضطراب لايستقرون على قرار، ولا يطمئنون؛ إذ الغل والحقد والحسد يقتل نفوسهم قتلا، ويستمرون على ذلك، حتى يكون هذا مرضًا خبيثًا يسكن نفوسهم، حتى ينغص عليهم كل حياتهم، وتكون كل نعمة تنزل بأهل الإيمان والحق نقمة عليهم.
الجزاء الثاني هو العذاب الشديد المؤلم الذي ينالهم يوم القيامة، وهو ينتظرهم، وهم واردون عليه بلا ريب، ولقد بين الله سبحانه وتعالى سبب ذلك العذاب الذي هو الجزاء الثاني فقال تعالت كلماته: (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) فالباء هنا باء السببية، أي بسبب الكذب المستمر الذي كانوا يقومون به، فـ " كانوا " هنا دالة على الاستقرار والدوام، كما في قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)، وكما في قوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهولًا).
فمعنى (بِمَا كَانوا يَكْذِبُونَ)، بسبب كذبهم المستمر الذي لَا ينقطع، وقد اتصفوا بالكذب:
(١) فكذبوا على أنفسهم، فكلما بدا لهم ضوء الحق طمسوه، وغروها الغرور، وخدعوها بأنهم أهل الحق، وموهوا عليها، كما موهوا على الناس، فصارت في عماء، وغلبت عليها شقوتها.
(٢) وكذبوا على الرسول وأصحابه، وقالوا آمنا بالحق وباليوم الآخر.
127
(٣) وكانوا لَا يصدقون في حديث مع الناس، ولقد قال النبي - ﷺ - في وصف المنافق: " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان " (١).
* * *
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥)
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى أوصاف المنافقين النفسية التي استغرقت نفوسهم، وصارت مرضا ملازما لهم كالمرض الجسمي العُقَام الذي لَا يزايل المريض حتى يقضى عليه، وفي هذه الآيات يبين الله تعالى أحوالهم في معاملة المؤمنين، فذكر سبحانه أنهم يفسدون في الأرض ويزعمون لطغوانهم (٢) أنهم يصلحونها، وأنهم فوق الناس، ويمارون في القول، ويظهرون للمؤمنين بوجه ولغيرهم من إخوانهم بوجه آخر حين يلقونهم، يحسبون أنهم يستهزئون بالمؤمنين.
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: كتاب الإيمان - باب: علامة المنافق (٣٢)، ومسلم: كتاب الإيمان - باب خصال المنافق (٨٩) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) الطغوان: لغة في الطغيان من طغى: إذا جاوز القدر وارتفع وغلا في الكفر. [لسان العرب - باب الطاء - ط غ ى].
* * *
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥)
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى أوصاف المنافقين النفسية التي استغرقت نفوسهم، وصارت مرضا ملازما لهم كالمرض الجسمي العُقَام الذي لَا يزايل المريض حتى يقضى عليه، وفي هذه الآيات يبين الله تعالى أحوالهم في معاملة المؤمنين، فذكر سبحانه أنهم يفسدون في الأرض ويزعمون لطغوانهم (٢) أنهم يصلحونها، وأنهم فوق الناس، ويمارون في القول، ويظهرون للمؤمنين بوجه ولغيرهم من إخوانهم بوجه آخر حين يلقونهم، يحسبون أنهم يستهزئون بالمؤمنين.
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: كتاب الإيمان - باب: علامة المنافق (٣٢)، ومسلم: كتاب الإيمان - باب خصال المنافق (٨٩) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) الطغوان: لغة في الطغيان من طغى: إذا جاوز القدر وارتفع وغلا في الكفر. [لسان العرب - باب الطاء - ط غ ى].
128
ولقد كان المنافقون يفسدون في الأرض بين الناس، والفساد في الأشياء أن تخرج عما خلقت له إلى ما يضر، والصلاح استقامتها حتى تكون في دائرة النفع الإنساني العام، والمنافقون في عصر النبي - ﷺ - وفيما بعده من العصور شأنهم الفساد، ومن كانوا في عصر النبي - ﷺ - قد وضح فسادهم، واستشرى شرهم، فهم قد كفروا بالحق إذ جاءهم، وأنكروا كتاب الله تعالى ورسوله الأمين، وقد عرفوه، ومشوا بالنميمة والسعاية بين الناس، وكلما أطفأ الله نارًا للحرب أوقدوها، ومالئوا المشركين على المؤمنين، وإذا خرج المؤمنون للقتال عملوا على أن يهموا بالفشل، يعرفون ضعفاء المسلمين ويغرونهم بالتخلف، يبتغون الفتنة بين المؤمنين ويقلبون الأمور لإثارتها، كما قال تعالى: (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ).
ولقد قال ابن جرير في تفسيره في بيان إفسادهم: أهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دينه الذي لَا يُقبل من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته، وكذبهم على المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه، مقيمون على الشك والريب، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا، فذلك إفساد المنافقين في الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها، فهم يحرضون المشركين على المؤمنين، ويتفقون معهم، ويدلون على عورات المؤمنين، ومَقَاتِلهم، وهكذا.
ويسأل سائل: لماذا قال سبحانه وتعالى: (فِي الأَرْضِ)؟ ونقول: إن ذلك لبيان عموم فسادهم، وأنه يتناول المدينة وما حولها. وأن الأرض موطن فسادهم، يثيرون الحروب فيها، ويشيعون الشر في ربوعها.
وقوله تعالى:
ولقد قال ابن جرير في تفسيره في بيان إفسادهم: أهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دينه الذي لَا يُقبل من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته، وكذبهم على المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه، مقيمون على الشك والريب، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا، فذلك إفساد المنافقين في الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها، فهم يحرضون المشركين على المؤمنين، ويتفقون معهم، ويدلون على عورات المؤمنين، ومَقَاتِلهم، وهكذا.
ويسأل سائل: لماذا قال سبحانه وتعالى: (فِي الأَرْضِ)؟ ونقول: إن ذلك لبيان عموم فسادهم، وأنه يتناول المدينة وما حولها. وأن الأرض موطن فسادهم، يثيرون الحروب فيها، ويشيعون الشر في ربوعها.
وقوله تعالى:
129
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ) مع البناء للمجهول للإشارة إلى عموم شرهم، وأن الناس جميعا يتساءلون: لماذا كان ذلك الفساد؟ وأي مأرب لهم فيه؟،
129
ولسان الخير يقول لهم: الا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ) فهم في حال من الإفساد، يستنكرها كل إنسان، ولايرتضيه رجل للأخلاق عنده مكانة، وللخير عنده منزع، فتجهيل اللائم لهم بقوله: (وَإِذَا قيل) لعموم المستنكرين لحالهم، وأنهم في وادٍ والناس في واد آخر، فلا تجد أحدا يوالي منافقا إلا إذا كان على شاكلته.
وإن أشد فساد الفاسد أن يغتر بحاله، ويزعم أنه ليس بفاسد، فهو معكوس النفس مركوس، قد انقلبت الحقائق في عقله، فلا يعرف الخير من الشر، ولا الفساد من الصلاح، وهكذا المنافقون تنكس عليهم الأمور، فجميعها منكوس.
ولذلك يرد المنافقون قول من يستنكر فسادهم بما حكاه الله تعالى عن نفوسهم: (قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي قصروا نفوسهم على الإصلاح، وذلك أن " إنما " تدل على القصر أي قصرهم على الصلاح لَا يكون منهم فساد قط، وذلك أعظم الغرور وأشد الفساد، فكل ما يفعلون مما ذكرنا وما لم نذكر يعدونه إصلاحا، ولا يعدونه فسادا، وهكذا زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا، وذلك الغرور لَا يكون إلا ممن أحاطت به خطيئته، فأصبح لَا يرى إلا ما يكون في دائرتها، وقد سدت عنه كل منافذ الخير.
وقد حكم الله تعالى عليهم ذلك الحكم القاطع مؤكدا له أفضل توكيد بقوله تعالى:
وإن أشد فساد الفاسد أن يغتر بحاله، ويزعم أنه ليس بفاسد، فهو معكوس النفس مركوس، قد انقلبت الحقائق في عقله، فلا يعرف الخير من الشر، ولا الفساد من الصلاح، وهكذا المنافقون تنكس عليهم الأمور، فجميعها منكوس.
ولذلك يرد المنافقون قول من يستنكر فسادهم بما حكاه الله تعالى عن نفوسهم: (قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي قصروا نفوسهم على الإصلاح، وذلك أن " إنما " تدل على القصر أي قصرهم على الصلاح لَا يكون منهم فساد قط، وذلك أعظم الغرور وأشد الفساد، فكل ما يفعلون مما ذكرنا وما لم نذكر يعدونه إصلاحا، ولا يعدونه فسادا، وهكذا زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا، وذلك الغرور لَا يكون إلا ممن أحاطت به خطيئته، فأصبح لَا يرى إلا ما يكون في دائرتها، وقد سدت عنه كل منافذ الخير.
وقد حكم الله تعالى عليهم ذلك الحكم القاطع مؤكدا له أفضل توكيد بقوله تعالى:
130
(أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (١٢)
فالله تعالى يحكم عليهم بأن الفساد يستغرقهم وأنهم مقصورون عليه، وقد أكد الله سبحانه وتعالى ذلك الحكم بعدة مؤكدات:
أولها: التعبير بـ " ألا؛ لأن لَا نافية دخلت عليها همزة الاستفهام الدالة على التنبيه والنفي، فهي نفي مؤكَدٌ لصلاحهم، وتأكيد لفسادهم.
وثانيها: التأكيد بـ " إن " المؤكدة لفسادهم.
فالله تعالى يحكم عليهم بأن الفساد يستغرقهم وأنهم مقصورون عليه، وقد أكد الله سبحانه وتعالى ذلك الحكم بعدة مؤكدات:
أولها: التعبير بـ " ألا؛ لأن لَا نافية دخلت عليها همزة الاستفهام الدالة على التنبيه والنفي، فهي نفي مؤكَدٌ لصلاحهم، وتأكيد لفسادهم.
وثانيها: التأكيد بـ " إن " المؤكدة لفسادهم.
130
الثالثة: ضمير الفصل، وهو " هم ".
الرابعة - تعريف الطرفين (١) وهو دال على القصر، أي أنهم مقصورون على الفساد، لَا يتجاوزونه، وهو محيط بهم إحاطة الدائرة بقطرها، فهم يسارعون فيه، ولا يخرجون عنه.
ومع هذه الحال، وهذا الحكم المؤكد (لا يَشْعُرُونَ)، والشعور هو الإحساس الجسدي والنفسي والعقلي بخطأ ما يفعلون، فالشر قد استغرقهم، حتى أصبحوا لا يدركون بعقلهم الذي غمره الفساد ولا بنفوسهم الأمارة بالسوء، ولا بإحساسهم الذي آفته آفة الشر.
وإذا كان فسادهم قد ذاع وشاع فسببه أنهم جعلوا أنفسهم في حيز فكري ونفسي وأهل الإيمان في حيز غيره، وشأن المنافق دائما أنه يعتقد أنه في مكانة من الفكر والتدبر، وغيره ممن يدركون الحق في سفه وحمق، فهم يريدون أن يصرفوهم عن الإيمان ليضلوهم، ويفتنوهم لولا أن يتداركهم الله برحمته، فيستنقذهم منهم.
كانوا صنفا قائما بين الناس لَا هم كفار أعلنوا كفرهم، ولا هم مؤمنون قد رضوا بالإسلام دينا، وانحازوا بحالهم التي هي أشد كفرا ومقتا عند الله وعند الناس، فكان من سنة الناس أن يسألوهم لماذا لم يؤمنوا بقلوبهم؟ ولماذا يقفون ذلك الموقف الحائر المحير. لابد أن يكونوا كفارا معلنين كفرهم، وإلا اختاروا الإيمان.
________
(١) أي: اسم إن وخبرها، وأصلهما المبتدأ والخبر؛ إذا عرّفا دل على القصر.
الرابعة - تعريف الطرفين (١) وهو دال على القصر، أي أنهم مقصورون على الفساد، لَا يتجاوزونه، وهو محيط بهم إحاطة الدائرة بقطرها، فهم يسارعون فيه، ولا يخرجون عنه.
ومع هذه الحال، وهذا الحكم المؤكد (لا يَشْعُرُونَ)، والشعور هو الإحساس الجسدي والنفسي والعقلي بخطأ ما يفعلون، فالشر قد استغرقهم، حتى أصبحوا لا يدركون بعقلهم الذي غمره الفساد ولا بنفوسهم الأمارة بالسوء، ولا بإحساسهم الذي آفته آفة الشر.
وإذا كان فسادهم قد ذاع وشاع فسببه أنهم جعلوا أنفسهم في حيز فكري ونفسي وأهل الإيمان في حيز غيره، وشأن المنافق دائما أنه يعتقد أنه في مكانة من الفكر والتدبر، وغيره ممن يدركون الحق في سفه وحمق، فهم يريدون أن يصرفوهم عن الإيمان ليضلوهم، ويفتنوهم لولا أن يتداركهم الله برحمته، فيستنقذهم منهم.
كانوا صنفا قائما بين الناس لَا هم كفار أعلنوا كفرهم، ولا هم مؤمنون قد رضوا بالإسلام دينا، وانحازوا بحالهم التي هي أشد كفرا ومقتا عند الله وعند الناس، فكان من سنة الناس أن يسألوهم لماذا لم يؤمنوا بقلوبهم؟ ولماذا يقفون ذلك الموقف الحائر المحير. لابد أن يكونوا كفارا معلنين كفرهم، وإلا اختاروا الإيمان.
________
(١) أي: اسم إن وخبرها، وأصلهما المبتدأ والخبر؛ إذا عرّفا دل على القصر.
131
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ (١٣)
بني الفعل (قِيلَ) للمجهول للإشارة إلى عموم القائلين لأن موقفهم المتردد المتذبذب بين حق خالص لاريب فيه، وباطل لَا ريب في بطلانه، فهم يعلنون الإيمان، ولم يعلنوا الكفر، وإن كانت حالهم أشد الكفر وأمقته، كان هذا السؤال يتردد في كل القلوب،
بني الفعل (قِيلَ) للمجهول للإشارة إلى عموم القائلين لأن موقفهم المتردد المتذبذب بين حق خالص لاريب فيه، وباطل لَا ريب في بطلانه، فهم يعلنون الإيمان، ولم يعلنوا الكفر، وإن كانت حالهم أشد الكفر وأمقته، كان هذا السؤال يتردد في كل القلوب،
131
ويتساءل عنه كل أهل العقل والمنطق، ولذلك كان التعميم في (وَإِذَا قِيلَ لَهمْ) قال المخلصون: آمنوا أي صدقوا واعتقدوا الوحدانية، وأن تؤمنوا بالله ورسوله والملائكة والرسل جميعا، (كَمَا آمَنَ النَّاسُ)، و " أل " في الناس للعهد أي الناس العهودين المعروفين، وهم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه المجاهدون الذين أخلصوا دينهم لله.
وعبر عنهم بالناس إشارة إلى أنهم الناس حقا وصدقا الذين بلغوا أعلى درجات الإنسانية بإيمانهم وطهارة نفوسهم، وعظم مداركهم، وإذعانهم للحق إذ دعوا إليه.
ولكن مع جلال ما آمنوا به، وصدقه، استعلى المنافقون بالباطل، وكذلك شأن المنافق يظن أن ما هو عليه من نفاق ومراء هو عين العقل، وما عليه غيره هو عين السفه.
قالوا مستنكرين ما قيل ويقال لهم: (أَنُؤْمِنُ كمَا آمَنَ السّفَهَاءُ) والسفهاء جمع " سفيه "، وهو الأحمق الذي لَا يتخير الأمور، ولا يتعرف أحسنها فيتبعه، وقد ظن المنافقون أنهم أهل الحكمة، فقالوا: (أَنُؤْمِن كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) وهم في زعمهم محمد وأصحابه، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي: لَا نؤمن، ولا نصدق برسالة محمد إلى الخلق، كما صدق محمد وأتباعه، ومن ساروا على منهاجه، وكذلك زين لهم تفكيرهم الفاسد، وغرهم ما كانوا يفترون، ويكذبون به، وتكرر كذبهم، حتى ظنوها الأعلى، وهو الدرك الأسفل، ولقد حكم الله تعالى، وهو الحكم العدل، وهو خير الفاصلين، فقال تعالت كلماته: (أَلا إِنَّهُمْ هُم السُّفَهَاءُ) يقرر الله تعالى الحكم عليهم بالسفه، وجعلهم مقصورين عليه يدورون في إطاره ويسارعون فيه، فهم يخرجون من سفه إلى سفه، ويسارعون في السفاهة، ويسيرون فيها حتى يصلوا إلى الدرك الأسفل منها.
وعبر عنهم بالناس إشارة إلى أنهم الناس حقا وصدقا الذين بلغوا أعلى درجات الإنسانية بإيمانهم وطهارة نفوسهم، وعظم مداركهم، وإذعانهم للحق إذ دعوا إليه.
ولكن مع جلال ما آمنوا به، وصدقه، استعلى المنافقون بالباطل، وكذلك شأن المنافق يظن أن ما هو عليه من نفاق ومراء هو عين العقل، وما عليه غيره هو عين السفه.
قالوا مستنكرين ما قيل ويقال لهم: (أَنُؤْمِنُ كمَا آمَنَ السّفَهَاءُ) والسفهاء جمع " سفيه "، وهو الأحمق الذي لَا يتخير الأمور، ولا يتعرف أحسنها فيتبعه، وقد ظن المنافقون أنهم أهل الحكمة، فقالوا: (أَنُؤْمِن كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) وهم في زعمهم محمد وأصحابه، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي: لَا نؤمن، ولا نصدق برسالة محمد إلى الخلق، كما صدق محمد وأتباعه، ومن ساروا على منهاجه، وكذلك زين لهم تفكيرهم الفاسد، وغرهم ما كانوا يفترون، ويكذبون به، وتكرر كذبهم، حتى ظنوها الأعلى، وهو الدرك الأسفل، ولقد حكم الله تعالى، وهو الحكم العدل، وهو خير الفاصلين، فقال تعالت كلماته: (أَلا إِنَّهُمْ هُم السُّفَهَاءُ) يقرر الله تعالى الحكم عليهم بالسفه، وجعلهم مقصورين عليه يدورون في إطاره ويسارعون فيه، فهم يخرجون من سفه إلى سفه، ويسارعون في السفاهة، ويسيرون فيها حتى يصلوا إلى الدرك الأسفل منها.
132
وقد أكدت السفاهة بقوله: (أَلا) التي هي استفهام داخل على النفي، فكان تأكيدا للنفي مع التنبيه، وقد أكد أيضا بـ " إن "، وهي تجيء بعد قوله تعالى: (أَلا) كما يجيء القسم بعدها.
وأكد بضمير الفصل، في قوله تعالى: (هُمُ السُّفَهَاءُ).
وأكد القول بتعريف الطرفين الذي يفيد قصرهم على السفه، بحيث لَا يكون منهم إلا ما هو سفه، ولا يجيء منهم حكمة قط، لأن الحكمة لَا تكون إلا من قلب سليم.
(وَلَكِن لَا يَعْلَمُونَ) مقدار ما أوتوا من سفه الرأي، وما أوتي غيرهم من حكمة الإيمان، وهنا نجد أنهم عند قصرهم في النص القرآني على الفساد، قال: (وَلَكِن لَا يَشْعُرُونَ)، لأن الفساد والصلاح حسيان، فناسبهما أن يكون عنهم شعور حسي، أما حكم السفه فأمر فكري فناسبه نفي العلم لَا نفي الحس.
فذكر القرآن الكريم قياس بعض أحوال المنافقين في أنهم يدَّعون الإيمان ويبطنون الكفر، وأن النفاق والإيمان نقيضان لَا يجتمعان، والمنافق ليس من شأنه أن يؤمن بشيء، وأنهم يزعمون أنهم هم الصالحون - وهم المفسدون الفاسدون - وأنهم يحسبون أنهم بشكهم ونفاقهم في مرتبة عالية، وأن المؤمنين بالنسبة لهم ضعاف الأحلام سفهاء.
بعد ذلك بين سبحانه علاقتهم بالمؤمنين ومعاملتهم، وكيف يمارونهم، ولا يجهرون أمامهم بكفرهم، فقال تعالى:
وأكد بضمير الفصل، في قوله تعالى: (هُمُ السُّفَهَاءُ).
وأكد القول بتعريف الطرفين الذي يفيد قصرهم على السفه، بحيث لَا يكون منهم إلا ما هو سفه، ولا يجيء منهم حكمة قط، لأن الحكمة لَا تكون إلا من قلب سليم.
(وَلَكِن لَا يَعْلَمُونَ) مقدار ما أوتوا من سفه الرأي، وما أوتي غيرهم من حكمة الإيمان، وهنا نجد أنهم عند قصرهم في النص القرآني على الفساد، قال: (وَلَكِن لَا يَشْعُرُونَ)، لأن الفساد والصلاح حسيان، فناسبهما أن يكون عنهم شعور حسي، أما حكم السفه فأمر فكري فناسبه نفي العلم لَا نفي الحس.
فذكر القرآن الكريم قياس بعض أحوال المنافقين في أنهم يدَّعون الإيمان ويبطنون الكفر، وأن النفاق والإيمان نقيضان لَا يجتمعان، والمنافق ليس من شأنه أن يؤمن بشيء، وأنهم يزعمون أنهم هم الصالحون - وهم المفسدون الفاسدون - وأنهم يحسبون أنهم بشكهم ونفاقهم في مرتبة عالية، وأن المؤمنين بالنسبة لهم ضعاف الأحلام سفهاء.
بعد ذلك بين سبحانه علاقتهم بالمؤمنين ومعاملتهم، وكيف يمارونهم، ولا يجهرون أمامهم بكفرهم، فقال تعالى:
133
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤) كان أولئك المنافقون يشيعون في مجالسهم أن المؤمنين سفهاء، وأنهم هم المدركون وحدهم، العارفون بحقيقة العقائد، وأنهم الأعلون، لأن في المؤمنين موالي كصهيب وبلال وخباب وعمار وغيرهم.
133
ولكنهم " كانوا إذا لقوا كبار المؤمنين رفئوهم (١) بأحسن القول كأنهم معهم في الإيمان، بل يدخلون المسجد، كما يدخلون ليوهموهم بأنهم مؤمنون، يروى في ذلك أن عبد الله بن أبيّ وهو كبير النفاق والمنافقين خرج وصحبا له فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله - ﷺ - فقال زعيم النفاق وقد أخذ بيد أبي بكر: مرحبا بالصديق سيد بني تيم، وشيخ الإسلام وثاني رسول الله - ﷺ - في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله - ﷺ -، ثم أخذ بيد عمر، فقال: مرحبا بسيد بني عدي الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله - ﷺ -، ثم أخذ بيد علي، وقال: مرحبا بابن عم رسول الله - ﷺ - وختنه، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله.
قال هذا القول، ثم افترق وانصرف إلى الذين رأوه من أصحابه وقال لهم: كيف رأيتموني فعلت؟ فأنكروا عليه، وهم يعلمون أنه لَا يحكي بقوله ما فى نفسه، فهو معهم، وهو يسخر من المؤمنين، ويستهزئ، وذلك من إمعانه في كفره، ونفاقه، وحقده وحسده.
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) لقى معناه قاربه، أو استقبله عن قرب، أو جمعهما مكان، وقرئ (لَقُوا) من لَقِي، كما قرأ أبو حنيفة وغيره " لاقوا ". والأولى تدل على مجرد لقائهم مع أصحاب رسول الله عفوا، أو من غير إرادة، والثانية على الملاقاة بينهم والتلاقي المقصود، والآية الكريمة بالقراءتين تدل على المعنيين فهم حيثما التقوا بأصحاب رسول الله - ﷺ - سواء ألقوهم عفوا، أم لاقوهم قصدا واجتمعوا بهم قالوا لهم: آمنا، فهم يسترون كفرهم دائما، ويعلنون إيمانهم دائما
_________
(١) رفَأ فلانا: حاباه، ورفّأه: دعا له بالرفاء، والرُفاء بالكسر: المد الالتئام والاتفاق، من رفات الثوب أي أصلحته. وقيل: السكون والطمأنينة، ثم استعير للدعاء للمتزوج وإن لم يكن بهذا اللفظ. وقد نهى عن قولهم: بالرفاء والبنين، مع ما فيه من التنفير عن البنات، والتقرير لبغضهن في قلوب الرجال؛ لكونه من عادات الجاهلية. وكان يقول بدله ونعم البدل: " بارك الله لكما، وبارك عليكما وجمع بينكما في خير ". [الوسيط (رفأ) - مرقاة المصابيح ج ٣، ص ٢٦٩].
قال هذا القول، ثم افترق وانصرف إلى الذين رأوه من أصحابه وقال لهم: كيف رأيتموني فعلت؟ فأنكروا عليه، وهم يعلمون أنه لَا يحكي بقوله ما فى نفسه، فهو معهم، وهو يسخر من المؤمنين، ويستهزئ، وذلك من إمعانه في كفره، ونفاقه، وحقده وحسده.
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) لقى معناه قاربه، أو استقبله عن قرب، أو جمعهما مكان، وقرئ (لَقُوا) من لَقِي، كما قرأ أبو حنيفة وغيره " لاقوا ". والأولى تدل على مجرد لقائهم مع أصحاب رسول الله عفوا، أو من غير إرادة، والثانية على الملاقاة بينهم والتلاقي المقصود، والآية الكريمة بالقراءتين تدل على المعنيين فهم حيثما التقوا بأصحاب رسول الله - ﷺ - سواء ألقوهم عفوا، أم لاقوهم قصدا واجتمعوا بهم قالوا لهم: آمنا، فهم يسترون كفرهم دائما، ويعلنون إيمانهم دائما
_________
(١) رفَأ فلانا: حاباه، ورفّأه: دعا له بالرفاء، والرُفاء بالكسر: المد الالتئام والاتفاق، من رفات الثوب أي أصلحته. وقيل: السكون والطمأنينة، ثم استعير للدعاء للمتزوج وإن لم يكن بهذا اللفظ. وقد نهى عن قولهم: بالرفاء والبنين، مع ما فيه من التنفير عن البنات، والتقرير لبغضهن في قلوب الرجال؛ لكونه من عادات الجاهلية. وكان يقول بدله ونعم البدل: " بارك الله لكما، وبارك عليكما وجمع بينكما في خير ". [الوسيط (رفأ) - مرقاة المصابيح ج ٣، ص ٢٦٩].
134
فى عوج، وقد يحرفون الكلم عن مواضعه ويلوون ألسنتهم بما ظاهره يدل على أنهم آمنوا، وباطنه كفر وطغيان.
هذا قولهم بأفواههم للمؤمنين، يقولون: آمنا. أي: دخلنا في جماعتكم مؤمنين مصدقين، ولكنهم إذا تركوا المؤمنين وكانوا في جماعتهم قالوا: إنا معكم.
وعبر الله سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله تعالى: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) فكانت كلمة (خَلَوْا) متعدية بإلى، وأصلها بالباء، يقال: خلا به، ولا يقال: خلا إليه، وإنما عدل عن الباء إلى التعديه بإلى للدلالة على معنى الانصراف، إذ كلمة خلا تتضمن ذلك، والمعنى خلوا منصرفين إليهم، تاركين المؤمنين، أو المعنى خلوا عن المؤمنين بمعنى تركوهم إليهم، فلا مجاز في التعدي. ومهما يكن التخريج، فإن معنى خلوا بهم لَا يراد، لأن معناه الانفراد، والتستر، وهم لَا يتسترون فيما بينهم، يقولون جهرا بينهم، وفي أوساطهم، فلم تكن خلوة بهم، ولكن كانت خلوة معهم وإليهم.
والشيطان فَعْلان من شَطَنَ بمعنى بَعُدَ، وشياطين جمع شيطان وسموا شياطين لبعدهم عن الحق، وتجافيهم عنه، وأضيفت شياطين إليهم للدلالة على أنهم جماعتهم، وكلهم شياطين بُعَدَاء عن الحق لَا يهتدون ولا يستمعون إلى الحق ولا يرومونه، وقد بعدوا عن كل معنى من معاني الحق، والقصد المستقيم.
وإذا انصرفوا إلى شياطينهم، وخفوا أهل الإيمان (قَالوا إِنَّا مَعَكُمْ) وهنا يؤكدون أنهم لم يخرجوا عنهم بذلك الكلام الذي زوروه للمؤمنين ليخدعوهم.
وقد أكدوا أنهم لم يخرجوا من صفوف النفاق إلى صفوف المؤمنين في قولهم: (إِنَّا مَعَكُمْ) بـ (إن) التي تؤكد الحكم الذي يكون وراءها، وبقولهم:
معكم، أي أننا ما خرجنا عنكم بهذا القول، ولكن ما زلنا في صحبتكم أنتم دون غيركم، فلم نفارقكم بهذا القول، وإنما هو من بضاعتنا التي نروج بها لأنفسنا.
هذا قولهم بأفواههم للمؤمنين، يقولون: آمنا. أي: دخلنا في جماعتكم مؤمنين مصدقين، ولكنهم إذا تركوا المؤمنين وكانوا في جماعتهم قالوا: إنا معكم.
وعبر الله سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله تعالى: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) فكانت كلمة (خَلَوْا) متعدية بإلى، وأصلها بالباء، يقال: خلا به، ولا يقال: خلا إليه، وإنما عدل عن الباء إلى التعديه بإلى للدلالة على معنى الانصراف، إذ كلمة خلا تتضمن ذلك، والمعنى خلوا منصرفين إليهم، تاركين المؤمنين، أو المعنى خلوا عن المؤمنين بمعنى تركوهم إليهم، فلا مجاز في التعدي. ومهما يكن التخريج، فإن معنى خلوا بهم لَا يراد، لأن معناه الانفراد، والتستر، وهم لَا يتسترون فيما بينهم، يقولون جهرا بينهم، وفي أوساطهم، فلم تكن خلوة بهم، ولكن كانت خلوة معهم وإليهم.
والشيطان فَعْلان من شَطَنَ بمعنى بَعُدَ، وشياطين جمع شيطان وسموا شياطين لبعدهم عن الحق، وتجافيهم عنه، وأضيفت شياطين إليهم للدلالة على أنهم جماعتهم، وكلهم شياطين بُعَدَاء عن الحق لَا يهتدون ولا يستمعون إلى الحق ولا يرومونه، وقد بعدوا عن كل معنى من معاني الحق، والقصد المستقيم.
وإذا انصرفوا إلى شياطينهم، وخفوا أهل الإيمان (قَالوا إِنَّا مَعَكُمْ) وهنا يؤكدون أنهم لم يخرجوا عنهم بذلك الكلام الذي زوروه للمؤمنين ليخدعوهم.
وقد أكدوا أنهم لم يخرجوا من صفوف النفاق إلى صفوف المؤمنين في قولهم: (إِنَّا مَعَكُمْ) بـ (إن) التي تؤكد الحكم الذي يكون وراءها، وبقولهم:
معكم، أي أننا ما خرجنا عنكم بهذا القول، ولكن ما زلنا في صحبتكم أنتم دون غيركم، فلم نفارقكم بهذا القول، وإنما هو من بضاعتنا التي نروج بها لأنفسنا.
135
ولم يؤكدوا للمؤمنين ادعاءهم الإيمان؛ لأنهم قالوا قولا لم يصدر عن قلوبهم، وإن تَلَوَّت به ألسنتهم، ولم يسكن الإيمان قلوبهم، فهو قول باللسان، ولم يذكروا تفصيل الإيمان، فلم يقولوا آمنا بالله ورسوله، والكتاب الذي جاء به وباليوم الآخر، إلى آخر ما يشتمل عليه الإيمان، لأنهم لَا يريدون حقيقة الإيمان، ولكن يريدون أن يثيروا قولا يسترون به كفرهم الستكن في قلوبهم.
وقوله تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالوا آمَنَّا) ليس تكرارا لقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ...)، لأن الآيات الأولى في التعريف بالصنف الذي يقابل أهل الإيمان الحقيقي، وأهل الكفر، أما هذه فهي لبيان أحوال تلك الطائفة، وكيف يقولون ما لَا يفعلون، ويظهرون ما لَا يبطنون، فالأولى حكم عام، والأخيرة بيان لبعض أحوالهم.
وإن أولئك المنافقين عندما يلاقون شياطينهم لَا يذكرون المعوية فقط بقولهم: (إِنَّا مَعَكُمْ) بل يفسرون معنى كلامهم للمؤمنين، وقولهم: آمنا. وكأن سائلا منهم سأل: لماذا قلتم ما قلتم فقالوا: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) الاستهزاء السخرية والتعابث، يقال: هزئ به واستهزأ، أي سخر منه، وتعابث بالقول معه.
وقد أكدوا الحكم بأنهم يستهزئون - بالجملة الاسمية، وبـ " إنَ " الدالة على التوكيد، وبذكر " نحن " لتأكيد الحكم باستهزائهم، وذُكرب " إنمأ الدالة على القصر، والمعنى: إننا في عملنا هذا نستهزى، فهم يقصرون أنفسهم على الاستهزاء قصرا إضافيا.
وإن الحكم بأنهم مستهزئون يتضمن الحكم بأنهم لَا يؤمنون؛ لأن من يؤمن بشيء لَا يستهزئ به، فهم تجاوزوا حد الكفر إلى أبعد منه، هو الاستهزاء بالمؤمنين والسخرية منهم، وأصل الباب الهَزء، بمعنى الخفة.
وقوله تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالوا آمَنَّا) ليس تكرارا لقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ...)، لأن الآيات الأولى في التعريف بالصنف الذي يقابل أهل الإيمان الحقيقي، وأهل الكفر، أما هذه فهي لبيان أحوال تلك الطائفة، وكيف يقولون ما لَا يفعلون، ويظهرون ما لَا يبطنون، فالأولى حكم عام، والأخيرة بيان لبعض أحوالهم.
وإن أولئك المنافقين عندما يلاقون شياطينهم لَا يذكرون المعوية فقط بقولهم: (إِنَّا مَعَكُمْ) بل يفسرون معنى كلامهم للمؤمنين، وقولهم: آمنا. وكأن سائلا منهم سأل: لماذا قلتم ما قلتم فقالوا: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) الاستهزاء السخرية والتعابث، يقال: هزئ به واستهزأ، أي سخر منه، وتعابث بالقول معه.
وقد أكدوا الحكم بأنهم يستهزئون - بالجملة الاسمية، وبـ " إنَ " الدالة على التوكيد، وبذكر " نحن " لتأكيد الحكم باستهزائهم، وذُكرب " إنمأ الدالة على القصر، والمعنى: إننا في عملنا هذا نستهزى، فهم يقصرون أنفسهم على الاستهزاء قصرا إضافيا.
وإن الحكم بأنهم مستهزئون يتضمن الحكم بأنهم لَا يؤمنون؛ لأن من يؤمن بشيء لَا يستهزئ به، فهم تجاوزوا حد الكفر إلى أبعد منه، هو الاستهزاء بالمؤمنين والسخرية منهم، وأصل الباب الهَزء، بمعنى الخفة.
136
ولكن الله تعالى بين أنهم إن يسخروا من المؤمنين فالله تعالى يسخر منهم لخفة عقولهم، وسفه أحلامهم؛ ولذا قال تعالى:
137
(اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) والمعنى أن الله تعالى ينتصف للمؤمنين فيستهزئ منهم، ويسخر بهم، وينتقم من قولهم يوم القيامة، وليس المراد معنى الاستهزاء، وهو الاستخفاف، فإن ذلك لَا يليق بذات الله تعالى، وإنما المراد إنزال الهوان وأن يكونوا موضع السخرية التي يجلبونها لأنفسهم بأفعالهم، فهم موضع تهكم من أهل الحق دائما، فهم جديرون بأن يسخر منهم ومن أفعالهم الساخرون، إذ هم يتملقون الكافرين من المشركين، وهم معهم، ويدهنون بالقول مع المؤمنين، ولا تخفى على أحد حال من أحوالهم، فهم أرادوا ستر كفرهم فكُشف، وأراد إظهار إيمانهم.
وإن الله تعالى يذكر أفعال المشركين، ويوردها بمثل ألفاظها، وإن كانت دلالة الألفاظ عدلا وحقا لغير ما يريد الكافرون. مثل قوله: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ...)، فسمى الفعل اعتداء مجاراة لأفعالهم، وليس إلا دفعا وقصاصا، وكذلك قوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَة مِّثْلُهَا...)، وقوله تعالى: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، وقوله تعالى: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا)، وقوله تعالى: (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ...)، وهكذا. وهنا يسأل سائل: لماذا ذكر الله حالهم بقولهم: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) باسم الفاعل الدال على الدوام، ورد الله تعالى أمرهم بقوله تعالى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ... (١٥) بفعل المضارع؟ والجواب عن ذلك أن المضارع يدل على الدوام مع تجدد الفعل آنًا بعد آنٍٍ، فالاستهزاء متجدد مستمر، لَا يبقى على حال، بل يتجدد وقتا بعد وقت، فهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين، وأفعالهم تجدد الاستهزاء، والآيات تنزل بفساد أحوالهم وسقم نفوسهم، والمؤمنون يحذرون،
وإن الله تعالى يذكر أفعال المشركين، ويوردها بمثل ألفاظها، وإن كانت دلالة الألفاظ عدلا وحقا لغير ما يريد الكافرون. مثل قوله: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ...)، فسمى الفعل اعتداء مجاراة لأفعالهم، وليس إلا دفعا وقصاصا، وكذلك قوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَة مِّثْلُهَا...)، وقوله تعالى: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، وقوله تعالى: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا)، وقوله تعالى: (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ...)، وهكذا. وهنا يسأل سائل: لماذا ذكر الله حالهم بقولهم: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) باسم الفاعل الدال على الدوام، ورد الله تعالى أمرهم بقوله تعالى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ... (١٥) بفعل المضارع؟ والجواب عن ذلك أن المضارع يدل على الدوام مع تجدد الفعل آنًا بعد آنٍٍ، فالاستهزاء متجدد مستمر، لَا يبقى على حال، بل يتجدد وقتا بعد وقت، فهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين، وأفعالهم تجدد الاستهزاء، والآيات تنزل بفساد أحوالهم وسقم نفوسهم، والمؤمنون يحذرون،
137
وكلما ابتغوا الفتنة ردت إليهم وتكاثر شرهم، والبراءة منهم، حتى أن أهل كل بيت فيه منافق استأذنوا النبي - ﷺ - في قتله، حتى كانوا موضع السخرية وأحسوا بها في ذات أنفسهم، حتى برموا من أعمالهم، وإن كانوا قد استمروا في غيهم.
ولكن لم ينزل بهم عقابهم في الدنيا، وذلك لحكمة أرادها، ولمصلحة تغياها النبي - ﷺ -، وهي ألا يقتلهم حتى لَا يقال بين الأعراب وغيرهم إن محمدا يقتل أصحابه (١).
(وَيَمدُّهُمْ فِي طغْيَانِهِمْ يَعْمَهونَ) المَدُّ هو زيادة المدة في حياتهم بأن يمهلهم الله ثم يأخذهم أخذ عزيز، كما قال تعالى: (نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا)، والطغيان: الكفر والضلال، وأصله تجاوز الحد، والطغيان هنا الكفر مع الإسراف فيه، والنفاق بلا ريب إسراف في الكفر.
وِالزمخشري يفسرُ " مَد " لَا بمعنى زيادة المدة، بل بمعنى زاده، وألحق به ما يقويه ويكثره مثل قوله تعالى: (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا)، ولقد قرئ: (ويُمدُّهم) بضم الياء، وهي من المدد لَا محالة.
وقول الزمخشري: في ذلك حجة ونرجحه على غيره.
والمعنى على ذلك، أنهم مغرورون مخدوعون، يعطيهم الله سبحانه من مدد الغرور في طغيانهم، وبيان الحق وتركه ما يزيدهم في حيرتهم واضطرابهم واستمرارهم في أسباب السخرية منهم؛ ولذلك قال إنهم بهذا المدد (يَعْمَهونَ)، والعَمَهُ مثل العمى، إلا أن العمى يكون في البصر والرأي، أما العمه فإنه يكون في الرأي بمعنى الحيرة، فمعنى يعمهون يتحيرون، فهم في حيرة دائمة مستمرة.. زاد الله المنافقين في كل العصور عمى، وزادهم عَمَها..!
* * *
________
(١) متفق عليه؛ أخرجه البخاري: كتاب المناقب - باب: ما ينهى من دعوة الجاهلية (٣٢٥٧)، ومسلم: كتاب البر والصلة - باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما (٤٦٨٢)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
ولكن لم ينزل بهم عقابهم في الدنيا، وذلك لحكمة أرادها، ولمصلحة تغياها النبي - ﷺ -، وهي ألا يقتلهم حتى لَا يقال بين الأعراب وغيرهم إن محمدا يقتل أصحابه (١).
(وَيَمدُّهُمْ فِي طغْيَانِهِمْ يَعْمَهونَ) المَدُّ هو زيادة المدة في حياتهم بأن يمهلهم الله ثم يأخذهم أخذ عزيز، كما قال تعالى: (نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا)، والطغيان: الكفر والضلال، وأصله تجاوز الحد، والطغيان هنا الكفر مع الإسراف فيه، والنفاق بلا ريب إسراف في الكفر.
وِالزمخشري يفسرُ " مَد " لَا بمعنى زيادة المدة، بل بمعنى زاده، وألحق به ما يقويه ويكثره مثل قوله تعالى: (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا)، ولقد قرئ: (ويُمدُّهم) بضم الياء، وهي من المدد لَا محالة.
وقول الزمخشري: في ذلك حجة ونرجحه على غيره.
والمعنى على ذلك، أنهم مغرورون مخدوعون، يعطيهم الله سبحانه من مدد الغرور في طغيانهم، وبيان الحق وتركه ما يزيدهم في حيرتهم واضطرابهم واستمرارهم في أسباب السخرية منهم؛ ولذلك قال إنهم بهذا المدد (يَعْمَهونَ)، والعَمَهُ مثل العمى، إلا أن العمى يكون في البصر والرأي، أما العمه فإنه يكون في الرأي بمعنى الحيرة، فمعنى يعمهون يتحيرون، فهم في حيرة دائمة مستمرة.. زاد الله المنافقين في كل العصور عمى، وزادهم عَمَها..!
* * *
________
(١) متفق عليه؛ أخرجه البخاري: كتاب المناقب - باب: ما ينهى من دعوة الجاهلية (٣٢٥٧)، ومسلم: كتاب البر والصلة - باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما (٤٦٨٢)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
138
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨)
* * *
المنافقون الذين جاوروا النبي - ﷺ - في المدينة، سواء أكانوا من المشركين أم كانوا من اليهود، وقد كانت عدوى الأخلاق بينهم.. أولئك المنافقون كانوا يحضرون مجالس النبي - ﷺ -، ونور الحق يشع بينهم، فيرون مطالعه، ويدركون مشارفه، فأسباب الهداية بين أيديهم يرونها عيانا، ويسمعونها بيانا، والفطرة تحثهم، وترشدهم، والحق لَا تخفى منه خافية، فعندهم العلم أو أسبابه، ولكنهم مع ذلك يتركون النور الهادي إلى الظلام الدامس، يتركون الحق الأبلج، وهو بين أيديهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، يتركون ذلك إلى الضلالة، فهم قد استحبوا العمى على الهدى " ولذلك قال الله تبارك وتعالى:
* * *
المنافقون الذين جاوروا النبي - ﷺ - في المدينة، سواء أكانوا من المشركين أم كانوا من اليهود، وقد كانت عدوى الأخلاق بينهم.. أولئك المنافقون كانوا يحضرون مجالس النبي - ﷺ -، ونور الحق يشع بينهم، فيرون مطالعه، ويدركون مشارفه، فأسباب الهداية بين أيديهم يرونها عيانا، ويسمعونها بيانا، والفطرة تحثهم، وترشدهم، والحق لَا تخفى منه خافية، فعندهم العلم أو أسبابه، ولكنهم مع ذلك يتركون النور الهادي إلى الظلام الدامس، يتركون الحق الأبلج، وهو بين أيديهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، يتركون ذلك إلى الضلالة، فهم قد استحبوا العمى على الهدى " ولذلك قال الله تبارك وتعالى:
139
(أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضلالَةَ بِالْهُدَى) الإشارة هنا إلى المنافقين الذين ذكرت أوصافهم، والإشارة إلى المُعرَّف بالوصف هي إشارة إلى الأوصاف، وقد حملوها، وبذلك تكون الأوصاف هي علة الحكم، وسببه، إنهم بإخفائهم الكفر، وإعلانهم الإيمان، وإفسادهم في الأرض، وهم يزعمون إصلاحها، وما فيهم من مرض النفاق الذي يعمي ويصم. وظنهم أنهم أهل الكمال، وأن غيرهم أهل السفه والخسران.
إنهم بهذه الأوصاف التي اختاروها، والأحوال التي كانوا عليها مع رؤيتهم النور والهدى، وتركهم إياه كمن يشترى الضلال بثمن هو أعلى الأثمان، وهو الهدى يدفعونه في سبيل أن ينالوا أقبح ما في الوجود وهو الضلال، وهل يستوي
إنهم بهذه الأوصاف التي اختاروها، والأحوال التي كانوا عليها مع رؤيتهم النور والهدى، وتركهم إياه كمن يشترى الضلال بثمن هو أعلى الأثمان، وهو الهدى يدفعونه في سبيل أن ينالوا أقبح ما في الوجود وهو الضلال، وهل يستوي
139
الهدى والضلال في سوف الخير والفضيلة، إنهما لَا يستويان. شبه الله تعالى أولئك المنافقين بحال التاجر الذي يطلب الكاسد يقدم في سبيله الرابح، وهنا يصح أن يكون تخريج الكلام بتشبيه إفرادي، أو استعارة تمثيلية، وعلى الاستعارة الإفرادية يكون تشبيه الضلالة التي يطلبونها بالبضائع المزجاة المردودة الكاسدة، والهدى بالبضاعة الرائجة المطلوبة غير البائرة، وبهذه الاستعارة يكون المعنى أنهم يتركون الطيب المطلوب، ويأخذون بدله الرديء، المردود، فهم الخاسرون لَا محالة؛ لأنهم يأخذون شيئا لَا خير فيه، وفيه فساد كبير، ويقدمون في سبيله أمرا كله خير ونور.
وإذا خرَّجنا على أنها استعارة تمثيلية، فيكون المعنى تشبيه حال رجل في يده هدى ونور وخير وفضل، يتركه ليستبدل به شيئا لَا خير فيه، وفيه فساد وضرر، بحال تاجر يترك البضاعة الرائجة المثمرة إلى بضاعة كاسدة لَا ثمرة فيها. وقد رشح الله في بيان كتابه بأن ذكر ما يقوي الاستعارة بذكر أوصاف للمشبَّه، فقال: (فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتهمْ) أي أنهم في هذه المبادلة المعنوية خاسرون، وليسوا كاسبين لأنهم خسروا الخير وأخذوا الشر، وأي كسب فيها؟! ونسب الربح إلى التجارة، وهي محل التصرف، وذلك تعبير بليغ كقولك: نهار صائم وليل قائم، وذلك من قبل المبالغة في الصوم والمبالغة في الصلاة، وإنما قوله: (فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتهُمْ) مبالغة في نفي الربح وثبوت الخسارة، لمن ترك الهداية وأخذ الضلال.
وقد أكد سبحانه ضلالهم، ونفَى الهداية عنهم كنتيجة لهذه المبادلة الخاسرة فقال: (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) لأن نفوسهم أركست ذلك الإركاس، وفسدت ذلك الفساد، ما كان من شأنهم أن يهتدوا أبدا، فنفَى عنهم الاهتداء نفيا مؤكدا بالجملة الاسمية، وبكلمة كانوا الدالة على الدوام والاستمرار، فليس من شأن من كانت هذه الحال حاله أن يهتدي أبدا، لأن الشر قد استمكن من نفسه وأظلمت واربادَّت بالضلالة حتى إنه لَا منفذ لنور يدخلها أبدا.
وإذا خرَّجنا على أنها استعارة تمثيلية، فيكون المعنى تشبيه حال رجل في يده هدى ونور وخير وفضل، يتركه ليستبدل به شيئا لَا خير فيه، وفيه فساد وضرر، بحال تاجر يترك البضاعة الرائجة المثمرة إلى بضاعة كاسدة لَا ثمرة فيها. وقد رشح الله في بيان كتابه بأن ذكر ما يقوي الاستعارة بذكر أوصاف للمشبَّه، فقال: (فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتهمْ) أي أنهم في هذه المبادلة المعنوية خاسرون، وليسوا كاسبين لأنهم خسروا الخير وأخذوا الشر، وأي كسب فيها؟! ونسب الربح إلى التجارة، وهي محل التصرف، وذلك تعبير بليغ كقولك: نهار صائم وليل قائم، وذلك من قبل المبالغة في الصوم والمبالغة في الصلاة، وإنما قوله: (فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتهُمْ) مبالغة في نفي الربح وثبوت الخسارة، لمن ترك الهداية وأخذ الضلال.
وقد أكد سبحانه ضلالهم، ونفَى الهداية عنهم كنتيجة لهذه المبادلة الخاسرة فقال: (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) لأن نفوسهم أركست ذلك الإركاس، وفسدت ذلك الفساد، ما كان من شأنهم أن يهتدوا أبدا، فنفَى عنهم الاهتداء نفيا مؤكدا بالجملة الاسمية، وبكلمة كانوا الدالة على الدوام والاستمرار، فليس من شأن من كانت هذه الحال حاله أن يهتدي أبدا، لأن الشر قد استمكن من نفسه وأظلمت واربادَّت بالضلالة حتى إنه لَا منفذ لنور يدخلها أبدا.
140
ولقد ضرب سبحانه مثلا آخر لضلالهم، وقد بدت لهم معالم الهداية، وبزغ بين أيديهم نورها، فقال تعالت كلماته:
141
(مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الَّذي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ... (١٧)
المثل: الحال الشبيهة والشأن، واستوقد النار، أوقدها بعد علاج وطلب للوقود، فاستوقد معناها أَوْقَدَ، والفرق بينهما أن الأول يكون بطلب وجهد؛ لأن السين والتاء للطلب، وهي تفيد المعالجة في الإقادة، فلا يصل الإقادة إلا بجهد ومشقة، وضرب الأمثال في القرآن كثير، بعقد المشابهة بين الأحوال الواقعة، وما يماثلها في الحياة، لتقريب المعاني العالية التي اشتملت عليها كثير من آيات القرآن، لتقريب المعاني المجردة للناس بعقد المشابهة بينها وبين أمر محسوس.
والمعنى السامي في الآية أن حال المنافقين في أنهم في وسط المؤمنين يناكحونهم، ويتوارثونهم، ويعاملونهم، ويوادونهم، ويدلون بالجوار بينهم وبينهم، ومعرفتهم للإيمان وأهله وذوقهم محبة بعض المؤمنين، وهذه الأحوال التي تكنفهم، ومن شأنها أن يعلموا بها الحق، وقد ربطتهم مودة الجار، كل هذا، حالهم فيه، كحال من يستوقد النار ويناله ضوؤها، وتخرج عليه بنورها، حتى إذا انتفع وأدرك الحياة وعلم مغزاها ومعناها، إذا كان كذلك خمدت النار بريح أو نحوها، فبعد الضوء اللامع، فذهب الله بنورهم فهم في ظلمات بعد ذهاب الضوء لَا يبصرون.
ويصح أن يكون هنا تشبيه إفرادي، وتشبيه تمثيلي.
أما الإفرادي، فهو تشبيه الحال التي هم فيها من معاشرة أهل الإيمان ومخالطتهم، ومجاورتهم، وبذل المؤمنين المودة لهم من أهل وأقارب، وإقادة النار المضيئة التي ينتفع بضوئها، ثم تخمد فيذهب الضوء، وشبهت حال النفاق التي آل إليها أمرها، بالظلمات المتضافرة المتكاثفة؛ لأن النفاق ضلال متكاثف كلما أوغلوا فيه ازدادوا ضلالا، وأبعدوا فيه، حتى لَا مرجع إلى النور من بعد، وشبه ما يحدثه
المثل: الحال الشبيهة والشأن، واستوقد النار، أوقدها بعد علاج وطلب للوقود، فاستوقد معناها أَوْقَدَ، والفرق بينهما أن الأول يكون بطلب وجهد؛ لأن السين والتاء للطلب، وهي تفيد المعالجة في الإقادة، فلا يصل الإقادة إلا بجهد ومشقة، وضرب الأمثال في القرآن كثير، بعقد المشابهة بين الأحوال الواقعة، وما يماثلها في الحياة، لتقريب المعاني العالية التي اشتملت عليها كثير من آيات القرآن، لتقريب المعاني المجردة للناس بعقد المشابهة بينها وبين أمر محسوس.
والمعنى السامي في الآية أن حال المنافقين في أنهم في وسط المؤمنين يناكحونهم، ويتوارثونهم، ويعاملونهم، ويوادونهم، ويدلون بالجوار بينهم وبينهم، ومعرفتهم للإيمان وأهله وذوقهم محبة بعض المؤمنين، وهذه الأحوال التي تكنفهم، ومن شأنها أن يعلموا بها الحق، وقد ربطتهم مودة الجار، كل هذا، حالهم فيه، كحال من يستوقد النار ويناله ضوؤها، وتخرج عليه بنورها، حتى إذا انتفع وأدرك الحياة وعلم مغزاها ومعناها، إذا كان كذلك خمدت النار بريح أو نحوها، فبعد الضوء اللامع، فذهب الله بنورهم فهم في ظلمات بعد ذهاب الضوء لَا يبصرون.
ويصح أن يكون هنا تشبيه إفرادي، وتشبيه تمثيلي.
أما الإفرادي، فهو تشبيه الحال التي هم فيها من معاشرة أهل الإيمان ومخالطتهم، ومجاورتهم، وبذل المؤمنين المودة لهم من أهل وأقارب، وإقادة النار المضيئة التي ينتفع بضوئها، ثم تخمد فيذهب الضوء، وشبهت حال النفاق التي آل إليها أمرها، بالظلمات المتضافرة المتكاثفة؛ لأن النفاق ضلال متكاثف كلما أوغلوا فيه ازدادوا ضلالا، وأبعدوا فيه، حتى لَا مرجع إلى النور من بعد، وشبه ما يحدثه
141
النفاق في النفس من حيث إنه يسد الإدراك، فيصبح العقل لَا يدرك والنفس لا تتكشف، بحال من لَا يبصرون (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)، هذا تشبيه إفرادي، إنه استعارة في أجزاء القول، لَا في جملته.
والاستعارة التمثيلية في جملة القول أنه شبه حال المنافقين في أن أسباب النور بين أيديهم، وتحيط بهم، ولكنهم لَا ينتفعون بها - بحال قوم أو فوج من الناس استوقدوا نارا، وعالجوها حتى أضاءت فلما أضاءت، ما حولهم لم ينتفعوا بها فخمدت، فذهب الله تعالى بنورهم فهم في ظلمات متكاثفة بنفاقهم لَا يبصرون.
* * *
وفى النص عبارات بلاغية يجب الإشارة إليها:
أولها - أنهم جماعة، والمفروض أنهم استوقدوا النار جميعا، أو بتعاونهم، ولكنه عبر بالمفرد، فقال تعالت كلماته: (كَمَثَلِ الذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) فعبر بالمفرد، قالوا إنه مفرد أريد به الجمع، وعبر بالمفرد لثلاثة وجوه:
(أ) أن الوصول العبرة فيه بالصلة لَا بلفظه ومن ذلك قوله تعالى: (وَخُضتمْ كَالَّذِي خَاضُوا...).
(ب) وأن الحقيقة أن الذي استوقد هو بعضهم أو فوج منهم، وإن كانت الإضاءة للجميع، والنفع بالضوء للجميع لَا للذي استضاء وحده؛ ولذلك كان التعبير بالجمع في حال الانتفاع، إذ قال فلما أضاء لهم، وبعضهم قد استوقد النار والجميع يستفيد من النور، إذ هو يشيع ويعم، ولا يخص من استقاد النار.
(ب) أن المشبه به في الآية ليس هو الذي استوقد، إنما المشبه به هو الحال التي كان فيها الاستيقاد أولا ثم خمود النيران، وسيرهم في ضلال، فعبر بالذي كما في قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِل
والاستعارة التمثيلية في جملة القول أنه شبه حال المنافقين في أن أسباب النور بين أيديهم، وتحيط بهم، ولكنهم لَا ينتفعون بها - بحال قوم أو فوج من الناس استوقدوا نارا، وعالجوها حتى أضاءت فلما أضاءت، ما حولهم لم ينتفعوا بها فخمدت، فذهب الله تعالى بنورهم فهم في ظلمات متكاثفة بنفاقهم لَا يبصرون.
* * *
وفى النص عبارات بلاغية يجب الإشارة إليها:
أولها - أنهم جماعة، والمفروض أنهم استوقدوا النار جميعا، أو بتعاونهم، ولكنه عبر بالمفرد، فقال تعالت كلماته: (كَمَثَلِ الذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) فعبر بالمفرد، قالوا إنه مفرد أريد به الجمع، وعبر بالمفرد لثلاثة وجوه:
(أ) أن الوصول العبرة فيه بالصلة لَا بلفظه ومن ذلك قوله تعالى: (وَخُضتمْ كَالَّذِي خَاضُوا...).
(ب) وأن الحقيقة أن الذي استوقد هو بعضهم أو فوج منهم، وإن كانت الإضاءة للجميع، والنفع بالضوء للجميع لَا للذي استضاء وحده؛ ولذلك كان التعبير بالجمع في حال الانتفاع، إذ قال فلما أضاء لهم، وبعضهم قد استوقد النار والجميع يستفيد من النور، إذ هو يشيع ويعم، ولا يخص من استقاد النار.
(ب) أن المشبه به في الآية ليس هو الذي استوقد، إنما المشبه به هو الحال التي كان فيها الاستيقاد أولا ثم خمود النيران، وسيرهم في ضلال، فعبر بالذي كما في قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِل
142
أَسْفَارًا...)، وكقوله تعالى: (يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ...)، فهو تشبيه حال بحال في كل هذه الأمثلة.
وثاني ما يجب الإشارة إليه أن نارًا مصدر لنَارَ، وهي مرادفة؛ ولذا يقال في التصغير نويرة، ومنها يؤخذ النور ويجمع على أنوار.
والإضاءة النور الشديد - كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا...)، والمعنى أنهم صاروا في نور شديد موضح ثم خمد وأخمدوه هم في أنفسهم، فلم ينتفعوا به، فأشع النور ولم يتمكنوا من الانتفاع به.
وثالث ما يجب الإشارة إليه هو جواب " لَمَّا " في قوله تعالى: (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ) فقد كان في هذا الجواب نظران أحدهما: أن الجواب هو قوله: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهمْ) وذلك كلام صالح للجواب، والثاني: أن الجواب محذوف دل عليه (ذَهَبَ اللَّهُ بِنَورِهِمْ) والمعنى، أن الجواب خمدت النار أو انطفأت وذهبت الإضاءة.
وقوله تعالى: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) معناها أذهب الله تعالى نورهم الذي كانوا يسيرون فيه، ويمكن أن ينتفعوا به؛ ولذا أضيف النور الذي أذهبه إليهم، إذ هم الذين خصص ابتداء لهم.
وعبر سبحانه وتعالى بقوله: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) لأن الباء للملابسة، ومعناه هنا ذهب الله تعالى عنهم آخذا نورهم الذي أوقدوا ناره، وقد ذكر الزمخشري الفرق بين أذهبه وذهب به فقال: " والفرق بين أذهبه، وذهب به أن معنى أذهبه أزاله أي جعله ذاهبا، ويقال: ذهب به إذا استصحبه ومضى معه، وذهب السلطان بماله أخذه فذهب به. والمعنى أخذ الله نورهم فأمسكه، وما يمسكه الله تعالى فلا مرسل له.
ومضمون هذا الكلام أن النور الذي أضاء لهم لَا يذهبه الله تعالى، ولا يُضَيعُهُ، بل يحفظه ويمسكه ليهتدي به غيرهم، وهنا ملاحظة لاحظها الزمخشري، وهي التعبير عن نورهم بالإضاءة، وهي النور الشديد، وذلك بأنها إضاءة شديدة
وثاني ما يجب الإشارة إليه أن نارًا مصدر لنَارَ، وهي مرادفة؛ ولذا يقال في التصغير نويرة، ومنها يؤخذ النور ويجمع على أنوار.
والإضاءة النور الشديد - كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا...)، والمعنى أنهم صاروا في نور شديد موضح ثم خمد وأخمدوه هم في أنفسهم، فلم ينتفعوا به، فأشع النور ولم يتمكنوا من الانتفاع به.
وثالث ما يجب الإشارة إليه هو جواب " لَمَّا " في قوله تعالى: (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ) فقد كان في هذا الجواب نظران أحدهما: أن الجواب هو قوله: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهمْ) وذلك كلام صالح للجواب، والثاني: أن الجواب محذوف دل عليه (ذَهَبَ اللَّهُ بِنَورِهِمْ) والمعنى، أن الجواب خمدت النار أو انطفأت وذهبت الإضاءة.
وقوله تعالى: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) معناها أذهب الله تعالى نورهم الذي كانوا يسيرون فيه، ويمكن أن ينتفعوا به؛ ولذا أضيف النور الذي أذهبه إليهم، إذ هم الذين خصص ابتداء لهم.
وعبر سبحانه وتعالى بقوله: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) لأن الباء للملابسة، ومعناه هنا ذهب الله تعالى عنهم آخذا نورهم الذي أوقدوا ناره، وقد ذكر الزمخشري الفرق بين أذهبه وذهب به فقال: " والفرق بين أذهبه، وذهب به أن معنى أذهبه أزاله أي جعله ذاهبا، ويقال: ذهب به إذا استصحبه ومضى معه، وذهب السلطان بماله أخذه فذهب به. والمعنى أخذ الله نورهم فأمسكه، وما يمسكه الله تعالى فلا مرسل له.
ومضمون هذا الكلام أن النور الذي أضاء لهم لَا يذهبه الله تعالى، ولا يُضَيعُهُ، بل يحفظه ويمسكه ليهتدي به غيرهم، وهنا ملاحظة لاحظها الزمخشري، وهي التعبير عن نورهم بالإضاءة، وهي النور الشديد، وذلك بأنها إضاءة شديدة
143
تعقبها ظلمة شديدة كقولهم: " للباطل صولة ثم يضمحل، ولريح الضلالة عصفة، ثم تخفت " فهي إضاءة شديدة لهم، ثم ذهب الله بنورها لينتفع غيرهم، أما هم فلا ينتفعون ولا يهتدون.
وإذا كان الله تعالى قد أخذ النور وذهب به ممسكا له غير مرسل إلا لمن يهتدي فقد تركهم بعد ذلك في ظلمات لَا يبصرون. وعبر بالجمع، فقال ظلمات للإشارة إلى تكاثف الظلمات في النفاق، فإن المنافق في حال كذب مستمر، إذ إنه دائما يظهر غير ما يبطن، وذلك كذب، فحال المنافق كذب مستمر، وهم يدهنون في القول، وهم يمالئون الظلم، ولا ينتصرون للحق، ودأبهم الإفساد في الأرض والسعي بنميم بين الناس، وإرادة الأذى المستمر، وكراهيتهم للناس، ولذلك لَا ذهب عنهم نور الحق، تركهم الله تعالى في ظلمات متكاثفة لَا يبصرون حقا، ولا يدركونه، ونفَى الله تعالى عنهم الإبصار بالفعل المضارع، لتجدد العمى عليهم، وعدم الإبصار بتكرار أفعالهم المظلمة الدائمة.
وعدم الإبصار هو عدم الإدراك، فلهم آذان لَا يسمعون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل.
وأنه قد سدت كل مدارك إدراك الخير، قد اشتروا الضَّلالة بالهدى، وأنهم إن استوقدوا بسبب استغراق الفساد لنفوسهم تنطفئ نار الحق فيهم، ويصطحب النور، ويستمسك به لغيرٍ، فَسُدت عليهم أبواب الحق لَا يسمعون إذا دعاهم، ولا تنطق به ألسنتهم إذا خوطبوا ولا يرون طريق الهدى، فيبصروه، ولذا وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله:
وإذا كان الله تعالى قد أخذ النور وذهب به ممسكا له غير مرسل إلا لمن يهتدي فقد تركهم بعد ذلك في ظلمات لَا يبصرون. وعبر بالجمع، فقال ظلمات للإشارة إلى تكاثف الظلمات في النفاق، فإن المنافق في حال كذب مستمر، إذ إنه دائما يظهر غير ما يبطن، وذلك كذب، فحال المنافق كذب مستمر، وهم يدهنون في القول، وهم يمالئون الظلم، ولا ينتصرون للحق، ودأبهم الإفساد في الأرض والسعي بنميم بين الناس، وإرادة الأذى المستمر، وكراهيتهم للناس، ولذلك لَا ذهب عنهم نور الحق، تركهم الله تعالى في ظلمات متكاثفة لَا يبصرون حقا، ولا يدركونه، ونفَى الله تعالى عنهم الإبصار بالفعل المضارع، لتجدد العمى عليهم، وعدم الإبصار بتكرار أفعالهم المظلمة الدائمة.
وعدم الإبصار هو عدم الإدراك، فلهم آذان لَا يسمعون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل.
وأنه قد سدت كل مدارك إدراك الخير، قد اشتروا الضَّلالة بالهدى، وأنهم إن استوقدوا بسبب استغراق الفساد لنفوسهم تنطفئ نار الحق فيهم، ويصطحب النور، ويستمسك به لغيرٍ، فَسُدت عليهم أبواب الحق لَا يسمعون إذا دعاهم، ولا تنطق به ألسنتهم إذا خوطبوا ولا يرون طريق الهدى، فيبصروه، ولذا وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله:
144
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ... (١٨)
وإذا كانت لهم آذان فهم لَا يسمعون بها، وإذا كانت لهم أعين فهم لا يبصرون بها، وإذا كانت لهم ألسنة فهم لَا ينطقون بها في حق قط.
وإذا كانت لهم آذان فهم لَا يسمعون بها، وإذا كانت لهم أعين فهم لا يبصرون بها، وإذا كانت لهم ألسنة فهم لَا ينطقون بها في حق قط.
144
وكانت هذه الآية الكريمة تشبيها لحالهم التي آلوا إليها فليست استعارة، ولكنها تشبيه صريح، إذ إن قوله تعالى: (صُم بُكْمٌ) خبر لمبتدأ محذوف تقديره: " هم " أو: المنافقون، فهم كالصم لأنهم إذا استمعوا القول لَا يتبعون أحسنه ويقولون سمعنا بل ينغضون رءوسهم علوا واستكبارا (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)، وإذا بصرتهم بالدلائل الواضحة، والبينات الناصعة، لَا يستبصرون فلهم قلوب لَا يفقهون بها، ولا ينطقون بحق استنطقتهم به، فهم كالبكم الذين لَا ينطقون، وهم لَا يبصرون وإن كانت لهم أعين.
وختم الله تعالى وصف حالهم بأنهم لَا يرجعون، أي لَا يرجعون إلى الهداية، بعد أن ساروا في الغواية، أي هم وقوفٌ عند الشر الذي وصلوا؛ لأنه ليس وراءه شر، بل هو الضلال البعيد، وقد وصلوا إلى نهايته، فماذا بعد النفاق من ضلال، ولقد قال الزمخشري: إن وقوفهم في الحيرة هو الذي حكم عليهم بأنه يتركهم في طغيانهم يعمهون أي يتحيرون.
* * *
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
* * *
يضرب الله تعالى الأمثال ليقرب المعاني السامية إلى العقول المدركة، ويكثر في كتابه الحكيم من الأمثال لتكون المعاني العالية التي تخفى على الأفهام - معروفة
وختم الله تعالى وصف حالهم بأنهم لَا يرجعون، أي لَا يرجعون إلى الهداية، بعد أن ساروا في الغواية، أي هم وقوفٌ عند الشر الذي وصلوا؛ لأنه ليس وراءه شر، بل هو الضلال البعيد، وقد وصلوا إلى نهايته، فماذا بعد النفاق من ضلال، ولقد قال الزمخشري: إن وقوفهم في الحيرة هو الذي حكم عليهم بأنه يتركهم في طغيانهم يعمهون أي يتحيرون.
* * *
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
* * *
يضرب الله تعالى الأمثال ليقرب المعاني السامية إلى العقول المدركة، ويكثر في كتابه الحكيم من الأمثال لتكون المعاني العالية التي تخفى على الأفهام - معروفة
145
مألوفة لديهم؛ ولذلك قال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ). وقد ضرب الله سبحانه مثلا للمنافقين بمن استوقد نارا، ولكن لم يستفيدوا، وذلك لأنهم في وسط علم النبوة، والإشراق المحمدي، والجوار لأهل الحق. ولكن استمروا في ظلمتهم.
وقد ضرب الله تعالى مثلا آخر، يبين فيه سبحانه ما نزل لهم من نور، وما قرعهم الله تعالى به من قوارع، وما أصاب نفوسهم من نوازل، كان من شأنها أن تجذبهم إلى الإيمان، فلم يتجهوا إليه، ولم يخلعوا أنفسهم مما هم فيه من انحراف عن الحق، ومقام عن إدراكه.
لقد نصر الله تعالى المؤمنين، ونصرهم كان كالصواعق والرعد، وفيهم الهدى، فضرب مثلا بهذه الحال، فقال:
وقد ضرب الله تعالى مثلا آخر، يبين فيه سبحانه ما نزل لهم من نور، وما قرعهم الله تعالى به من قوارع، وما أصاب نفوسهم من نوازل، كان من شأنها أن تجذبهم إلى الإيمان، فلم يتجهوا إليه، ولم يخلعوا أنفسهم مما هم فيه من انحراف عن الحق، ومقام عن إدراكه.
لقد نصر الله تعالى المؤمنين، ونصرهم كان كالصواعق والرعد، وفيهم الهدى، فضرب مثلا بهذه الحال، فقال:
146
(أوْ كَصَيبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ طلمَاتٌ..) الآية. أو هنا عاطفة على قوله تعالى: (مَثَلُهمْ كَمَثَل الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا...) أي أن مثلهم كمستوقد النار، أو مثلهم كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق، ويقول الزمخشري: إن " أو " أصلها للشك، ثم صارت بالمجاز دالة على التسوية، كقوله تعالى: (وَلا تطِعْ مِنْهمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا)، أي أن الإثم والكفر سواء في أن طاعة أهلهما حرام تجر إلى الوبال وسوء العقبى والمآل، والتسوية هنا بين المثل في أن كليهما فيه عبرة واعتبار، وتصوير لحال المنافقين، فالأول يصورهم، ونور الحق بجوارهم، وهم يعيشون فيه بأجسامهم، وإن جافته قلوبهم، والثاني يصورهم، وماء الحياة ينزل عليهم مدرارا من السماء، ومن شأنه أن يحيي موات الأرض والنفوس، ولكنه لهم ظلمات، وفيه رعد مزعج وبرق يبرق ويبين، وصواعق تنزل قارعة للأجسام، عسى أن تقرع النفوس فتحولها من الضلال
146
إلى الهدى، فهما مثلان متلاقيان غير متباينين، كل واحد منهما يصور جانبا من جوانب المنافقين، الأول يصور الحق كنور رأوه، ولم يهتدوا به، والثاني كماء الحياة ينزل عليهم وسط نذر وإرعاد وإبراق، فلم يرتدعوا به، فهم لم يهتدوا بنور هاد، ولم تردعهم النذر والآيات.
والصيب هو الماء ينزل، وهو وزن فَيْعِل من صاب يصوب بمعنى نزل، فأصلها صَيْوِبِ اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء كـ " سيِّد " و " ميّت "، وغير ذلك مما يشابهها من كلمات في التصريف، واللفظ في القرآن له فصاحة وبلاغة قائمة بذاتها، فصيب تدل على ماء نازل بقوة تقرع الرءوس قرعا، وينبههم على الماء الذي جعل الله تعالى منه حياة كل شيء.
والسماء ما أظلك، ولماذا أسند إلى السماء، والمطر ينزل منها دائما؛ ونقول إن ذكر السماء يدل على أمرين، أحدهما - أنه نازل من السماء، وليس من العيون والينابيع، فإن ماءها لَا ينزل، ولكن يخرج سلسبيلا، وثانيهما - للإشارة إلى أنه يجيء من علٍ، فينصب انصبابا.
ووصف سبحانه الماء، وهو يمطر وابلا بأن فيه ظلمات، وهي جمع ظلمة، وقد تكاثفت هذه الظلمات فاجتمع فيها ظلمة الدُّجُنَة (١) الحالكة، وظلمة السحب الداكنة، وظلمة الليل الدامس، وظلمة الانهمار الذي ينصب على الرءوس انصبابا، وفيه رعد وبرق، وفيه صواعق تصك آذانهم صكا شديدا، وتفزعهم، حتى إنهم يجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت، خوفا من أن يموتوا.
وهذا تصوير للنذر التي كانت تأتيهم مع ماء الحياة الذي يحييهم عساهم أن يهتدوا بالنذر إذ لم يهتدوا بالحق في ذاته، وقد كان نورا قد أشرف.
________
(١) الدُجُنةُ من الغيم: المُطبقُ تطبيقًا، الريّانُ المظلِم، الذي ليس فيه مطر؛ يقال يومُ دَجْنٍ، ويوم دُجُنَّة، وكذلك الليلة على الوجهين، بالوصف والإضافة. (الصحاح - باب النون فصل الدال).
والصيب هو الماء ينزل، وهو وزن فَيْعِل من صاب يصوب بمعنى نزل، فأصلها صَيْوِبِ اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء كـ " سيِّد " و " ميّت "، وغير ذلك مما يشابهها من كلمات في التصريف، واللفظ في القرآن له فصاحة وبلاغة قائمة بذاتها، فصيب تدل على ماء نازل بقوة تقرع الرءوس قرعا، وينبههم على الماء الذي جعل الله تعالى منه حياة كل شيء.
والسماء ما أظلك، ولماذا أسند إلى السماء، والمطر ينزل منها دائما؛ ونقول إن ذكر السماء يدل على أمرين، أحدهما - أنه نازل من السماء، وليس من العيون والينابيع، فإن ماءها لَا ينزل، ولكن يخرج سلسبيلا، وثانيهما - للإشارة إلى أنه يجيء من علٍ، فينصب انصبابا.
ووصف سبحانه الماء، وهو يمطر وابلا بأن فيه ظلمات، وهي جمع ظلمة، وقد تكاثفت هذه الظلمات فاجتمع فيها ظلمة الدُّجُنَة (١) الحالكة، وظلمة السحب الداكنة، وظلمة الليل الدامس، وظلمة الانهمار الذي ينصب على الرءوس انصبابا، وفيه رعد وبرق، وفيه صواعق تصك آذانهم صكا شديدا، وتفزعهم، حتى إنهم يجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت، خوفا من أن يموتوا.
وهذا تصوير للنذر التي كانت تأتيهم مع ماء الحياة الذي يحييهم عساهم أن يهتدوا بالنذر إذ لم يهتدوا بالحق في ذاته، وقد كان نورا قد أشرف.
________
(١) الدُجُنةُ من الغيم: المُطبقُ تطبيقًا، الريّانُ المظلِم، الذي ليس فيه مطر؛ يقال يومُ دَجْنٍ، ويوم دُجُنَّة، وكذلك الليلة على الوجهين، بالوصف والإضافة. (الصحاح - باب النون فصل الدال).
147
والرعد على ما هو مقرر " لآن مظهر من مظاهر الكهر باء التي أودعها الله تعالى في الأجسام، فبعض السحاب يحتوي على كهرباء تسمى موجبة، وأخرى تحتوي على كهرباء تسمى في اصطلاحهم سالبة، وإذا اصطدم السحاب الموجب بالسحاب السالب حدث صوت شديد هو الرعد، وصحب الاصطدام نور هو البرق، وقد تنزل نار محرقة من جراء ذلك هي الصواعق، فالمطر الصيب يكون فيه ظلمات ورعد وبرق وصواعق، وقد ذكر القرآن الكريم ذلك في هذا المثل، ونرجع رجعة نتعرف فيها تفسير علماء الأثر للرعد والبرق والصواعق، وسنجد من بينهم من يقارب تفسيره لما تقرر في هذا العصر، ومن باعده.
فممن باعده ما رواه الترمذي عن ابن عباس أنه قال، سالَتْ اليهود النبي - ﷺ - عن الرعد فقال: " ملك من الملائكة بيده مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله "، فقالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: " زجره السحاب إذا زجره، حتى ينتهي إلى حيث أُمِر "، قالوا: صدقت (١). وفسر ابن عباس - في رواية لا ندري مقدار صحتها - البرق بأنه سوط من نور بيد الملك يزجر به السحاب.
ولقد جاء في تفسير القرطبي: قالت الفلاسفة الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب، والبرق مما ينقدح، من اصطكاكها. ولا شك أن تفسير الفلاسفة قريب مما قرره العلماء في عصرنا من أنه احتكاك سحابة سالبة بأخرى موجبة، يتولد عنه صوت هو الرعد، ونور هو البرق.
وإن الزمخشري رضي الله عنه فسر الرعد والبرق بمثل ما فسر الفلاسفة، فقال: والرعد الصوت الذي يسمع من السحاب كأن أجرام السحاب تضطرب، وتنتفض إذا حدتها الريح فتصوت عند ذلك من الارتعاد، والبرق الذي يلمع من السحاب، ولا شك أن ذلك قريب مما يقرره الفلاسفة، وإن لم يكن هو.
________
(١) رواه بهذا اللفظ - عن ابن عباس - الترمدى: كتاب تفسير القرآن - باب ومن سورة الرعد (٣٠٤٢).
فممن باعده ما رواه الترمذي عن ابن عباس أنه قال، سالَتْ اليهود النبي - ﷺ - عن الرعد فقال: " ملك من الملائكة بيده مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله "، فقالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: " زجره السحاب إذا زجره، حتى ينتهي إلى حيث أُمِر "، قالوا: صدقت (١). وفسر ابن عباس - في رواية لا ندري مقدار صحتها - البرق بأنه سوط من نور بيد الملك يزجر به السحاب.
ولقد جاء في تفسير القرطبي: قالت الفلاسفة الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب، والبرق مما ينقدح، من اصطكاكها. ولا شك أن تفسير الفلاسفة قريب مما قرره العلماء في عصرنا من أنه احتكاك سحابة سالبة بأخرى موجبة، يتولد عنه صوت هو الرعد، ونور هو البرق.
وإن الزمخشري رضي الله عنه فسر الرعد والبرق بمثل ما فسر الفلاسفة، فقال: والرعد الصوت الذي يسمع من السحاب كأن أجرام السحاب تضطرب، وتنتفض إذا حدتها الريح فتصوت عند ذلك من الارتعاد، والبرق الذي يلمع من السحاب، ولا شك أن ذلك قريب مما يقرره الفلاسفة، وإن لم يكن هو.
________
(١) رواه بهذا اللفظ - عن ابن عباس - الترمدى: كتاب تفسير القرآن - باب ومن سورة الرعد (٣٠٤٢).
148
وهنا يجب أن نتكلم في الرواية التي تقرر أن ملكا هو الذي يكوِّن الرعد والبرق، فالخبر لم تروه الصحاح، ولم يروه إلا الترمذي، ومن المقرر أن الأخبار إذا خالفت العلم الضروري القاطع أُوِّلت، أو كان ذلك دليلا على ضعفها لضعف متنها، فقد قال الغزالي: إذا خالفت النصوص ما قرره علماء الكون والطبيعة على أنه حقيقة مقررة تؤول النصوص إذا خالفتها، وإذا كانت حديث آحاد ردت نسبته إلى النبي - ﷺ -.
وعلى ذلك فنحن نفسر القرآن الكريم في قضية الرعد والبرق والصواعق بما تقرر في العلم، ولا نحسب أن حديثا ثابت السند، ولو حديث آحاد خالف ذلك.
وقد صور الله سبحانه وتعالى قوة الصواعق في قرعها الشديد للآذان بقوله: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ).
وإن الإنسان عندما يقرع أذنه قارع شديد، لَا يضع أصابعه كلها في أذنه، بل يضع فقط طرف أصبعه السبابة فلا يجعل في أذنه جملة أصابعه؛ ولذلك كان في الكلام مجاز لاستحالة الحقيقة، ويعدون ذلك من المجاز المرسل بإطلاق اسم الكل وإرادة الجزء، وإن إطلاق اسم الكل وإرادة الجزء كثير في الاستعمال العربي، وفي القرآن الذي هو أبلغ الكلام، فقد قال تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ...)، ولا يراد الأيدي كلها، بل يراد بعضها، وقال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ...)، ولا تقطع اليد كلها في حد السرقة.
ويقرر الغزالي أن أصبع السبابة هي التي تسد الأذن بطرفها، ثم يقول: فإن قلت: إن الأصبع التي تسد بها الأذن أصبع خاصة فَلِمَ ذكر الاسم العام دون الخاص؟ قلت: لأنَّ السبابة فعالة من السب، فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن، ألا ترى أنهم قد استسبحوا بها فكنوا عنها بالمسبحة.
وعلى ذلك فنحن نفسر القرآن الكريم في قضية الرعد والبرق والصواعق بما تقرر في العلم، ولا نحسب أن حديثا ثابت السند، ولو حديث آحاد خالف ذلك.
وقد صور الله سبحانه وتعالى قوة الصواعق في قرعها الشديد للآذان بقوله: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ).
وإن الإنسان عندما يقرع أذنه قارع شديد، لَا يضع أصابعه كلها في أذنه، بل يضع فقط طرف أصبعه السبابة فلا يجعل في أذنه جملة أصابعه؛ ولذلك كان في الكلام مجاز لاستحالة الحقيقة، ويعدون ذلك من المجاز المرسل بإطلاق اسم الكل وإرادة الجزء، وإن إطلاق اسم الكل وإرادة الجزء كثير في الاستعمال العربي، وفي القرآن الذي هو أبلغ الكلام، فقد قال تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ...)، ولا يراد الأيدي كلها، بل يراد بعضها، وقال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ...)، ولا تقطع اليد كلها في حد السرقة.
ويقرر الغزالي أن أصبع السبابة هي التي تسد الأذن بطرفها، ثم يقول: فإن قلت: إن الأصبع التي تسد بها الأذن أصبع خاصة فَلِمَ ذكر الاسم العام دون الخاص؟ قلت: لأنَّ السبابة فعالة من السب، فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن، ألا ترى أنهم قد استسبحوا بها فكنوا عنها بالمسبحة.
149
وفى الحلية (١): إن ذكر الأصابع مع إرادة بعضها فيه بيان عظم الهول في نفوسهم واشتداده على حواسهم حتى أصابتهم رعدة الخوف، وظنوا الظنون من هول ما يرون، وقوله تعالى: (حَذَرَ الْمَوْتِ) أي خوفا من الموت، فهي مفعول لأجله، والصواعق جمع صاعقة، وهي ما ينزل من السماء من نار، في الرعد والبرق.
وهنا يسأل سائل: هل جعل الأصابع أو أطراف بعضها في الآذان يمنع الموت عنهم، فيحذرونه بوضع الأصابع، والجواب عن ذلك، أن التعليل ليس لمجرد وضع الأصابع، بل هو تعليل للحال التي هم عليها، والتي كان وضع الأصابع في الآذان أثرا من آثارها، أو مظهرا من مظاهرها. فهي ذعر دائم من ظلمات متكاثفة من سحاب داكن، وليل معتم، وأمطار منهمرة، ورعد وبرق وسحاب، حتى توهموا أن وضع الأصابع في الأذن فلا يسمعوا صوت الصواعق والرعد - قد يدفع الموت.
فهم يفعلونه حذر الموت.
وقد بَيَّن سبحانه من بعد ذلك أن الله تعالى محيط بهم، والإحاطة معناها هنا السلطان والاستيلاء والقوة، فيقال أحاط به السلطان أي أخذه، ولم ينج منه، وهي مجاز يراد به ألا يفوتوه، وقد تطلق الإحاطة ويراد بها الهلاك، كما قال تعالى: (إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ...)، أي تهلكوا فمعن (وَاللَّه مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) أي هم في قبضته، إن أراد أهلكهم، كما قال تعالى: (وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
والمعنى على ذلك: إنهم يحذرون الموت، ولا حذر منه، ولا ينجيهم الحذر، فإن الله تعالى محيط بهم، لَا يفلتون، وذكر الكافرين هنا لأنهم كافرون أمقت النفاق، فذكر وصف الكافرين إرهاب لهم أشد إرهاب، وأنه جزاء ما يفعلون في الدنيا، ويستقبلون في الآخرة عذابا أليما عظيما.
________
(١) حلية الأولياء لأبي نُعيم.
وهنا يسأل سائل: هل جعل الأصابع أو أطراف بعضها في الآذان يمنع الموت عنهم، فيحذرونه بوضع الأصابع، والجواب عن ذلك، أن التعليل ليس لمجرد وضع الأصابع، بل هو تعليل للحال التي هم عليها، والتي كان وضع الأصابع في الآذان أثرا من آثارها، أو مظهرا من مظاهرها. فهي ذعر دائم من ظلمات متكاثفة من سحاب داكن، وليل معتم، وأمطار منهمرة، ورعد وبرق وسحاب، حتى توهموا أن وضع الأصابع في الأذن فلا يسمعوا صوت الصواعق والرعد - قد يدفع الموت.
فهم يفعلونه حذر الموت.
وقد بَيَّن سبحانه من بعد ذلك أن الله تعالى محيط بهم، والإحاطة معناها هنا السلطان والاستيلاء والقوة، فيقال أحاط به السلطان أي أخذه، ولم ينج منه، وهي مجاز يراد به ألا يفوتوه، وقد تطلق الإحاطة ويراد بها الهلاك، كما قال تعالى: (إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ...)، أي تهلكوا فمعن (وَاللَّه مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) أي هم في قبضته، إن أراد أهلكهم، كما قال تعالى: (وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
والمعنى على ذلك: إنهم يحذرون الموت، ولا حذر منه، ولا ينجيهم الحذر، فإن الله تعالى محيط بهم، لَا يفلتون، وذكر الكافرين هنا لأنهم كافرون أمقت النفاق، فذكر وصف الكافرين إرهاب لهم أشد إرهاب، وأنه جزاء ما يفعلون في الدنيا، ويستقبلون في الآخرة عذابا أليما عظيما.
________
(١) حلية الأولياء لأبي نُعيم.
150
وصور سبحانه وتعالى قوة البرق وأثرها في نفوسهم بقوله تعالى:
151
(يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ... (٢٠) والخطف معناه الأخذ السريع؛ ولذلك يطلق على الطائر إنه الخطاف لسرعة أخذه، وخَطِفَ من باب فرح، وهي اللغة الفصيحة السائغة في لغة العرب، وهناك لغة تجعلها من باب ضرب، فيقال خَطَفَ يخطَفُ، وقد قرئ بها فهما قراءتان، وقالها الأخفش، فرُوي أن الأخفش قال: خَطَفَ يَخْطَفُ، ولكن قال الجوهري: وهي قليلة رديئة لَا تكاد تعرف.
وعندي أنه إذا كانت هناك قراءة بكسر الطاء لَا يليق أن تذكر بأنها رديئة، وقد روى أنه قرأ بها علي زين العابدين، ويحيى بن وثاب، وقرأ بها يونس، والأولى أن يقال إنهما لغتان في حركة الطاء. هذا والآية الكريمة تصور شدة البرق من حيث إنه يكاد يخطف الأبصار ويذهبها لشدته، كما في قوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ)، أي يكاد البرق يأخذ أبصارهم سريعا، فلا يبصرون، وكانت السرعة في أخذه، لأنه ومضات تجيء سريعة وتختفي سريعا، ولا تبقى طويلا.
(كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) أي كلما كان البرق كان الضوء المنير، فعندئذ يمشون فيه مطمئنين غير مسرعين؛ لأن المشي إذا اشتد كان سعيا، وإذا اشتد السعي كان عدْوًا، فكلما أضاء ساروا فيه سير اطمئنان، وإذا أظلم أي إذا انطفأ فأظلم الجو، وصار ظلاما - قاموا - أي وقفوا ساكنين سكون الحيارى راكدين، فهو قيام الحائر الراكد الذي لَا يدري ما الله فاعل، وعبر في الإضاءة بكلما لأنها مكررة بتكرر البرق، ولأنها حركة تغدو وتروح، فإذا جاء البرق وذهب توقعوا عودته، أما الإظلام فلا يطلبونه، وهو حال سلبية لَا تجدد فيها، لَا يطلبون، وقاموا تتضمن السكون والبقاء على ما هم عليه متحيرين مضطربين.
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) لو شاء سبحانه وتعالى أن يذهب بسمعهم بالرعد والصواعق أو ببصرهم بالبرق الخاطف لذهب بها، أي لأخذها كما أعطاها، فقوله تعالى: (لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) معناه لاستردها، وأعادهم صما وعميا،
وعندي أنه إذا كانت هناك قراءة بكسر الطاء لَا يليق أن تذكر بأنها رديئة، وقد روى أنه قرأ بها علي زين العابدين، ويحيى بن وثاب، وقرأ بها يونس، والأولى أن يقال إنهما لغتان في حركة الطاء. هذا والآية الكريمة تصور شدة البرق من حيث إنه يكاد يخطف الأبصار ويذهبها لشدته، كما في قوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ)، أي يكاد البرق يأخذ أبصارهم سريعا، فلا يبصرون، وكانت السرعة في أخذه، لأنه ومضات تجيء سريعة وتختفي سريعا، ولا تبقى طويلا.
(كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) أي كلما كان البرق كان الضوء المنير، فعندئذ يمشون فيه مطمئنين غير مسرعين؛ لأن المشي إذا اشتد كان سعيا، وإذا اشتد السعي كان عدْوًا، فكلما أضاء ساروا فيه سير اطمئنان، وإذا أظلم أي إذا انطفأ فأظلم الجو، وصار ظلاما - قاموا - أي وقفوا ساكنين سكون الحيارى راكدين، فهو قيام الحائر الراكد الذي لَا يدري ما الله فاعل، وعبر في الإضاءة بكلما لأنها مكررة بتكرر البرق، ولأنها حركة تغدو وتروح، فإذا جاء البرق وذهب توقعوا عودته، أما الإظلام فلا يطلبونه، وهو حال سلبية لَا تجدد فيها، لَا يطلبون، وقاموا تتضمن السكون والبقاء على ما هم عليه متحيرين مضطربين.
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) لو شاء سبحانه وتعالى أن يذهب بسمعهم بالرعد والصواعق أو ببصرهم بالبرق الخاطف لذهب بها، أي لأخذها كما أعطاها، فقوله تعالى: (لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) معناه لاستردها، وأعادهم صما وعميا،
151
كما قال تعالى (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨).
ثم ذَيَّلَ سبحانه وتعالى الآيات الكريمات بكمال قدرته، فقال تعالت كلماته: (إِنَّ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير) وذلك التذييل لتأكيد قدرة الله تعالى على إذهاب سمعهم وأبصارهم، وكل قواهم، وقد أكد سبحانه قدرته القاهرة فوق عباده بعدة مؤكدات: بالجملة الاسمية أولا، وبـ " إن " ثانيا، وبذكر لفظ الجلالة الذي يدل على أنه مالك الوجود، ومالك كل موجود، وعموم قدرته على الأشياء كلها (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ).
وهذه الأخبار كلها - من نزول الصيِّب المنهمر انهمارا، والظلمات المتكاثفة والرعد والبرق، وكون الأبصار يكاد سبحانه وتعالى يخطفها، أهي مجاز لأمور معنوية؟، أم هي حقائق وليست مجازا؛ ونقول إن هناك استعارة تمثيلية في جملة القول، ولا مانع أن تكون في كل جملة مجازا، ويتكون من هذه المجازات الصورة التمثيلية الكبرى.
ويميل إلى ذلك أكثر المفسرين، يقول الفراء في قوله تعالى: (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فيهِ): أنهم كانوا كلما سمعوا القرآن، وظهرت لهم الحجج أنِسوا ومشوا معه، فإذا نزًّل من القرآن ما يَعْمَون فيه، ويضلون به، أو يُكَلَّفُونه قاموا أي ثبتوا على نفاقهم.
وروي عن ابن عباس " المعنى أنه كلما صلحت أحوالهم في زروعهم ومواشيهم، وتوالت عليهم النعم قالوا دين محمد دين مبارك ".
وكذلك يفسر الصيب بالقرآن حياة الأرواح، والظلمات والرعد والبرق بما يكرهون به أنفسهم مما يحسبونه شرا عليهم من نصر للمؤمنين، وتمكين للإيمان، وهكذا.
وإن الحق هو أن المثل كله استعارة تمثيلية، أو تشبيه تمثيلي، فقد شبهت حالهم من أن القرآن ينزل في المؤمنين وهم جيرانهم ومعاشروهم، وفيه ماء الحياة الذي
ثم ذَيَّلَ سبحانه وتعالى الآيات الكريمات بكمال قدرته، فقال تعالت كلماته: (إِنَّ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير) وذلك التذييل لتأكيد قدرة الله تعالى على إذهاب سمعهم وأبصارهم، وكل قواهم، وقد أكد سبحانه قدرته القاهرة فوق عباده بعدة مؤكدات: بالجملة الاسمية أولا، وبـ " إن " ثانيا، وبذكر لفظ الجلالة الذي يدل على أنه مالك الوجود، ومالك كل موجود، وعموم قدرته على الأشياء كلها (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ).
وهذه الأخبار كلها - من نزول الصيِّب المنهمر انهمارا، والظلمات المتكاثفة والرعد والبرق، وكون الأبصار يكاد سبحانه وتعالى يخطفها، أهي مجاز لأمور معنوية؟، أم هي حقائق وليست مجازا؛ ونقول إن هناك استعارة تمثيلية في جملة القول، ولا مانع أن تكون في كل جملة مجازا، ويتكون من هذه المجازات الصورة التمثيلية الكبرى.
ويميل إلى ذلك أكثر المفسرين، يقول الفراء في قوله تعالى: (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فيهِ): أنهم كانوا كلما سمعوا القرآن، وظهرت لهم الحجج أنِسوا ومشوا معه، فإذا نزًّل من القرآن ما يَعْمَون فيه، ويضلون به، أو يُكَلَّفُونه قاموا أي ثبتوا على نفاقهم.
وروي عن ابن عباس " المعنى أنه كلما صلحت أحوالهم في زروعهم ومواشيهم، وتوالت عليهم النعم قالوا دين محمد دين مبارك ".
وكذلك يفسر الصيب بالقرآن حياة الأرواح، والظلمات والرعد والبرق بما يكرهون به أنفسهم مما يحسبونه شرا عليهم من نصر للمؤمنين، وتمكين للإيمان، وهكذا.
وإن الحق هو أن المثل كله استعارة تمثيلية، أو تشبيه تمثيلي، فقد شبهت حالهم من أن القرآن ينزل في المؤمنين وهم جيرانهم ومعاشروهم، وفيه ماء الحياة الذي
152
يحي القلوب ويغذيهم. وأنالهم العبر والمثلات من تأييد الله تعالى، ونصره الدائم المستمر للمؤمنين، والخذلان الدائم لهم، وما يقرعهم من آيات بينات، وما يجيء إليهم من بلايا بسبب الخزايا التي تنزل بهم كالرعد الذي يقرع الأسماع والبينات تجيء إليهم نورا يسيرون فيه، ثم تظلم قلوبهم وينطفئ نور الحق بينهم.
شبهت حالهم والعلم البين بين أيديهم بحال قوم نزل عليهم غيث منهمر فيه ظلمات ورعد وبرق وصواعق، ومع ذلك لم ينتفعوا ولم يهتدوا.
فالكلام الكريم، فيه تشبيه حال بحال، وما فيه من مثل قوله تعالى:
(وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) وقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) إنما هو من ترشيح الاستعارة، والترشيح هو ذكر الأوصاف المختصة بالمشبه به، كما إذا قلت عن شجاع: إنه ليث، ثم قلت: له لبد، أظفاره لم تقلم، فإن ذلك تقوية للاستعارة بذكر أوصاف خاصة بالمشبه به. والله أعلم.
* * *
العبادة والقدرة والكتاب
ذكر الله تعالى في أول السورة مكانة الكتاب، وأوصاف المتقين ثم أوصاف الذين كفروا، ثم ذكر أوصاف المنافقين، لأنهم شر هذا الوجود الإنساني، وداؤه، ويكمن فيهم سبب فساده.
بعد ذلك ذكر الله واجب العبادة، ومقام كتابه، فقال تعالى:
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)
* * *
شبهت حالهم والعلم البين بين أيديهم بحال قوم نزل عليهم غيث منهمر فيه ظلمات ورعد وبرق وصواعق، ومع ذلك لم ينتفعوا ولم يهتدوا.
فالكلام الكريم، فيه تشبيه حال بحال، وما فيه من مثل قوله تعالى:
(وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) وقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) إنما هو من ترشيح الاستعارة، والترشيح هو ذكر الأوصاف المختصة بالمشبه به، كما إذا قلت عن شجاع: إنه ليث، ثم قلت: له لبد، أظفاره لم تقلم، فإن ذلك تقوية للاستعارة بذكر أوصاف خاصة بالمشبه به. والله أعلم.
* * *
العبادة والقدرة والكتاب
ذكر الله تعالى في أول السورة مكانة الكتاب، وأوصاف المتقين ثم أوصاف الذين كفروا، ثم ذكر أوصاف المنافقين، لأنهم شر هذا الوجود الإنساني، وداؤه، ويكمن فيهم سبب فساده.
بعد ذلك ذكر الله واجب العبادة، ومقام كتابه، فقال تعالى:
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)
* * *
153
هذه الآيات الكريمات تدعو إلى عبادة الله تعالى وحده، وتذكر أنه خالق من في الوجود، وأنه ربه الذي يَربَه وأنعم عليه بالنعم، وهذا يبين أن الكافرين والمنافقين على باطل، وأن أهل الحق وحدهم هم الذين يسلكون الصراط المستقيم.
154
(يَا أَيهَا الناسُ) قال بعض العلماء: إن الخطاب بـ " يا أيها الناس " يكون لأهل مكة، وخطاب " يا أيها الذين آمنوأ يكون للمؤمنين بعد الهجرة، ونرى أن هذا التخصيص ليس محكما دقيقا، فهذه سورة البقرة مدنية، وأهل الإيمان قد قاموا واستقروا، وأهل الشرك لايزالون قائمين بمكة.
وفوق ذلك جاء الخطاب بـ " يا أيها الناس " في سورة النساء، وهي مدنية فقد قال تعالى فيها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُوا فَإنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)؛ ولذلك نرى أن ذلك الاستقراء غير كامل، والأقرب أن نقول إنه إذا كان بـ " يا أيها الناس " فإنه يعم المؤمنين والكافرين؛ لأنه يكون متضمنا خطابا للكافة، ويكون المطلوب فيه إجابة الدعوة الحمدية بالتوحيد، مع ذكر البرهان العام الدال على التوحيد وصدق الرسول - ﷺ -. أما النداء بـ " يا أيها الذين آمنوا " فإنه يكون متجها إلى بيان الأحكام التكليفية: نهيا أو طلبا، أو إباحة بنص شرعي، وسواء أكان التكليف يتعلق بالأسرة أم بالعلاقات الدولية، أم كان بالتحريض على الجهاد.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) قالوا إن النداء بـ " يا " يكون للبعيد، والنداء بـ " أي " يكون للقريب، وهنا النداء بـ " يا " و " أي " معا، ثم يزاد عليها ها التي تفيد التنبيه، وينادى للبعيد حسَّاب " يا "، وللبعيد معنويا بها أيضا، ، والنداء من الله تعالى لعبيده نداء من أعلى من في الوجود إلى خلقه؛ ولذا كان النداء بأداتي نداء، وهما " يا " و " أي "، ويضاف إليهما، فهو منه عز وجل إلى الخلق جدير بأن يكون بأعلى الصيغ، لبعد ما بين الكون وخالقه في المنزلة، وفوق أن هذا النداء من الخالق، وهذا يقتضي أعلى
وفوق ذلك جاء الخطاب بـ " يا أيها الناس " في سورة النساء، وهي مدنية فقد قال تعالى فيها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُوا فَإنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)؛ ولذلك نرى أن ذلك الاستقراء غير كامل، والأقرب أن نقول إنه إذا كان بـ " يا أيها الناس " فإنه يعم المؤمنين والكافرين؛ لأنه يكون متضمنا خطابا للكافة، ويكون المطلوب فيه إجابة الدعوة الحمدية بالتوحيد، مع ذكر البرهان العام الدال على التوحيد وصدق الرسول - ﷺ -. أما النداء بـ " يا أيها الذين آمنوا " فإنه يكون متجها إلى بيان الأحكام التكليفية: نهيا أو طلبا، أو إباحة بنص شرعي، وسواء أكان التكليف يتعلق بالأسرة أم بالعلاقات الدولية، أم كان بالتحريض على الجهاد.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) قالوا إن النداء بـ " يا " يكون للبعيد، والنداء بـ " أي " يكون للقريب، وهنا النداء بـ " يا " و " أي " معا، ثم يزاد عليها ها التي تفيد التنبيه، وينادى للبعيد حسَّاب " يا "، وللبعيد معنويا بها أيضا، ، والنداء من الله تعالى لعبيده نداء من أعلى من في الوجود إلى خلقه؛ ولذا كان النداء بأداتي نداء، وهما " يا " و " أي "، ويضاف إليهما، فهو منه عز وجل إلى الخلق جدير بأن يكون بأعلى الصيغ، لبعد ما بين الكون وخالقه في المنزلة، وفوق أن هذا النداء من الخالق، وهذا يقتضي أعلى
154
العلو وأبعده، وموضوع النداء له جلال وخطر، وعظيم شأن؛ لأنه العبادة أو الشرائع. ويقول الزمخشري في ذلك إجابة على سؤال وهو: لماذا كثر النداء في القرآن بـ " يا أيها "؟ فقال: لاستقلاله بأوجه من التأكيد وأسباب من المبالغة، لأن كل ما نادى الله تعالى به عباده من أوامره ونواهيه، وعظاته وزواجره، ووعده ووعيده، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم، وغير ذلك مما أنطق به كتابه أن ينادوا بالآكد الأبلغ.
كان المنادى الناس، مؤمنين وغير مؤمنين، فهو سبحانه وتعالى ينادي الإنسانية كلها لَا فرق بين كافر ومؤمن، وأبيض وأسود، وعربي وأعجمي، والذي يناديهم به أن يعبدوه وحده لَا إله غيره. وطلب العبادة من المؤمنين وغير المؤمنين، وتحقيقها في كل منهما بما يناسبه، فالكافرون الذين يعبدون مع الله تعالى الأنداد، ويتخذونهم شركاء لله - تعالى عن الشبيه والمثل - تكون عبادتهم بخلع عبادة الأوثان، والإيمان بواحد أحد فرد صمد، ليس بوالد ولا ولد، وتصديق الرسول - ﷺ - في كل ما جاء به وطاعته سبحانه فيما أمر به ونهى عنه، وبالخضوع الكامل له وحده سبحانه.
وبالنسبة للمؤمنين الذين آمنوا بالله ورسله، وصدقوا محمدا فيما جاء به من عند ربه العلي الأعلى، فإن ذلك يكون بزيادة الإيمان، والإذعان، والاستمرار على الإيمان والبقاء عليه مستوثقين، كلما جاءتهم آية زادتهم إيمانا لَا يرتابون، ويجتمعون ويكونون قوة في هذه الأرض، وإن الازدياد من العبادة عبادة في ذاته، وكأنها منشأة بعد أن لم تكن.
والعبادة الخضوع المطلق لله سبحانه وتعالى وحده بحيث يكون القلب كله لله تعالى، لَا يحب إلا لله ولا يكره إلا لله، والعبادات تعم الصلوات، والزكوات، والصوم والحج، وغير ذلك مما يكلفه العباد، حتى الأعمال التي تكون بها الحياة، كلها تكون عبادة إذا قصد بالخير فيها وجه الله تعالى، ونفع عباده، فالصانع في
كان المنادى الناس، مؤمنين وغير مؤمنين، فهو سبحانه وتعالى ينادي الإنسانية كلها لَا فرق بين كافر ومؤمن، وأبيض وأسود، وعربي وأعجمي، والذي يناديهم به أن يعبدوه وحده لَا إله غيره. وطلب العبادة من المؤمنين وغير المؤمنين، وتحقيقها في كل منهما بما يناسبه، فالكافرون الذين يعبدون مع الله تعالى الأنداد، ويتخذونهم شركاء لله - تعالى عن الشبيه والمثل - تكون عبادتهم بخلع عبادة الأوثان، والإيمان بواحد أحد فرد صمد، ليس بوالد ولا ولد، وتصديق الرسول - ﷺ - في كل ما جاء به وطاعته سبحانه فيما أمر به ونهى عنه، وبالخضوع الكامل له وحده سبحانه.
وبالنسبة للمؤمنين الذين آمنوا بالله ورسله، وصدقوا محمدا فيما جاء به من عند ربه العلي الأعلى، فإن ذلك يكون بزيادة الإيمان، والإذعان، والاستمرار على الإيمان والبقاء عليه مستوثقين، كلما جاءتهم آية زادتهم إيمانا لَا يرتابون، ويجتمعون ويكونون قوة في هذه الأرض، وإن الازدياد من العبادة عبادة في ذاته، وكأنها منشأة بعد أن لم تكن.
والعبادة الخضوع المطلق لله سبحانه وتعالى وحده بحيث يكون القلب كله لله تعالى، لَا يحب إلا لله ولا يكره إلا لله، والعبادات تعم الصلوات، والزكوات، والصوم والحج، وغير ذلك مما يكلفه العباد، حتى الأعمال التي تكون بها الحياة، كلها تكون عبادة إذا قصد بالخير فيها وجه الله تعالى، ونفع عباده، فالصانع في
155
مصنعه والزارع في مزرعته إذا قصد بعمله نفع الناس ووجه الله تعالى، فهو في عبادة، فالعبادة تعم كل أفعال الإنسان، واختصت من بينها الفرائض، لأنها لا يمكن أن تكون إلا لله تعالى، وهو عليم بذات الصدور.
وقد وصف الله - سبحانه وتعالى - ذاته العلية بصفات تدعو إلى العبادة، من له قلب يخشع، وعقل يخضع، فوصفه أولا بأنه الرب الأوحد، فقال (رَبَّكُمُ) أي رباكم ونماكم، أو وربكم: تولاكم، وكلأكم بالليل والنهار، ويتبع حياتكم، فيرعاكم حق الرعاية في كل أجزاء جسمكم، ونفوسكم وعقولكم، ولا تخفى عليه خافية من أموركم، وهو بهذه الربوبية يستحق أن تعبدوه وحده، لَا شريك له؛ لأنه لا أحد سواه يربكم.
ووصفه ثانيا بأنه (الَّذِي خَلَقَكُمْ) والخلق معناه الإنشاء والإبداع والتقدير والتصوير، صوركم، فأحسن صوركم، والعرب كانوا يعرفون الله تعالى، وأنه وحده الذي خلقهم، كما حكى الله تعالى عنهم: (وَلَئِن سَأَلْتَهم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ...) وكانوا يقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى...).
فهم يؤمنون بوحدة الخالق المنشئ المكون، ويؤمنون بوحدة الذات والصفات، وإشراكهم كان إشراك العبودية، فهم يعبدون مع الله غيره آلهة أخرى، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
ووصفه ثالثا بأنه خلق الذين من قبلهم، وقد يسأل سائل: لماذا كان هذا الوصف، والسابق يتضمنه، فمن خلق جيلا فإنه يخلق الأجيال كلها: من مضى، ومن حضر، ومن يجيء بعد ذلك من الأخلاف؟
والجواب على ذلك أنه لَا يغني المتضمن عن الصريح، وذكر الجيل السابق، أو الأجيال السالفة للإشارة أولا إلى عموم قدرته، وإلى أنه قادر على الإحياء والإماتة
وقد وصف الله - سبحانه وتعالى - ذاته العلية بصفات تدعو إلى العبادة، من له قلب يخشع، وعقل يخضع، فوصفه أولا بأنه الرب الأوحد، فقال (رَبَّكُمُ) أي رباكم ونماكم، أو وربكم: تولاكم، وكلأكم بالليل والنهار، ويتبع حياتكم، فيرعاكم حق الرعاية في كل أجزاء جسمكم، ونفوسكم وعقولكم، ولا تخفى عليه خافية من أموركم، وهو بهذه الربوبية يستحق أن تعبدوه وحده، لَا شريك له؛ لأنه لا أحد سواه يربكم.
ووصفه ثانيا بأنه (الَّذِي خَلَقَكُمْ) والخلق معناه الإنشاء والإبداع والتقدير والتصوير، صوركم، فأحسن صوركم، والعرب كانوا يعرفون الله تعالى، وأنه وحده الذي خلقهم، كما حكى الله تعالى عنهم: (وَلَئِن سَأَلْتَهم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ...) وكانوا يقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى...).
فهم يؤمنون بوحدة الخالق المنشئ المكون، ويؤمنون بوحدة الذات والصفات، وإشراكهم كان إشراك العبودية، فهم يعبدون مع الله غيره آلهة أخرى، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
ووصفه ثالثا بأنه خلق الذين من قبلهم، وقد يسأل سائل: لماذا كان هذا الوصف، والسابق يتضمنه، فمن خلق جيلا فإنه يخلق الأجيال كلها: من مضى، ومن حضر، ومن يجيء بعد ذلك من الأخلاف؟
والجواب على ذلك أنه لَا يغني المتضمن عن الصريح، وذكر الجيل السابق، أو الأجيال السالفة للإشارة أولا إلى عموم قدرته، وإلى أنه قادر على الإحياء والإماتة
156
فهو خلق السابقين، وأماتهم ثانيا، وللإشارة إلى أن الحاضرين ليسوا مخلدين، فهم سيموتون، كما مات من سبقوهم وسيبعثون جميعا يوم الدين، ولأن العرب كانوا يعتزون بأسلافهم فالله سبحانه وتعالى يبين أنه هو وحده الذي خلق أسلافهم، سواء كانوا ضالين أم كانوا مهتدين. وإن صفة الربوبية وصفة الخلق والتكوين للكون كله، ولمن حضر من الناس، ومن سبقوهم وقبروا في مقابرهم، تقتضي ألا يعبد سواه، ولا يحمد غيره، ولا يستحق الألوهية الحق غيره، فهو الله الواحد الأحد.
وقوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) متصل بقوله تعالى: (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) أي اعبدوه رجاء أن تتقوا بأن تقوا أنفسكم شر عذابه، وتكونوا في أمن من عقابه، و" لعل " الدالة على الرجاء، الرجاء فيها من العباد، والمعنى اعبدوا فالعبادة طريق التقوى ومعها رجاؤها، وتحقيقها، ويقولون إن التقوى أقصى درجات العبادة، لأن تغليب الخوف عبادة، ورجاء النجاة عبادة.
وقد يقال إن قوله تعالى: (ولَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) متصلة بقوله تعالى: (خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم) ومثل قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)، والمعنى أن الله تعالى خلق الناس في ماضيهم وحاضرهم وقابِلهم رجاء أن يعبدوه أبلغ العبادة بالتقوى وامتلاء النفس بهيبته، والاعتزاز بعزته.
وإن الله تعالى عالم بكل شيء فليس يجوز عليه الرجاء؛ لأنه يحتمل الوقوع وعدم الوقوع، والرجاء لَا يجوز أن يكون من أحوال الله تعالى، بل هو من أحوال الخلق.
ولذلك قرروا أن (لعل) هنا مجازية أي أنها ذكرت على سبيل المجاز، أي أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق، وجعل لهم سمعا وأبصارا وأفئدة وقدرة وقوة بها يختارون ويفعلون، لَا يقع شيء من أفعالهم الاختيارية إلا بإرادتهم، يدركون الأمور ويتخيرون ويعرفون أسبابها ونتائجها، فحالهم حال من يرجو أن يتجهوا نحو العبادة
وقوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) متصل بقوله تعالى: (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) أي اعبدوه رجاء أن تتقوا بأن تقوا أنفسكم شر عذابه، وتكونوا في أمن من عقابه، و" لعل " الدالة على الرجاء، الرجاء فيها من العباد، والمعنى اعبدوا فالعبادة طريق التقوى ومعها رجاؤها، وتحقيقها، ويقولون إن التقوى أقصى درجات العبادة، لأن تغليب الخوف عبادة، ورجاء النجاة عبادة.
وقد يقال إن قوله تعالى: (ولَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) متصلة بقوله تعالى: (خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم) ومثل قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)، والمعنى أن الله تعالى خلق الناس في ماضيهم وحاضرهم وقابِلهم رجاء أن يعبدوه أبلغ العبادة بالتقوى وامتلاء النفس بهيبته، والاعتزاز بعزته.
وإن الله تعالى عالم بكل شيء فليس يجوز عليه الرجاء؛ لأنه يحتمل الوقوع وعدم الوقوع، والرجاء لَا يجوز أن يكون من أحوال الله تعالى، بل هو من أحوال الخلق.
ولذلك قرروا أن (لعل) هنا مجازية أي أنها ذكرت على سبيل المجاز، أي أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق، وجعل لهم سمعا وأبصارا وأفئدة وقدرة وقوة بها يختارون ويفعلون، لَا يقع شيء من أفعالهم الاختيارية إلا بإرادتهم، يدركون الأمور ويتخيرون ويعرفون أسبابها ونتائجها، فحالهم حال من يرجو أن يتجهوا نحو العبادة
157
يبتغونها، فالرجاء من حالهم، والله تعالى لَا يرجو، ولا يتصور منه، إنما يتصور منه العلم، ووقوع الأمر كما علم، وكما قدر.
وعندي أن الاتصال بين رجاء التقوى والأمر بالعبادة أظهر وأوضح، ولا إشكال فيه.
وقد بين سبحانه بعد ذلك بديع التكوين، والنعم التي ينعم بها العباد، فقال تعالت كلماته:
وعندي أن الاتصال بين رجاء التقوى والأمر بالعبادة أظهر وأوضح، ولا إشكال فيه.
وقد بين سبحانه بعد ذلك بديع التكوين، والنعم التي ينعم بها العباد، فقال تعالت كلماته:
158
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا... (٢٢)
جعل تستعمل بمعنى صير، وتستعمل بمعنى خلق، كما قال الله تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ)، وقوله تعالى: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ...)
، وتأتي بمعنى سمَّى، كما في قوله تعالى: (وَجَعَلُوا الملائكةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا...)، وتأتي بمعنى أخذ واتخذ.
وجعل هنا بمعنى صيَّر لأنها ذات مفعولين، الأول (الأَرْضَ) والثاني (فِرَاشًا)، والمعنى جعل الله تعالى الأرض ممهدة معبدة كأنها فراش يستقر عليه الإنسان، ويجد فيها مقاما ثابتا، وإذا كان فيها نتوء كالجبال فقد جعلها الله تعالى مثبتا لذلك الفراش، ولذلك قال تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا)، وقد وصفت الأرض بأن الله تعالى جعلها مهادا، ووصفت بأنه جعلها بساطا، فهي ممهدة كالفراش وكالبساط، وتلك نعمة من الله تعالى لتسهل الإقامة عليها، والانتقال بين آفاقها، والهجرة بين أجزائها، وهي للإنسان كالعرصة (١) في مسكنه، وكون الأرض فراشا لَا ينافي أنها كرة تدور حول الشمس، فإنها لعظمها وانبساطها تعد فراشا أو كالفراش، ولا يحس بأنها كرة إلا من تتبع الليل والنهار والشمس والقمر، والسير فيها من المشرق إلى المغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، وما يقرره العلم الاستقرائي المتتبع لما خلق الله سبحانه وتعالى.
________
(١) العَرصة: كل بُقْعَةِ بينَ الدُّورِ واسِعَةٍ ليت فيها بِناءٌ والجمع: عِراص)، وعَرَصاتٌ، وأعْراص). [القاموس المحيط - فصل العين - باب: عرص].
جعل تستعمل بمعنى صير، وتستعمل بمعنى خلق، كما قال الله تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ)، وقوله تعالى: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ...)
، وتأتي بمعنى سمَّى، كما في قوله تعالى: (وَجَعَلُوا الملائكةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا...)، وتأتي بمعنى أخذ واتخذ.
وجعل هنا بمعنى صيَّر لأنها ذات مفعولين، الأول (الأَرْضَ) والثاني (فِرَاشًا)، والمعنى جعل الله تعالى الأرض ممهدة معبدة كأنها فراش يستقر عليه الإنسان، ويجد فيها مقاما ثابتا، وإذا كان فيها نتوء كالجبال فقد جعلها الله تعالى مثبتا لذلك الفراش، ولذلك قال تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا)، وقد وصفت الأرض بأن الله تعالى جعلها مهادا، ووصفت بأنه جعلها بساطا، فهي ممهدة كالفراش وكالبساط، وتلك نعمة من الله تعالى لتسهل الإقامة عليها، والانتقال بين آفاقها، والهجرة بين أجزائها، وهي للإنسان كالعرصة (١) في مسكنه، وكون الأرض فراشا لَا ينافي أنها كرة تدور حول الشمس، فإنها لعظمها وانبساطها تعد فراشا أو كالفراش، ولا يحس بأنها كرة إلا من تتبع الليل والنهار والشمس والقمر، والسير فيها من المشرق إلى المغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، وما يقرره العلم الاستقرائي المتتبع لما خلق الله سبحانه وتعالى.
________
(١) العَرصة: كل بُقْعَةِ بينَ الدُّورِ واسِعَةٍ ليت فيها بِناءٌ والجمع: عِراص)، وعَرَصاتٌ، وأعْراص). [القاموس المحيط - فصل العين - باب: عرص].
158
(وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) أي وجعل السماء بناء، أي كأنها البناء أو الخباء الذي يحيط بأهله فهي السقف، أو كالسقف، ولقد قال تعالى: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا...)، ويقال: بني على أهله. أي: زفت إليه زوجه؛ لأنه من العادة المعروفة عندهم أن المرأة كانت إذا زفت لزوجها بني لها خباء يسترهما، فهي من الأرض بمنزلة الخباء الذي يحيط بها ويظلها؛ ولذا تسمى الأرض المُقلَّة وتسمى السماء التي نراها المُظِلَّة.
وإن الازدواج بين المظلة والمقلة تكون نتيجته الماء الذي ينزل من السماء مدرارا، فيكون غيثا ينبت الزرع، ويكون منه الكلأ تأكل منه الأنعام والحرث.
ولذا قال تعالى: (وَأَنزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً) أي مما كان بناء الأرض (مَاءً) ولم يقل من السحاب أو الغمام، وهي التي يتقاطر المطر منها، كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (٤٣)، فهذه الآية الكريمة تدل على أن الماء ينزل من السُّحُب المتراكمة التي تكون كالجبال، وعبر سبحانه وتعالى عن نزول الماء بأنه من السماء، لأنها وعاء السحاب، ولأنه سبحانه وتعالى مَنَّ على عباده، بأنه جعل السماء مظلة الأرض، فناسب أن يذكر السماء مضافه إليها نعمة أخرى، وهي نعمة نزول الماء الذي يكون به الخصب والنماء، كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءً حَيٍّ أَفَلا يؤْمِنُونَ).
وقد قال سبحانه بالتنكير: (وَأَنزَلَ مِنَ السمَاءِ مَاءً) أي أن هذا الماء بعض نعمه، فله نعم من الماء، وليس الماء الذي ينزل إلا بعضا من مياه كثيرة، تنزل فتفيض بها الأنهار، وتجري في الأقطار، فالتنكير للبعضية.
وقال سبحانه: (فَأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ) ومن للتبعيض مثل قوله تعالى: (فَأخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ...)، وأسند الإخراج إليه، فلم يقل سبحانه أخرجت الأرض، أو أنبتت الأرض، أو أنبت الماء نباتا، لبيان
وإن الازدواج بين المظلة والمقلة تكون نتيجته الماء الذي ينزل من السماء مدرارا، فيكون غيثا ينبت الزرع، ويكون منه الكلأ تأكل منه الأنعام والحرث.
ولذا قال تعالى: (وَأَنزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً) أي مما كان بناء الأرض (مَاءً) ولم يقل من السحاب أو الغمام، وهي التي يتقاطر المطر منها، كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (٤٣)، فهذه الآية الكريمة تدل على أن الماء ينزل من السُّحُب المتراكمة التي تكون كالجبال، وعبر سبحانه وتعالى عن نزول الماء بأنه من السماء، لأنها وعاء السحاب، ولأنه سبحانه وتعالى مَنَّ على عباده، بأنه جعل السماء مظلة الأرض، فناسب أن يذكر السماء مضافه إليها نعمة أخرى، وهي نعمة نزول الماء الذي يكون به الخصب والنماء، كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءً حَيٍّ أَفَلا يؤْمِنُونَ).
وقد قال سبحانه بالتنكير: (وَأَنزَلَ مِنَ السمَاءِ مَاءً) أي أن هذا الماء بعض نعمه، فله نعم من الماء، وليس الماء الذي ينزل إلا بعضا من مياه كثيرة، تنزل فتفيض بها الأنهار، وتجري في الأقطار، فالتنكير للبعضية.
وقال سبحانه: (فَأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ) ومن للتبعيض مثل قوله تعالى: (فَأخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ...)، وأسند الإخراج إليه، فلم يقل سبحانه أخرجت الأرض، أو أنبتت الأرض، أو أنبت الماء نباتا، لبيان
159
جلائل نعمته لأنه هو المخرج، وهو المنبت، وهو الذي يُربى البذر، وينتج الثمر، وتلك أسباب وهو خالق الأسباب والمسببات، فالمولود لَا يولد بنطفة الفحل، ولكن بخلق الله تعالى، وجعل سبحانه وتعالى النطفة سبب الوجود.
وقال تعالى: (رِزْقًا لَّكمْ) ورزق بمعنى المرزوق، فهو فِعْل بمعنى المفعول، كطحْن بمعنى المطحون، ونقض بمعنى المنقوض، وتنكير رزق إنما هو للبعضية، فالثمرات بعض الرزق الذي رزقه الله تعالى، فالنعم رزق من رزق الله تعالى لعباده، والفلزات في باطن الأرض من رزق الله تعالى لعباده، والسمك اللحم الطري من رزق الله تعالى، واللآلئ في البحار من رزق الله تعالى، فتنكير (رِزْقًا) في هذه الآية الكريمة التي نذكر معانيها للدلالة على البعضية، أي أنه بعض ما رزق الله: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا...).
وإنه إذا كانت هذه القدرة القاهرة التي خلقت الحاضرين والماضين ومهدت لهم الأرض تمهيدا، وجعلت لهم السماء سقفا محفوظا، وأنعمت برزق من زواج السماء بالأرض، وأخرجت لهم منها بعض رزق الله، وهو كثير، فهو وحده المستحق للعبادة وحده، إذ لَا قدرة لبشر ولا لحجر أن ينشئ خلقا أو يرزق رزقا؛ إذ لا ينفع ولا يضر؛ ولذا قال تعالى بعد هذه النعم في الخلق والتكوين: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّه أَندادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) الجعل هنا هو الاتخاذ، والند هو المثل الذي يفرض فيه أنه مماثل مناوئ، كما تقول فلان ند لفلان أي مثل مناوئ كفء له.
وهؤلاء المشركون مع إيمانهم بأن الله خالق كل شيء، ومجري النعم، ومنزل السحاب، مع علمهم بذلك يتخذون الأنداد ويشركون بها، يعبدونها مع الله سبحانه وتعالى وكأنها ند لله تعالى في زعمهم، وإنهم يفعلون ذلك، وهم يعلمون، أي هم يعلمون أن الله وحده هو خالق كل شيء، وأنه منزل النعم، وأنهم لَا يستجيرون إلا به أو نقول: (وَأَنتمْ تَعْلَمُونَ) أنهم من أهل المعرفة والإدراك، والفهم والذكاء، ولا يليق بذكائهم أن يجعلوا المخلوق كالخالق، ومن لَا يضر ولا ينفع كمن يملك الضر والنفع، أو إنهم يعقلون ويدركون، فذلك حث لهم على الإيمان بإثارة علمهم وعقلهم وتفكيرهم.
* * *
وقال تعالى: (رِزْقًا لَّكمْ) ورزق بمعنى المرزوق، فهو فِعْل بمعنى المفعول، كطحْن بمعنى المطحون، ونقض بمعنى المنقوض، وتنكير رزق إنما هو للبعضية، فالثمرات بعض الرزق الذي رزقه الله تعالى، فالنعم رزق من رزق الله تعالى لعباده، والفلزات في باطن الأرض من رزق الله تعالى لعباده، والسمك اللحم الطري من رزق الله تعالى، واللآلئ في البحار من رزق الله تعالى، فتنكير (رِزْقًا) في هذه الآية الكريمة التي نذكر معانيها للدلالة على البعضية، أي أنه بعض ما رزق الله: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا...).
وإنه إذا كانت هذه القدرة القاهرة التي خلقت الحاضرين والماضين ومهدت لهم الأرض تمهيدا، وجعلت لهم السماء سقفا محفوظا، وأنعمت برزق من زواج السماء بالأرض، وأخرجت لهم منها بعض رزق الله، وهو كثير، فهو وحده المستحق للعبادة وحده، إذ لَا قدرة لبشر ولا لحجر أن ينشئ خلقا أو يرزق رزقا؛ إذ لا ينفع ولا يضر؛ ولذا قال تعالى بعد هذه النعم في الخلق والتكوين: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّه أَندادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) الجعل هنا هو الاتخاذ، والند هو المثل الذي يفرض فيه أنه مماثل مناوئ، كما تقول فلان ند لفلان أي مثل مناوئ كفء له.
وهؤلاء المشركون مع إيمانهم بأن الله خالق كل شيء، ومجري النعم، ومنزل السحاب، مع علمهم بذلك يتخذون الأنداد ويشركون بها، يعبدونها مع الله سبحانه وتعالى وكأنها ند لله تعالى في زعمهم، وإنهم يفعلون ذلك، وهم يعلمون، أي هم يعلمون أن الله وحده هو خالق كل شيء، وأنه منزل النعم، وأنهم لَا يستجيرون إلا به أو نقول: (وَأَنتمْ تَعْلَمُونَ) أنهم من أهل المعرفة والإدراك، والفهم والذكاء، ولا يليق بذكائهم أن يجعلوا المخلوق كالخالق، ومن لَا يضر ولا ينفع كمن يملك الضر والنفع، أو إنهم يعقلون ويدركون، فذلك حث لهم على الإيمان بإثارة علمهم وعقلهم وتفكيرهم.
* * *
160
القرآن المعجز
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (٢٤)
* * *
دعا الله سبحانه وتعالى الناس جميعا إلى أن يعبدوه، وذكر لهم سبحانه وتعالى من النعم الظاهرة، والقدرة القاهرة التي يخضع لها الوجود كله ما يدل على أنه وحده الذي يستحق أن يعبد، فالذين يعبدونهم مما يجعلونهم أندادا لله تعالى لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولكن الإيمان لَا يتم إلا بالإيمان بالرسول الذي جاء بالحق والذي بعث رحمة للعالمين، وقد أتى لهم بما يدل على أن الله تعالى بعثه إليهم، وهو القرآن الكريم الذي يعجز البشر عن أن يأتوا بمثله، وهو الكتاب الجدير وحده بأن يسمى كتابا؛ لأنه كتاب الله تعالى إلى خليقته يهديهم إلى سبل السلام، وهو برهان محمد - ﷺ -، وهو الخالد إلى يوم الدين، فالمعجزات المادية الحسية تنتهي بانتهاء زمانها، أما القرآن الكريم، فإنه قائم إلى يوم الدين، يتحدى الناس في كل جيل أن يأتوا بمثله، ولقد قال - ﷺ -: " ما من الأنبياء نبي إلا أُعطِي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " (١) لأنَّ معجزته التي تحدى بها أن يأتوا بمثلها ما زالت قائمة لم ينقضِ زمانها، ولقد كان للنبي - ﷺ - خوارق حسية جرت على يديه، ولكنه ما تحدى بها، بل تحدى بالقرآن لأنه معجزته الخالدة الباقية: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨).
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: فضائل القرآن - كيف نزل الوحي وأول ما نزل (٤٩٨)، ومسلم. الإيمان - وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - ﷺ - (١٥٢) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (٢٤)
* * *
دعا الله سبحانه وتعالى الناس جميعا إلى أن يعبدوه، وذكر لهم سبحانه وتعالى من النعم الظاهرة، والقدرة القاهرة التي يخضع لها الوجود كله ما يدل على أنه وحده الذي يستحق أن يعبد، فالذين يعبدونهم مما يجعلونهم أندادا لله تعالى لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولكن الإيمان لَا يتم إلا بالإيمان بالرسول الذي جاء بالحق والذي بعث رحمة للعالمين، وقد أتى لهم بما يدل على أن الله تعالى بعثه إليهم، وهو القرآن الكريم الذي يعجز البشر عن أن يأتوا بمثله، وهو الكتاب الجدير وحده بأن يسمى كتابا؛ لأنه كتاب الله تعالى إلى خليقته يهديهم إلى سبل السلام، وهو برهان محمد - ﷺ -، وهو الخالد إلى يوم الدين، فالمعجزات المادية الحسية تنتهي بانتهاء زمانها، أما القرآن الكريم، فإنه قائم إلى يوم الدين، يتحدى الناس في كل جيل أن يأتوا بمثله، ولقد قال - ﷺ -: " ما من الأنبياء نبي إلا أُعطِي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " (١) لأنَّ معجزته التي تحدى بها أن يأتوا بمثلها ما زالت قائمة لم ينقضِ زمانها، ولقد كان للنبي - ﷺ - خوارق حسية جرت على يديه، ولكنه ما تحدى بها، بل تحدى بالقرآن لأنه معجزته الخالدة الباقية: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨).
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: فضائل القرآن - كيف نزل الوحي وأول ما نزل (٤٩٨)، ومسلم. الإيمان - وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - ﷺ - (١٥٢) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
161
هذه الآيات التي نتكلم متسامين إلى معانيها هي مما تحدى القرآن الكريم بها العرب بعد أن ذكر قدرة الله ونعمه التي تثبت وحدانيته في العبودية. هذه الآيات من التحدي الشامخ التي أثبت عجزهم.
قال تعالى:
قال تعالى:
162
(وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْب مِّمَّا نَرلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) ذكر سبحانه وتعالى احتمال أن يكونوا في ريب من أن القرآن من عند الله، وأنه الدلالة الدالة على نبوة محمد - ﷺ -، فقال: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْب) عبر سبحانه بأداة الشرط التي لَا تدل على وقوع الريب قطعًا " إذ "؛ لأن التعبير بـ " إن " يدل على الشك في فعل الشرط، لا على تحققه للإشارة - إلى أنهم لو كانوا في شك من أمر القرآن حقيقة، وأنهم يستطيعون أن يأتوا بمثله، كما كانوا يقولون (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا...)، ما كان ذلك مبنيا على تفكير سليم، إذ إن أي تدبر وتفكير في معانيه يزيل كل ريب، ويوجه إلى الحقيقة توجيها مستقيما، لَا مجال فيه لأي ريب أو أي شك.
وهنا يسأل سائل: لقد وصف القرآن الكريم في أول السورة بأنه لَا ريب فيه، فكيف يتصور أن يكون ثمة ريب فيه؟. ونقول في الجواب عن ذلك: إن الريب منهم لَا منه في ذاته، فهو في ذاته يعلو عن الريب، لأنه يعلو عن المثل والشبيه في تساوق ألفاظه ومعانيه، وجمال فواصله، ورنة نغمه، وحلاوة موسيقاه، وكل ما اشتمل عليه مما أدهش المشركين، وحاروا، ولم يجدوا محيصا من الإذعان والسكوت والانتقال من العجز الذليل إلى الاضطهاد والإيذاء.
وقوله تعالى: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْب) بالتعبير بكان المصورة لما وقع منهم، إشارة إلى أنه لَا ريب فيه لذاته، وإنما الريب من عقولهم المنحرفة. ونفوسهم الوثنية، التي استهوتها الأحجار فعبدتها. فالشك منهم، والقرآن أعلى من ذلك، ولا ريب فيه، وفي أنه من العزيز الحكيم، الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وهنا يسأل سائل: لقد وصف القرآن الكريم في أول السورة بأنه لَا ريب فيه، فكيف يتصور أن يكون ثمة ريب فيه؟. ونقول في الجواب عن ذلك: إن الريب منهم لَا منه في ذاته، فهو في ذاته يعلو عن الريب، لأنه يعلو عن المثل والشبيه في تساوق ألفاظه ومعانيه، وجمال فواصله، ورنة نغمه، وحلاوة موسيقاه، وكل ما اشتمل عليه مما أدهش المشركين، وحاروا، ولم يجدوا محيصا من الإذعان والسكوت والانتقال من العجز الذليل إلى الاضطهاد والإيذاء.
وقوله تعالى: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْب) بالتعبير بكان المصورة لما وقع منهم، إشارة إلى أنه لَا ريب فيه لذاته، وإنما الريب من عقولهم المنحرفة. ونفوسهم الوثنية، التي استهوتها الأحجار فعبدتها. فالشك منهم، والقرآن أعلى من ذلك، ولا ريب فيه، وفي أنه من العزيز الحكيم، الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
162
وقد يقال: إنهم لم يكونوا في ريب من أمره، بل كانوا جازمين بأنه ليس من عند الله، بدليل قوله تعالى: (إِن كُنتُمْ صادِقِينَ) في تكذيبكم، فنقول في ذلك: إنهم كانوا جازمين في تكذيب أنه من عند الله تعالى، ولكن النص القرآني ينبههم إلى أن حالهم في مثل إدراكهم البياني وذوقهم البلاغي، وكونهم مقاول العرب، وأهل الفصاحة والبيان والدربة في القول، ومعرفة موازينه، وتنبههم الآية الكريمة إلى أن مثلهم في حالهم لَا ينبغي أن يجزموا منكرين، بل يترددوا حتى يصلوا إلى الحقيقة، في أمر هذا النوع من القول الذي لَا ينهد إلى مكانته قول من أقوالهم.
وإن الثابت في سيرة رسول الله - ﷺ - أنه كان له أثر في نفوسهم، وأحسوا بأنه فوق ما يقوله البشر، فقال بعضهم: " إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وأسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، ما يقول هذا بشر "، وكانوا يتفاهمون فيما بينهم على ألا يسمعوه: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)، فإذا اتفقوا على ذلك ذهب كل واحد منهم سرا إلى حيث يسمعونه، وكل يظن أنه وحده الذي جاء يستمع إليه، فإذا هم يلتقون، وينقضون ما اتفقوا عليه.
ولذلك سموه سحرا، وسموا النبي - ﷺ - ساحرا.
ولذلك نقول: إن ذكر القرآن الكريم لهم بأنهم كانوا في ريب منه وخصوصا أهل العلم بالبيان منهم وصف صادق، فما كانوا مؤمنين به، وما كانوا منكرين إنكارًا قاطعا بأنه ليس من عند الله؛ ولذلك لم يعرف عن أحد من عقلائهم أنه أراد أن يأتي بمثله، وإن تنكير الريب دليل على أنه ريب ليس بالقوي، أو الشديد، وذلك لكمال وضوح الأدلة الدالة على أنه ليس من طاقة أحد أن يأتي بمثله، وإن الشك إن كان منهم فليس له محل ولا مسوغ.
ومِن في قوله تعالى: (مِّمَّا نَزَّلْنَا) معناها بيان موضع الشك الذي يثور عندهم، فيقال في شك من الأمر، باعتبار أن موضع الشك هو الأمر، وقوله
وإن الثابت في سيرة رسول الله - ﷺ - أنه كان له أثر في نفوسهم، وأحسوا بأنه فوق ما يقوله البشر، فقال بعضهم: " إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وأسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، ما يقول هذا بشر "، وكانوا يتفاهمون فيما بينهم على ألا يسمعوه: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)، فإذا اتفقوا على ذلك ذهب كل واحد منهم سرا إلى حيث يسمعونه، وكل يظن أنه وحده الذي جاء يستمع إليه، فإذا هم يلتقون، وينقضون ما اتفقوا عليه.
ولذلك سموه سحرا، وسموا النبي - ﷺ - ساحرا.
ولذلك نقول: إن ذكر القرآن الكريم لهم بأنهم كانوا في ريب منه وخصوصا أهل العلم بالبيان منهم وصف صادق، فما كانوا مؤمنين به، وما كانوا منكرين إنكارًا قاطعا بأنه ليس من عند الله؛ ولذلك لم يعرف عن أحد من عقلائهم أنه أراد أن يأتي بمثله، وإن تنكير الريب دليل على أنه ريب ليس بالقوي، أو الشديد، وذلك لكمال وضوح الأدلة الدالة على أنه ليس من طاقة أحد أن يأتي بمثله، وإن الشك إن كان منهم فليس له محل ولا مسوغ.
ومِن في قوله تعالى: (مِّمَّا نَزَّلْنَا) معناها بيان موضع الشك الذي يثور عندهم، فيقال في شك من الأمر، باعتبار أن موضع الشك هو الأمر، وقوله
163
تعالى: (نَزَّلْنَا) تدل على التنزيل منجما زمنا بعد زمن، ولم ينزل دفعة واحدة، وكانوا يثيرون الشك حوله بسبب ذلك، وقد قال تعالى فيما حكى عنهم: (وَقَالَ الَّذِينَ كفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاه تَرتِيلًا)، فكان مما يثير ريبهم الباطل أن القرآن لم ينزل دفعة، ولكنه نزل منجما ليثبت به قلب النبي - ﷺ -، وليتعلم ترتيله، ويعلمه أصحابه؛ وليحفظوه في الصدور ولا يكتفى بالسطور.
وذكر الله تعالى تنزيله على النبي - ﷺ - بقوله تعالت كلماته: (مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) وهو محمد - ﷺ - ذكره بالعبودية لله تعالى، وفي ذلك تشريف للنبي - ﷺ -، وبيان لحماية الله تعالى له، وبيان بأن الرسالة لَا تبعده عن مقام العبودية فهو عبد لله تعالى، ولن يستنكف أن يكون عبدا لله تعالى، وأن الله تعالى عاصمه في رسالته من الناس كما قال تعالى: (وَاللَّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ...).
كان فعل الشرط هو قوله تعالى: (وَإِن كنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) وكان جواب الشرط هو التحدي بالمطلب العجز وهو قوله: (فَأْتوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ) وهذا تحد للإعجاز، كما جاء في حكاية إبراهيم مع الطاغية عندما تحداه أن يأتي بالشمس من المغرب بدل المشرق إذ قال تعالى حكاية عن ذلك: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨). والتحدي: هو أن يأتوا بسورة من مثله: السورة عدد من الآيات أقلها ثلاث كما في قوله تعالى في سورة الكوثر: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هوَ الأَبْتَرُ)، وهي في أصلها من السُّور لأنها تحيط العدد من الآيات كأنها سور حولها، يحيط، أو من السورة وهي الدرجة الرفيعة،
وذكر الله تعالى تنزيله على النبي - ﷺ - بقوله تعالت كلماته: (مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) وهو محمد - ﷺ - ذكره بالعبودية لله تعالى، وفي ذلك تشريف للنبي - ﷺ -، وبيان لحماية الله تعالى له، وبيان بأن الرسالة لَا تبعده عن مقام العبودية فهو عبد لله تعالى، ولن يستنكف أن يكون عبدا لله تعالى، وأن الله تعالى عاصمه في رسالته من الناس كما قال تعالى: (وَاللَّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ...).
كان فعل الشرط هو قوله تعالى: (وَإِن كنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) وكان جواب الشرط هو التحدي بالمطلب العجز وهو قوله: (فَأْتوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ) وهذا تحد للإعجاز، كما جاء في حكاية إبراهيم مع الطاغية عندما تحداه أن يأتي بالشمس من المغرب بدل المشرق إذ قال تعالى حكاية عن ذلك: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨). والتحدي: هو أن يأتوا بسورة من مثله: السورة عدد من الآيات أقلها ثلاث كما في قوله تعالى في سورة الكوثر: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هوَ الأَبْتَرُ)، وهي في أصلها من السُّور لأنها تحيط العدد من الآيات كأنها سور حولها، يحيط، أو من السورة وهي الدرجة الرفيعة،
164
والسورة يتحقق فيها المعنيان، فهما متحققان في معنى السورة، فهي درجة من درجات البيان الرفيع لَا تتفاوت مقاديرها وتتلاحق في درجاتها وتقديرها، وكل واحدة لها مقامها حتى أنها لتسمَّى قرآنا وحدها.
ومِن في قوله تعالى: (مِّن مِّثْلِهِ) بيانية، والمعنى على ذلك فأتوا بسورة من كتاب مثله إن كان في استطاعتكم أن تأتوا بكتاب مثله، فأتوا بسورة منه تكون واضحة التماثل والتشابه بها.
وقال بعض العلماء أن " من " زائدة لتقوية السياق وتكون كقوله تعالى: (قُلْ فأْتوا بِسُورَةٍ مثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)، ولا يقال في القرآن إن حرفا زائد.
تحداهم سبحانه وتعالى أن يأتوا بسورة من قراءة (مِّثْلِهِ) يستطيعون بها أن يقولوا بها كما يقولون: (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا...)، ، تحداهم ذلك التحدي، وتحداهم أن يدعوا من يشاءون ممن ينصرونهم ويؤازرونهم في الملمات والشدائد، وهذا معنى قوله تعالى: (وَادْعُوا شُهَداءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ) الشهداء جمع شهيد، وهو الحاضر؛ أي ادعوا الحاضرين الذين يناصرونكم ويعاونونكم في الملمات واجْمِعُوا أمركم من دون الله أي متجاوزين الله سبحانه أو من تجمعونهم مهما يكونوا دون الله تعالى، فشهداؤكم مهما تكن قوتهم، ومهما تكونوا تفزعون إليهم في أموركم وعظائمها؛ فإنهم لَا يمكن أن يأتوا بذلك. افعلوا ذلك: إن كنتم صادقين في دعواكم أنكم تستطيعون، وهذا كقوله تعالى في التحدي: (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتمْ صَادِقِينَ).
كان التحدي من الله سبحانه وتعالى وكان العجز منهم، وقد كان التحدي يطالبهم بأن يجمعوا من يشاءون ومن يستطيعون جمعه من الأنصار والمقاويل ليقولوا، ولكنهم عجزوا لَا بصرف الهمم، ولكن لعجزهم، فكان الإعجاز في ذات القرآن لَا بصرف الأفهام كما ادعى المقلدون من الفلاسفة وبعض علماء الكلام.
ومِن في قوله تعالى: (مِّن مِّثْلِهِ) بيانية، والمعنى على ذلك فأتوا بسورة من كتاب مثله إن كان في استطاعتكم أن تأتوا بكتاب مثله، فأتوا بسورة منه تكون واضحة التماثل والتشابه بها.
وقال بعض العلماء أن " من " زائدة لتقوية السياق وتكون كقوله تعالى: (قُلْ فأْتوا بِسُورَةٍ مثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)، ولا يقال في القرآن إن حرفا زائد.
تحداهم سبحانه وتعالى أن يأتوا بسورة من قراءة (مِّثْلِهِ) يستطيعون بها أن يقولوا بها كما يقولون: (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا...)، ، تحداهم ذلك التحدي، وتحداهم أن يدعوا من يشاءون ممن ينصرونهم ويؤازرونهم في الملمات والشدائد، وهذا معنى قوله تعالى: (وَادْعُوا شُهَداءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ) الشهداء جمع شهيد، وهو الحاضر؛ أي ادعوا الحاضرين الذين يناصرونكم ويعاونونكم في الملمات واجْمِعُوا أمركم من دون الله أي متجاوزين الله سبحانه أو من تجمعونهم مهما يكونوا دون الله تعالى، فشهداؤكم مهما تكن قوتهم، ومهما تكونوا تفزعون إليهم في أموركم وعظائمها؛ فإنهم لَا يمكن أن يأتوا بذلك. افعلوا ذلك: إن كنتم صادقين في دعواكم أنكم تستطيعون، وهذا كقوله تعالى في التحدي: (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتمْ صَادِقِينَ).
كان التحدي من الله سبحانه وتعالى وكان العجز منهم، وقد كان التحدي يطالبهم بأن يجمعوا من يشاءون ومن يستطيعون جمعه من الأنصار والمقاويل ليقولوا، ولكنهم عجزوا لَا بصرف الهمم، ولكن لعجزهم، فكان الإعجاز في ذات القرآن لَا بصرف الأفهام كما ادعى المقلدون من الفلاسفة وبعض علماء الكلام.
165
وإنه بمقتضى الحكم السليم والمنطق المستقيم أنهم إذا عجزوا ذلك العجز الصارخ أن يذعنوا للحق الذي جاءهم؛ ولذا قال تعالت كلماته:
166
(فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة... (٢٤) فإن لم تفعلوا أي لم تأتوا بمثله، أو بسورة من مثله، بعد أن تتضافروا وتتعاونوا، وتدعوا من استطعتم أن تدعوه، ومع ذلك تعجزون عن أن تأتوا فاعلموا أن ريبكم لَا موضع له، وأنه شك حيث يجب اليقين، وعناد حيث يجب التسليم، وعليكم أن تتخذوا الإيمان وتدخلوا في الإسلام، وتتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة التي تعبدونها تحقيقا لقوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ).
فقوله تعالى: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقودُهَا النَّاس وَالْحِجَارَة) جواب الشرط في ظاهر اللفظ، وهي تطوي في ثناياها كلاما هو بمنزلة السبب لهذا الجواب، تقديره: فإن لم تأتوا بمثله فدعوا عنادكم، وصدقوا بالحق الذي جاءكم، وبذلك تتقون النار التي يكون وقودها أنتم والحجارة التي تعبدونها، وإن جواب الشرط على هذا إنذار بعد ذكر البرهان على الحق.
الوقود هو ما تستعر به النيران وتشتعل، وذكر الحجارة التي لَا تنفع ولا تضر تنديد بهم وبعقولهم التي تعبد ما لَا ينفع ولا يضر، ويضل ولا يهدي.
وقوله تعالى: (وَلَن تَفْعَلوا) جملة معترضة بين الشرط وجوابه، وهي مسارعة إلى بيان عجزهم، لأنه من الله، وجعله الله تعالى فوق فدرة البشر، وأن الإنس والجن لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله لَا يستطيعون، فكانت هذه الجملة الاعتراضية لتسجيل العجز المطلق، ونتيجته وهي أن يتقوا النار التي أعدت وهيئت للكافرين الجاحدين المعاندين للحق، وهذه الآية الكريمة كانت في سورة مدنية، وهي تدل على استمرار التحدي بالقرآن في المدينة. كما تحدى به في مكة، وكما يتحدى الأجيال كلها من بعد ذلك.
فقوله تعالى: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقودُهَا النَّاس وَالْحِجَارَة) جواب الشرط في ظاهر اللفظ، وهي تطوي في ثناياها كلاما هو بمنزلة السبب لهذا الجواب، تقديره: فإن لم تأتوا بمثله فدعوا عنادكم، وصدقوا بالحق الذي جاءكم، وبذلك تتقون النار التي يكون وقودها أنتم والحجارة التي تعبدونها، وإن جواب الشرط على هذا إنذار بعد ذكر البرهان على الحق.
الوقود هو ما تستعر به النيران وتشتعل، وذكر الحجارة التي لَا تنفع ولا تضر تنديد بهم وبعقولهم التي تعبد ما لَا ينفع ولا يضر، ويضل ولا يهدي.
وقوله تعالى: (وَلَن تَفْعَلوا) جملة معترضة بين الشرط وجوابه، وهي مسارعة إلى بيان عجزهم، لأنه من الله، وجعله الله تعالى فوق فدرة البشر، وأن الإنس والجن لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله لَا يستطيعون، فكانت هذه الجملة الاعتراضية لتسجيل العجز المطلق، ونتيجته وهي أن يتقوا النار التي أعدت وهيئت للكافرين الجاحدين المعاندين للحق، وهذه الآية الكريمة كانت في سورة مدنية، وهي تدل على استمرار التحدي بالقرآن في المدينة. كما تحدى به في مكة، وكما يتحدى الأجيال كلها من بعد ذلك.
166
لقد تحداهم الله تعالى في سور مكية مثل قوله تعالى في سورة هود: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٣)، وقال تعالى: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٨).
وقال تعالى في سورة القصص: (قُلْ فَأتُوا بِكِتَابٍ منْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كنتُمْ صَادِقِينَ)، وندع الكلام في أسباب إعجاز القرآن، فقد خصصنا له كتابا، وصلنا فيه إلى سبب الإعجاز بقدر طاقتنا.
* * *
وقال تعالى في سورة القصص: (قُلْ فَأتُوا بِكِتَابٍ منْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كنتُمْ صَادِقِينَ)، وندع الكلام في أسباب إعجاز القرآن، فقد خصصنا له كتابا، وصلنا فيه إلى سبب الإعجاز بقدر طاقتنا.
* * *
167
(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥)
* * *
بعد أن أشار سبحانه إلى ما أعد للكافرين، وهو النار التي وقودها الناس والحجارة التي كانوا يعبدونها، فتلك حصب جهنم، وقد أعدت تلك النار للذين يكفرون بالوحدانية وينكرون الرسالة الإلهية، والعصاة يقيمون فيها بقدر معاصيهم إلا أن يتغمدهم الله تعالى بعفوه وغفرانه ورحمته.
بعد هذا ذكر سبحانه ما أعده للمتقين المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وهكذا يقرن الله ترهيبه بترغيبه، فهو يرهب أهل الجحود بالإنذار الشديد ليقرع الحق أسماعهم، بعد أن سلك بهم طريق الحجة والبرهان، وبيان القسطاس المستقيم، ولكن إذا لم يدخل إلى قلوبهم كانت العاقبة ما يستقبلهم من عذاب شديد.
* * *
بعد أن أشار سبحانه إلى ما أعد للكافرين، وهو النار التي وقودها الناس والحجارة التي كانوا يعبدونها، فتلك حصب جهنم، وقد أعدت تلك النار للذين يكفرون بالوحدانية وينكرون الرسالة الإلهية، والعصاة يقيمون فيها بقدر معاصيهم إلا أن يتغمدهم الله تعالى بعفوه وغفرانه ورحمته.
بعد هذا ذكر سبحانه ما أعده للمتقين المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وهكذا يقرن الله ترهيبه بترغيبه، فهو يرهب أهل الجحود بالإنذار الشديد ليقرع الحق أسماعهم، بعد أن سلك بهم طريق الحجة والبرهان، وبيان القسطاس المستقيم، ولكن إذا لم يدخل إلى قلوبهم كانت العاقبة ما يستقبلهم من عذاب شديد.
167
ومن " أشد " العذاب أن يروا مآلهم، ومآل أهل الإيمان، فهم بسبب عنادهم معذبون سلبًا وإيجابًا.. معذبون سلبا بحرمانهم مما جزى به أهل الإيمان من جنات ونعيم، ومعذبون إيجابا بعذاب الجحيم.
(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ) بشر فعل أمر من التبشير، وأصله من البشارة، وأصلها الخبر الذي يجيء المبلغ به فتبدو آثار السرور على بشرته، فهو الخبر بالأمر الذي يسر ولا يضر، ويكون أول الخبر بالسرور، وصاحبه يسمى البشير: (فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاه عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا)، والنبي - ﷺ - هو البشير النذير، الذي يبشر أهل الحق واليقين، وينذر أهل الجحود والإنكار.
وقد تطلق على سبيل المجاز كلمة التبشير في مقام التهديد والإنذار كقوله تعالى: (فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، وهذا على سبيل السخرية والتهكم، كأنهم يترقبون مايسرهم، فيجيء الخبر بما يضرهم ويسمى باسم البشارة تهكما بهم، وإشارة إلى أن ذلك ما يجب أن ينتظروه ويترقبوه، والله محيط بهم.
وقوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فيه إشارة إلى سبب البشارة، لأن التعبير باسم الموصول دليل على أن الصلة سبب الحكم، فالإيمان والعمل الصالح هما السبب في البشارة، أو هما السبب في الجزاء بأن تكون لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وثمرات الجنة المتشابهة المختلفة الطعوم.
والإيمان هو التصديق والإذعان بالقلب، وأن يصدق المؤمن بكل ما جاء به النبي - ﷺ -، وأن يصدق الرسول في كل ما جاء به مذعنا له، مصدقا بأنه من عند الله تعالى، والإسلام هو إعلان الإيمان، والإذعان لأحكام الإسلام، ولقد قال النبي - ﷺ -: " الإسلام علانية، والإيمان في القلب.. " (١) ولقد حدث في أثناء
________
(١) أخرجه أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه: باقي مسند المكثرين (١١٩٣٣).
(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ) بشر فعل أمر من التبشير، وأصله من البشارة، وأصلها الخبر الذي يجيء المبلغ به فتبدو آثار السرور على بشرته، فهو الخبر بالأمر الذي يسر ولا يضر، ويكون أول الخبر بالسرور، وصاحبه يسمى البشير: (فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاه عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا)، والنبي - ﷺ - هو البشير النذير، الذي يبشر أهل الحق واليقين، وينذر أهل الجحود والإنكار.
وقد تطلق على سبيل المجاز كلمة التبشير في مقام التهديد والإنذار كقوله تعالى: (فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، وهذا على سبيل السخرية والتهكم، كأنهم يترقبون مايسرهم، فيجيء الخبر بما يضرهم ويسمى باسم البشارة تهكما بهم، وإشارة إلى أن ذلك ما يجب أن ينتظروه ويترقبوه، والله محيط بهم.
وقوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فيه إشارة إلى سبب البشارة، لأن التعبير باسم الموصول دليل على أن الصلة سبب الحكم، فالإيمان والعمل الصالح هما السبب في البشارة، أو هما السبب في الجزاء بأن تكون لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وثمرات الجنة المتشابهة المختلفة الطعوم.
والإيمان هو التصديق والإذعان بالقلب، وأن يصدق المؤمن بكل ما جاء به النبي - ﷺ -، وأن يصدق الرسول في كل ما جاء به مذعنا له، مصدقا بأنه من عند الله تعالى، والإسلام هو إعلان الإيمان، والإذعان لأحكام الإسلام، ولقد قال النبي - ﷺ -: " الإسلام علانية، والإيمان في القلب.. " (١) ولقد حدث في أثناء
________
(١) أخرجه أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه: باقي مسند المكثرين (١١٩٣٣).
168
الدعوة المحمدية، وتبليغ الرسالة، أن كان بعض الأعراب يعلن اتباع النبي - ﷺ -، ولكن القلوب لم تذعن إذعانا كاملا، ؛ ولذلك قال الله تعالى عنهم: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ...)، ولقد روى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله - ﷺ - كان يقول: " الإسلام علانية والإيمان في القلب. قال: ثم يشير إلى صدره ثلاث مرات ويقول: التقوى هاهنا، التقوى هاهنا (١).
ولقد ذكر الله مع الإيمان العمل الصالح، فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) والعمل الصالح هو العمل الذي يصلح به الناس وتستقيم جماعتهم، وتأتلف قلوبهم، ويكون فيه صلاح الأرض، ولا يكون فسادهم، وهو الذي يسوده الإيثار، فحيث كان وجد الائتلاف، ومع الائتلاف الخير والقوة، ولا يكون فيه الأثرة، فإنها حيث كانت وجدت الفرقة، ووجد الانقسام وذهبت القوة.
ويشمل العمل الصالح الصلوات والزكوات، والصيام والحج، كما يشمل كل خير يقدم للمجتمع، كما روى أن النبي - ﷺ - قال: " خير الناس أنفعهم للناس " (٢). ولا شك أن العمل الصالح ثمرة من ثمرات الإيمان الصادق، والإذعان المطلق لله سبحانه وتعالى، والطاعة الكاملة لرسول الله - ﷺ -.
ولكن هل يزيد الإيمان بالعمل الصالح، وينقص بترك العمل بموجبه وما يقتضيه ويدعو إليه؛ وهي قضية يخوض فيها علماء الكلام من حيث إن الإيمان يزيد وينقص أو لَا يزيد ولا ينقص، وأنه حقيقة واحدة، وهي التصديق والاعتقاد الجازم، والإذعان المطلق لله ولرسوله، وتلك لَا تزيد ولا تنقص.
ولا نريد أن نخوض في ذلك. ونقول مقررين حقيقتين ثابتتين.
________
(١) السابق.
(٢) أخرجه " القضاعي " في مسند الشهاب " عن جابر ".
ولقد ذكر الله مع الإيمان العمل الصالح، فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) والعمل الصالح هو العمل الذي يصلح به الناس وتستقيم جماعتهم، وتأتلف قلوبهم، ويكون فيه صلاح الأرض، ولا يكون فسادهم، وهو الذي يسوده الإيثار، فحيث كان وجد الائتلاف، ومع الائتلاف الخير والقوة، ولا يكون فيه الأثرة، فإنها حيث كانت وجدت الفرقة، ووجد الانقسام وذهبت القوة.
ويشمل العمل الصالح الصلوات والزكوات، والصيام والحج، كما يشمل كل خير يقدم للمجتمع، كما روى أن النبي - ﷺ - قال: " خير الناس أنفعهم للناس " (٢). ولا شك أن العمل الصالح ثمرة من ثمرات الإيمان الصادق، والإذعان المطلق لله سبحانه وتعالى، والطاعة الكاملة لرسول الله - ﷺ -.
ولكن هل يزيد الإيمان بالعمل الصالح، وينقص بترك العمل بموجبه وما يقتضيه ويدعو إليه؛ وهي قضية يخوض فيها علماء الكلام من حيث إن الإيمان يزيد وينقص أو لَا يزيد ولا ينقص، وأنه حقيقة واحدة، وهي التصديق والاعتقاد الجازم، والإذعان المطلق لله ولرسوله، وتلك لَا تزيد ولا تنقص.
ولا نريد أن نخوض في ذلك. ونقول مقررين حقيقتين ثابتتين.
________
(١) السابق.
(٢) أخرجه " القضاعي " في مسند الشهاب " عن جابر ".
169
إحداهما: أنه قد جاء في النصوص القرآنية أن الإيمان يزيد، فقد قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى ربِّهِمْ يَتَوَكلونَ)، وقال تعالى: (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وهُمْ يَسْتَبْشِرونَ).
وهكذا نرى في صريح القرآن أن الإيمان يزيد، وأنه وإن كان أصله الاعتقاد والتصديق، فإن زيادته تكون بتوثيقه بحيث يكون عميقا لَا تزعزعه الرياح، أو راسيا ثابتا، كالجبال، ولا شك أن العمل بموجبه يوثقه، ويؤكده، وأن ترك العمل يجعله يجف، وإن كان لَا يموت ولا يذهب وإن الجزاء يكون على الإيمان وللعمل جزاؤه. والحقيقة أنه وردت أحاديث كثيرة تجعل الأعمال من الإيمان، وقد روى ابن ماجه عن أبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - قال: " الإيمان بضع وستون أو سبعون بابا أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها قول لَا إله إلا الله، والحياء شعبة من الإيمان " (١).
وإن عد هذه الأعمال من الإيمان على أنها من ثمراته، ولا مانع من أن تعد الثمرة من الأصل إذا كانت لَا تظهر إلا ثمرة له فلا تكون إلا من أصل الإيمان، فهي من قبيل الاتحاد بين اللازم والملزوم.
ومهما يكن القول في الاتصال بين الإيمان والعمل، فإن العمل يزكي الإيمان ويقويه، وهو كالماء، والغذاء، يتغذى منه الإيمان ويقوى، وإن الإيمان من غير عمل يجف، ولا يكون مثمرا منتجا، فمن يكون مؤمنا من غير أن يعمل بموجب إيمانه يكون كمن يملك أرضا طيبة، لَا يزرعها، ولا يثمرها.
ثانيهما: أن المؤمن، وإن لم يعمل، خير من الكافر، وإنه وإن أَهْمَلَ فقد يعمل، والله تعالى يجزيه الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها، وهو خير كله إذا عمل، واتقى وآثر الحياة الآخرة على الدنيا.
________
(١) رواه ابن ماجه: المقدمة (٥٦) وبنحوه البخاري: الإيمان (٨)، ومسلم: الإيمان (٥١)، والترمذي (٢٥٣٩)، والنسائي (٤٩١٨)، وأبو داود: السنة (٤٠٥٦)، وأحمد (٨٥٧٠).
وهكذا نرى في صريح القرآن أن الإيمان يزيد، وأنه وإن كان أصله الاعتقاد والتصديق، فإن زيادته تكون بتوثيقه بحيث يكون عميقا لَا تزعزعه الرياح، أو راسيا ثابتا، كالجبال، ولا شك أن العمل بموجبه يوثقه، ويؤكده، وأن ترك العمل يجعله يجف، وإن كان لَا يموت ولا يذهب وإن الجزاء يكون على الإيمان وللعمل جزاؤه. والحقيقة أنه وردت أحاديث كثيرة تجعل الأعمال من الإيمان، وقد روى ابن ماجه عن أبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - قال: " الإيمان بضع وستون أو سبعون بابا أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها قول لَا إله إلا الله، والحياء شعبة من الإيمان " (١).
وإن عد هذه الأعمال من الإيمان على أنها من ثمراته، ولا مانع من أن تعد الثمرة من الأصل إذا كانت لَا تظهر إلا ثمرة له فلا تكون إلا من أصل الإيمان، فهي من قبيل الاتحاد بين اللازم والملزوم.
ومهما يكن القول في الاتصال بين الإيمان والعمل، فإن العمل يزكي الإيمان ويقويه، وهو كالماء، والغذاء، يتغذى منه الإيمان ويقوى، وإن الإيمان من غير عمل يجف، ولا يكون مثمرا منتجا، فمن يكون مؤمنا من غير أن يعمل بموجب إيمانه يكون كمن يملك أرضا طيبة، لَا يزرعها، ولا يثمرها.
ثانيهما: أن المؤمن، وإن لم يعمل، خير من الكافر، وإنه وإن أَهْمَلَ فقد يعمل، والله تعالى يجزيه الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها، وهو خير كله إذا عمل، واتقى وآثر الحياة الآخرة على الدنيا.
________
(١) رواه ابن ماجه: المقدمة (٥٦) وبنحوه البخاري: الإيمان (٨)، ومسلم: الإيمان (٥١)، والترمذي (٢٥٣٩)، والنسائي (٤٩١٨)، وأبو داود: السنة (٤٠٥٦)، وأحمد (٨٥٧٠).
170
وإن الجزاء الذي بشر به الذين آمنوا وعملوا الصالحات (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) الجنات الحدائق التي تشتمل على نخيل وأشجار متكاثفة، حتى تستر الأرض وتجنها، فهي جنات، لأنها تستر ما تظله، والضمير في تجري من تحتها الأنهار، يعود على أشجارها، وإن لم تذكر باسمها، فكلمة جنات متضمنة لها، إذ لا تتحقق الجنات إلا بأشجار متكاثفة ملتفة، والجريان للماء، لَا للأنهار؛ لأن الأنهار هي ما يشق في الأرض ليجري فيه الماء فهو من إطلاق اسم المحل، وإرادة الحالّ، مثل قوله تعالى: (فَلْيَدْعُ نَادِيه)، وإن الناظر إلى الماء وهو يجري منسابا في الأرض لايرى النهر ولكن يرى الماء، فكأن النهر اختفى في الماء ولا يرى غير الماء.
وإن هذه الجنات فيها بهجة للناظرين، فهي متعة للأنظار، وبهجة للنفوس بذاتها، وفيها ثمرات شهية من كل شيء، وكما قال تعالى في آية أخرى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (١٥).
وإن الثمرات متشابهة في اللون، وإن كان الطعم في الذوق متغيرا، وهي دائمة متجددة، مستمرة لَا تُمل ولا تُسأم بل فيها المتعة المتجددة؛ ولذا قال تعالى: (كُلَّمَا رزِقُوا مِنْهَا من ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا من قَبْلُ) أي أن هذه الثمرات تجيء إليهم رزقا من الله تعالى من غير جهد يبذلونه، ولا عمل يعملونه؛ ولذلك قال تعالى: (رزِقُوا) وأكده سبحانه بقوله تعالى: (رِّزْقًا) أي أنه يجيء بأمر الله وإنعامه رزقا حسنا من غير أن يقوموا بمجهود فيها، فهي دار الجزاء والنعيم، فإذا كانوا لم يعملوا في الجنات فهو جزاء وفاق لما سبقوا به من عمل صالح، وإن الله لَا يضيع أجر من أحسن عملا، فهو جزاء لمجهود سابق، وثمرة لإيمان وعمل صالح.
وإن هذه الجنات فيها بهجة للناظرين، فهي متعة للأنظار، وبهجة للنفوس بذاتها، وفيها ثمرات شهية من كل شيء، وكما قال تعالى في آية أخرى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (١٥).
وإن الثمرات متشابهة في اللون، وإن كان الطعم في الذوق متغيرا، وهي دائمة متجددة، مستمرة لَا تُمل ولا تُسأم بل فيها المتعة المتجددة؛ ولذا قال تعالى: (كُلَّمَا رزِقُوا مِنْهَا من ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا من قَبْلُ) أي أن هذه الثمرات تجيء إليهم رزقا من الله تعالى من غير جهد يبذلونه، ولا عمل يعملونه؛ ولذلك قال تعالى: (رزِقُوا) وأكده سبحانه بقوله تعالى: (رِّزْقًا) أي أنه يجيء بأمر الله وإنعامه رزقا حسنا من غير أن يقوموا بمجهود فيها، فهي دار الجزاء والنعيم، فإذا كانوا لم يعملوا في الجنات فهو جزاء وفاق لما سبقوا به من عمل صالح، وإن الله لَا يضيع أجر من أحسن عملا، فهو جزاء لمجهود سابق، وثمرة لإيمان وعمل صالح.
171
وهم يقولون: هذا الذي رزقنا من قبل، وهذا يدل على التجدد المستمر، ويدل على التشابه في الشكل، فمعنى النص: هذا الذي رُزقناه في الجنة مثل الذي رُزقناه من قبل في شكله، ولكنهم يجدون الطعم متغيرا، وسبحان خالق كل شيء؛ ولذا قال تعالى: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) في شكله، وإن تغير طعمه.
وهناك فوق متعة الطعام، والتمكن من كل الخير متعة الأنس بالحياة الزوجية، ولذا قال تعالى: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مطَهَّرَةٌ) والأزواج جمع زوج ذكرا كان أو أنثى، فهي تطلق على المرأة المتزوجة، كما تطلق على الرجل المتزوج، وإلحاق التاء بها بالنسبة للمرأة قليل نادر، ولكنه صحيح، ولذلك قال عمار بن ياسر في عائشة أم المؤمنين عندما أخرجت في واقعة الجمل: " إنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكنه البلاء " (١).
ومعنى مطهرة أنها خالية من الدنس النفسي المعنوي والجسدي، فهن طاهرات مطهرات من كل رجس.
وقد يقول قائل: إن المرأة متعة الرجل في الآخرة، ونقول إن الجزاء لهما معا، فلها كل الثمرات التي للرجل، والأزواج متعة للرجل والمرأة، فهو متعتها وهي متعته، إن صح هذا التعبير؛ ولذلك صرح القرآن الكريم بأن الجزاء لهما، فقال تعالى: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (١٩٤) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ).
وإن ذلك النعيم دائم لَا ينغصه توقع زواله، بل النعمة كاملة بدوامه، ولذلك قال تعالى: (وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) هذا ويجب أن ننبه إلى أن نعيم الجنة نعيم مادي
________
(١) أخرجه البخاري كتاب الفتن: (٦٥٧١) واللفظ له، وأحمد: أول مسند الكوفيين (١٧٦١٠).
وهناك فوق متعة الطعام، والتمكن من كل الخير متعة الأنس بالحياة الزوجية، ولذا قال تعالى: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مطَهَّرَةٌ) والأزواج جمع زوج ذكرا كان أو أنثى، فهي تطلق على المرأة المتزوجة، كما تطلق على الرجل المتزوج، وإلحاق التاء بها بالنسبة للمرأة قليل نادر، ولكنه صحيح، ولذلك قال عمار بن ياسر في عائشة أم المؤمنين عندما أخرجت في واقعة الجمل: " إنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكنه البلاء " (١).
ومعنى مطهرة أنها خالية من الدنس النفسي المعنوي والجسدي، فهن طاهرات مطهرات من كل رجس.
وقد يقول قائل: إن المرأة متعة الرجل في الآخرة، ونقول إن الجزاء لهما معا، فلها كل الثمرات التي للرجل، والأزواج متعة للرجل والمرأة، فهو متعتها وهي متعته، إن صح هذا التعبير؛ ولذلك صرح القرآن الكريم بأن الجزاء لهما، فقال تعالى: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (١٩٤) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ).
وإن ذلك النعيم دائم لَا ينغصه توقع زواله، بل النعمة كاملة بدوامه، ولذلك قال تعالى: (وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) هذا ويجب أن ننبه إلى أن نعيم الجنة نعيم مادي
________
(١) أخرجه البخاري كتاب الفتن: (٦٥٧١) واللفظ له، وأحمد: أول مسند الكوفيين (١٧٦١٠).
172
حسي؛ لأن ذلك هو ما تدل عليه الألفاظ، ولا يصح تأويلها بغير سند من الشرع، ولا حجة، ولا دليل، ولا نؤوّلها بعقولنا المجردة، فإن ذلك يعد إنكارا للغيب الذي قرر الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم أن أول صفة من صفات المؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب، وأن فرق ما بين الإيمان والزندقة الإيمان بالغيب.
ولكن ورد عن ابن عباس أن الألفاظ التي وردت في نعيم الجنة ليست على حقيقتها التي نراها، فثمراتها، ورمانها وعسلها ولبنها، وخمرها، ليست هي خمرنا، وأن نعيم الجنة فوق علمنا، ولكن الله تعالى قرب لنا نعيم الجنة بما يشبهها في استعمالنا، ولكنها مادية حسية، ويتحقق بذلك قول النبي - ﷺ -: " فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " (١).
* * *
الأمثال في القرآن وموقعها في النفوس
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٢٧)
* * *
بين الله تعالى حال المنافقين، وضرب سبحانه وتعالى مثلين يبينان حالهم التي يبدو فيها النور لهم ولا ينتفعون منه، فشبههم سبحانه بحال الذي يستوقد نارا، وما
________
(١) أخرجه مسلم: كتاب الجنة (٥٠٥٣)، وأحمد: باقي مسند الأنصار (٢١٧٦٠).
ولكن ورد عن ابن عباس أن الألفاظ التي وردت في نعيم الجنة ليست على حقيقتها التي نراها، فثمراتها، ورمانها وعسلها ولبنها، وخمرها، ليست هي خمرنا، وأن نعيم الجنة فوق علمنا، ولكن الله تعالى قرب لنا نعيم الجنة بما يشبهها في استعمالنا، ولكنها مادية حسية، ويتحقق بذلك قول النبي - ﷺ -: " فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " (١).
* * *
الأمثال في القرآن وموقعها في النفوس
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٢٧)
* * *
بين الله تعالى حال المنافقين، وضرب سبحانه وتعالى مثلين يبينان حالهم التي يبدو فيها النور لهم ولا ينتفعون منه، فشبههم سبحانه بحال الذي يستوقد نارا، وما
________
(١) أخرجه مسلم: كتاب الجنة (٥٠٥٣)، وأحمد: باقي مسند الأنصار (٢١٧٦٠).
173
إن يتم له أن ينتفع حتى تنطفئ، ويذهب الله تعالى بنورهم فلا يبصرون، وشبههم ثانيا بحال قوم أصابهم صيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق، من حيث إن ماء الحياة يجيء إليهم، ولكن لسوء حالهم وفساد قلوبهم تنعكس بين أيديهم الأمور، فلا يدركون.. إلى آخر ما بين سبحانه وتعالى.
وإنه من منهاج الذكر الحكيم ضرب الأمثال تقريبا للأفهام، وتصويرًا للمعاني التي تسمو بها المدارك بالأمور المحسوسة القريبة لكل من عنده لب، والأمثال تضرب لذي اللب الحكيم، فيعتبر بها، ويكون المغيب غير المحسوس كأنه المحسوس الذي يُرى ويُشاهد، ولقد ضرب الله الأمثال بالذباب في بديع تكوينه وسر خلقه الذي تعجز العقول عن أن يخلقوا مثله. وشبه الأوثان التي يعبدونها وهي لَا تضر ولا تنفع، ولا تملك من أمرها شيئا بأنها أوهام توهموها، وأخيلة من القدرة تخيلوها.
ولقد قال تعالى في الذباب: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤).
فهو في هذا المثل بين أنهم لَا يستطيعون أن يخلقوا ذبابا، ولو اجتمعوا له هم وآلهتهم، وأنهم لَا يستطيعون أن يتغلبوا عليه إن سلبهم شيئا. وفى سورة العنكبوت شبه آلهتهم التي يتوهمون فيها سلطانا، كمثل بيت العنكبوت أي الخيوط التي ينسجها، فقال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، أكثر الله تعالى من ضرب الأمثال لتقريب المعاني السامية للعقول التي لَا تدرك إلا المحسوسات الدانية، ولكن المعاند الجاحد، والعاجز الحسود يقلب الحسنات، ويتهكم على الحقائق الرائعة، فتكلموا متعجبين مستغربين من
وإنه من منهاج الذكر الحكيم ضرب الأمثال تقريبا للأفهام، وتصويرًا للمعاني التي تسمو بها المدارك بالأمور المحسوسة القريبة لكل من عنده لب، والأمثال تضرب لذي اللب الحكيم، فيعتبر بها، ويكون المغيب غير المحسوس كأنه المحسوس الذي يُرى ويُشاهد، ولقد ضرب الله الأمثال بالذباب في بديع تكوينه وسر خلقه الذي تعجز العقول عن أن يخلقوا مثله. وشبه الأوثان التي يعبدونها وهي لَا تضر ولا تنفع، ولا تملك من أمرها شيئا بأنها أوهام توهموها، وأخيلة من القدرة تخيلوها.
ولقد قال تعالى في الذباب: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤).
فهو في هذا المثل بين أنهم لَا يستطيعون أن يخلقوا ذبابا، ولو اجتمعوا له هم وآلهتهم، وأنهم لَا يستطيعون أن يتغلبوا عليه إن سلبهم شيئا. وفى سورة العنكبوت شبه آلهتهم التي يتوهمون فيها سلطانا، كمثل بيت العنكبوت أي الخيوط التي ينسجها، فقال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، أكثر الله تعالى من ضرب الأمثال لتقريب المعاني السامية للعقول التي لَا تدرك إلا المحسوسات الدانية، ولكن المعاند الجاحد، والعاجز الحسود يقلب الحسنات، ويتهكم على الحقائق الرائعة، فتكلموا متعجبين مستغربين من
174
ضرب الأمثال بالبعوض والذباب، وكأنهم إذ لم يستطيعوا أن يأتوا بمثله وعجزوا عجزا صارخا أخذوا يثيرون الشك حول بعض أجزائه وما اشتمل عليه، فاختاروا الأمثال موضعا لإثارة الاستغراب والعجب يتوهمون أن ذلك يضعف من تأثيره.
لذا رد الله تعالى أمرهم وإثارة العجب بقوله تعالى:
لذا رد الله تعالى أمرهم وإثارة العجب بقوله تعالى:
175
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَفْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعوضَةً فَمَا فَوْقَهَا)، ضرب - معناها ذكر، والمثل هو الحال التي تشبه حالا قائمة قدرت أو وقعت، فمعنى ضرب المثل بيان الحال التي تشبه وتمثل بحال واقعة ثابتة، ويقول علماء البلاغة، إن للمثل مضربا وموردا فالمورد هو الحال التي تشبه بها القول، والتي صدر فيها، والمضرب هو الحال التي يشبه الحال التي وقعت أو هي ثابتة.
ومهما يكن فالمثل تشبيه حال غير منظورة ولكن تدركها العقول بحال أمر واقع ثابت، والاستحياء انقباض النفس عن أن يكون منها ما يستقبحه الناس الذين يسيطر عليهم عرف قويم، وهو أساس من أسس الأخلاق؛ ولذا قال النبي - ﷺ -: " الحياء خير كله " (١)، ولكن هذا المعنى يليق بالناس، ولا يليق بالذات العلية؛ ولذلك بالنسبة لله تعالى أريد لازمه، لأن من لوازم ذلك الانقباض الترك، إذ من استحيا من عمل شيء يتركه.
والمعنى أن الله تعالت كلماته، وتسامى قرآنه، لايترك خاشيا لومة لائم أن يضرب مثلا، بأن يمثل أمرا ثابتا محققا بأمر واقع محسوس، تقريبا للمعاني إلى ما هو محسوس، وتوضيحا للأمور، لتكون بينة للجميع أو لمن يصغون إلى تلقي البيان بقلب سليم، وإدراك مستقيم.
________
(١) أخرجه بهذا اللفظ مسلم: كتاب الأيمان (٥٤)، وأبو داود: الأدب (٤١٦٣)، وأحمد: أول مسند البصريين (١٨٩٧٧) وأخرجه البخاري بلفظ: " الحياء لَا يأتي إلا بخير " كتاب الأدب (٥٦٥٢)، ومسلم: كتاب الأدب (٥٣)، وأحمد: مسند البصريين (١٨٩٨). عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
ومهما يكن فالمثل تشبيه حال غير منظورة ولكن تدركها العقول بحال أمر واقع ثابت، والاستحياء انقباض النفس عن أن يكون منها ما يستقبحه الناس الذين يسيطر عليهم عرف قويم، وهو أساس من أسس الأخلاق؛ ولذا قال النبي - ﷺ -: " الحياء خير كله " (١)، ولكن هذا المعنى يليق بالناس، ولا يليق بالذات العلية؛ ولذلك بالنسبة لله تعالى أريد لازمه، لأن من لوازم ذلك الانقباض الترك، إذ من استحيا من عمل شيء يتركه.
والمعنى أن الله تعالت كلماته، وتسامى قرآنه، لايترك خاشيا لومة لائم أن يضرب مثلا، بأن يمثل أمرا ثابتا محققا بأمر واقع محسوس، تقريبا للمعاني إلى ما هو محسوس، وتوضيحا للأمور، لتكون بينة للجميع أو لمن يصغون إلى تلقي البيان بقلب سليم، وإدراك مستقيم.
________
(١) أخرجه بهذا اللفظ مسلم: كتاب الأيمان (٥٤)، وأبو داود: الأدب (٤١٦٣)، وأحمد: أول مسند البصريين (١٨٩٧٧) وأخرجه البخاري بلفظ: " الحياء لَا يأتي إلا بخير " كتاب الأدب (٥٦٥٢)، ومسلم: كتاب الأدب (٥٣)، وأحمد: مسند البصريين (١٨٩٨). عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
175
والبعوضة أصغر - من الذبابة، (مَا) هي التي تسمى في عرف النحاة نكرة تامة بمعنى شيء، فهي شيء مبهم، وإذا جاء بعد نكرة كانت للدلالة على إيقاعها في الإبهام، فالمعنى بعوضة أيا كانت هذه البعوضة صغيرة أو كبيرة حقيرة أو خطيرة، فالله سبحانه وتعالى لَا يترك ضرب الأمثال بالبعوضة أو ما دونها.
وإن الكلام البليغ يضرب المثل للحقير، بحقير، والمثل للعظيم بعظيم، فيضرب فيه أوهامهم في آلهتهم من حيث إنها لَا تقوى على النظر، ولا يمكن أن تكون معقولة، وحالها يناقض كل معقول بأنها كمسكن العنكبوت الذي تهدمه الرياح لأنه أوهن البيوت، وإن كان نسجها محكما، يدل على حكمة اللطيف الخبير، ولكن موضع المشابهة هو الوهن فقط.
وقد يكون ضرب المثل للبعوضة، ببيان إحكام تكوينها، وبديع خلقها، كما كان مثل الذباب من حيث خلقه وتكوينه، وعجز الآلهة ولو اجتمعوا له أن يخلقوه. ونرى من هذا أن التمثيل بالبعوضة يكون فيه تشبيه حال الضعف، ببعض الضعف في نواحيها، كما رأينا في تشبيه أوهامهم حول الأصنام التي يعبدونها، من حيث إنها لَا تقوى على نظر مستقيم في أمرها، ببيت العنكبوت الذي هو أوهن البيوت.
وإن هذا النص الكريم يدل على أن ضرب الأمثال بصغير الأشياء وكبيرها يليق بالبيان الحكيم، وذكر الله تعالى في كتابه الحميد المجيد.
وإن الأمر الجدير بالاعتبار والتقدير يختلف تلقي الناس له، فالقلب الذاكر الطاهر الذي يطلب الحقائق ويتقبلها ويدركها معتبرًا متعظًا مؤمنا يزداد إيمانا، والقلب المضطرب الذي يعاند، ويكابر ويثير الاستغراب والعجب، وكأنه يحاول بذلك أن يثير غبارًا حول الحقائق الثابتة.
وإن الكلام البليغ يضرب المثل للحقير، بحقير، والمثل للعظيم بعظيم، فيضرب فيه أوهامهم في آلهتهم من حيث إنها لَا تقوى على النظر، ولا يمكن أن تكون معقولة، وحالها يناقض كل معقول بأنها كمسكن العنكبوت الذي تهدمه الرياح لأنه أوهن البيوت، وإن كان نسجها محكما، يدل على حكمة اللطيف الخبير، ولكن موضع المشابهة هو الوهن فقط.
وقد يكون ضرب المثل للبعوضة، ببيان إحكام تكوينها، وبديع خلقها، كما كان مثل الذباب من حيث خلقه وتكوينه، وعجز الآلهة ولو اجتمعوا له أن يخلقوه. ونرى من هذا أن التمثيل بالبعوضة يكون فيه تشبيه حال الضعف، ببعض الضعف في نواحيها، كما رأينا في تشبيه أوهامهم حول الأصنام التي يعبدونها، من حيث إنها لَا تقوى على نظر مستقيم في أمرها، ببيت العنكبوت الذي هو أوهن البيوت.
وإن هذا النص الكريم يدل على أن ضرب الأمثال بصغير الأشياء وكبيرها يليق بالبيان الحكيم، وذكر الله تعالى في كتابه الحميد المجيد.
وإن الأمر الجدير بالاعتبار والتقدير يختلف تلقي الناس له، فالقلب الذاكر الطاهر الذي يطلب الحقائق ويتقبلها ويدركها معتبرًا متعظًا مؤمنا يزداد إيمانا، والقلب المضطرب الذي يعاند، ويكابر ويثير الاستغراب والعجب، وكأنه يحاول بذلك أن يثير غبارًا حول الحقائق الثابتة.
176
ولذا يقول سبحانه: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ) قوله تعالى: (فَأمَّا) هي للتفصيل، أي تفصيل حال الذين يتلقون الأمثال المضروبة لهداية المتقين، وهي في معنى أداة الشرط بمعنى مهما يكن من شيء، والمعنى مهما يكن من الأمر في المثل الذي ساقه الله تعالى فالذين آمنوا وأذعنوا للحق إذا بدا لهم يعلمون أي يعرفون جازمين بالدليل القاطع أنه الحق أي الأمر الثابت الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، ويرشحون لذلك الإيمان المذعن والعلم الجازم بأنه من ربهم أي من الله العلي القدير الذي يربهم، ويدبر أمور الوجود بحكمته، وقوته، وبذلك يزدادون إيمانا.
وأما الذين كفروا فيظهرون استغرابهم بل استنكارهم، فيقولون: (فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهَ بِهَذَا مَثَلًا)؟ فهم يستفهمون استغرابا أو إنكارا ما الذي يريده تعالى بهذا المثل، والتجاهل يؤدي إلى الجهل، وعمى البصيرة يؤدي إلى العمى في طرق الإدراك. إنهم يعرفون المثل ومضربه، وما تشبه به من حالهم، فإذا ضرب مثل ما يعبدون من آلهة ببيت العنكبوت فهم يعرفون أن الله تعالى بين وهن الأسباب التي يقيمون عليها، ولكن لاعتقادهم الواهم في أصنامهم يثير المثل استغرابا ثم إنكارا، وذلك من رسوخ الضلال في نفوسهم، فلا يزيدهم المثل إلا إمعانا في الضلال.
و" ما " الاستفهامية، و " ذا " موصول بمعنى الذي، والمعنى على ذلك ما الذي أراد الله تعالى بهذا المثل، أو نقول: إن ماذا كلها للاستفهام، وهي مركب يراد به الاستفهام، والفرق إعرابي، ولا مؤدى له، فالمعنى واحد.
وإن هذا الاستغراب أو الإنكار الذي سبق إليهم، سببه أمران:
الأول: ضلال اعتقادهم في أوثانهم كما أُثِر.
والثاني: غطرستهم وعنادهم، وحبهم لبقاء سلطانهم، وإن المعاند يزداد إصرارا وينفض رأسه كلما زاد الدليل وضوحا.
وأما الذين كفروا فيظهرون استغرابهم بل استنكارهم، فيقولون: (فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهَ بِهَذَا مَثَلًا)؟ فهم يستفهمون استغرابا أو إنكارا ما الذي يريده تعالى بهذا المثل، والتجاهل يؤدي إلى الجهل، وعمى البصيرة يؤدي إلى العمى في طرق الإدراك. إنهم يعرفون المثل ومضربه، وما تشبه به من حالهم، فإذا ضرب مثل ما يعبدون من آلهة ببيت العنكبوت فهم يعرفون أن الله تعالى بين وهن الأسباب التي يقيمون عليها، ولكن لاعتقادهم الواهم في أصنامهم يثير المثل استغرابا ثم إنكارا، وذلك من رسوخ الضلال في نفوسهم، فلا يزيدهم المثل إلا إمعانا في الضلال.
و" ما " الاستفهامية، و " ذا " موصول بمعنى الذي، والمعنى على ذلك ما الذي أراد الله تعالى بهذا المثل، أو نقول: إن ماذا كلها للاستفهام، وهي مركب يراد به الاستفهام، والفرق إعرابي، ولا مؤدى له، فالمعنى واحد.
وإن هذا الاستغراب أو الإنكار الذي سبق إليهم، سببه أمران:
الأول: ضلال اعتقادهم في أوثانهم كما أُثِر.
والثاني: غطرستهم وعنادهم، وحبهم لبقاء سلطانهم، وإن المعاند يزداد إصرارا وينفض رأسه كلما زاد الدليل وضوحا.
177
وقوله تعالى: (بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) يراد بالفوقية الزيادة في القوة على توجيه بعض المفسرين، ويكون المؤدى أن البعوضة أضعف الحيوان، وأنها يصح أن تكون ابتداء لضرب الأمثال من أدنى الأحياء إلى أعلاها، وهذا تخريج بعض المفسرين، وهو صحيح في ذاته، ويفسر بعضهم الفوقية بمعنى الزيادة في الصغر، وكأنه يتصور أن في الأحياء ما هو أصغر من البعوضة ويقر أن الفوقية في كل شيء بما سبقه، فإن كان ضرب المثل للصغر، فالفوقية في الصغر أي أكثر صغرا منها.
ونحن نرى أن الأول هو الأظهر، ولكن يجب التنبيه إلى أن ذلك لَا يقتضي أن يضرب المثل بما دونها فإن مؤدى القول أنه سبحانه لَا يترك المثل الأكبر أو الأصغر لصغر عقولهم أو عنادهم، فإن القرآن أعلى البيان عند الله، ولا يترك سبحانه البيان السامي لاستغرابهم أو إعجابهم.
وإن المثل الذي يسوءهم لأنه تنزيل لمكان ما يقدسون في زعمهم، يستغربون ثم ينكرون فيزيد ضلالهم؛ ولذلك قال سبحانه: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ). أي أن ضرب المثل يضل الله تعالى به كثيرا من الضلال، وكثيرا من الناس، وكثرة الضلال بالإيغال فيه حيث يقوم الدليل على بطلان ما يعتقدون، فيلوون رءوسهم فيزدادون ضلالا، وكثرة الضالين لكثرة المفاسد.
وأسند الإضلال إلى الله تعالى؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الذي ضرب المثل، وقد تسبب ضرب المثل في نفوسهم التي أصابها الفجور والعناد في أن استكبرت وزادت نفورا عن الحق، وإيغالا في الباطل، وإن الله تعالى يسن طريق الهدى، ويبينه فمن عاند وجحد، وسار في طريق الضلال، وكلما سار فيه أوغل، حتى يزداد ضلالا - كالذي يضرب في الأرض؛ إن سار في الطريق الجد وصل، وإن سار في الطريق المعوج تاه وكلما سار زاد في التيه.
وأما الذين آمنوا فإنهم يجدون في المثل الحق وازدادوا إيمانا بالحق وتصديقا به؛ ولذلك حق عليهم أن يقول الله تعالى فيهم: (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) هديا كثيرا فيزيدهم إيمانا بعد إيمانهم.
ونحن نرى أن الأول هو الأظهر، ولكن يجب التنبيه إلى أن ذلك لَا يقتضي أن يضرب المثل بما دونها فإن مؤدى القول أنه سبحانه لَا يترك المثل الأكبر أو الأصغر لصغر عقولهم أو عنادهم، فإن القرآن أعلى البيان عند الله، ولا يترك سبحانه البيان السامي لاستغرابهم أو إعجابهم.
وإن المثل الذي يسوءهم لأنه تنزيل لمكان ما يقدسون في زعمهم، يستغربون ثم ينكرون فيزيد ضلالهم؛ ولذلك قال سبحانه: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ). أي أن ضرب المثل يضل الله تعالى به كثيرا من الضلال، وكثيرا من الناس، وكثرة الضلال بالإيغال فيه حيث يقوم الدليل على بطلان ما يعتقدون، فيلوون رءوسهم فيزدادون ضلالا، وكثرة الضالين لكثرة المفاسد.
وأسند الإضلال إلى الله تعالى؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الذي ضرب المثل، وقد تسبب ضرب المثل في نفوسهم التي أصابها الفجور والعناد في أن استكبرت وزادت نفورا عن الحق، وإيغالا في الباطل، وإن الله تعالى يسن طريق الهدى، ويبينه فمن عاند وجحد، وسار في طريق الضلال، وكلما سار فيه أوغل، حتى يزداد ضلالا - كالذي يضرب في الأرض؛ إن سار في الطريق الجد وصل، وإن سار في الطريق المعوج تاه وكلما سار زاد في التيه.
وأما الذين آمنوا فإنهم يجدون في المثل الحق وازدادوا إيمانا بالحق وتصديقا به؛ ولذلك حق عليهم أن يقول الله تعالى فيهم: (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) هديا كثيرا فيزيدهم إيمانا بعد إيمانهم.
178
وإن أولئك المؤمنين سلمت مداركهم، واستقامت عقولهم، فأدركوا معنى الحقيقة، فكلما جاء ما يؤكدها ويبينها ازدادوا هداية، وساروا على الجَدَد، وأما الآخرون فهم يخرجون عن سن الفطرة، وما يوجه إليه الإدراك الصحيح؛ ولذلك قال تعالى: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) أي الخارجين عما توجبه الفطرة، الذين شاهت عقولهم، وانعكست الحقائق أمامها، فصاروا يدركون الأمور عكس حقيقتها. والفاسق في أصل معناه اللغوي الخارج عن الطاعة، ويقال فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها، ويقال للفأرة فويسقة لخروجها من جحرها للفساد، ويطلق على الحشرات والمؤذيات فواسق، ولقد روي عن عائشة أن رسول الله - ﷺ - قال: " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحدأة، والغراب، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور " (١).
والفاسق في هذه الآية هو الكافر سواء أكان يجمع الكفر والنفاق أم يكون كافرا من غير نفاق؛ وذلك لأنه خرج عن مقتضى الفطرة، والعقل المستقيم، فهو قد كفر بالله ورسوله، وبالأوامر والنواهي، وإنها دين الفطرة، كما قال تعالى: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
ولقد بين تعالى أولئك الفاسقين الخارجين عن سنن الفطرة، فقال:
________
(١) رواه بهذا اللفظ النسائي: مناسك الحج - قتل الحدأة في الحرم (٢٨٤١)، وهو متفق عليه؛ أخرجه بنحوه البخاري: بدأ الخلق - خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (٣٣١٤)، ومسلم: الحج - ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب (١١٩٨). عن عائشة رضي الله عنها.
والفاسق في هذه الآية هو الكافر سواء أكان يجمع الكفر والنفاق أم يكون كافرا من غير نفاق؛ وذلك لأنه خرج عن مقتضى الفطرة، والعقل المستقيم، فهو قد كفر بالله ورسوله، وبالأوامر والنواهي، وإنها دين الفطرة، كما قال تعالى: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
ولقد بين تعالى أولئك الفاسقين الخارجين عن سنن الفطرة، فقال:
________
(١) رواه بهذا اللفظ النسائي: مناسك الحج - قتل الحدأة في الحرم (٢٨٤١)، وهو متفق عليه؛ أخرجه بنحوه البخاري: بدأ الخلق - خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (٣٣١٤)، ومسلم: الحج - ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب (١١٩٨). عن عائشة رضي الله عنها.
179
(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ... (٢٧)
ذكر الله تعالى أوصافا ثلاثة هي التي تتقطع بها أوصال الجماعة الإنسانية، ويكون بها التدابر، وأن يكون بها ابن الإنسان على أخيه الإنسان أشد من الوحوش، وأقسى من كل ما في الوجود:
ذكر الله تعالى أوصافا ثلاثة هي التي تتقطع بها أوصال الجماعة الإنسانية، ويكون بها التدابر، وأن يكون بها ابن الإنسان على أخيه الإنسان أشد من الوحوش، وأقسى من كل ما في الوجود:
179
الصفة الأولى - نقض عهد الله تعالى من بعد ميثاقه، والنقض فك ما أبرمه الشخص ووثقه وأكده من بناء أو وثيقة أو عهد، وإن الميثاق الذي يعقد بين الناس يوثقه بيمين الله تعالى، ولذلك يسمى اليمين، ويقول تعالى: (وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا...)، ويسمى عهد الله تعالى، لأنه إذا أكده بيمين فكأنه عاهد الله تعالى على الوفاء بها، وعدم النكث فيها فكأنه عاهد الله تعالى.
و (مِيثَاقِهِ) معناه كما أشرنا العهد الموثق باليمين. وما المراد بالميثاق الذي نقضوه؛ قال بعض العلماء ونحن، نوافقهم، أنه ميثاق الفطرة الإنسانية، فقد خلق الله الناس، وأخذ منهم ميثاقهم بمقتضى الفطرة بالعبودية لله رب العالمين، كما قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣).
وإن أولئك الفاسقين الذين خرجوا على الفطرة قد نقضوا ذلك العهد التكويني الذي كون الله تعالى بني آدم على أساسه؛ ولذلك يقول ابن حزم، ومعه بعض العلماء، إن معرفة الله بدهية لذوي العقول المستقيمة المدركة. وكانت الرسالة للتذكير بهذه الفطرة، وإيقاظها، إذا غفلت، ولحسابها إذا نبهت ولم تنتبه؛ ولذلك قال تعالى: (وَإِن مِنْ أُمَّةٍ إلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)، وقال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (١٥).
هذا معنى واضح جيد مستقيم تؤيده نصوص الكتاب الحكيم، ولكن مع ذلك قد يراد نقض العهود الموثقة بالأيمان وعدم الوفاء بالمواثيق التي تنظم العلاقات بين الناس آحادا وجماعات؛ لأنَّ ذلك من سمات الكفر، وخصوصا الذي يصحبه نفاق، وقد وصف الله سبحانه وتعالى الكفار بذلك في أكثر من آية، فقال تعالى:
و (مِيثَاقِهِ) معناه كما أشرنا العهد الموثق باليمين. وما المراد بالميثاق الذي نقضوه؛ قال بعض العلماء ونحن، نوافقهم، أنه ميثاق الفطرة الإنسانية، فقد خلق الله الناس، وأخذ منهم ميثاقهم بمقتضى الفطرة بالعبودية لله رب العالمين، كما قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣).
وإن أولئك الفاسقين الذين خرجوا على الفطرة قد نقضوا ذلك العهد التكويني الذي كون الله تعالى بني آدم على أساسه؛ ولذلك يقول ابن حزم، ومعه بعض العلماء، إن معرفة الله بدهية لذوي العقول المستقيمة المدركة. وكانت الرسالة للتذكير بهذه الفطرة، وإيقاظها، إذا غفلت، ولحسابها إذا نبهت ولم تنتبه؛ ولذلك قال تعالى: (وَإِن مِنْ أُمَّةٍ إلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)، وقال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (١٥).
هذا معنى واضح جيد مستقيم تؤيده نصوص الكتاب الحكيم، ولكن مع ذلك قد يراد نقض العهود الموثقة بالأيمان وعدم الوفاء بالمواثيق التي تنظم العلاقات بين الناس آحادا وجماعات؛ لأنَّ ذلك من سمات الكفر، وخصوصا الذي يصحبه نفاق، وقد وصف الله سبحانه وتعالى الكفار بذلك في أكثر من آية، فقال تعالى:
180
(لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ)، وقال تعالى في المنافقين: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧).
إن الوفاء بالعهود والمواثيق شأن من يراقب الله تعالى، ويحس برقابة الله تعالى، وهو لذلك خاصة من خواص المؤمنين، وكرر الله الأمر بالوفاء بالعهد مثل قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِن الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)، وإن الكافر لا يحس بمسئولية أمام الله تعالى؛ لذلك كان أول وصف من أوصاف الفاسقين أنهم ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه.
وإن النبي - ﷺ - عقد ميثاقا لليهود فنقضوه، وعقد صلح الحديبية، فنقضوه، ونصروا بني بكر على خزاعة حلفاء النبي - ﷺ -.
الصفة الثانية - أنهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، القطع فصل المتصل، وجعله أجزاء متفرقة، وقطعهم الذي كان الله تعالى أمرهم بوصله ما هو؟، قيل: قطع الأرحام، فلا يصل ذا رحمه، ولا يعمل بالمودة بين ذوي قرباه، ولكن الإنسانية كلها رحم واحدة، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١).
فالرحم الإنسانية ثابتة بين الناس، وقطعها يكون بأساليب شتى، وسبل مختلفة وكلها سبل الشيطان كما قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا الدمئُبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ...)، ومِن قطعها أن يتحكم القويُّ في الضعيف، وأن ينظر إلى الناس على أنهم طبقات منهم غني ومنهم فقير، وأن يكون لكلٍّ قانون ونظام، وأن تختلف المعاملة، وأن تتنافر الشعوب، ولا تتضافر ولا
إن الوفاء بالعهود والمواثيق شأن من يراقب الله تعالى، ويحس برقابة الله تعالى، وهو لذلك خاصة من خواص المؤمنين، وكرر الله الأمر بالوفاء بالعهد مثل قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِن الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)، وإن الكافر لا يحس بمسئولية أمام الله تعالى؛ لذلك كان أول وصف من أوصاف الفاسقين أنهم ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه.
وإن النبي - ﷺ - عقد ميثاقا لليهود فنقضوه، وعقد صلح الحديبية، فنقضوه، ونصروا بني بكر على خزاعة حلفاء النبي - ﷺ -.
الصفة الثانية - أنهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، القطع فصل المتصل، وجعله أجزاء متفرقة، وقطعهم الذي كان الله تعالى أمرهم بوصله ما هو؟، قيل: قطع الأرحام، فلا يصل ذا رحمه، ولا يعمل بالمودة بين ذوي قرباه، ولكن الإنسانية كلها رحم واحدة، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١).
فالرحم الإنسانية ثابتة بين الناس، وقطعها يكون بأساليب شتى، وسبل مختلفة وكلها سبل الشيطان كما قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا الدمئُبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ...)، ومِن قطعها أن يتحكم القويُّ في الضعيف، وأن ينظر إلى الناس على أنهم طبقات منهم غني ومنهم فقير، وأن يكون لكلٍّ قانون ونظام، وأن تختلف المعاملة، وأن تتنافر الشعوب، ولا تتضافر ولا
181
تتعارف كما قال تعالي (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...)، وأن ينقطع التعاون بين الناس فلا يكون التعاون على البر والتقوى ويحل محله التعاون على الإثم والعدوان، وفي كل ما يكون فيه قطع للعلاقات الإنسانية يكون قطعا لما أمر الله تعالى به أن يوصل. ووصل ما أمر الله به أن يوصل هو اتباع أوامره تعالى واجتناب نواهيه، فهي كلها لربط الناس بعضهم ببعض بالمودة والعمل الصالح، وبسيادة الفضيلة والبعد عن الرذيلة، وإذا كانت ثمة حروب فلدفع أذى المفسدين، وتقويم الظالمين (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٢٥١).
وفى الجملة كل قطع بين عباد الله تعالى هو قطع ما أمر الله تعالى به أن يوصل وقطع للأرحام؛ لأن الناس جميعا رحم واحدة، من قطع ما بينهم فقد قطع الأرحام.
وقوله تعالى: (مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ) و (مَا): هي مفعول (يَقْطَعُونَ)، أي يقطعون الذي أمر الله تعالى به - أي بشأنه - أن يوصل. " أن " وما بعدها مصدر، أي أمر الله تعالى وصله، وعدم قطعه.
الوصف الثالث - من أوصاف الفاسقين، بينه سبحانه وتعالى بقوله: (وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ) والفساد في الأرض يشمل فساد العقائد إذ إن سلامة العقيدة فيها سلامة النفس، وفساد العقيدة بألا يؤمنوا بالله وحده، ولا يعبدوه وحده، ويتعلقون بالأوهام حول الأصنام، وأي فساد أعظم من أن يحقر الإنسان نفسه وعقله، وإدراكه فيسجد لصنم لَا يضر ولا ينفع، وقد رآه يصنع بين يديه، إنه ضلال العقل، وضلال النفس، وسيطرة الوهم. ويشمل الفساد بث روح النزاع المستمر بين الناس قبائل وشعوبا، وكلما أطفأ الله نار الحرب أوقدوها باسم العصبية
وفى الجملة كل قطع بين عباد الله تعالى هو قطع ما أمر الله تعالى به أن يوصل وقطع للأرحام؛ لأن الناس جميعا رحم واحدة، من قطع ما بينهم فقد قطع الأرحام.
وقوله تعالى: (مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ) و (مَا): هي مفعول (يَقْطَعُونَ)، أي يقطعون الذي أمر الله تعالى به - أي بشأنه - أن يوصل. " أن " وما بعدها مصدر، أي أمر الله تعالى وصله، وعدم قطعه.
الوصف الثالث - من أوصاف الفاسقين، بينه سبحانه وتعالى بقوله: (وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ) والفساد في الأرض يشمل فساد العقائد إذ إن سلامة العقيدة فيها سلامة النفس، وفساد العقيدة بألا يؤمنوا بالله وحده، ولا يعبدوه وحده، ويتعلقون بالأوهام حول الأصنام، وأي فساد أعظم من أن يحقر الإنسان نفسه وعقله، وإدراكه فيسجد لصنم لَا يضر ولا ينفع، وقد رآه يصنع بين يديه، إنه ضلال العقل، وضلال النفس، وسيطرة الوهم. ويشمل الفساد بث روح النزاع المستمر بين الناس قبائل وشعوبا، وكلما أطفأ الله نار الحرب أوقدوها باسم العصبية
182
القبلية، أو العصبية الوطنية، أو بالرغبة في أن تربو أمة عن أمة، أو التنافس الاقتصادي، حتى ينظر الإنسان للإنسان نظرة من يتربص به الدوائر.
ويشمل الفساد في الأرض ألا يكون الحكم المرضي الحكومةَ هو الحق، وأن يكون الحكم للغلب، وأن يسود قانون الغابة لَا قانون الفضيلة بين الناس، وأن يكون ذلك في كل العلاقات الإنسانية، القوي يأكل الضعيف، والغني يحقر الفقير، والعالم لَا يعلِّم الجاهل، بل يتخذه مطية لأهوائه وشهواته.
ويشمل الفساد في الأرض ألا يكون تعاون في استخراج ينابيع الثروة من باطن الأرض، بل يستبد بها القادر عليه، ويشمل الفساد ألا يوزع بين أهل الأرض خيراتها، بل يلقيه بعضهم في البحار، ولو جاع الباقون، ضنا به على فيِّ أخيه الإنسان.
ولقد حكم الله تعالى على من كانت هذه أوصافهم فقال تعالت كلماته: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرونَ).
اسم الإشارة إلى هؤلاء المتصفين بهذه الصفات، والإشارة إلى المتصفين بصفة أو صفات تومئ إلى أن هذه الصفات هي سبب الحكم. فنقض العهود والمواثيق، وقطع الصلات الإنسانية، وإشاعة الفساد في الأرض هو السبب في الخسران الذي لا ينجو منه أولئك الفاسقون.
والخاسر هو الذي نقص حظه من الغاية التي كان يبتغيها، وكذلك الذين اتصفوا بهذه الصفات، فالناقض للعهد يحسب أنه كسب من نكثه في عهده، ولكنه خسر؛ لأن الناس لَا يثقون بعهده من بعد، والذي يقطع أرحام الإنسانية يحسب أنه كسب بالانفراد، ولكنه خسر المعاونة والمودة، والأخوة الإنسانية، والمفسد في الأرض يحسب أنه كسب أرضا أو خيرا من وراء ما يفعل، وقد خسر الناسَ جميعا، فهو كمن أراد ربحا بالغش والخديعة فخسر كل ماله، وهكذا كل الفساق الآثرون الذين
ويشمل الفساد في الأرض ألا يكون الحكم المرضي الحكومةَ هو الحق، وأن يكون الحكم للغلب، وأن يسود قانون الغابة لَا قانون الفضيلة بين الناس، وأن يكون ذلك في كل العلاقات الإنسانية، القوي يأكل الضعيف، والغني يحقر الفقير، والعالم لَا يعلِّم الجاهل، بل يتخذه مطية لأهوائه وشهواته.
ويشمل الفساد في الأرض ألا يكون تعاون في استخراج ينابيع الثروة من باطن الأرض، بل يستبد بها القادر عليه، ويشمل الفساد ألا يوزع بين أهل الأرض خيراتها، بل يلقيه بعضهم في البحار، ولو جاع الباقون، ضنا به على فيِّ أخيه الإنسان.
ولقد حكم الله تعالى على من كانت هذه أوصافهم فقال تعالت كلماته: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرونَ).
اسم الإشارة إلى هؤلاء المتصفين بهذه الصفات، والإشارة إلى المتصفين بصفة أو صفات تومئ إلى أن هذه الصفات هي سبب الحكم. فنقض العهود والمواثيق، وقطع الصلات الإنسانية، وإشاعة الفساد في الأرض هو السبب في الخسران الذي لا ينجو منه أولئك الفاسقون.
والخاسر هو الذي نقص حظه من الغاية التي كان يبتغيها، وكذلك الذين اتصفوا بهذه الصفات، فالناقض للعهد يحسب أنه كسب من نكثه في عهده، ولكنه خسر؛ لأن الناس لَا يثقون بعهده من بعد، والذي يقطع أرحام الإنسانية يحسب أنه كسب بالانفراد، ولكنه خسر المعاونة والمودة، والأخوة الإنسانية، والمفسد في الأرض يحسب أنه كسب أرضا أو خيرا من وراء ما يفعل، وقد خسر الناسَ جميعا، فهو كمن أراد ربحا بالغش والخديعة فخسر كل ماله، وهكذا كل الفساق الآثرون الذين
183
يحسبون بأثرتهم أنهم الكاسبون، وهم الخاسرون. فمن كسب بغدر وخيانة وقطع الأرحام، ومن أفسد في الأرض بالحروب الظالمة، والغدر في العهود، فهو خسران دائما، فإن انتصر في حرب ونال ثمرة انتصاره ظلما، وإزهاقًا وإفسادًا، فإن المهزومين يتأهبون، وهو يترقب متوجسًا خائفًا حذرًا، وسيكون منهم الانتقام، ويكون الشر المستطير، بين الغالب والمغلوب، ولا سلام، بل خسران.
وأكد سبحانه وتعالى الخسران في قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).. بمؤكدات ثلاثة أولها: التعبير بالجملة الاسمية، ففي التعبير بها تعبير بأكمل القول الدال على الاستمرار. وثانيها: التأكيد بكلمة " هم "، وهي تدل على انفرادهم بالخسارة دون المؤمنين الطائعين، فهم الرابحون دائما، وثالثها: تعريف المسند والمسند إليه (١) الدال على القصر؛ أي أنهم مقصورون على الخسارة، فلا يربحون أبدا ما داموا على الأخلاق التي تفسد الجماعات وتقطع العلاقات، والربح للإيمان وأهله.
* * *
الكفر بالخالق المنشئ المسخر الوجود للإنسان
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)
* * *
________
(١) أي الخبر والمبتدأ، والمسند في الجملة الفعلية: الفعل، والمسند إليه: الفاعل.
وأكد سبحانه وتعالى الخسران في قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).. بمؤكدات ثلاثة أولها: التعبير بالجملة الاسمية، ففي التعبير بها تعبير بأكمل القول الدال على الاستمرار. وثانيها: التأكيد بكلمة " هم "، وهي تدل على انفرادهم بالخسارة دون المؤمنين الطائعين، فهم الرابحون دائما، وثالثها: تعريف المسند والمسند إليه (١) الدال على القصر؛ أي أنهم مقصورون على الخسارة، فلا يربحون أبدا ما داموا على الأخلاق التي تفسد الجماعات وتقطع العلاقات، والربح للإيمان وأهله.
* * *
الكفر بالخالق المنشئ المسخر الوجود للإنسان
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)
* * *
________
(١) أي الخبر والمبتدأ، والمسند في الجملة الفعلية: الفعل، والمسند إليه: الفاعل.
184
إن الكافرين يتعجبون من ضرب الأمثال، ويقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ وحالهم عجب لأنهم يرون المحسوس الذي يدفعهم إلى الإيمان بالله الذي خلق السموات والأرض ومن فيهن، ومع ذلك يكفرون ولا يؤمنون، ولقد وبخهم الله سبحانه وتعالى أبلغ توبيخ فقال تعالى:
185
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ).
(كيْفَ) يستفهم بها للحال، والمعنى كيف حالكم وبعدكم عن الإدراك والحق وأنتم تكفرون بالله الذي أنشاكم وأخرجكم من الموت إلى الحياة؟! إنكم ترون أن الطفل يولد، ويجيء من غيب الله تعالى، وترونه يشب غلاما فصبيا فشابا فكهلا فشيخا فيموت ثم يقبر ثم تكون الحياة بعد ذلك، ترون الأمور الثلاثة؛ الأولى موت، ثم حياة، ثم موت، أفلا يكون بالقياس على البدء بالموت ثم الحياة ثم الموت أن نحييكم تارة أخرى؛ وقد قدر سبحانه على الأمور الأولى، أفلا يقدر على الأخيرة؟ (... كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).
والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع لَا لإنكار الوقوع، والفرق بينهما أن إنكار الوقوع معناه النفي، وهو لَا يصلح هنا، وأما إنكار الواقع فمعناه التوبيخ أبلغ التوبيخ على ما وقع، فقد وقع ذلك الأمر الغريب، وهو أنهم يكفرون أو يجحدون بالله بألا يعبدوه وحده، وهو الذي خلقهم، فأحياهم، وقد كانوا أمواتا، وذلك محسوس مرئي، وأوثانهم لم تصنع شيئا من هذا ولا يمكن أن تفعل.
ومعنى الموت الأول الذي يدل عليه قوله تعالى: (وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا) هو أنهم كانوا عدما ليست فيهم حياة، أو كانوا أجساما جامدة هي الطين، أو نطفا في بطون الأمهات ثم مضغا مخلّقة وغير مخلّقة، فجعلكم أحياء.
وكيف يطلق على الجماد أنه ميت، مع أن الموت أمر نسبي تكون قبله حياة، ثم تسلب هذه الحياة فيكون الموت، والجماد لم تسبقه حياة، حتى يكون من بعدها موت؟.
(كيْفَ) يستفهم بها للحال، والمعنى كيف حالكم وبعدكم عن الإدراك والحق وأنتم تكفرون بالله الذي أنشاكم وأخرجكم من الموت إلى الحياة؟! إنكم ترون أن الطفل يولد، ويجيء من غيب الله تعالى، وترونه يشب غلاما فصبيا فشابا فكهلا فشيخا فيموت ثم يقبر ثم تكون الحياة بعد ذلك، ترون الأمور الثلاثة؛ الأولى موت، ثم حياة، ثم موت، أفلا يكون بالقياس على البدء بالموت ثم الحياة ثم الموت أن نحييكم تارة أخرى؛ وقد قدر سبحانه على الأمور الأولى، أفلا يقدر على الأخيرة؟ (... كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).
والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع لَا لإنكار الوقوع، والفرق بينهما أن إنكار الوقوع معناه النفي، وهو لَا يصلح هنا، وأما إنكار الواقع فمعناه التوبيخ أبلغ التوبيخ على ما وقع، فقد وقع ذلك الأمر الغريب، وهو أنهم يكفرون أو يجحدون بالله بألا يعبدوه وحده، وهو الذي خلقهم، فأحياهم، وقد كانوا أمواتا، وذلك محسوس مرئي، وأوثانهم لم تصنع شيئا من هذا ولا يمكن أن تفعل.
ومعنى الموت الأول الذي يدل عليه قوله تعالى: (وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا) هو أنهم كانوا عدما ليست فيهم حياة، أو كانوا أجساما جامدة هي الطين، أو نطفا في بطون الأمهات ثم مضغا مخلّقة وغير مخلّقة، فجعلكم أحياء.
وكيف يطلق على الجماد أنه ميت، مع أن الموت أمر نسبي تكون قبله حياة، ثم تسلب هذه الحياة فيكون الموت، والجماد لم تسبقه حياة، حتى يكون من بعدها موت؟.
185
ونقول في الجواب عن ذلك: إن الموت لَا يقتضي وجود حياة سابقة، بل يطلق على الجماد ذاته، فيقال: أرض موات، وأرض ميتة، وإحياؤها يكون بوجود الغيث وإنباتها النبات بإذن الله تعالى، كما قال تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ)، وقال تعالى: (رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كذَلِكَ الْخُرُوج).
فقوله تعالى: (كنتُمْ أَمْوَاتًا)، أي كنتم لَا حياة فيكم فأحياكم فخلق التراب ثم أنشأكم منه، فأحياكم فأفاض عليكم بالحياة، وهم قبل هذا الإحياء لم يكونوا شيئا مذكورا كما قال تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورً)، وقوله تعالى: (وَكنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) خطاب لهم بالانتقال من الغيبة إلى الخطاب، وهو دال على أن ذلك يعلمونه بالعيان والحس، لا بمجرد التصور والتفكر، (ثمَّ يُمِيتُكُمْ) و (ثُمَّ) هنا للتراخي؛ لأنه بعد الإحياء يعيش أجلا محدودا، ثم يموت، و (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)، (ثُمَ يُحْيِيكُمْ) بالبعث والنشور، ثم تكون القيامة، ثم إليه سبحانه ترجعون، وذلك هو مدلول قوله تعالى في آية أخرى: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا...)، وإنه كما ذكرنا أخذ من الواقع الذي يحسونه، دليلا على وقوع ما ينتظرهم، وينتظرونه، وهو البعث، فإذا كان سبحانه وتعالى أنشأ من العدم حياة ثم سلبها، فإنه قادر على إعادتها، ولكنهم يؤمنون بالحس وحده، ولا يؤمنون بالغيب الذي لَا يحُسُّون.
قوله تعالى: (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وثم هنا للتراخي؛ أي بعد أن يقضوا حياتهم، ويموتوا ويدفنوا في قبورهم يرجعون ليحاسبهم على ما قدموا من عمل، فإن خيرًا فخير، وإن شرا فالعذاب.
وتقديم (إِلَيْهِ) على (تُرْجَعونَ) للإشارة إلى أنه وحده هو الذي إليه يرجعون، لَا إلى آلهتهم التي يتوهمون بأوهامهم فيها قدرة، ولا قدرة، فالرجوع إليه سبحانه وتعالى.
فقوله تعالى: (كنتُمْ أَمْوَاتًا)، أي كنتم لَا حياة فيكم فأحياكم فخلق التراب ثم أنشأكم منه، فأحياكم فأفاض عليكم بالحياة، وهم قبل هذا الإحياء لم يكونوا شيئا مذكورا كما قال تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورً)، وقوله تعالى: (وَكنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) خطاب لهم بالانتقال من الغيبة إلى الخطاب، وهو دال على أن ذلك يعلمونه بالعيان والحس، لا بمجرد التصور والتفكر، (ثمَّ يُمِيتُكُمْ) و (ثُمَّ) هنا للتراخي؛ لأنه بعد الإحياء يعيش أجلا محدودا، ثم يموت، و (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)، (ثُمَ يُحْيِيكُمْ) بالبعث والنشور، ثم تكون القيامة، ثم إليه سبحانه ترجعون، وذلك هو مدلول قوله تعالى في آية أخرى: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا...)، وإنه كما ذكرنا أخذ من الواقع الذي يحسونه، دليلا على وقوع ما ينتظرهم، وينتظرونه، وهو البعث، فإذا كان سبحانه وتعالى أنشأ من العدم حياة ثم سلبها، فإنه قادر على إعادتها، ولكنهم يؤمنون بالحس وحده، ولا يؤمنون بالغيب الذي لَا يحُسُّون.
قوله تعالى: (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وثم هنا للتراخي؛ أي بعد أن يقضوا حياتهم، ويموتوا ويدفنوا في قبورهم يرجعون ليحاسبهم على ما قدموا من عمل، فإن خيرًا فخير، وإن شرا فالعذاب.
وتقديم (إِلَيْهِ) على (تُرْجَعونَ) للإشارة إلى أنه وحده هو الذي إليه يرجعون، لَا إلى آلهتهم التي يتوهمون بأوهامهم فيها قدرة، ولا قدرة، فالرجوع إليه سبحانه وتعالى.
186
إن الله تعالى خلق الخلق، وأحياهم بعد العدم، ولم يتركهم، بل أنعم عليهم بالأرض وخيراتها، وكل ثمراتها، وسخر لهم مافى السماوات والأرض، ومع ذلك كفروا بربهم الذي أولاهم الحياة، وأولاهم نعم الوجود؛ ولذلك قال تعالى:
187
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا... (٢٩)
أي أنه سبحانه وتعالى خلق لكم معشر بني آدم الأرض، وما فيها جميعا، خلق لكم كل ما في الأرض من ثمرات وزروع تنبت بإذن الله تعالى، وما يستنبطون من فلزات، ومعادن سائلة وجامدة، خلق لكم جميعا، كل ما في الأرض مما حوت بطونها، وجرت به أنهارها، ونزَّل من السماء ماءها. ومعنى (لَكُم) اللام فيه للاختصاص أو التمليك، خلقه مملوكا لكم بتمليك ربكم، وهذا من آلائه ونعمه عليكم، أو نقول خلق وقدَّر وأنشأ كل ما في الأرض جميعه، لأجل أن تنتفعوا به؛ تستطيبون طيباته، وتتركون خبائثه، وجاءكم بالشرائع التي تبين لكم الطيب فتتناولونه مباحا لكم حلالا طيبا، وتبين الخبائث لتجتنبوها، فأنتم في نعم الله دائما في هذه الأرض، جعلها فراشا، وملأها بالنعم على ظاهرها، وفيما اكتنزته بطونها، وبين الطيب ليميز عنه الخبيث.
وهنا كلمتان لابد من ذكرهما:
أولاهما - ما قرره العلماء من أن هذه الآية تدل على أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما ثبت بالدليل منعه، فكل شيء مباح بحكم الإباحة الأصلية التي ثبتت بأن الله تعالى خلق للناس ما في الأرض جميعا لينتفعوا به، وما كانوا لينتفعوا بهذه الأشياء إلا إذا كان قد أباحها، واستثنى الأكثرون العلاقة بين الرجل والمرأة، فإنها على المنع إلا أن يكون السبب المبيح، وإن ذلك لَا يمنع أن الأشياء مباحة في أصلها، فالتنظيم بالزواج لَا يمنع الإباحة.
وإن الأمر فيما، يطلبون متروك عند الإباحة إلى ما يجدون من متعة يستمتعون بها أو أمرا حسنا يستحسنونه، وهذا مبني على أن الأشياء لها حسن ذاتي وقبح،
أي أنه سبحانه وتعالى خلق لكم معشر بني آدم الأرض، وما فيها جميعا، خلق لكم كل ما في الأرض من ثمرات وزروع تنبت بإذن الله تعالى، وما يستنبطون من فلزات، ومعادن سائلة وجامدة، خلق لكم جميعا، كل ما في الأرض مما حوت بطونها، وجرت به أنهارها، ونزَّل من السماء ماءها. ومعنى (لَكُم) اللام فيه للاختصاص أو التمليك، خلقه مملوكا لكم بتمليك ربكم، وهذا من آلائه ونعمه عليكم، أو نقول خلق وقدَّر وأنشأ كل ما في الأرض جميعه، لأجل أن تنتفعوا به؛ تستطيبون طيباته، وتتركون خبائثه، وجاءكم بالشرائع التي تبين لكم الطيب فتتناولونه مباحا لكم حلالا طيبا، وتبين الخبائث لتجتنبوها، فأنتم في نعم الله دائما في هذه الأرض، جعلها فراشا، وملأها بالنعم على ظاهرها، وفيما اكتنزته بطونها، وبين الطيب ليميز عنه الخبيث.
وهنا كلمتان لابد من ذكرهما:
أولاهما - ما قرره العلماء من أن هذه الآية تدل على أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما ثبت بالدليل منعه، فكل شيء مباح بحكم الإباحة الأصلية التي ثبتت بأن الله تعالى خلق للناس ما في الأرض جميعا لينتفعوا به، وما كانوا لينتفعوا بهذه الأشياء إلا إذا كان قد أباحها، واستثنى الأكثرون العلاقة بين الرجل والمرأة، فإنها على المنع إلا أن يكون السبب المبيح، وإن ذلك لَا يمنع أن الأشياء مباحة في أصلها، فالتنظيم بالزواج لَا يمنع الإباحة.
وإن الأمر فيما، يطلبون متروك عند الإباحة إلى ما يجدون من متعة يستمتعون بها أو أمرا حسنا يستحسنونه، وهذا مبني على أن الأشياء لها حسن ذاتي وقبح،
187
وهذا لَا يستلزم أن يكون التكليف قائما على الاستحسان أو الاستهجان، إنما التكليف من أمر الله ونهيه.
الكلمة الثانية - أن قوله تعالى: (جَمِيعًا) متعلقة بما في الأرض أي أنه جميعه لكم معشر الناس، فليس لكم بعضه دون بعضه، بل هو لكم كله، لأجلكم، تنعمون به، وتعبدون الله تعالى على آلائه، فهو يؤدي إلى أن تكون هذه الملكية التي منحها الله تعالى لكم لتشكروها، ولتعبدوه بهذا الشكر، كقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
ولا يتبادر إلى الذهن أنها تأكيد لقوله تعالى: (لَكُم). أي أن الله تعالى خلق الأشياء لكم جميعا، فلا ينفرد قبيل دون قبيل، ولا جماعة دون جماعة، ولا قوم دون قوم، ولا غني دون فقير.
وإننا لَا نرى ذلك - أولا: لأن ذلك بعيد في اللفظ لأن التأكيد يكون للقريب، والقريب هنا هو ما في الأرض كله للناس، يتخيرون منه، ولا يطلبون خبيثه، فلا يؤكد اللفظ إلا ما يقترن به من القول، فلا يفصل بين المؤكِّد والمؤكَّد، وعلى أي حال فإنه بمقتضى عموم قوله تعالى: (لَكُم) أن الخلق لكم كلكم، وهذه الكلية التي تعم الناس أجمعين ثابتة بعموم الخطاب، لَا بلفظ (جَمِيعًا).
وليس معنى أن ما في الأرض لهم كلهم، أن يتقاسموه، وأن يأخذوا الخير جميعهم مقسما، من غير تمييز بين عامل وخامل، ولا بين موفق وغير موفق، إنما لكل امرئ عمله، ولكل امرئ ما كسب.
ولا تقتضي الكلية أن يتساوى الناس في أرزاقهم، فإن الرزق يمنحه الله تعالى لمن يعمل ويكسب، ولكن يتساوى الناس في تمكينهم من الأرض، وكلٌّ وما يكسبه، والله هو الغني الحميد.
الكلمة الثانية - أن قوله تعالى: (جَمِيعًا) متعلقة بما في الأرض أي أنه جميعه لكم معشر الناس، فليس لكم بعضه دون بعضه، بل هو لكم كله، لأجلكم، تنعمون به، وتعبدون الله تعالى على آلائه، فهو يؤدي إلى أن تكون هذه الملكية التي منحها الله تعالى لكم لتشكروها، ولتعبدوه بهذا الشكر، كقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
ولا يتبادر إلى الذهن أنها تأكيد لقوله تعالى: (لَكُم). أي أن الله تعالى خلق الأشياء لكم جميعا، فلا ينفرد قبيل دون قبيل، ولا جماعة دون جماعة، ولا قوم دون قوم، ولا غني دون فقير.
وإننا لَا نرى ذلك - أولا: لأن ذلك بعيد في اللفظ لأن التأكيد يكون للقريب، والقريب هنا هو ما في الأرض كله للناس، يتخيرون منه، ولا يطلبون خبيثه، فلا يؤكد اللفظ إلا ما يقترن به من القول، فلا يفصل بين المؤكِّد والمؤكَّد، وعلى أي حال فإنه بمقتضى عموم قوله تعالى: (لَكُم) أن الخلق لكم كلكم، وهذه الكلية التي تعم الناس أجمعين ثابتة بعموم الخطاب، لَا بلفظ (جَمِيعًا).
وليس معنى أن ما في الأرض لهم كلهم، أن يتقاسموه، وأن يأخذوا الخير جميعهم مقسما، من غير تمييز بين عامل وخامل، ولا بين موفق وغير موفق، إنما لكل امرئ عمله، ولكل امرئ ما كسب.
ولا تقتضي الكلية أن يتساوى الناس في أرزاقهم، فإن الرزق يمنحه الله تعالى لمن يعمل ويكسب، ولكن يتساوى الناس في تمكينهم من الأرض، وكلٌّ وما يكسبه، والله هو الغني الحميد.
188
وإنه كما ملَّك الله تعالى عبيده كل ما في الأرض لكُلِّهم عاملين فيه جادين، سخر لهم ما في السماوات والأرض؛ ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر نعمة الأرض عليهم بما فيها، قال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبعَ سَمَوَاتِ وَهُوَ بكلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
استوى معناها قصد مرتفعا، أو ارتفع إلى السماء، وهي في هذه الآية ما علا، وكان كالسقف المحفوظ، فسوى السماوات سبعا أي جعلها سبعا؛ ولأن السماء، وهي الجهة العالية، كما أشرنا واحدة في لفظها متضمنة السبع التي سواهن الله سبحانه وتعالى في معناها؛ ولذا أعاد الضمير عليها بما يدل على الجمع الذي يشمل أفرادا متعددين.
والمراد من السماوات السبع التي سواهن الله تعالى أي خلقهن، أو قسمهن وجعلهن سبعا متساوية، فمعنى سواهن: قسمهن بالتسوية سبعا، وهي مجموعات النجوم المتطابقة طبقة بعد طبقة، الواحدة أعلى من الدنيا وهكذا.
وكان الشائع بين علماء الفلك خمسا، لَا سبعا، ولكن بعد عصر القرآن بنحو أربعة عشر قرنا إلا قليلا كشفوا بآلات الكشف الحديثة نجمين كوكبين دلا على أنها سبع، وهي: عطارد، والزهرة، والمريخ، والمشترى، وزحل، وكشف أورانوس ثم نبتون، وكل كوكب في طبقة من السماء، والشمس والقمر ليسا من السبع، وهذا قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا)، فبمقتضى هذا النص تكون الشمس والقمر ليسا من السماوات السبع اللائي عدهن القرآن الكريم، وإن كانتا في السماء، وتسمى السبع المجموعة الشمسية، والشمس في طبقة أعلى منهن.
وإن قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ)، يدل بظاهره في العطف بـ ثم على أن السماوات سويت سبعا بعد خلق الأرض، ولكن لَا يدل على
استوى معناها قصد مرتفعا، أو ارتفع إلى السماء، وهي في هذه الآية ما علا، وكان كالسقف المحفوظ، فسوى السماوات سبعا أي جعلها سبعا؛ ولأن السماء، وهي الجهة العالية، كما أشرنا واحدة في لفظها متضمنة السبع التي سواهن الله سبحانه وتعالى في معناها؛ ولذا أعاد الضمير عليها بما يدل على الجمع الذي يشمل أفرادا متعددين.
والمراد من السماوات السبع التي سواهن الله تعالى أي خلقهن، أو قسمهن وجعلهن سبعا متساوية، فمعنى سواهن: قسمهن بالتسوية سبعا، وهي مجموعات النجوم المتطابقة طبقة بعد طبقة، الواحدة أعلى من الدنيا وهكذا.
وكان الشائع بين علماء الفلك خمسا، لَا سبعا، ولكن بعد عصر القرآن بنحو أربعة عشر قرنا إلا قليلا كشفوا بآلات الكشف الحديثة نجمين كوكبين دلا على أنها سبع، وهي: عطارد، والزهرة، والمريخ، والمشترى، وزحل، وكشف أورانوس ثم نبتون، وكل كوكب في طبقة من السماء، والشمس والقمر ليسا من السبع، وهذا قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا)، فبمقتضى هذا النص تكون الشمس والقمر ليسا من السماوات السبع اللائي عدهن القرآن الكريم، وإن كانتا في السماء، وتسمى السبع المجموعة الشمسية، والشمس في طبقة أعلى منهن.
وإن قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ)، يدل بظاهره في العطف بـ ثم على أن السماوات سويت سبعا بعد خلق الأرض، ولكن لَا يدل على
189
ذلك دلالة قاطعة، فإن التعبير بـ ثم يدل على الترتيب البياني في الذكر ولا يدل على الترتيب الواقعي، فإن الآيات قد تدل على غيره، وإنا نقرر أن الزمن لَا يحكم أفعال الله تعالى؛ فكما أنه تعالى لَا يكون في مكان: ،، فأفعاله تعالى فوق الأزمان.
ولقد جاء النص الكريم بأن الأرض أخذت من السماء، وكانتا رتقا، أو شيئا واحدا، كما قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا منَ الْمَاءِ كُلَّ شيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ).
ولقد قال تعالى في بيان خلق السماء والأرض: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (١١) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢).
وقد يقال: إنك نفيت الزمان عن أفعال الله تعالى، وقد ذكر سبحانه أنه خلق الأرض في يومين، وأنه جعلها على ما هي عليه في أربعة أيام، وأنه قضى السماوات في يومين، فكيف تنفي الزمان عن خالق الزمان والليل والنهار؟ ونقول في جواب ذلك: إن اليوم ليس هو اليوم الذي نعده بالغروب والشروق بأن تدور الأرض حول الشمس دورة تبتدئ بشروق الشمس، وتنتهي بغروبها أو العكس، فإن ذلك تقدير نسبي بين الأرض والشمس، وما كانتا قد خلقتا، كما يدل صريح القرآن، إنما اليوم هنا المراد به الدور التكويني، وإذا أردنا أن نتصور الدور التكويني، فإننا نتصور على ضوء العلم أن الأرض انفصلت عن الكتلة الشمسية التي أشار إليها سبحانه وتعالى في قوله: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا...)، فهذا يوم، أي دوو تكويني، هو دوو انفصال الأوض عن الكتلة الشمسية.
ولقد جاء النص الكريم بأن الأرض أخذت من السماء، وكانتا رتقا، أو شيئا واحدا، كما قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا منَ الْمَاءِ كُلَّ شيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ).
ولقد قال تعالى في بيان خلق السماء والأرض: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (١١) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢).
وقد يقال: إنك نفيت الزمان عن أفعال الله تعالى، وقد ذكر سبحانه أنه خلق الأرض في يومين، وأنه جعلها على ما هي عليه في أربعة أيام، وأنه قضى السماوات في يومين، فكيف تنفي الزمان عن خالق الزمان والليل والنهار؟ ونقول في جواب ذلك: إن اليوم ليس هو اليوم الذي نعده بالغروب والشروق بأن تدور الأرض حول الشمس دورة تبتدئ بشروق الشمس، وتنتهي بغروبها أو العكس، فإن ذلك تقدير نسبي بين الأرض والشمس، وما كانتا قد خلقتا، كما يدل صريح القرآن، إنما اليوم هنا المراد به الدور التكويني، وإذا أردنا أن نتصور الدور التكويني، فإننا نتصور على ضوء العلم أن الأرض انفصلت عن الكتلة الشمسية التي أشار إليها سبحانه وتعالى في قوله: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا...)، فهذا يوم، أي دوو تكويني، هو دوو انفصال الأوض عن الكتلة الشمسية.
190
وعند هذا الانفصال تكونت بإرادة الله تعالى وقدرته القاهرة، وإرادته المسيطرة القشرة الأرضية، وهذا هو اليوم الثاني، أو الدور الثاني، وقد بين سبحانه وتعالى، الأدوار الأربعة بعد ذلك.
هذا وقبل أن ننتهي من القول تحت إشراق القرآن في بيان الخلق والتكوين، نقول إن بعض المفسرين أو كثيرين منهم قال إن كلمة سبع سماوات، لَا يراد بها العدد المحدود المذكور، إنما يراد بها الكثرة من الأعداد، كما في قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّه مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، فإنه ليس المراد والله أعلم سبعة أبحر، إنما المراد عدد من الأبحر كثير.
ومثله قوله تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ...)، فالسبع، والسبعون يراد بها الكثرة، ولا يراد بها عدد محدود بالسبعة أو السبعين.
وإن لذلك القول بجوار ما قلنا مكانه من الحق، فإن السماء ذات أبراج، وإن الشمس في أعلى طبقاتها، وفوقها شموس، وفي السديم (١) عُلو لَا يعلمه إلا الله تعالى.
ولقد ختم سبحانه وتعالى الآية الكونية بقوله تعالى: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي أن الله تعالى خالق الكون وربه ومدبر أمره عليم به علم من لَا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وعلم من أنشأ وكوَّن وقدر ودبر، وقد ابتدأ العبارة السامية، بلفظ الجلاله لتربية المهابة في نفس التالي للكتاب، وأكد علمه السرمدي، بثلاثة مؤكدات: بالجملة الاسمية التي تدل على دوام العلم وثباته؛ لأنه علم أزلي دائم لَا يجري عليه ما يجري على الناس، وأكده سبحانه وتعالى بذكر
________
(١) السَّديمُ: الضبَّابُ الرقيق. [لسان العرب: الزاى - سدم، والقاموس المحيط: باب الميم - فصل السين].
هذا وقبل أن ننتهي من القول تحت إشراق القرآن في بيان الخلق والتكوين، نقول إن بعض المفسرين أو كثيرين منهم قال إن كلمة سبع سماوات، لَا يراد بها العدد المحدود المذكور، إنما يراد بها الكثرة من الأعداد، كما في قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّه مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، فإنه ليس المراد والله أعلم سبعة أبحر، إنما المراد عدد من الأبحر كثير.
ومثله قوله تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ...)، فالسبع، والسبعون يراد بها الكثرة، ولا يراد بها عدد محدود بالسبعة أو السبعين.
وإن لذلك القول بجوار ما قلنا مكانه من الحق، فإن السماء ذات أبراج، وإن الشمس في أعلى طبقاتها، وفوقها شموس، وفي السديم (١) عُلو لَا يعلمه إلا الله تعالى.
ولقد ختم سبحانه وتعالى الآية الكونية بقوله تعالى: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي أن الله تعالى خالق الكون وربه ومدبر أمره عليم به علم من لَا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وعلم من أنشأ وكوَّن وقدر ودبر، وقد ابتدأ العبارة السامية، بلفظ الجلاله لتربية المهابة في نفس التالي للكتاب، وأكد علمه السرمدي، بثلاثة مؤكدات: بالجملة الاسمية التي تدل على دوام العلم وثباته؛ لأنه علم أزلي دائم لَا يجري عليه ما يجري على الناس، وأكده سبحانه وتعالى بذكر
________
(١) السَّديمُ: الضبَّابُ الرقيق. [لسان العرب: الزاى - سدم، والقاموس المحيط: باب الميم - فصل السين].
191
الإحاطة التامة بكل شيء، وأكده سبحانه بذكر صفة من صفاته فقال: (عَلِيمٌ)، سبحان من أحاط بكل شيء علما، وسبحان من عنت له الوجوه.
* * *
خلق الإنسان
ذكر سبحانه وتعالى خلق الأرض وتمليكه الإنسان حق الانتفاع بها، وأشار إلى خلق السماوات فكان من بعد ذلك أن تكلم على خلق الإنسان الذي سخر له هذا الوجود الكوني، من أرض وسماء، فقال تعالت كلماته:
* * *
* * *
خلق الإنسان
ذكر سبحانه وتعالى خلق الأرض وتمليكه الإنسان حق الانتفاع بها، وأشار إلى خلق السماوات فكان من بعد ذلك أن تكلم على خلق الإنسان الذي سخر له هذا الوجود الكوني، من أرض وسماء، فقال تعالت كلماته:
* * *
192
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٠)
* * *
وقبل أن نتعرف القصة الحقيقية التي صورها القرآن لخلق الإنسان نذكر عوالم ثلاثة للعقلاء جاء ذكر بعضها في بيان علاقة الإنسان في خلقه وتكوينه بها.
وهذه العوالم الثلاثة هي: عالم الملائكة وهم خلق الله تعالى، قيل إنه سبحانه خلقهم من نور، وهم أرواح طاهرة مطهرة لَا يعصون الله تعالى ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. لَا يتصور منهم معصية ولا يكون منهم إلا الطاعة، ركب الله تعالى كونهم على أنه لَا تتصور منهم معصية، فليست شهوات ولا أهواء، وهي بواعث العصيان.
والثاني من هذه العوالم: هو عالم الجن، وعبارات القرآن تدل على أنهم خلقوا من نار، وقد ذكر ذلك إبليس الذي هو من الجن، فقال في غروره مفضلا
* * *
وقبل أن نتعرف القصة الحقيقية التي صورها القرآن لخلق الإنسان نذكر عوالم ثلاثة للعقلاء جاء ذكر بعضها في بيان علاقة الإنسان في خلقه وتكوينه بها.
وهذه العوالم الثلاثة هي: عالم الملائكة وهم خلق الله تعالى، قيل إنه سبحانه خلقهم من نور، وهم أرواح طاهرة مطهرة لَا يعصون الله تعالى ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. لَا يتصور منهم معصية ولا يكون منهم إلا الطاعة، ركب الله تعالى كونهم على أنه لَا تتصور منهم معصية، فليست شهوات ولا أهواء، وهي بواعث العصيان.
والثاني من هذه العوالم: هو عالم الجن، وعبارات القرآن تدل على أنهم خلقوا من نار، وقد ذكر ذلك إبليس الذي هو من الجن، فقال في غروره مفضلا
192
نفسه على آدم: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)، وإبليس كان من الجن، ولكنه جن فاسق، فقد ذكر عنه ربه أنه (كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ...).
والجن يظهر أن فيهم أهواء وشهوات، ولذلك كان منهم العاصون، ومنهم العادلون المقسطون، وأنهم مكلفون، وأنهم سمعوا القرآن، وسمعوا من قبل توراة موسى، وقد قال تعالى فيهم.
(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (٢) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (٣) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (٥) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (٩) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (١٤) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (١٥) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (١٧).
والجن كما ذكر القرآن عالم غير عالم الملائكة، وغير عالم الإنسان، وتأويل القول فيهم أنهم من عالم الإنسان، وأنهم قبيلة منهم - تأويل بغير دليل، يخالف ظاهر القرآن، وليس لقائله من سند إلا أن يكون تحريفا للقول عن مواضعه.
والعالم الثالث هو: عالم الإنسان، وقد خلق من سلالة من طين، والعالمان الخفيان، وهما عالم الملائكة وعالم الجن، تدل الآيات الكريمات على أنهما خلقا
والجن يظهر أن فيهم أهواء وشهوات، ولذلك كان منهم العاصون، ومنهم العادلون المقسطون، وأنهم مكلفون، وأنهم سمعوا القرآن، وسمعوا من قبل توراة موسى، وقد قال تعالى فيهم.
(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (٢) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (٣) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (٥) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (٩) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (١٤) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (١٥) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (١٧).
والجن كما ذكر القرآن عالم غير عالم الملائكة، وغير عالم الإنسان، وتأويل القول فيهم أنهم من عالم الإنسان، وأنهم قبيلة منهم - تأويل بغير دليل، يخالف ظاهر القرآن، وليس لقائله من سند إلا أن يكون تحريفا للقول عن مواضعه.
والعالم الثالث هو: عالم الإنسان، وقد خلق من سلالة من طين، والعالمان الخفيان، وهما عالم الملائكة وعالم الجن، تدل الآيات الكريمات على أنهما خلقا
193
قبل العالم الثالث، وهو الإنسان، بدليل أن الملائكة ذكر الله تعالى لهم أنه جاعل الإنسان خليفة، وأنهم عجبوا أن يكون خليفة في الأرض من يفسد فيها ويهلك الحرث، وبدليل أن أبليس الذي كان من الجن عصى ربه، فلم يسجد، وقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.
والإنسان خلق فـ يه العقل المدرك الذي يرفعه إلى درجة الملائكة، وخلق فيه الشهوة والهوى اللذان يجعلانه مفسدا فيها ويهلك الحرث والنسل، وذلك وجه استغرابهم.
ولنذكر القصة الكاملة الحقيقية التي يصور الله تعالى فيها خلق هذا العالم الثالث، وهو الإنسان.
أعلم الله تعالى الملائكة - وهم جمع ملك - بأنه سيجعل في الأرض من
يسكن ظاهرها، ويحكم فيها، وينسل فقال: (إِنِي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، أي يكون ساكنا فيها بالخلافة عمن كانوا فيها، ولم يذكر سبحانه وتعالى من كانوا فيها أهم كانوا من الملائكة أم كانوا من الجن، أم كانوا خلقا آخر، ولقد ترك الله سبحانه وتعالى ذكر من خلفهم، فلنسكت عما ترك، ولا نرجم بالغيب، حتى لَا نطلب ما ليس لنا به علم.
وقد يقال إن (خَلِيفَةً) معناها الخلافة عن الله تعالى في الأرض، بمعنى أن الله تعالى بما أعطاه من قوة العقل والتنككير والتدبير، والسيطرة على نفسه، وعلى ما في الوجود، في الأرض، التي خلفه الله تعالى عليها ليكون خليفة خلافة نسبية عن الله تعالى، والله تعالى غالب على كل أمره، وأموره.
قد يكون هذا هو الظاهر، أو أن (خَلِيفَةً) معناه أنه وجنسه خلائف يخلف بعضهم بعضا، كما قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ...).
والإنسان خلق فـ يه العقل المدرك الذي يرفعه إلى درجة الملائكة، وخلق فيه الشهوة والهوى اللذان يجعلانه مفسدا فيها ويهلك الحرث والنسل، وذلك وجه استغرابهم.
ولنذكر القصة الكاملة الحقيقية التي يصور الله تعالى فيها خلق هذا العالم الثالث، وهو الإنسان.
أعلم الله تعالى الملائكة - وهم جمع ملك - بأنه سيجعل في الأرض من
يسكن ظاهرها، ويحكم فيها، وينسل فقال: (إِنِي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، أي يكون ساكنا فيها بالخلافة عمن كانوا فيها، ولم يذكر سبحانه وتعالى من كانوا فيها أهم كانوا من الملائكة أم كانوا من الجن، أم كانوا خلقا آخر، ولقد ترك الله سبحانه وتعالى ذكر من خلفهم، فلنسكت عما ترك، ولا نرجم بالغيب، حتى لَا نطلب ما ليس لنا به علم.
وقد يقال إن (خَلِيفَةً) معناها الخلافة عن الله تعالى في الأرض، بمعنى أن الله تعالى بما أعطاه من قوة العقل والتنككير والتدبير، والسيطرة على نفسه، وعلى ما في الوجود، في الأرض، التي خلفه الله تعالى عليها ليكون خليفة خلافة نسبية عن الله تعالى، والله تعالى غالب على كل أمره، وأموره.
قد يكون هذا هو الظاهر، أو أن (خَلِيفَةً) معناه أنه وجنسه خلائف يخلف بعضهم بعضا، كما قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ...).
194
وعندي أن ما أشرنا مرجحين له: وهو أنه خليفة عن الله تعالى وهي خلافة نسبية، ترك الله تعالى له الخلافة، ليبلوه فيما ملكه من منافع الأرض التي خلقها جميعا له.
ذكر الله تعالى لملائكته أنه جعل له تعالى خليفة في هذه الأرض، ويظهر أن الله تعالى أعلمهم بطبيعة هذا العالم الثالث في هذا الوجود من أنه أوتي عقلا مدركا، وشهوة قد تكون طاغية، وأنها إن طغت أفسدت، وأهلكت.
ولذلك قالوا لربهم مستغربين: أتجعل فيها من يفسد فيها، لأنه ركبت فيه الشهوة وإذا غلبت أفسدت، وإن الشهوات إذا تحكمت كانت الأثرة، وكان التنازع، ومع التنازع سفك الدماء، ولذا قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟! وقد كانوا مع اعتقادهم في الإنسان ذلك الاعتقاد أشاروا إلى أنهم أولى منه بالخلافة في الأرض من غير أن يعترضوا على الله تعالى في حكمه، بل أبدوا استغرابهم من أن الله تعالى يتركهم إلى المفسد السافك للدماء، وهم المسبحون بحمد الله المقدسون له]. فقالوا مقابلين بين حالهم وحال الإنسان، (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) أي نحن نذكرك مديمين بحمدك على ما أنعمت، لأن ذاته العلية تستحق الحمد في ذاته، (وَنُقَدَسُ لَكَ) أي نعظمك وننزهك لك أنت. أي: لأجل ذاتك العلية.
يبين الله تعالى لهم، أن الله يعلم ذلك، فيعلم أحوالهم وأنهم في تسبيح دائم، وتقديس ملازم، ولكن في الإنسان ما يجعله جديرا بالخلافة في الأرض ليبلوه فيما آتاه الله تعالى من خيرها، فهو يعلمه ويعلمهم، ويعلم الجدير منهم بأن يجعله في الأرض، ولذلك قال تعالى ردا لاستغرابهم بقوله: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمونَ) أعلم الجدير بما أعطى وغير الجدير.
وقد بيَّن الله تعالى ما أودعه نفس الإنسان من العلم بالأشياء أو الاستعداد للعلم بها، أو أودع نفسه الاستعداد بعلمه بالأشياء كلها مما لَا يعلمون هم، فقال تعالى:
* * *
ذكر الله تعالى لملائكته أنه جعل له تعالى خليفة في هذه الأرض، ويظهر أن الله تعالى أعلمهم بطبيعة هذا العالم الثالث في هذا الوجود من أنه أوتي عقلا مدركا، وشهوة قد تكون طاغية، وأنها إن طغت أفسدت، وأهلكت.
ولذلك قالوا لربهم مستغربين: أتجعل فيها من يفسد فيها، لأنه ركبت فيه الشهوة وإذا غلبت أفسدت، وإن الشهوات إذا تحكمت كانت الأثرة، وكان التنازع، ومع التنازع سفك الدماء، ولذا قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟! وقد كانوا مع اعتقادهم في الإنسان ذلك الاعتقاد أشاروا إلى أنهم أولى منه بالخلافة في الأرض من غير أن يعترضوا على الله تعالى في حكمه، بل أبدوا استغرابهم من أن الله تعالى يتركهم إلى المفسد السافك للدماء، وهم المسبحون بحمد الله المقدسون له]. فقالوا مقابلين بين حالهم وحال الإنسان، (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) أي نحن نذكرك مديمين بحمدك على ما أنعمت، لأن ذاته العلية تستحق الحمد في ذاته، (وَنُقَدَسُ لَكَ) أي نعظمك وننزهك لك أنت. أي: لأجل ذاتك العلية.
يبين الله تعالى لهم، أن الله يعلم ذلك، فيعلم أحوالهم وأنهم في تسبيح دائم، وتقديس ملازم، ولكن في الإنسان ما يجعله جديرا بالخلافة في الأرض ليبلوه فيما آتاه الله تعالى من خيرها، فهو يعلمه ويعلمهم، ويعلم الجدير منهم بأن يجعله في الأرض، ولذلك قال تعالى ردا لاستغرابهم بقوله: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمونَ) أعلم الجدير بما أعطى وغير الجدير.
وقد بيَّن الله تعالى ما أودعه نفس الإنسان من العلم بالأشياء أو الاستعداد للعلم بها، أو أودع نفسه الاستعداد بعلمه بالأشياء كلها مما لَا يعلمون هم، فقال تعالى:
* * *
195
(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣١) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)
* * *
والأسماء هي الأشياء من قبيل ذكر الاسم وإرادة المسمى، إن جهل الملائكة بأسماء الأشياء وعلم آدم بها هو الأمر الذي ميز آدم على الملائكة، خلقوا للطاعة، ولا يعلمون طبائع الأشياء والوجود الأرضي إلا ما أعلمهم الله تعالى إياه، أما آدم فإن الله تعالى أودعه القدرة على العلم بالأشياء، وكان في طبيعة نفسه التي أوجدها الله تعالى العلم بالأجناس أو مثلها. فالإنسان يولد وفي استعداده العلم بالمثل في هذه الأرض كما قال تعالى: (وَاللَّه أَخْرَجَكم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ...).
بهذه الخاصة التي وهبها الله تعالى للإنسان، وهي الاستعداد للمعرفة والعلم بكل ما في الأرض، فكان بذلك ممتازا على الملائكة ويتبعهم الجن.
ولقد أعلم سبحانه بهذا العلو عليهم، فأمرهم بالسجود له، فقال تعالى:
* * *
* * *
والأسماء هي الأشياء من قبيل ذكر الاسم وإرادة المسمى، إن جهل الملائكة بأسماء الأشياء وعلم آدم بها هو الأمر الذي ميز آدم على الملائكة، خلقوا للطاعة، ولا يعلمون طبائع الأشياء والوجود الأرضي إلا ما أعلمهم الله تعالى إياه، أما آدم فإن الله تعالى أودعه القدرة على العلم بالأشياء، وكان في طبيعة نفسه التي أوجدها الله تعالى العلم بالأجناس أو مثلها. فالإنسان يولد وفي استعداده العلم بالمثل في هذه الأرض كما قال تعالى: (وَاللَّه أَخْرَجَكم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ...).
بهذه الخاصة التي وهبها الله تعالى للإنسان، وهي الاستعداد للمعرفة والعلم بكل ما في الأرض، فكان بذلك ممتازا على الملائكة ويتبعهم الجن.
ولقد أعلم سبحانه بهذا العلو عليهم، فأمرهم بالسجود له، فقال تعالى:
* * *
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٣٤)
* * *
* * *
196
كان إبليس عند أمر الله تعالى له مع الملائكة، ولنا أن نقول إنه ليس مما خلقهم تعالى من مادتهم، فإنه خلق من نار كما حكى الله تعالى عنه إذ قال: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّه أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظالِمِينَ بَدَلًا).
وإذا لم يكن منهم، فإن الاستثناء يكون منقطعا، ولكن الخطاب موجه إليه لصحبته لهم. والسجود الذي أمر الله تعالى به ما هو؟ قال بعضهم: إنه الخضوع وهو يستعمل في كلام العرب بمعنى التذلل والخضوع، وليس السجود الذي يعد من أركان الصلاة، ومن المعنى اللغوي قوله في سورة يوسف: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا...)، أي دخلوا في حكمه.
ولقد قال تعالى في الخلق في سورة أخرى: (فإذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)، فهل يدل هذا على أنه كسجود الصلاة؟ الجواب عن ذلك أنه يدل على كمال الخضوع له سبحانه وتعالى، بما يدل على الخضوع الكامل بالانحناء له، وإذا كان يوهم أنه كسجود الصلاة، فليس عبادة لآدم ولكنه إطاعة الله تعالى: وإن كان آدم كالقبلة، فالعبادة تكون للآمر وهو الله تعالى لَا لمن اتخذه كالقبلة وكان كأنما السجود له.
ومهما تكن حال السجود، والعلم الجازم بها عند الله تعالى، فإن الأمر به دليل على تكريم الله تعالى لآدم أبي البشر، وأنَّ له اختصاصا بالتكريم على الملائكة الأطهار الأبرار، كما أمر الله تبارك وتعالى الذي خلق الفريقين، وميز بين العالمين. وإبليس الذي كان من الجن خرج عن طاعة الله ففسق عن أمر الله مستكبرا بغير مسوغ للكبر، لأنه زعم أن أصل خلقه خير من أصل خلق آدم، فهو خلق من نار، وآدم خلق من طين، والله تعالى خالق المادتين، فهو يفاخر ويعاند بأمر خلقه الله تعالى الذي أمره بالسجود، فكان في أشد أحوال الغفلة، وصح أن يقال فيه إنه أشد مَنْ خَلَقَ الله تغفيلا، وكذلك كان أتباعه من بعده، فهم في غفلة عن الحق دائما.
وإذا لم يكن منهم، فإن الاستثناء يكون منقطعا، ولكن الخطاب موجه إليه لصحبته لهم. والسجود الذي أمر الله تعالى به ما هو؟ قال بعضهم: إنه الخضوع وهو يستعمل في كلام العرب بمعنى التذلل والخضوع، وليس السجود الذي يعد من أركان الصلاة، ومن المعنى اللغوي قوله في سورة يوسف: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا...)، أي دخلوا في حكمه.
ولقد قال تعالى في الخلق في سورة أخرى: (فإذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)، فهل يدل هذا على أنه كسجود الصلاة؟ الجواب عن ذلك أنه يدل على كمال الخضوع له سبحانه وتعالى، بما يدل على الخضوع الكامل بالانحناء له، وإذا كان يوهم أنه كسجود الصلاة، فليس عبادة لآدم ولكنه إطاعة الله تعالى: وإن كان آدم كالقبلة، فالعبادة تكون للآمر وهو الله تعالى لَا لمن اتخذه كالقبلة وكان كأنما السجود له.
ومهما تكن حال السجود، والعلم الجازم بها عند الله تعالى، فإن الأمر به دليل على تكريم الله تعالى لآدم أبي البشر، وأنَّ له اختصاصا بالتكريم على الملائكة الأطهار الأبرار، كما أمر الله تبارك وتعالى الذي خلق الفريقين، وميز بين العالمين. وإبليس الذي كان من الجن خرج عن طاعة الله ففسق عن أمر الله مستكبرا بغير مسوغ للكبر، لأنه زعم أن أصل خلقه خير من أصل خلق آدم، فهو خلق من نار، وآدم خلق من طين، والله تعالى خالق المادتين، فهو يفاخر ويعاند بأمر خلقه الله تعالى الذي أمره بالسجود، فكان في أشد أحوال الغفلة، وصح أن يقال فيه إنه أشد مَنْ خَلَقَ الله تغفيلا، وكذلك كان أتباعه من بعده، فهم في غفلة عن الحق دائما.
197
ولقد وصفه الله تعالى بأنه كَفَر، وهو قد طغى في كفره، وتعدى إلى معاندة الله تعالى في أمره ونهيه، حتى لقد حكى الله تعالى أنه اعتزم الشر، وأراد فتنة بني آدم، بل آدم نفسه، فقال عنه الله تعالى: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا)، وقال: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ).
* * *
وإن الله تعالى بعد أن خلق آدم، قال الله سبحانه آمرا آدم، وكان قد خلق معه زوجه:
* * *
* * *
وإن الله تعالى بعد أن خلق آدم، قال الله سبحانه آمرا آدم، وكان قد خلق معه زوجه:
* * *
198
(وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥)
* * *
لم يذكر الله سبحانه مكان هذه الجنة، ولا حقيقتها، أهي في السماء أم في الأرض، أهي الجنة التي تكون جنة الخلد. أم هي حديقة في الأرض، ومهما يكن فإنها جنة فيها رغد العيش وسعته.
ولم يذكر سبحانه وتعالى اسم زوجه، ولكنا علمنا من مصادر أخرى أنها حواء (١)، وأنه خلقها من نفس آدم، أو من جنس خلقه، فقد قال تعالى في سورة النساء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا...)، فحواء زوجة آدم من نفس خلقه أو خلقها الله تعالى من جنس نفسه.
أمر الله آدم أن يكون هو وزوجه في الجنة ساكنين، وأن يأكلا منها موسعين على أنفسهما غير مضيقين، يأكان رغدا أي من غير انقطاع، ولكنه نهاهما عن
________
(١) صرح النبي - ﷺ - بهذا الاسم في الصحاح ومن ذلك ما رواه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء (٣٠٨٣)، ومسلم: الرضاع (٢٦٧٣). قال النووي: رُوِّينَا عَنْ ابْنِ عَبَّاس قَالَ: سُميتْ حَوآء لأنَّهَا أمّ كُلّ حَيٍّ.
* * *
لم يذكر الله سبحانه مكان هذه الجنة، ولا حقيقتها، أهي في السماء أم في الأرض، أهي الجنة التي تكون جنة الخلد. أم هي حديقة في الأرض، ومهما يكن فإنها جنة فيها رغد العيش وسعته.
ولم يذكر سبحانه وتعالى اسم زوجه، ولكنا علمنا من مصادر أخرى أنها حواء (١)، وأنه خلقها من نفس آدم، أو من جنس خلقه، فقد قال تعالى في سورة النساء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا...)، فحواء زوجة آدم من نفس خلقه أو خلقها الله تعالى من جنس نفسه.
أمر الله آدم أن يكون هو وزوجه في الجنة ساكنين، وأن يأكلا منها موسعين على أنفسهما غير مضيقين، يأكان رغدا أي من غير انقطاع، ولكنه نهاهما عن
________
(١) صرح النبي - ﷺ - بهذا الاسم في الصحاح ومن ذلك ما رواه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء (٣٠٨٣)، ومسلم: الرضاع (٢٦٧٣). قال النووي: رُوِّينَا عَنْ ابْنِ عَبَّاس قَالَ: سُميتْ حَوآء لأنَّهَا أمّ كُلّ حَيٍّ.
198
شجرة من أشجارها.. ما هي وما كنهها؛ لم يذكر سبحانه وتعالى هذه الشجرة، ولكنه وإن لم يبينها لنا كانت معلومة عند آدم وزوجه، ولذلك كان إغراء آدم من شجرة معينة.
ابتدأ إبليس يتخذ طريق الغواية حاقدا حاسدا، فجاءهما من هذه التي أمر الله سبحانه وتعالى بألا يقرباها، وكان النهي عن القرب لَا عن الأكل، لأنه أبلغ في النهي عن الأكل، فالنهي عن القرب مبالغة في عدم الأكل بالابتعاد عنها، وهنا كان الاختبار بهذه الشجرة، إذ حيث يكون الهوى فإنه يجر إلى العصيان.
جاءهما الشيطان من ناحية هذه الشجرة، وجاء الإغراء من النهي عن الأكل منها ولذلك قال تعالى:
* * *
ابتدأ إبليس يتخذ طريق الغواية حاقدا حاسدا، فجاءهما من هذه التي أمر الله سبحانه وتعالى بألا يقرباها، وكان النهي عن القرب لَا عن الأكل، لأنه أبلغ في النهي عن الأكل، فالنهي عن القرب مبالغة في عدم الأكل بالابتعاد عنها، وهنا كان الاختبار بهذه الشجرة، إذ حيث يكون الهوى فإنه يجر إلى العصيان.
جاءهما الشيطان من ناحية هذه الشجرة، وجاء الإغراء من النهي عن الأكل منها ولذلك قال تعالى:
* * *
199
(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٣٦)
* * *
وترى في الآية (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا)، وعبر بالشيطان وهو إبليس لأنه ابتدأ يتحرك فاسدا مفسدا، وأزلهما معناها أوقعهما في الزلل، ولقد ذكر سبحانه وتعالى النتيجة وهي أنه أوقعهما في الزلل بأكلهما منه، وفصَّل سبحانه وتعالى عمل إبليس في موضع آخر في سورة الأعراف، فقد قال تعالى في هذه السورة ما فعله بإبليس عندما عصى أمر ربه بالسجود إذ أخرجه منها، وقال بعد استكباره: اخرج منها فإنك من الصاغرين.. وقال لآدم: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (٢٠) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ
* * *
وترى في الآية (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا)، وعبر بالشيطان وهو إبليس لأنه ابتدأ يتحرك فاسدا مفسدا، وأزلهما معناها أوقعهما في الزلل، ولقد ذكر سبحانه وتعالى النتيجة وهي أنه أوقعهما في الزلل بأكلهما منه، وفصَّل سبحانه وتعالى عمل إبليس في موضع آخر في سورة الأعراف، فقد قال تعالى في هذه السورة ما فعله بإبليس عندما عصى أمر ربه بالسجود إذ أخرجه منها، وقال بعد استكباره: اخرج منها فإنك من الصاغرين.. وقال لآدم: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (٢٠) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ
199
وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٢٤) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (٢٥).
ففي هذا النص الذي تدل عليه هذه الآيات الكريمات يبين سبحانه كيف كان الإغواء، وأنه جاء من جهة الترغيب في الاستعلاء والبقاء، فأوهمهما أن النهي كان لكيلا يكونا من الملائكة، مع أن آدم سجدت له الملائكة، ولكنهما غفلا عن هذا، وأوهمهما أنهما يكونان خالِدَين في الجنة إن أكلا.
وكانت النتيجة من الأكل أن بدت لهما سوءاتهما بعد الأكل من الشجرة، وادعى بعضهم أن هذا يدل على أنها خثمجرة الشهوة، ولكن لَا دليل، فيبقى أمر الشجرة غير معلوم.
والأمر الذي ترتب على الأكل في آية البقرة وآية الأعواف هو الخروج من الجنة، والهبوط إلى الأرض، أي النزول من مكان أعلى منها، (وَقلنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أى أمر التكوين كان لآدم وزوجه وإبليس، وقوله تعالى: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)، أي أن إبليس عدو لكم فاحذروه، وإنه وذريته ينفثون في نفوس الناس الشر، فتكون العداوة الدائمة المستمرة، والتنازع والحروب.
(وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين) أي الأرض التي خلقها، وخلق لكم ما فيها جميعا ستكون مستقرا أي موضع قرار دائم، لَا أن تكون مسكنا تتركونه، ويكون فيها متاعكم إلى حين، أي إلى وقت أن تموتوا ثم تحيوا فيكون البعث والنشور، وهكذا كان الشيطان بعداوته طريق الخروج من جنة الله تعالى إلى أرضه.
ففي هذا النص الذي تدل عليه هذه الآيات الكريمات يبين سبحانه كيف كان الإغواء، وأنه جاء من جهة الترغيب في الاستعلاء والبقاء، فأوهمهما أن النهي كان لكيلا يكونا من الملائكة، مع أن آدم سجدت له الملائكة، ولكنهما غفلا عن هذا، وأوهمهما أنهما يكونان خالِدَين في الجنة إن أكلا.
وكانت النتيجة من الأكل أن بدت لهما سوءاتهما بعد الأكل من الشجرة، وادعى بعضهم أن هذا يدل على أنها خثمجرة الشهوة، ولكن لَا دليل، فيبقى أمر الشجرة غير معلوم.
والأمر الذي ترتب على الأكل في آية البقرة وآية الأعواف هو الخروج من الجنة، والهبوط إلى الأرض، أي النزول من مكان أعلى منها، (وَقلنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أى أمر التكوين كان لآدم وزوجه وإبليس، وقوله تعالى: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)، أي أن إبليس عدو لكم فاحذروه، وإنه وذريته ينفثون في نفوس الناس الشر، فتكون العداوة الدائمة المستمرة، والتنازع والحروب.
(وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين) أي الأرض التي خلقها، وخلق لكم ما فيها جميعا ستكون مستقرا أي موضع قرار دائم، لَا أن تكون مسكنا تتركونه، ويكون فيها متاعكم إلى حين، أي إلى وقت أن تموتوا ثم تحيوا فيكون البعث والنشور، وهكذا كان الشيطان بعداوته طريق الخروج من جنة الله تعالى إلى أرضه.
200
وإن آدم أحس بأنه عصى ربه، وأنه ظلم نفسه، فألهمهما الله تعالى أن يقرَّا بالمعصية، وأن يطلبا منه سبحانه وتعالى غفران هذا العصيان (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، هذه هي الكلمات التي تلقياها من ربهما كما قال تعالى:
* * *
* * *
201
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧)
* * *
وكما جاء في سورة طه: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى).
هذه القصة الحقيقية في خلق الله سبحانه وتعالى آدم، وهي تدل على ثلاثة أمور: أولها: أن الله تعالى كرم آدم على خلقه من الملائكة والجن بدليل أنه سبحانه أمرهم بالسجود له.
ثانيها: أن الله تعالى خلقه ووهبه الاستعداد لمعرفة الأشياء، وبها امتاز على الملائكة، وبهذا الاستعداد للعلم، ومعرفته أسماء الأشياء سخر الله تعالى له ما في السماء وما في الأرض، وذلل له كل ما في الأرض وما في السماء.
ثالثها: أنه يؤتي من قبل أهوائه وما يغريه، وأن إبليس له عدو مبين، وأنه سلط على آدم، وسلط على بنيه من بعده، وأنه موسوس في نفسه، فهو لَا يتصل بحسه، ولكن يتصل بنفسه.
ولسنا نقول إن الجن وإبليس، هما وسوسة النفس، أو ما يحيك في الصدر، ولكن نقول إن الجن مخلوقات موجودة، وإن إبليس موجود مخلوق، ولكن مع ذلك نقول إن إبليس وذريته من بعده يوسوسون في النفوس بالشر، وإن كانوا يعجزون عن النفوس المؤمنة الطاهرة.
* * *
وكما جاء في سورة طه: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى).
هذه القصة الحقيقية في خلق الله سبحانه وتعالى آدم، وهي تدل على ثلاثة أمور: أولها: أن الله تعالى كرم آدم على خلقه من الملائكة والجن بدليل أنه سبحانه أمرهم بالسجود له.
ثانيها: أن الله تعالى خلقه ووهبه الاستعداد لمعرفة الأشياء، وبها امتاز على الملائكة، وبهذا الاستعداد للعلم، ومعرفته أسماء الأشياء سخر الله تعالى له ما في السماء وما في الأرض، وذلل له كل ما في الأرض وما في السماء.
ثالثها: أنه يؤتي من قبل أهوائه وما يغريه، وأن إبليس له عدو مبين، وأنه سلط على آدم، وسلط على بنيه من بعده، وأنه موسوس في نفسه، فهو لَا يتصل بحسه، ولكن يتصل بنفسه.
ولسنا نقول إن الجن وإبليس، هما وسوسة النفس، أو ما يحيك في الصدر، ولكن نقول إن الجن مخلوقات موجودة، وإن إبليس موجود مخلوق، ولكن مع ذلك نقول إن إبليس وذريته من بعده يوسوسون في النفوس بالشر، وإن كانوا يعجزون عن النفوس المؤمنة الطاهرة.
201
وإن إبليس وذريته يجيئون إلى النفوس من قبل الشهوات، والأهواء، وعلى المؤمن أن يسد مسام الشيطان.
* * *
الأرض موطن التكليف
خرج آدم وزوجه من الجنة، ولم يكن فيها تكليف إلا أمرهما بألا يأكلا من شجرة معينة، خرجا إلى هذه الأرض، وكان التكليف، وكان اختبار بني آدم فيها، وعلى قدر ما يفعلون من خير يكون جزاء الخير، وعلى قدر ما يكسبون من إثم يكون جزاؤه، وفي كل نفس استعداد للخير، وللشر، والخير هو الأصل؛ ولذا قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)، فكانت النفس الأمارة بالسوء بجوار النفس اللوامة فكان الاختبار بعد هبوط الأرض.
قال تعالى بعد قصة الخلق والتكوين:
* * *
(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٣٩)
* * *
جاء التكليف عند نزول الأرض، وقوله:
* * *
الأرض موطن التكليف
خرج آدم وزوجه من الجنة، ولم يكن فيها تكليف إلا أمرهما بألا يأكلا من شجرة معينة، خرجا إلى هذه الأرض، وكان التكليف، وكان اختبار بني آدم فيها، وعلى قدر ما يفعلون من خير يكون جزاء الخير، وعلى قدر ما يكسبون من إثم يكون جزاؤه، وفي كل نفس استعداد للخير، وللشر، والخير هو الأصل؛ ولذا قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)، فكانت النفس الأمارة بالسوء بجوار النفس اللوامة فكان الاختبار بعد هبوط الأرض.
قال تعالى بعد قصة الخلق والتكوين:
* * *
(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٣٩)
* * *
جاء التكليف عند نزول الأرض، وقوله:
202
(قُلْنَا) معناه أنه أُخرج من الجنة، وقال له تعالى بلسان التكوين: اهبطوا، والهبوط هنا معنوي أو حسي، والمعنوي أنهم نزلوا من الجنة حيث كان القرب من الملائكة الأطهار، وحيث كان العيش رغدا لا مشقة فيه، ولا جهد، بل هو راحة واطمئنان - إلى حيث اللغوب والمشقة، والمعترك الذي يكون فيه الغلب والقهر والانهزام، وحسي لأنه نزول من مكان عال إلى أدنى منه، والهبوط المعنوي ظاهر، ولذا نقتصر عليه، لأن الحسي غير ظاهر، وإذا كان الهبوط حيث التكليف فالجميع يهبطون: آدم وزوجه وإبليس، والتكليف على الجميع، فكل ينال أثر عمله.
202
وقوله تعالى: (فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ) يدل على أن الله تعالى يرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فالهدى الذي يجيء من قبل الله تعالى هو ما يكون بالرسالة الإلهية التي تكون عن طريق من يرسلهم الله تعالى مؤيدين بالمعجزات الظاهرة الباهرة.
وقوله تعالى: (فَإِمَّا) فيه " ما " زائدة في الإعراب، وليست زائدة في البيان؛ لأنها دالة على تأكيد الإتيان؛ ولذلك يكون بعدها تأكيد الفعل بنون التوكيد الثقيلة تأكيدًا وجوبيًّا عند أكثر علماء البيان، كالقسم لأن إما في معناه، بيد أن هذه تأكيد لفعل الشرط، وهنالك تأكيد لجواب القسم - وإن معنى التأكيد لفعل الشرط أن مجيء الهداية ثابت ثبوتا لَا مجال للريب فيه.
وتنكير هدى هنا للتعظيم والتكثير، فهو هدى يهدي إلى الحق، ويهدي إلى حياة قويمة مستقيمة، ويهدي إلى النفع الإنساني العام، وإلى استخراج ينابيع الأرض مما في باطنها، وإلى الفضيلة الإنسانية، والعدالة في كل نواحي الحياة. وجواب الشرط في قوله تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى) هو قوله تعالى: (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ) أي أن الذين يتبعون ما يجيء به النبيون من رسالات إلهية فإنهم يكونون طائعين خاضعين لأحكام الله تعالى، محاربين للشيطان وإغرائه ووسوسته، ولا يعاقبون؛ ولذا قال تعالى: (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)، وهو جواب (فَمَن تَبِعَ) لأنها هي الأخرى شرط، فكان جواب (فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى) جملة شرطية، أي فيها شرط وجواب، فقوله تعالى: (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) جواب شرط الثانية.
ومعنى (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أنهم يكونون في أمن من عذاب الله تعالى، ولا يحزنون على أمر فاتهم، لأنهم سبقت طاعتهم، ولا يكونون في حال حزن، بل في سرور، وعلى سرر متقابلين.
وقوله تعالى: (فَإِمَّا) فيه " ما " زائدة في الإعراب، وليست زائدة في البيان؛ لأنها دالة على تأكيد الإتيان؛ ولذلك يكون بعدها تأكيد الفعل بنون التوكيد الثقيلة تأكيدًا وجوبيًّا عند أكثر علماء البيان، كالقسم لأن إما في معناه، بيد أن هذه تأكيد لفعل الشرط، وهنالك تأكيد لجواب القسم - وإن معنى التأكيد لفعل الشرط أن مجيء الهداية ثابت ثبوتا لَا مجال للريب فيه.
وتنكير هدى هنا للتعظيم والتكثير، فهو هدى يهدي إلى الحق، ويهدي إلى حياة قويمة مستقيمة، ويهدي إلى النفع الإنساني العام، وإلى استخراج ينابيع الأرض مما في باطنها، وإلى الفضيلة الإنسانية، والعدالة في كل نواحي الحياة. وجواب الشرط في قوله تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى) هو قوله تعالى: (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ) أي أن الذين يتبعون ما يجيء به النبيون من رسالات إلهية فإنهم يكونون طائعين خاضعين لأحكام الله تعالى، محاربين للشيطان وإغرائه ووسوسته، ولا يعاقبون؛ ولذا قال تعالى: (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)، وهو جواب (فَمَن تَبِعَ) لأنها هي الأخرى شرط، فكان جواب (فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى) جملة شرطية، أي فيها شرط وجواب، فقوله تعالى: (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) جواب شرط الثانية.
ومعنى (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أنهم يكونون في أمن من عذاب الله تعالى، ولا يحزنون على أمر فاتهم، لأنهم سبقت طاعتهم، ولا يكونون في حال حزن، بل في سرور، وعلى سرر متقابلين.
203
وليسوا كالذين يخضعون لوسوسة إبليس، وإغرائه، فلا يطيعون، ويجحدون، ولذا ذكر عقوبة الأشرار بجوار ثواب الأخيار ليدرك أهل الحق الفرق بين الفريقين، فقال تعالى:
204
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٣٩) وكفروا معناها جحدوا أو ستروا ينابيع الإيمان في قلوبهم، وأفسدوا فطرة الله تعالى، وكذبوا بآياتنا.
وآيات الله تعالى آيات كونية، وهي خلق السماوات والأرض وكل ما في الكون مما يدل على الله تعالى، وأنه خالق كل شيء، وآيات تجيء على أيدي الرسل الذين يجيئون بهدى الله سبحانه، وهي المعجزات التي تدل على أن حامليها رسل من عند الله سبحانه وتعالى العلي القدير، وآيات تتلى في كتبه.
وقد كذبوا بكل هذه الآيات، ولذا قال سبحانه وتعالى: (كَذبُوا بِآيَاتِنَا) أي طمس الله تعالى على بصائرهم فلا يدركون حقا، ولا يذعنون لدليل، ولو كان من عند العزيز العليم.
وكما ذكر سبحانه جزاء الذين اتبعوا الهدى، وآمنوا بالحق، وهو أنهم لا يخافون، ولا يحزنون، وذكر الخوف بقوله تعالى: (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي لَا ننزل بهم ما يوجب الخوف.
كما ذكر سبحانه وثعالى جزاء هؤلاء المتقين الذين ينتفعون بالآيات والعظات، ذكر جزاء الكافرين فقال تعالى: (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
ذكر الله سبحانه وتعالى عقوبتهم في الآخرة بهذا النص السامي، فابتدأ باسم الإشارة، وقد ذكرنا آنفا أن الإشارة إلى المذكور بصفات تكون الإشارة إلى الصفات، وفيها إيماء إلى أن هذه الصفات هي علة الحكم التالي الذي هو خبر اسم الإشارة، والحكم أنهم أصحاب النار، أي أنهم الملازمون للنار لَا يفارقونها، ولا تتخلى عنهم
وآيات الله تعالى آيات كونية، وهي خلق السماوات والأرض وكل ما في الكون مما يدل على الله تعالى، وأنه خالق كل شيء، وآيات تجيء على أيدي الرسل الذين يجيئون بهدى الله سبحانه، وهي المعجزات التي تدل على أن حامليها رسل من عند الله سبحانه وتعالى العلي القدير، وآيات تتلى في كتبه.
وقد كذبوا بكل هذه الآيات، ولذا قال سبحانه وتعالى: (كَذبُوا بِآيَاتِنَا) أي طمس الله تعالى على بصائرهم فلا يدركون حقا، ولا يذعنون لدليل، ولو كان من عند العزيز العليم.
وكما ذكر سبحانه جزاء الذين اتبعوا الهدى، وآمنوا بالحق، وهو أنهم لا يخافون، ولا يحزنون، وذكر الخوف بقوله تعالى: (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي لَا ننزل بهم ما يوجب الخوف.
كما ذكر سبحانه وثعالى جزاء هؤلاء المتقين الذين ينتفعون بالآيات والعظات، ذكر جزاء الكافرين فقال تعالى: (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
ذكر الله سبحانه وتعالى عقوبتهم في الآخرة بهذا النص السامي، فابتدأ باسم الإشارة، وقد ذكرنا آنفا أن الإشارة إلى المذكور بصفات تكون الإشارة إلى الصفات، وفيها إيماء إلى أن هذه الصفات هي علة الحكم التالي الذي هو خبر اسم الإشارة، والحكم أنهم أصحاب النار، أي أنهم الملازمون للنار لَا يفارقونها، ولا تتخلى عنهم
204
كما لَا يتخلى الصاحب عن صاحبه، وذكر سبحانه وتعالى أنهم خالدون فيها، فقال تعالى: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، وقد أكد خلودهم في النار بالجملة الاسمية، وتقديم الجار والمجرور، أي هم خالدون، وخلودهم مقصور عليها، فلا حول لهم ولا قوة.
* * *
بنو إسرائيل وكفرهم بنعم الله تعالى
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان، وذكر من قبل أوصاف الفاسقين التي فيها نقض الميثاف الفطري الذي أخذه سبحانه وتعالى من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم.
بعد ذكر المنازعة التي أقامها إبليس عدوا لبني آدم، وأن الله تعالى وعد أنه سيأتيهم بهدى من عنده برسل يرسلهم، وأن من اتبع هداه فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهدد بالعذاب الشديد من يخالف ويعصي، بعد ذلك كله ذكر طائفة من العصاة اتسموا بكفران النعمة، وإنكارهم الحق وتلبيسهم الباطل به، فذكَّر بالنعم التي أنعم بها عليهم، وهم بنو إسرائيل الذين توارثوا ما أنكره الله تعالى عليهم من كفران للنعمة.
* * *
بنو إسرائيل وكفرهم بنعم الله تعالى
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان، وذكر من قبل أوصاف الفاسقين التي فيها نقض الميثاف الفطري الذي أخذه سبحانه وتعالى من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم.
بعد ذكر المنازعة التي أقامها إبليس عدوا لبني آدم، وأن الله تعالى وعد أنه سيأتيهم بهدى من عنده برسل يرسلهم، وأن من اتبع هداه فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهدد بالعذاب الشديد من يخالف ويعصي، بعد ذلك كله ذكر طائفة من العصاة اتسموا بكفران النعمة، وإنكارهم الحق وتلبيسهم الباطل به، فذكَّر بالنعم التي أنعم بها عليهم، وهم بنو إسرائيل الذين توارثوا ما أنكره الله تعالى عليهم من كفران للنعمة.
205
هم بنو إسرائيل، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعا السلام، فهم ذرية إبراهيم من فرع إسحاق، والنبي - ﷺ - فرع إبراهيم من إسماعيل الابن البكر له عليهما السلام، وقد وهب إسماعيل وإسحاق لإبراهيم على الكبر؛ ولذلك قال فيما حكاه عنه رب العالمين: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ).
وإن بني يعقوب ذرية إبرهيم من إسحاق جعلهم الله تعالى صورا للإنسانية التي يختبرها سبحانه وتعالى بالنعم، فمنهم من يشكرها، ومنهم من يكفرها وهم الأكثرون، واختبرهم سبحانه بالنقم تنزل بهم بكفرهم، واستيلاء الشر عليهم، فكانوا بهذا مثلا واضحا للإنسان الذي يتسلط عليه إبليس في النعم والنقم فإن اختبرهم بالنعم لم يشكروها وطغوا واستكبروا كما فعل إبليس، وإن اختبرهم بالنقم ذلوا واستكانوا؛ ولذلك كانوا مثلا للخاضعين لإبليس وهم في نعمهم ونقمهم يحسدون الناس على ما أتاهم من فضله.
وإن بني يعقوب ذرية إبرهيم من إسحاق جعلهم الله تعالى صورا للإنسانية التي يختبرها سبحانه وتعالى بالنعم، فمنهم من يشكرها، ومنهم من يكفرها وهم الأكثرون، واختبرهم سبحانه بالنقم تنزل بهم بكفرهم، واستيلاء الشر عليهم، فكانوا بهذا مثلا واضحا للإنسان الذي يتسلط عليه إبليس في النعم والنقم فإن اختبرهم بالنعم لم يشكروها وطغوا واستكبروا كما فعل إبليس، وإن اختبرهم بالنقم ذلوا واستكانوا؛ ولذلك كانوا مثلا للخاضعين لإبليس وهم في نعمهم ونقمهم يحسدون الناس على ما أتاهم من فضله.
206
(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) النداء لأولاد إسرائيل من عهد موسى عليه الصلاة والسلام، ولكن المخاطبين هم الذين عاصروا النبي - ﷺ -، وخوطب من كانوا في عصر النبي - ﷺ - بالنعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل في ماضيهم، مع أنهم لم يروها، فالذين عبدوا العجل ليسوا هم، والذين كان فرعون يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ليسوا هم، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
خوطبوا بكفرهم النعم ونقضهم الميثاق، لأنهم أمة واحدة، ويخاطب الحاضرون بمآثم الماضين إذا علموها وأقروها وساروا على مثلها، ولو أنهم ناقضوها، أو استنكروها، كعبد الله بن سلام وغيره، ما خوطبوا بأخطاء من سبقوهم، لأنهم لم يرضوا عنها ولم ينادوا بشرف الانتماء إليهم.
والنداء كما علمت للبعيد لأن النداء بـ " يا " يكون للبعيد، ويراد هنا بالبعد البعد المعنوي، وهو علو الله في ندائهم، وناداهم ببني إسرائيل تذكيرا بمقام يعقوب
خوطبوا بكفرهم النعم ونقضهم الميثاق، لأنهم أمة واحدة، ويخاطب الحاضرون بمآثم الماضين إذا علموها وأقروها وساروا على مثلها، ولو أنهم ناقضوها، أو استنكروها، كعبد الله بن سلام وغيره، ما خوطبوا بأخطاء من سبقوهم، لأنهم لم يرضوا عنها ولم ينادوا بشرف الانتماء إليهم.
والنداء كما علمت للبعيد لأن النداء بـ " يا " يكون للبعيد، ويراد هنا بالبعد البعد المعنوي، وهو علو الله في ندائهم، وناداهم ببني إسرائيل تذكيرا بمقام يعقوب
206
وشرفه، وأنه كان ذلك النسب مقتضيا أن يكونوا في مثل شرفه النبوي، وإيمانه وإذعانه وأن يكونوا عونا للخير، وأن يكونوا شاكرين لأنعمه مثله.
(اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) ومعنى اذكروها، تفكروا في أمرها، وما يوجبه، فإن ذلك التفكر في مقدارها وفي مجيئها في وقت الشدائد والغمة يحملكم على القيام بشكرها، وشكر النعم واجب بالعقل كما هي بدائه العقول، وإن الله تعالى أنعم عليهم بأن نجاهم من فرعون وطغيانه عليهم، ونجاهم باجتياز البحر، وقد انفلق حتى مروا فكان كل فرق كالطود العظيم، وانطبق على فرعون وملئه الذين ساموهم سوء العذاب وكانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وأنعم عليهم في الصحراء بالمن والسلوى يتغذون منه بأطيب الغذاء، وأنعم عليهم بأنهم استسقوا فانبجست من حجر ضربه موسى عليه السلام بعصاه - اثنتا عشرة عينا، لكل أناس مشربهم.
أنعم سبحانه وتعالى بهذه النعم كلها، وكان من شأنها أن تحملهم على الشكر والطاعة، ولكنهم وهم أهل حسد وحقد على الناس، اتخذوها ذريعة للكفر والطغيان، وحسبوها اختصاصا من الله تعالى وتدليلا، وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، فزادوا بالنعمة كفرا وطغيانا.
وكان الحاضرون في عصر النبي - ﷺ - صورة للماضين يفعلون مثل ما كانوا يفعلون، ويرضون عما كانوا عليه، ويقولون مثل ما قالوا.
أمرهم سبحانه وتعالى عساهم يشكرون، ويعتبرون بما نزل من الأمور بمن سبقوهم، ثم أمرهم سبحانه من بعد هذا التذكير بالوفاء بالعهد، فقال تعالت كلماته: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أخذ الله تعالى عهدا بمقتضى الفطرة، وهو أنه أخذ عليهم من ظهورهم ذريتهم أن يؤمنوا، وأخذ عليهم العهود والمواثيق في عهد موسى، ومن جاء بعد موسى من النبيين، وأخذ عليهم العهد بألا يسفكوا
(اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) ومعنى اذكروها، تفكروا في أمرها، وما يوجبه، فإن ذلك التفكر في مقدارها وفي مجيئها في وقت الشدائد والغمة يحملكم على القيام بشكرها، وشكر النعم واجب بالعقل كما هي بدائه العقول، وإن الله تعالى أنعم عليهم بأن نجاهم من فرعون وطغيانه عليهم، ونجاهم باجتياز البحر، وقد انفلق حتى مروا فكان كل فرق كالطود العظيم، وانطبق على فرعون وملئه الذين ساموهم سوء العذاب وكانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وأنعم عليهم في الصحراء بالمن والسلوى يتغذون منه بأطيب الغذاء، وأنعم عليهم بأنهم استسقوا فانبجست من حجر ضربه موسى عليه السلام بعصاه - اثنتا عشرة عينا، لكل أناس مشربهم.
أنعم سبحانه وتعالى بهذه النعم كلها، وكان من شأنها أن تحملهم على الشكر والطاعة، ولكنهم وهم أهل حسد وحقد على الناس، اتخذوها ذريعة للكفر والطغيان، وحسبوها اختصاصا من الله تعالى وتدليلا، وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، فزادوا بالنعمة كفرا وطغيانا.
وكان الحاضرون في عصر النبي - ﷺ - صورة للماضين يفعلون مثل ما كانوا يفعلون، ويرضون عما كانوا عليه، ويقولون مثل ما قالوا.
أمرهم سبحانه وتعالى عساهم يشكرون، ويعتبرون بما نزل من الأمور بمن سبقوهم، ثم أمرهم سبحانه من بعد هذا التذكير بالوفاء بالعهد، فقال تعالت كلماته: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أخذ الله تعالى عهدا بمقتضى الفطرة، وهو أنه أخذ عليهم من ظهورهم ذريتهم أن يؤمنوا، وأخذ عليهم العهود والمواثيق في عهد موسى، ومن جاء بعد موسى من النبيين، وأخذ عليهم العهد بألا يسفكوا
207
دماءً، وأخذ عليهم سبحانه وتعالى عهدًا موثقًا ببيان قدرة الله تعالى إذ نتق الجبل فوقهم فقد قال تعالى: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهمْ كَأَنَّهُ ظلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَقُونَ)، وصرح سبحانه وتعالى بهذا الميثاق وعهده لهم، فقال: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١٢).
هذا عهد من العهود التي واثقهم الله تعالى عليها، عهد عليهم أن يقيموا الصلاة ويؤدوا العبادات وأن يؤمنوا بالرسل، وكان عهد الله تعالى أن يكفر عنهم سيئاتهم، وأن يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
وقد أوجب الله تعالى على نفسه تفضلا، ورحمة وإنعاما كالإنعام المتوالي عليهم، والله تعالى لَا يجب عليه شيء. يقرن القرآن الكريم وعد الله تعالى بوعيدد، لقد وعدهم سبحانه بأنه يوفى بعهدهم بأن يكفر عنهم سيئاتهم، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار إذ أوفوا بعهده بأن عبدوه وحده، وآمنوا برسله ونصروهم، ولا شك أن ذلك ترغيب في النعيم، ولكن النفوس لَا تخضع للترغيب فقط، وخصوصا من كانوا على شاكلة بني إسرائيل الذين لم تُجد فيهم النعم؛ ولذا أردف سبحانه الوعد بالنعيم - بالترهيب، فقال تعالى: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) النون هنا تسمى بنون الوقاية التي تكون بين الفعل وياء التكلم، والياء حذفت مع تقديرها في الكلام: فارهبوني، وهذا تخويف بأشد صيغ التخويف والترهيب، وتخصيص التخويف بالله، وأنه لَا يُخاف أحد سواه كما أنه لَا يُعبد سواه.
وقد دل على التخصيص قوله تعالى: (إِيَّايَ) فهي دالة على التحذير، وفعلها محذوف تقديره مثلا احذرني، كما تقول في كلامك إياك إياك محذرا
هذا عهد من العهود التي واثقهم الله تعالى عليها، عهد عليهم أن يقيموا الصلاة ويؤدوا العبادات وأن يؤمنوا بالرسل، وكان عهد الله تعالى أن يكفر عنهم سيئاتهم، وأن يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
وقد أوجب الله تعالى على نفسه تفضلا، ورحمة وإنعاما كالإنعام المتوالي عليهم، والله تعالى لَا يجب عليه شيء. يقرن القرآن الكريم وعد الله تعالى بوعيدد، لقد وعدهم سبحانه بأنه يوفى بعهدهم بأن يكفر عنهم سيئاتهم، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار إذ أوفوا بعهده بأن عبدوه وحده، وآمنوا برسله ونصروهم، ولا شك أن ذلك ترغيب في النعيم، ولكن النفوس لَا تخضع للترغيب فقط، وخصوصا من كانوا على شاكلة بني إسرائيل الذين لم تُجد فيهم النعم؛ ولذا أردف سبحانه الوعد بالنعيم - بالترهيب، فقال تعالى: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) النون هنا تسمى بنون الوقاية التي تكون بين الفعل وياء التكلم، والياء حذفت مع تقديرها في الكلام: فارهبوني، وهذا تخويف بأشد صيغ التخويف والترهيب، وتخصيص التخويف بالله، وأنه لَا يُخاف أحد سواه كما أنه لَا يُعبد سواه.
وقد دل على التخصيص قوله تعالى: (إِيَّايَ) فهي دالة على التحذير، وفعلها محذوف تقديره مثلا احذرني، كما تقول في كلامك إياك إياك محذرا
208
مخوفا، فمعنى إياي: احذروني وحدي، فإن رحمتي يلحقها عذابي، وهي للمطيع، وعذابي للعاصي، وقوله: (فَارْهَبُونِ) الفاء للإفصاح عن شرط مقدر تقديره: فإن كان من ترهبونه فارهبوني أنا وحدي؛ ولذلك كان الكلام فيه تأكيد للخوف من الله وحده أولا بذكر كلمة الله تعالى: (وَإيَّايَ) الدالة على التحذير وتقديمها، وفي التقديم اختصاص وفي تكرار التخويف، وفي ذكر الفاء المفصحة عن شرط، وهي جوابه.
والرَّهَبُ: إبقاء الخوف في النفس مع التحذير والتيقظ وتوقع العذاب الأليم.
هذا وفي الآية نص على وجوب الوفاء، وعلى شكر النعمة، وأنه لَا يصح أن يخاف المؤمن أحدا غير الله تعالى، وقد أوجب الله عليهم الوفاء بالعهد فقال تعالى:
والرَّهَبُ: إبقاء الخوف في النفس مع التحذير والتيقظ وتوقع العذاب الأليم.
هذا وفي الآية نص على وجوب الوفاء، وعلى شكر النعمة، وأنه لَا يصح أن يخاف المؤمن أحدا غير الله تعالى، وقد أوجب الله عليهم الوفاء بالعهد فقال تعالى:
209
(وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١)
أخذ الله تعالى عهدا بأن يؤمنوا برسله، إذا أرسلهم الله تعالى إليهم مؤيدين بالمعجزة، ولا يكفروا بالرسل بعد أن يتبين الهدى؛ ولذا أمرهم بأن يؤمنوا بالكتاب الذي أنزله الله تعالى على محمد - ﷺ -، ولم يذكر الرسول ابتداء بل ذكر ما أنزل على ذلك الرسول، وإن الإيمان به يتضمن الإيمان بصدق محمد - ﷺ -، وذلك لأن ذات المنزَّل هو الحجة الدامغة، وهو فيما يدل عليه من علم حجة عليهم، لأنه مصدق لما عندهم فهو يحمل في نفسه دليل صدقه، وذكره أخذ للحجة عليهم ابتداء وإذا آمنوا بالكتاب فقد آمنوا لَا محالة برسالة من نزل عليه الكتاب الحكيم؛ ولأن ما نزل على محمد - ﷺ - هو الحق الذي لاريب فيه؛ فهو يدعو إلى تصديقه، وقوله تعالى: (مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ) بما يدل على أنهم إذا آمنوا بهذا الكتاب المنزل من عند الله يؤمنون بما عندهم، وأنهم إن كفروا به يكفرون بما عندهم.
أخذ الله تعالى عهدا بأن يؤمنوا برسله، إذا أرسلهم الله تعالى إليهم مؤيدين بالمعجزة، ولا يكفروا بالرسل بعد أن يتبين الهدى؛ ولذا أمرهم بأن يؤمنوا بالكتاب الذي أنزله الله تعالى على محمد - ﷺ -، ولم يذكر الرسول ابتداء بل ذكر ما أنزل على ذلك الرسول، وإن الإيمان به يتضمن الإيمان بصدق محمد - ﷺ -، وذلك لأن ذات المنزَّل هو الحجة الدامغة، وهو فيما يدل عليه من علم حجة عليهم، لأنه مصدق لما عندهم فهو يحمل في نفسه دليل صدقه، وذكره أخذ للحجة عليهم ابتداء وإذا آمنوا بالكتاب فقد آمنوا لَا محالة برسالة من نزل عليه الكتاب الحكيم؛ ولأن ما نزل على محمد - ﷺ - هو الحق الذي لاريب فيه؛ فهو يدعو إلى تصديقه، وقوله تعالى: (مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ) بما يدل على أنهم إذا آمنوا بهذا الكتاب المنزل من عند الله يؤمنون بما عندهم، وأنهم إن كفروا به يكفرون بما عندهم.
209
وهذا يدل على أن الذي نزل على موسى، وبقى عندهم من تعاليمه يصدق ما في هذا الكتاب، إذ التعاليم واحدة في أصلها وفي لبها، ولذا قال محمد صلى الله تعالى عليه ولمملم: " لو كان موسى بن عمران حيًّا ما وسعه إلا اتباعي " (١).
وإن التوراة التي نزلت على موسى فيها التبشير بمحمد - ﷺ -: (يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاة وَالإِنجيلِ)، وإن قوله تعالى: (مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْن يَدَيْه مِنَ الْكِتَابَِ...)، وقوله في هذا النص الكريم: (مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ) لَا يدل على أن التوراة الحاضرة صادقة لم يعترها تحريف ولا تبديل، فإن القرآن قد نص على التحريف، إذ يقول سبحانه وتعالى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ...)، وقال تعالى: (وَإِنَّ مِنْهُم لَفَريقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هوَ مِن عِندِ اللَّهِ وَمَا هوَ مِقْ عِندِ الَلَّهِ...)، وإذا كانوا يريدون أن يستدلوا من القرآن على صدق ما عندهم، فليأخذوا به كله، لَا أن يتعلقوا بحرف مما جاء فيه ويستدلوا به.
وإن معنى (مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ)، أي ما بقي معكم من غير تحريف ولا تبديل وهو الرسالة الموسوية في أصلها ومعناها من عبادة الله وحده، ومن إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومن تبشير بمحمد - ﷺ -، وهم يعلمون. كما قال تعالى: (الذينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ...).
وبعد أن طالبهم الله تعالى بأن يؤمنوا بما أنزل من كتاب بين لهم أنهم جديرون بأن يسارعوا إلى الإيمان لمعرفتهم ما جاء فيه من الحق، وأن يكونوا أسوة للمشركين الذين لم يؤتوا علم الكتاب، ولم تكن لهم البينات التي عندهم، فقال سبحانه: (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ)، أي: لَا تكونوا أول من يكفر به.
وأول " أفعل " في وزنه، والبصريون يقولون إنه لَا فعل له، والكوفيون يقولون إن له فعلا، هو من وأل إذا نجا، فـ " وأل " فعل بمعنى نجا وخرج ومنه اشتق أول.
________
(١) أخرجه أحمد: ما في مسند المكثرين (٤ ١ ٠ ٤ ١)، والدارمي: المقدمة (٤٣٦) بنحوه..
وإن التوراة التي نزلت على موسى فيها التبشير بمحمد - ﷺ -: (يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاة وَالإِنجيلِ)، وإن قوله تعالى: (مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْن يَدَيْه مِنَ الْكِتَابَِ...)، وقوله في هذا النص الكريم: (مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ) لَا يدل على أن التوراة الحاضرة صادقة لم يعترها تحريف ولا تبديل، فإن القرآن قد نص على التحريف، إذ يقول سبحانه وتعالى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ...)، وقال تعالى: (وَإِنَّ مِنْهُم لَفَريقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هوَ مِن عِندِ اللَّهِ وَمَا هوَ مِقْ عِندِ الَلَّهِ...)، وإذا كانوا يريدون أن يستدلوا من القرآن على صدق ما عندهم، فليأخذوا به كله، لَا أن يتعلقوا بحرف مما جاء فيه ويستدلوا به.
وإن معنى (مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ)، أي ما بقي معكم من غير تحريف ولا تبديل وهو الرسالة الموسوية في أصلها ومعناها من عبادة الله وحده، ومن إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومن تبشير بمحمد - ﷺ -، وهم يعلمون. كما قال تعالى: (الذينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ...).
وبعد أن طالبهم الله تعالى بأن يؤمنوا بما أنزل من كتاب بين لهم أنهم جديرون بأن يسارعوا إلى الإيمان لمعرفتهم ما جاء فيه من الحق، وأن يكونوا أسوة للمشركين الذين لم يؤتوا علم الكتاب، ولم تكن لهم البينات التي عندهم، فقال سبحانه: (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ)، أي: لَا تكونوا أول من يكفر به.
وأول " أفعل " في وزنه، والبصريون يقولون إنه لَا فعل له، والكوفيون يقولون إن له فعلا، هو من وأل إذا نجا، فـ " وأل " فعل بمعنى نجا وخرج ومنه اشتق أول.
________
(١) أخرجه أحمد: ما في مسند المكثرين (٤ ١ ٠ ٤ ١)، والدارمي: المقدمة (٤٣٦) بنحوه..
210
وهنا مسألتان نتكلم فيهما قد تبينان ناحية من نواحي الآية الكريمة:
الأولى - أن الله تعالى يقول: (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) والخطاب لجماعة لا لواحد، فالظاهر من سياق القول أن يقال أول الكافرين به، ولكن الله تعالى اختار التعبير بالمفرد، على تقدير الفريق، والمعنى لَا تكونوا أول فريق يكفر به، أي لاتكونوا أول من يجتمع على الكفر به، باعتبارهم موحَّدين في الفكرة والغاية، وأنهم يتضافرون فيما يفعلون، وإن المراد تقبيح أن يقع منهم فعل الكفر، أو أن يقع فيهم الكفر، لأنهم أهل علم بالنبوة، وفي ذلك إغواء لهم بالاتباع وحث لهم على الإيمان الأنهم أولى به وأجدر.
الثانية - أنهم إن كفروا فلن يكونوا أول الكافرين لأن قوما من قريش قد كفروا به من قبل في مكة، وهذه الآية في سورة مدنية فكيف ينهون عن أن يكونوا أول كافر به، ونقول: إننا فسرنا أول كافر بأول فريق يكذب به، وإن قريشا لم يكفروا على أنهم فريق، بل كفروا به آحادا، ثم كان منهم من يؤمن، وقيل إن المراد أول كافر به من أهل الكتاب.
ومهما يكن من تخريج، فالآية الكريمة تحث على المسارعة في الإيمان، وأن يكونوا أول الجماعة المؤمنة.
قوله تعالى: (وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) أي لاتستبدلوا بآيأتي القائمة المبينة للحق، وتتركوها في نظير أي أمر من الأمور، فهو مهما يكن ثمن قليل بالنسبة للآيات البينات الدالة على الحق؛ لأن الحق أغلى ما في الوجود، فإذا ترك فإن ثمن تركه لَا يمكن أن يكون في منزلته، والتنكير في قوله تعالى: (ثَمَنًا قَلِيلًا) للدلالة على أن أي ثمن - مهما يكن - قليل بالنسبة لذات الحق، وأنهم كانوا يتركون الحق لمآرب دنيوية، وهو السلطان والغلب والمفاخرة، وغير ذلك مما تدفع إليه أهواء أهل الدنيا.
الأولى - أن الله تعالى يقول: (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) والخطاب لجماعة لا لواحد، فالظاهر من سياق القول أن يقال أول الكافرين به، ولكن الله تعالى اختار التعبير بالمفرد، على تقدير الفريق، والمعنى لَا تكونوا أول فريق يكفر به، أي لاتكونوا أول من يجتمع على الكفر به، باعتبارهم موحَّدين في الفكرة والغاية، وأنهم يتضافرون فيما يفعلون، وإن المراد تقبيح أن يقع منهم فعل الكفر، أو أن يقع فيهم الكفر، لأنهم أهل علم بالنبوة، وفي ذلك إغواء لهم بالاتباع وحث لهم على الإيمان الأنهم أولى به وأجدر.
الثانية - أنهم إن كفروا فلن يكونوا أول الكافرين لأن قوما من قريش قد كفروا به من قبل في مكة، وهذه الآية في سورة مدنية فكيف ينهون عن أن يكونوا أول كافر به، ونقول: إننا فسرنا أول كافر بأول فريق يكذب به، وإن قريشا لم يكفروا على أنهم فريق، بل كفروا به آحادا، ثم كان منهم من يؤمن، وقيل إن المراد أول كافر به من أهل الكتاب.
ومهما يكن من تخريج، فالآية الكريمة تحث على المسارعة في الإيمان، وأن يكونوا أول الجماعة المؤمنة.
قوله تعالى: (وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) أي لاتستبدلوا بآيأتي القائمة المبينة للحق، وتتركوها في نظير أي أمر من الأمور، فهو مهما يكن ثمن قليل بالنسبة للآيات البينات الدالة على الحق؛ لأن الحق أغلى ما في الوجود، فإذا ترك فإن ثمن تركه لَا يمكن أن يكون في منزلته، والتنكير في قوله تعالى: (ثَمَنًا قَلِيلًا) للدلالة على أن أي ثمن - مهما يكن - قليل بالنسبة لذات الحق، وأنهم كانوا يتركون الحق لمآرب دنيوية، وهو السلطان والغلب والمفاخرة، وغير ذلك مما تدفع إليه أهواء أهل الدنيا.
211
وبعد ذلك التحريض والحث على الاتباع، وبيان أنهم إن اشتروا بالحق شيئا فهو ثمن قليل، بعد ذلك حذرهم من ترك الحق، وخوفهم من عاقبة هذا الترك، فقال: (وَإِيَّايَ فَاتَّقونِ) تحذير من المخالفة بالتقوى والخوف من الله سبحانه وتعالى والمعنى: وإياي فاحذروا (فَاتَّقُونِ) النون هنا نون الوقاية التي تكون بين الفعل وياء المتكلم، والفاء جواب عن شرط مقدر أفصحت عنه، والمعنى إن كان هناك من يتقى عذابه ومن يجب أن تكون وقاية بينكم وبينه، فاتقوني أنا وحدي، أي اجعلوا بينكم وبين عذابي وقاية تقيكم من عذاب النار.
أمرهم سبحانه وتعالى أن يؤمنوا بالحق وهو الكتاب الذي أنزل مصدقا لما معهم، وهو القرآن الذي نزل على محمد - ﷺ - وإن الأمر بالإيمان بالقرآن أمر بالإيمان بمن نزل عليه القرآن.
وإن اليهود من دأبهم التمويه، ليصلوا من وراء ذلك إلى باطلهم؛ ولذا قال تعالى ناهيا لهم:
أمرهم سبحانه وتعالى أن يؤمنوا بالحق وهو الكتاب الذي أنزل مصدقا لما معهم، وهو القرآن الذي نزل على محمد - ﷺ - وإن الأمر بالإيمان بالقرآن أمر بالإيمان بمن نزل عليه القرآن.
وإن اليهود من دأبهم التمويه، ليصلوا من وراء ذلك إلى باطلهم؛ ولذا قال تعالى ناهيا لهم:
212
(وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢)
اللبس معناه الخلط ومزج شيئين بعضهما ببعض، حتى لَا يميز أحدهما عن الآخر، ولبست الحق بالباطل أي خلطت بينهما، بحيث لَا يميز الحق عن الباطل الذي اختلط، فلا يدرك إلا مشوبا بالباطل، فلا يكون الحق واضحا لَا تحوطه الريب والظنون، ويقال إن الرجل ملبوس عليه إذا اختلط عليه الحق بالباطل، ولقد روي عن علي كرم الله وجهه لبعض صحابته: (يا حارث إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله).
واليهود قد غيروا في كتبهم، فلبسوا الحق بالباطل فنهاهم الله عن ذلك، وقال تعالت كلماته: (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ) وقد روي عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير هذه الآية أن معناها: لَا تخلطوا ما عندكم من الحق في الكتاب بالباطل، وهو التغيير والتبديل.
اللبس معناه الخلط ومزج شيئين بعضهما ببعض، حتى لَا يميز أحدهما عن الآخر، ولبست الحق بالباطل أي خلطت بينهما، بحيث لَا يميز الحق عن الباطل الذي اختلط، فلا يدرك إلا مشوبا بالباطل، فلا يكون الحق واضحا لَا تحوطه الريب والظنون، ويقال إن الرجل ملبوس عليه إذا اختلط عليه الحق بالباطل، ولقد روي عن علي كرم الله وجهه لبعض صحابته: (يا حارث إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله).
واليهود قد غيروا في كتبهم، فلبسوا الحق بالباطل فنهاهم الله عن ذلك، وقال تعالت كلماته: (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ) وقد روي عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير هذه الآية أن معناها: لَا تخلطوا ما عندكم من الحق في الكتاب بالباطل، وهو التغيير والتبديل.
212
والمعنى الجملي للنهي، لَا تخلطوا الحق الذي جاء في شرع موسى عليه السلام بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه بأيديكم، كما توهمتم في التوراة التي بأيديكم من أن هارون عليه السلام عبد العجل مع الذين ضلوا منكم، فهم يخلطون بين الحق والباطل، فيلتبس الحق، وتختفي معالمه، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، ونهاهم عن أمر آخر، يقع منهم، وهو أن يكتموا ما أنزل الله تعالى، فإنهم يعملون عملين: أولهما: أن يخلطوا الحق بالباطل، فلا يدرك الحق على وجهه، ولا يعرف صريحه مما اختلط به، وكذلك شأن المضللين يأتون ببعض الحق، ويخلطونه بالباطل، فيختفي نور الحق ببهرج الباطل. الثاني: أنهم يكتمون الحق الذي لا التباس فيه، ولم يستطيعوا أن يخلطوه فيكتموه ككتمانهم البشارة بمحمد - ﷺ -، وكتمانهم تحريم الربا وقد نهوا عنه، وغير ذلك مما حرم كتمانه، وكاستباحتهم ما حرم عليهم يوم السبت، وغير ذلك.
وقد نعى الله تعالى عليهم ذلك الكتمان للحق، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (١٥٩) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠).
وإنهم إذ يكتمون الحق من الكتاب يفعلونه متعمدين قاصدين التضليل؛ لأنهم يعلمون ما يلبسون به الحق بالباطل، ويعلمون ما يكتموته؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: (وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) الحق فيما لبستم به، وتعلمون الحق الذي كتمتموه قاصدين كتمانه.
وقوله تعالى:
وقد نعى الله تعالى عليهم ذلك الكتمان للحق، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (١٥٩) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠).
وإنهم إذ يكتمون الحق من الكتاب يفعلونه متعمدين قاصدين التضليل؛ لأنهم يعلمون ما يلبسون به الحق بالباطل، ويعلمون ما يكتموته؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: (وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) الحق فيما لبستم به، وتعلمون الحق الذي كتمتموه قاصدين كتمانه.
وقوله تعالى:
213
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) معطوف على قوله: (وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا مَعَكُمْ) أو بالأحرى معطوف على قوله تعالى: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) معطوف على قوله: (وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا مَعَكُمْ) أو بالأحرى معطوف على قوله تعالى: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
213
عَلَيْكُمْ) فقد أمرهم تعالى بأوامر متعاقبة بعضها مترتب على بعض، أولها أن يذكروا نعمة الله تعالى ليتدبروا ويتفكروا ولعلهم يشكرون هذه النعم، ولا يكفرونها، ثم أمرهم سبحانه بأن يوفوا بالذي عاهدهم عليه، وأن يوفي لهم بعهده بأن يكفِّر عن سيئاتهم، ويدخلهم الجنة، ثم حذرهم وأرهبهم، ثم طالبهم بأن يؤمنوا بما أنزل من الكتاب الذي يصدق ما معهم، وألا يكونوا أول كافر به، ثم حذرهم، وشدد في أمرهم بالتقوى ثم نهاهم عن أن يخلطوا الحق بالباطل، وألا يكتموا الحق الخالص.
ثم بعد أمرهم بالإيمان أمرهم بالصلاة التي هي لب الإيمان، وهذه الصلاة نزل بها الكتاب الكريم الذي جاء مصدقا لما معهم، وهي الصلاة التي أمر بها النبي - ﷺ -، وعلمها، وقال: " صلوا كما رأيتموني أصلي " (١)، لأنها لازمة الإيمان بالقرآن الذي أمر بالإيمان به، وأمر بالزكاة، وبذلك أمر بركني الإسلام، وشعبتيه، وهما تهذيب الروح بالصلاة، ومثلها الصوم، والثاني قيام بناء اجتماعي متعاون فأمر بالزكاة، وبقية العبادات بل التكليفات كلها لَا تخرج عن هاتين الشعبتين: تهذيب الروح، وربط المجتمع بالتعاون الوثيق.
ثم قال تعالى: (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) وذلك إما بالاندماج بالصلاة في جماعة المسلمين، والائتلاف معهم في جماعاتهم، وإما بالخضوع المطلق لله رب العالمين، ولعل المراد باركعوا مع الراكعين الأمران معا وهو الصلاة في جماعة، والخضوع بالائتلاف مع الراكعين، والاندماج فيهم، والله تعالى أعلم.
* * *
________
(١) بهذا اللفظ هو رواه البخاري: كتاب الأذان (٥٩٥)، عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
ثم بعد أمرهم بالإيمان أمرهم بالصلاة التي هي لب الإيمان، وهذه الصلاة نزل بها الكتاب الكريم الذي جاء مصدقا لما معهم، وهي الصلاة التي أمر بها النبي - ﷺ -، وعلمها، وقال: " صلوا كما رأيتموني أصلي " (١)، لأنها لازمة الإيمان بالقرآن الذي أمر بالإيمان به، وأمر بالزكاة، وبذلك أمر بركني الإسلام، وشعبتيه، وهما تهذيب الروح بالصلاة، ومثلها الصوم، والثاني قيام بناء اجتماعي متعاون فأمر بالزكاة، وبقية العبادات بل التكليفات كلها لَا تخرج عن هاتين الشعبتين: تهذيب الروح، وربط المجتمع بالتعاون الوثيق.
ثم قال تعالى: (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) وذلك إما بالاندماج بالصلاة في جماعة المسلمين، والائتلاف معهم في جماعاتهم، وإما بالخضوع المطلق لله رب العالمين، ولعل المراد باركعوا مع الراكعين الأمران معا وهو الصلاة في جماعة، والخضوع بالائتلاف مع الراكعين، والاندماج فيهم، والله تعالى أعلم.
* * *
________
(١) بهذا اللفظ هو رواه البخاري: كتاب الأذان (٥٩٥)، عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
214
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (٤٦) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)
* * *
هذا خطاب لبني إسرائيل في أمرٍ يفعله علماؤهم، ويرضى به سائرهم، فيلامون جميعا عليه، وهو خطة يسير عليها أسلافهم، ويرضى عنها أخلافهم، فصح أن يخاطب بها جميعهم، إذ هو عيب فيهم سلفا وخلفا، وهو عيب الناس إذا ضعف وازع الدين، وغلب عليهم حب الدنيا، وهو أن يأمروا الناس بالحقائق الدينية، ويدعونهم إليها، ولا يأخذون بهديها، وتلك إحدى صفات النفاق، وهي شأن الذين يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون ما أنزل الله تعالى، فيكون قولهم مخالفا لفعلهم (كبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).
كان أحبار اليهود في كل أدوارهم عندما صار التدين شكلا لَا روح فيه، ومظهرا لَا حقيقة له كانوا يذكرون للناس حقائق دينية، لَا يعملون بها، ويعلنون أمورا في نجواهم ينكرونها في جهرهم، فكانوا يقررون أن أوصاف النبي - ﷺ - في كتبهم، وينكرونها أمام النبي - ﷺ - وأصحابه لكيلا يحاجوهم بها عند ربهم، وكأنه سبحانه وتعالى لَا يعلم خفي أمرهم.
ولذا خاطبهم الله سبحانه وتعالى مستنكرًا تلك الحال فيهم، لأن من فعلها منهم لم ينكرها سائرهم، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، أي أنه كان منهم،
* * *
هذا خطاب لبني إسرائيل في أمرٍ يفعله علماؤهم، ويرضى به سائرهم، فيلامون جميعا عليه، وهو خطة يسير عليها أسلافهم، ويرضى عنها أخلافهم، فصح أن يخاطب بها جميعهم، إذ هو عيب فيهم سلفا وخلفا، وهو عيب الناس إذا ضعف وازع الدين، وغلب عليهم حب الدنيا، وهو أن يأمروا الناس بالحقائق الدينية، ويدعونهم إليها، ولا يأخذون بهديها، وتلك إحدى صفات النفاق، وهي شأن الذين يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون ما أنزل الله تعالى، فيكون قولهم مخالفا لفعلهم (كبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).
كان أحبار اليهود في كل أدوارهم عندما صار التدين شكلا لَا روح فيه، ومظهرا لَا حقيقة له كانوا يذكرون للناس حقائق دينية، لَا يعملون بها، ويعلنون أمورا في نجواهم ينكرونها في جهرهم، فكانوا يقررون أن أوصاف النبي - ﷺ - في كتبهم، وينكرونها أمام النبي - ﷺ - وأصحابه لكيلا يحاجوهم بها عند ربهم، وكأنه سبحانه وتعالى لَا يعلم خفي أمرهم.
ولذا خاطبهم الله سبحانه وتعالى مستنكرًا تلك الحال فيهم، لأن من فعلها منهم لم ينكرها سائرهم، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، أي أنه كان منهم،
215
ويستنكره الله تعالى عليهم، وإنكار الواقع توبيخ، وبيان أنه لَا يصح، ولا ينبغي أن يكون، والبر هو الخير، وهو ضد الإثم، والنبي - ﷺ - عرف الإثم بأنه " ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس " (١).
والنص استنكار لحالهم من أنهم يأمرون الناس بالخير، وينسون أنفسهم، أي يتركونها من غير توجيه إليه، ويكونون بمنزلة من ينسونها، ولا يفكرون في أمرها، مع أن دواعي التذكير والتفكر في ذات أنفسهم قائمة لأنهم يتلون الكتاب؛ ولذلك قال تعالى في هذا النص السامي:
________
(١) رواه مسلم: كتاب البر والصلة (٤٦٣٢)، وأحمد: مسند الشاميين (٦٩٧٣ ١). من حديث نواس بن سمعان الكلابي الأنصاري. وبنحوه رواه الترمذي والدارمي.
والنص استنكار لحالهم من أنهم يأمرون الناس بالخير، وينسون أنفسهم، أي يتركونها من غير توجيه إليه، ويكونون بمنزلة من ينسونها، ولا يفكرون في أمرها، مع أن دواعي التذكير والتفكر في ذات أنفسهم قائمة لأنهم يتلون الكتاب؛ ولذلك قال تعالى في هذا النص السامي:
________
(١) رواه مسلم: كتاب البر والصلة (٤٦٣٢)، وأحمد: مسند الشاميين (٦٩٧٣ ١). من حديث نواس بن سمعان الكلابي الأنصاري. وبنحوه رواه الترمذي والدارمي.
216
(وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ) أي وأنتم تجددون تلاوته آنا بعد آن، فالاستنكار للحال التي يجتمع فيها الأمر بالخير والحث عليه مع ترك أنفسهم لَا تفعلها، وكأنهم نسوها ولم يذكروها، والذكر دائم مستمر، وليس الاستنكار للبر مجردا عما لابسه من حالهم، لأن الأمر بالبر في ذاته ليس بمستنكرٍ، ولا يمكن أن يكون مستنكرًا؛ لأنه دعوة إلى الحق، ولا تنكر الدعوة إلى الحق في ذاتها.
وإن حالهم من دعوة إلى الحق مع نسيان أنفسهم، وتركه مع استمرار التذكير به، وكان ينبغي مع التذكير التذكر - لَا يغفله الذين يفكرون ويعملون عقولهم؛ ولذا قال سبحانه: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) والاستفهام هنا للتنبيه إلى مناقضة حالهم للعقل المدرك.
والعقل مصدر عقل بمعنى منع، ثم أطلق على ما يكون به الإدراك السليم لأنه يمنعه من القبيح، ويعقله ويقصره على الجميل، ومعنى الاستفهام، أن حالهم هي حال من لَا عقل له ولا إدراك، و (ألا) هنا - كما ذكرنا - للاستفهام والتنبيه إلى نفَى ما وراءه، والفاء فاء السببية أي بسبب هذه الحال يحكم عليهم بأنهم لا يعقلون، وأخرت الفاء عن الهمزة لأن الاستفهام له الصدارة، فهي مؤخرة عن تقديم.
وإن حالهم من دعوة إلى الحق مع نسيان أنفسهم، وتركه مع استمرار التذكير به، وكان ينبغي مع التذكير التذكر - لَا يغفله الذين يفكرون ويعملون عقولهم؛ ولذا قال سبحانه: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) والاستفهام هنا للتنبيه إلى مناقضة حالهم للعقل المدرك.
والعقل مصدر عقل بمعنى منع، ثم أطلق على ما يكون به الإدراك السليم لأنه يمنعه من القبيح، ويعقله ويقصره على الجميل، ومعنى الاستفهام، أن حالهم هي حال من لَا عقل له ولا إدراك، و (ألا) هنا - كما ذكرنا - للاستفهام والتنبيه إلى نفَى ما وراءه، والفاء فاء السببية أي بسبب هذه الحال يحكم عليهم بأنهم لا يعقلون، وأخرت الفاء عن الهمزة لأن الاستفهام له الصدارة، فهي مؤخرة عن تقديم.
216
وقد أشرنا إلى أن المستنكر هو الحال المجتمعة من دعوة إلى الخير وعدم العمل مع التذكير الدائم، أما الأمر نفسه فلا إنكار فيه، وقد تكلم الناس في أن من وقع في المعاصي أيجوز له أن ينهى عنها ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أم يطهر نفسه من المعاصي، ثم يتولى الإرشاد؟.
إن الحق أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب بنفسه، تركه معصية كغيره، ووقوعه في معاص غيره لَا يسوغ له أن يتركه، فيقع في معصية الترك، نعم إن الموعظة نصابها الألفاظ، كما قال الغزالي في إحدى رسائله، ولكن الموعظة في ذاتها لَا تحتاج إلى نصاب، وقد قال سعيد بن جبير التابعي، الشهيد في الحق الآمر بالمعروف: إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لَا يكون ممن يقع في معصية، فلن يكون هناك داع إلى الخير. ولكن مع ذلك يجب أن يروض المؤمن نفسه دائما على ألا ينهى عن أمر يقع هو فيه، فيمتنع عن النهي عن المنكر، ولكن يمتنع عن أن يقع فيما نهى عنه، كما حكى الله عن نبيه شعيب عليه السلام: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).
وإن الواعظ الذي لم يكن يتعظ بوعظه يحاسب على إهماله بأكثر مما يحاسب عليه غيره، ويحاسب أشد من كان يعلم الحق ولا ينطق به، فيُحرم الموعظة والاتعاظ ويحاسب من بعد حسابا عسيرا، ولقد روي عن رسول الله - ﷺ -: " إن الله يعافى الأميين يوم القيامة ما لَا يعافي العلماء " (١) وروى: أنه " يغفر للجاهل سبعين حين يغفر للعالم مرة واحدة، ليس من يعلم كمن لَا يعلم " (٢).
________
(١) رواه أبو نعيم في الحلية، من حديث عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه عن سيار بن حازم بن جعفر بن سليمان الضبي عن ثابت عن أنس، " والضياء " المقدسي في المختارة من هذا الطريق " عن أنس " بن مالك.
(٢) الترغيب والترهيب - الترهيب من أن يعلم ولا يعمل بعلمه ج ١ ص ٧٢..
إن الحق أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب بنفسه، تركه معصية كغيره، ووقوعه في معاص غيره لَا يسوغ له أن يتركه، فيقع في معصية الترك، نعم إن الموعظة نصابها الألفاظ، كما قال الغزالي في إحدى رسائله، ولكن الموعظة في ذاتها لَا تحتاج إلى نصاب، وقد قال سعيد بن جبير التابعي، الشهيد في الحق الآمر بالمعروف: إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لَا يكون ممن يقع في معصية، فلن يكون هناك داع إلى الخير. ولكن مع ذلك يجب أن يروض المؤمن نفسه دائما على ألا ينهى عن أمر يقع هو فيه، فيمتنع عن النهي عن المنكر، ولكن يمتنع عن أن يقع فيما نهى عنه، كما حكى الله عن نبيه شعيب عليه السلام: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).
وإن الواعظ الذي لم يكن يتعظ بوعظه يحاسب على إهماله بأكثر مما يحاسب عليه غيره، ويحاسب أشد من كان يعلم الحق ولا ينطق به، فيُحرم الموعظة والاتعاظ ويحاسب من بعد حسابا عسيرا، ولقد روي عن رسول الله - ﷺ -: " إن الله يعافى الأميين يوم القيامة ما لَا يعافي العلماء " (١) وروى: أنه " يغفر للجاهل سبعين حين يغفر للعالم مرة واحدة، ليس من يعلم كمن لَا يعلم " (٢).
________
(١) رواه أبو نعيم في الحلية، من حديث عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه عن سيار بن حازم بن جعفر بن سليمان الضبي عن ثابت عن أنس، " والضياء " المقدسي في المختارة من هذا الطريق " عن أنس " بن مالك.
(٢) الترغيب والترهيب - الترهيب من أن يعلم ولا يعمل بعلمه ج ١ ص ٧٢..
217
هذه عيوب من يأمرون بالخير، ولا يأتمرون به ومن ينهون عن الشر، ولا ينتهون عنه، ولكن كيف تربى النفس على أن تكون متعظة قبل أن تعظ؟ ذكر الله سبحانه وتعالى الدواء؛ وهو الصبر، والصلاة، فقال تعالى:
218
(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ... (٤٥) الاستعانة طلب العون، والمساعدة، وفي استعمال القرآن أنها إذا كانت للمعين تعدت بغير باء، كقوله تعالى: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، وفي الدعاء " اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك "، وإذا كانت الاستعانة بما تكون به الإعانة كانت بالباء، فيقال نستعين بكذا لفعل كذا، وهكذا نجد بالاستقراء استعمال القرآن.
وهنا الاستعانة بشيء ولذا تعدت بالباء فقال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) أي استعينوا على تربية نفوسكم لتكون متعظة فاعلة الخير، آمرة به ولا يتجافى فعلها عن قولها. (بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) والصبر ضبط النفس وسيطرة الإرادة، على الهوى، وسيطرة العقل على الشهوة، فإنه إذا سيطرت الإرادة والعقل والفكر المستقيم انقمعت الشهوات، وإذا انقمعت استقامت النفس، وكان التنسيق بين القول والعمل، وقذف الله في القلب بنور الحكمة، والقول الطيب، والعمل، وكل ما في الحياة يحتاج إلى الصبر، فالجهاد قوته في الصبر، وكما قال النبي - ﷺ -: " إنما الصبر عند الصدمة الأولى " (١)، ونقص الأموال والأنفس والثمرات إنما يكون بالصبر. كما قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦).
ويقول الفاروق الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الصبر صبران صبر على المصيبة، وهو حسن، وصبر عن المعاصي وهو أحسن (٢). فالصبر على المعاصي، هو السيطرة على الأهواء والشهوات، وهو تهذيب النفس وتقويمها.
________
(١) متفق عليه؛ أخرجه البخاري: الجنائز (١٢٠٣). مسلم: الجنائز (١٥٣٤).
(٢) رواه ابن أبي حازم. [جامع الأحاديث والمراسيل (٢١٨٨) مسند عمر بن الخطاب ج ١٤ ص ٩١].
وهنا الاستعانة بشيء ولذا تعدت بالباء فقال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) أي استعينوا على تربية نفوسكم لتكون متعظة فاعلة الخير، آمرة به ولا يتجافى فعلها عن قولها. (بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) والصبر ضبط النفس وسيطرة الإرادة، على الهوى، وسيطرة العقل على الشهوة، فإنه إذا سيطرت الإرادة والعقل والفكر المستقيم انقمعت الشهوات، وإذا انقمعت استقامت النفس، وكان التنسيق بين القول والعمل، وقذف الله في القلب بنور الحكمة، والقول الطيب، والعمل، وكل ما في الحياة يحتاج إلى الصبر، فالجهاد قوته في الصبر، وكما قال النبي - ﷺ -: " إنما الصبر عند الصدمة الأولى " (١)، ونقص الأموال والأنفس والثمرات إنما يكون بالصبر. كما قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦).
ويقول الفاروق الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الصبر صبران صبر على المصيبة، وهو حسن، وصبر عن المعاصي وهو أحسن (٢). فالصبر على المعاصي، هو السيطرة على الأهواء والشهوات، وهو تهذيب النفس وتقويمها.
________
(١) متفق عليه؛ أخرجه البخاري: الجنائز (١٢٠٣). مسلم: الجنائز (١٥٣٤).
(٢) رواه ابن أبي حازم. [جامع الأحاديث والمراسيل (٢١٨٨) مسند عمر بن الخطاب ج ١٤ ص ٩١].
218
هذه كلمات موجزات في الصبر، وهو طريق السيطرة على النفس؛ ولذا أمرنا الله تعالى بالاستعانة به.
أما الصلاة فإنها بما اشتملت عليه من ركوع وسجود وقراءة، وخشوع، واستحضار لعظمة الله تعالى وإحساس بأنه في حضرته وواقف بين يديه سبحانه وتعالى تنفعل نفسه في وجودها بحضرته، بأوامره، ونواهيه، وطلب مرضاته. ولقد قال تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ...)، ولقد كان النبي - ﷺ - " إذا حزبه أمر صلى " (١) وكان يأمر بالصلاة، من كان به وجع ليصبر وينسى ألمه، فيقول - ﷺ -: " قم فصل فإن الصلاة شفاء " (٢) لأنه يكون في مناجاة بينه وبين ربه، فينسى الدنيا وما فيها ينسى ألمه ووجعه، وهمومه.
وإن الصبر والصلاة تجعلان النفس تتغلب على المحن، كما تتغلب على الإحن، فيلقى الله تعالى بقلب سليم، قال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥).
وإن الاستعانة بالصبر والصلاة ليست أمرا هينا لينا، ولكنها أمر عظيم خطير، لا يتلقاها إلا النفوس القوية ذات العزيمة الحازمة؛ ولذا قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ).
الضمير في قوله تعالى: (وَإِنَّهَا) قيل إنه يعود إلى الضمير المنسبك من (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)، لأن الصبر والصلاة الحقيقية أمران كبيران خطيران
________
(١) رواه أبو داود: الصلاة (١١٢٤)، وأحمد: باقي مسند الأنصار (٠ ٢٢٢١) عن حذيفة رضي الله عنه.
(٢) رواه ابن ماجه: الطب (٣٤٤٩) وأحمد: باقي مسند المكثرين (٥ ٨٧٠)]. وفي الزوائد: في إسناده ليث، وهو ابن سليم.
أما الصلاة فإنها بما اشتملت عليه من ركوع وسجود وقراءة، وخشوع، واستحضار لعظمة الله تعالى وإحساس بأنه في حضرته وواقف بين يديه سبحانه وتعالى تنفعل نفسه في وجودها بحضرته، بأوامره، ونواهيه، وطلب مرضاته. ولقد قال تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ...)، ولقد كان النبي - ﷺ - " إذا حزبه أمر صلى " (١) وكان يأمر بالصلاة، من كان به وجع ليصبر وينسى ألمه، فيقول - ﷺ -: " قم فصل فإن الصلاة شفاء " (٢) لأنه يكون في مناجاة بينه وبين ربه، فينسى الدنيا وما فيها ينسى ألمه ووجعه، وهمومه.
وإن الصبر والصلاة تجعلان النفس تتغلب على المحن، كما تتغلب على الإحن، فيلقى الله تعالى بقلب سليم، قال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥).
وإن الاستعانة بالصبر والصلاة ليست أمرا هينا لينا، ولكنها أمر عظيم خطير، لا يتلقاها إلا النفوس القوية ذات العزيمة الحازمة؛ ولذا قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ).
الضمير في قوله تعالى: (وَإِنَّهَا) قيل إنه يعود إلى الضمير المنسبك من (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)، لأن الصبر والصلاة الحقيقية أمران كبيران خطيران
________
(١) رواه أبو داود: الصلاة (١١٢٤)، وأحمد: باقي مسند الأنصار (٠ ٢٢٢١) عن حذيفة رضي الله عنه.
(٢) رواه ابن ماجه: الطب (٣٤٤٩) وأحمد: باقي مسند المكثرين (٥ ٨٧٠)]. وفي الزوائد: في إسناده ليث، وهو ابن سليم.
219
عظيمان يسيران بالنفس في مدارج الكمال النفسي والروحاني، فيكون الانسجام بين القول والعمل، ولكن قد يقال إن المصدر غير موجود، والضمير يعود إلى أقرب مذكور، فعوده إلى الصلاة أقرب وأظهر، ولذلك قال الأكثرون إنه يعود إلى الصلاة.
ولا شك أن الصلاة إذا أديت على وجهها باستحضار عظمة الله والشعور بأنه في حضرته سبحانه وتعالى، حتى كأنه يراه ويخاطبه بقرآنه عندما يتلو آياته، وأنه عندما يقول: إياك نعبد، وإياك نستعين يحس بأنه في حضرته، وأنه يخاطبه، وأنه يناجيه، فمقام (إِيَّاكَ نَعْبدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، مقامٌ، لَا يندرج فيه إلا الخاشعون.
والخاشع هو الخاضع المتطامن الساكن الذي لَا يتحرك لشهوة، والخشوع مظهر الخضوع الذي يظهر في الأعضاء والجوارح، ولذلك يسند إليها فيقول تعالى: (وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)، فالخشوع خضوع كامل في النفس والجسم، وأصله في القلب؛ قال عمر لشاب قد نكس رأسه فقال له: " يا هذا ارفع رأسك فإن الخشوع ما في القلب " (١). وقال علي كرم الله وجهه: الخشوع في القلب، وأن تلين نفسك للمرء المسلم، وألا تلتفت في صلاتك (٢).
وقد ذكر سبحانه أثر الخشوع في القلب والعقل والنفس، فقال تعالى:
________
(١) جامع الأحاديث والمراسيل (٢ ٢٧١) - مسند عمر بن الخطاب ج ١٤ ص ١٦٧.
(٢) هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. [المستدرك للحاكم (٣٥٢٩) - شرح معنى الخشوع - ج ٢ ص ٤٢٦]. ورواه عبد الله بن المبارك، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حازم، واّبو القاسم بن منده في الخشوع.
ولا شك أن الصلاة إذا أديت على وجهها باستحضار عظمة الله والشعور بأنه في حضرته سبحانه وتعالى، حتى كأنه يراه ويخاطبه بقرآنه عندما يتلو آياته، وأنه عندما يقول: إياك نعبد، وإياك نستعين يحس بأنه في حضرته، وأنه يخاطبه، وأنه يناجيه، فمقام (إِيَّاكَ نَعْبدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، مقامٌ، لَا يندرج فيه إلا الخاشعون.
والخاشع هو الخاضع المتطامن الساكن الذي لَا يتحرك لشهوة، والخشوع مظهر الخضوع الذي يظهر في الأعضاء والجوارح، ولذلك يسند إليها فيقول تعالى: (وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)، فالخشوع خضوع كامل في النفس والجسم، وأصله في القلب؛ قال عمر لشاب قد نكس رأسه فقال له: " يا هذا ارفع رأسك فإن الخشوع ما في القلب " (١). وقال علي كرم الله وجهه: الخشوع في القلب، وأن تلين نفسك للمرء المسلم، وألا تلتفت في صلاتك (٢).
وقد ذكر سبحانه أثر الخشوع في القلب والعقل والنفس، فقال تعالى:
________
(١) جامع الأحاديث والمراسيل (٢ ٢٧١) - مسند عمر بن الخطاب ج ١٤ ص ١٦٧.
(٢) هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. [المستدرك للحاكم (٣٥٢٩) - شرح معنى الخشوع - ج ٢ ص ٤٢٦]. ورواه عبد الله بن المبارك، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حازم، واّبو القاسم بن منده في الخشوع.
220
(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (٤٦)
عرف الله سبحانه وتعالى الخاشعين بأخص صفات المؤمن، وهو الإيمان بالغيب، لأنه فرق بين الإيمان والإسلام والزندقة، وإن أبلغ الإيمان بالغيب تأثيرا
عرف الله سبحانه وتعالى الخاشعين بأخص صفات المؤمن، وهو الإيمان بالغيب، لأنه فرق بين الإيمان والإسلام والزندقة، وإن أبلغ الإيمان بالغيب تأثيرا
220
في النفس الخاشعة الإيمان بلقاء الله تعالى الذي يجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بجزاء ما يعمل، ولذلك ذكر إيمان الخاشعين بلقاء الله تعالى فقال تبارك وتعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ) الظن يطلق بمعنى العلم الراجح، ومن ذلك قوله تعالى: (إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْن بِمُسْتَيْقين)، ويستعمل الظن بمعنى اليقين: (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا)، وقوله تعالى: (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ).
والظن بمعنى العلم اليقيني، ولكن التعبير عن العلم بالظن يفيد مع اليقين توقع الأمر المعلوم، فمعنى (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ)، أنهم يتوقعون هذا اللقاء وقتا بعد آخر، فهم يؤمنون إيمانا صادقا بلقاء الله، ويترقبون ذلك اللقاء، وينتظرونه متوقعين له، فيقينهم يقين المتوقع المترقب، فيكون في قلوبهم دائما ويستعدون له بعمل صالح يقدمونه رجاء أن يغفر لهم وأن يتغمدهم برحمته، ويكفر عنهم سيئاتهم.
والتعبير بـ (رَبِّهِمْ) فيه شعور بنعمه تعالى عليهم، لأنه هو الذي رباهم وأنشأهم وتعهدهم في الوجود، كما يتعهد المزارع زرعه بالسقي والإصلاح.
ويؤمنون مستيقنين متوقعين أنهم إليه وحده راجعون، وتقديم (إِلَيْهِ) للدلالة على أنه وحده الذي يرجعون إليه ويجزيهم بالإحسان إحسانا وأنه الغفور الرحيم.
هذا الذي مضى من القول الكريم من قوله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) خطاب لبني إسرائيل الحاضرين منهم والماضين باعتباره واقعا منهم في حاضرهم وماضيهم، وهو يصلح خطابا لبني إسرائيل وغيرهم لما فيه من توجيه وتهذيب وإصلاح بين الناس، وبه تستقيم أمورهم في معاشهم ومعادهم.
ذكر الله تعالى بعد ذلك بني إسرائيل بنعمه عليهم، فقال تعالى:
(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (٤٧)
والظن بمعنى العلم اليقيني، ولكن التعبير عن العلم بالظن يفيد مع اليقين توقع الأمر المعلوم، فمعنى (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ)، أنهم يتوقعون هذا اللقاء وقتا بعد آخر، فهم يؤمنون إيمانا صادقا بلقاء الله، ويترقبون ذلك اللقاء، وينتظرونه متوقعين له، فيقينهم يقين المتوقع المترقب، فيكون في قلوبهم دائما ويستعدون له بعمل صالح يقدمونه رجاء أن يغفر لهم وأن يتغمدهم برحمته، ويكفر عنهم سيئاتهم.
والتعبير بـ (رَبِّهِمْ) فيه شعور بنعمه تعالى عليهم، لأنه هو الذي رباهم وأنشأهم وتعهدهم في الوجود، كما يتعهد المزارع زرعه بالسقي والإصلاح.
ويؤمنون مستيقنين متوقعين أنهم إليه وحده راجعون، وتقديم (إِلَيْهِ) للدلالة على أنه وحده الذي يرجعون إليه ويجزيهم بالإحسان إحسانا وأنه الغفور الرحيم.
هذا الذي مضى من القول الكريم من قوله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) خطاب لبني إسرائيل الحاضرين منهم والماضين باعتباره واقعا منهم في حاضرهم وماضيهم، وهو يصلح خطابا لبني إسرائيل وغيرهم لما فيه من توجيه وتهذيب وإصلاح بين الناس، وبه تستقيم أمورهم في معاشهم ومعادهم.
ذكر الله تعالى بعد ذلك بني إسرائيل بنعمه عليهم، فقال تعالى:
(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (٤٧)
221
تكلمنا في ماضي قولنا في معنى النداء بيا بني إسرائيل، وأشر نا إلى النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، وقد ذكر نعمة لم يذكرها سبحانه وتعالى فيما مضى من قوله الحكيم، وهو أنه سبحانه وتعالى فضلهم على العالمين، والعالمون جمع عالم كما ذكر من قبل، ويراد أهل العقل والتفكير في هذه الأرض.
والتفضيل ليس تفضيل ذواتهم على غيرهم كما توهموا هم، ودلاهم غرورهم، فزعموا أنهم صنف الله المختار، ودلوا على الناس بذلك بل دلوا على الله تعالى وقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، وأكلوا الحقوق، وعاملوا غيرهم بكل أمر ليس فيه خلق ولا دين، وقالوا ليس علينا في الأميين سبيل.
ليس التفضيل لذواتهم إنما الفضل الذي اختصهم الله تعالى به في جيلهم أنه
جيل فيهم أنبياء، ودعاهم أولئك الأنبياء إلى التوحيد لله سبحانه وتعالى، فقد كانوا موحدين كما دعاهم موسى ومن جاء بعده من الأنبياء في وسط وثنيين، فكان كل من حولهم وثنيين؛ فالمصريون وثنيون يعبدون الشمس ومن دونها، والفرس يعبدون النيران، والروم يعبدون الأوثان، واليونان من قبلهم على شاكلتهم، والبابليون يعبدون الكواكب، وهكذا كان جيلهم الأول جيل موسى، وحين نزول التوراة على موسى.
اختارهم الله تعالى أن يكونوا قوم موسى، وأن يكون التوحيد فيهم، وكان مقامهم يمكنهم من أن يدعوا إلى التوحيد؛ لأنهم كان مقامهم في وسط تلك الأراضي التي كان يسكنها الوثنيون.
وإن ذلك التفضيل نعمة أنعم الله تعالى بها عليهم، وأنها توجب شكرا، وتحملهم تكليفا، أما الشكر فلأن شكر النعم واجب بحكم العقل، وبحكم التكليف الإلهي وقد كفروا بأنعم الله تعالى، وأما التكليف الذي حملوه فهو الدعوة إلى الوحدانية ولم يقوموا بحقها، بل إنهم اعتبروا اليهودية جنسا، ومن دخل معهم في
والتفضيل ليس تفضيل ذواتهم على غيرهم كما توهموا هم، ودلاهم غرورهم، فزعموا أنهم صنف الله المختار، ودلوا على الناس بذلك بل دلوا على الله تعالى وقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، وأكلوا الحقوق، وعاملوا غيرهم بكل أمر ليس فيه خلق ولا دين، وقالوا ليس علينا في الأميين سبيل.
ليس التفضيل لذواتهم إنما الفضل الذي اختصهم الله تعالى به في جيلهم أنه
جيل فيهم أنبياء، ودعاهم أولئك الأنبياء إلى التوحيد لله سبحانه وتعالى، فقد كانوا موحدين كما دعاهم موسى ومن جاء بعده من الأنبياء في وسط وثنيين، فكان كل من حولهم وثنيين؛ فالمصريون وثنيون يعبدون الشمس ومن دونها، والفرس يعبدون النيران، والروم يعبدون الأوثان، واليونان من قبلهم على شاكلتهم، والبابليون يعبدون الكواكب، وهكذا كان جيلهم الأول جيل موسى، وحين نزول التوراة على موسى.
اختارهم الله تعالى أن يكونوا قوم موسى، وأن يكون التوحيد فيهم، وكان مقامهم يمكنهم من أن يدعوا إلى التوحيد؛ لأنهم كان مقامهم في وسط تلك الأراضي التي كان يسكنها الوثنيون.
وإن ذلك التفضيل نعمة أنعم الله تعالى بها عليهم، وأنها توجب شكرا، وتحملهم تكليفا، أما الشكر فلأن شكر النعم واجب بحكم العقل، وبحكم التكليف الإلهي وقد كفروا بأنعم الله تعالى، وأما التكليف الذي حملوه فهو الدعوة إلى الوحدانية ولم يقوموا بحقها، بل إنهم اعتبروا اليهودية جنسا، ومن دخل معهم في
222
ديانة موسى عليه السلام من غيرهم كالسامرة لم يعترفوا به، وبذلك ضلوا ضلالا ولقد أخذ بعد ذلك سبحانه يذكر موجبات التفضيل وغايته فقال تعالى:
223
(وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)
(وَاتَّقُوا) أي اجعلوا لكم وقاية تقيكم عذاب يوم شديد الهول، فيه العذاب الشديد، ولا ينفع نفسا إيمانها إن لم تكن آمنت من قبل، وهو يوم القيامة، وقال سبحانه: (يَوْمًا) بالتنكير لتذهب النفس مذاهب شتى في تصوير هوله، والإبهام وحده يوجد رهبة، ويشعر بالتهويل، وبأنه لَا يحد عذابه وصف، ولا هوله ذكر، وإن ذلك اليوم الذي اتقاؤه بالعمل الصالح والقيام بالحقوق التي للغير، وأداء الواجبات التي عليه، يتقدم فيه الإنسان منفردا إلا من عمله، لَا يجزيه إلا عمله إن خيرا فخير، ولا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا، أي لَا يجزي عمل نفس عن نفس شيئا من الجزاء، فيقدر في قوله لَا تجزي نفس عن نفس أي عمل نفس عن نفس أخرى، أو نقول تجزي بمعنى تقضي، أي لَا تقضي نفس عن أخرى أي شيء قلَّ أو جل، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وكل امرئ بما كسب رهين.
وعقب سبحانه وتعالى بما يؤكد أن النفس لَا يجزى عنها غيرها، وأنه لَا منفعة إلا من عملها، فقال تعالى: (وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) والشفاعة من الشفع، والشافع يضم قوته إلى من يشفع فيه، فلا يقبل الله تعالى شفاعة من أحد لأحد، إنما العمل وحده هو الذي ينفع كما قال تعالى: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَة الشَّافِعِينَ)، وإذا كان للأنبياء شفاعة فبأمر الله تعالى وحده (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضي وَهُم منْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)، (وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) أى لَا يؤخذ منها بدل، فالعدل البدل، فلا ينجيهم من عذاب شفاعة ولا فدية من العذاب ببدل يدفع،) (وَلا هُمْ يُنصَرُونَ) لأنه لَا ناصر إلا الله، لمن الملك اليوم؛ لله الواحد القهار.
(وَاتَّقُوا) أي اجعلوا لكم وقاية تقيكم عذاب يوم شديد الهول، فيه العذاب الشديد، ولا ينفع نفسا إيمانها إن لم تكن آمنت من قبل، وهو يوم القيامة، وقال سبحانه: (يَوْمًا) بالتنكير لتذهب النفس مذاهب شتى في تصوير هوله، والإبهام وحده يوجد رهبة، ويشعر بالتهويل، وبأنه لَا يحد عذابه وصف، ولا هوله ذكر، وإن ذلك اليوم الذي اتقاؤه بالعمل الصالح والقيام بالحقوق التي للغير، وأداء الواجبات التي عليه، يتقدم فيه الإنسان منفردا إلا من عمله، لَا يجزيه إلا عمله إن خيرا فخير، ولا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا، أي لَا يجزي عمل نفس عن نفس شيئا من الجزاء، فيقدر في قوله لَا تجزي نفس عن نفس أي عمل نفس عن نفس أخرى، أو نقول تجزي بمعنى تقضي، أي لَا تقضي نفس عن أخرى أي شيء قلَّ أو جل، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وكل امرئ بما كسب رهين.
وعقب سبحانه وتعالى بما يؤكد أن النفس لَا يجزى عنها غيرها، وأنه لَا منفعة إلا من عملها، فقال تعالى: (وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) والشفاعة من الشفع، والشافع يضم قوته إلى من يشفع فيه، فلا يقبل الله تعالى شفاعة من أحد لأحد، إنما العمل وحده هو الذي ينفع كما قال تعالى: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَة الشَّافِعِينَ)، وإذا كان للأنبياء شفاعة فبأمر الله تعالى وحده (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضي وَهُم منْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)، (وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) أى لَا يؤخذ منها بدل، فالعدل البدل، فلا ينجيهم من عذاب شفاعة ولا فدية من العذاب ببدل يدفع،) (وَلا هُمْ يُنصَرُونَ) لأنه لَا ناصر إلا الله، لمن الملك اليوم؛ لله الواحد القهار.
223
أخذ سبحانه وتعالي يذكر النعم التي أنعمها عليهم، وابتدأ بنعمة الإنقاذ، فقال تعالى:
* * *
(وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)
* * *
ابتدأ سبحانه وتعالى بأعلى النعم التي أنعم بها عليهم، وهي نعمة الإنقاذ من شر من في الوجود إبان ذلك، وهو فرعون الذي اتخذه الفساق الظالمون من الحكام قدوة يقتدون به في مظالمه، وإن لم يستطيعوا أن يصلوا إلى أن ينتصروا في الحروب مثل انتصاره في عصره.
أنقذهم الله تعالى على يد موسى كليم الله من بطش فرعون، وقد كان بطشه شديدا بهم، لأنهم كانوا يعدون أجانب في مصر، وكانوا أعداء لهم، فكان فرعون يتخذ السبيل لإفنائهم، أو إضعافهم، فكان يقتل شبابهم ذبحا، ويبقي النساء، ويقول سبحانه وتعالى:
* * *
(وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)
* * *
ابتدأ سبحانه وتعالى بأعلى النعم التي أنعم بها عليهم، وهي نعمة الإنقاذ من شر من في الوجود إبان ذلك، وهو فرعون الذي اتخذه الفساق الظالمون من الحكام قدوة يقتدون به في مظالمه، وإن لم يستطيعوا أن يصلوا إلى أن ينتصروا في الحروب مثل انتصاره في عصره.
أنقذهم الله تعالى على يد موسى كليم الله من بطش فرعون، وقد كان بطشه شديدا بهم، لأنهم كانوا يعدون أجانب في مصر، وكانوا أعداء لهم، فكان فرعون يتخذ السبيل لإفنائهم، أو إضعافهم، فكان يقتل شبابهم ذبحا، ويبقي النساء، ويقول سبحانه وتعالى:
224
(وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومونَكمْ سوءَ الْعَذَابِ).
قال سبحانه وتعالى: (وَإِذْ نَجنَاكم) أي اذكروا الوقت الذي أنجيناكم فيه من آل فرعون، فإذا تدل على الوقت الماضي، ومعنى ذكر الوقت ذكر ما كان فيه من أحداث خطيرة وشديدة، واستحضار الأهوال التي كانوا يعيشون في بأسائها،
قال سبحانه وتعالى: (وَإِذْ نَجنَاكم) أي اذكروا الوقت الذي أنجيناكم فيه من آل فرعون، فإذا تدل على الوقت الماضي، ومعنى ذكر الوقت ذكر ما كان فيه من أحداث خطيرة وشديدة، واستحضار الأهوال التي كانوا يعيشون في بأسائها،
224
وضرائها، وإنه تقدر النجاة من الله تعالى بمقدار ما كان هول الأمر الذي نجاهم الله تعالى منه.
ولقد قال تعالى: (آلِ فِرْعَوْنَ) ولم يقل أنجاكم من فرعون، وذلك لأن آله شيعته ونصراؤه وأعوانه، وطغاة الدنيا يكون شرهم من أنفسهم أولا، ومن حاشيتهم الذين يحطون على أهوائهم ثانيا، فيزينون لهم ظلمهم، ويسمونه عدلا ويبينون له وجوه الكيد، ويمكرون مكرهم، فلولا بطانة السوء ما كان السوء، ولولا حاشية فساق الحكام ما استمكنوا، وما طغوا في البلاد، وكلمة حق من حاشيتهم تقيم عدلا، وتدفع ظلما.
لذلك عبر بآل فرعون، لأنه لم يستمكن وحده من الظلم.
وذكر سبحانه ما كان يفعله فرعون وآله، فقال سبحانه: (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) أي يذيقونكم سوء العذاب ويجعلونه ملازما لكم لَا تفارقونه، ولا يفارقكم، ويقال: سامه خطة خسف، وأولاه خطة خسف، أي جعل ولايته خسفا وعسفا، ولقد قال عمرو بن كلثوم الفارس العربي:
وسوء العذاب أشد سوءا وأثرا في النفوس، ويديمونه؛ لأن " سام " تدل على الدوام، ومن ذلك السائمة التي تديم الرعي في الكلأ، وبين سبحانه وتعالى هذا العذاب الهون فقال مبينا: (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ) فهم يعملون على إفناء الذكور، وإبقاء النساء.
والتعبير بـ (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ) كناية عن العمل على إفنائهم وتخضيد شوكتهم وإبعادهم عن مواطن السلطان، وذلك بذبحهم أحيانا، ووضعهم في مواضع الذل والمهانة، والغاية ألا يكون لهم وجود قائم بذاته، فقد حكى عنهم أن فرعون كان
ولقد قال تعالى: (آلِ فِرْعَوْنَ) ولم يقل أنجاكم من فرعون، وذلك لأن آله شيعته ونصراؤه وأعوانه، وطغاة الدنيا يكون شرهم من أنفسهم أولا، ومن حاشيتهم الذين يحطون على أهوائهم ثانيا، فيزينون لهم ظلمهم، ويسمونه عدلا ويبينون له وجوه الكيد، ويمكرون مكرهم، فلولا بطانة السوء ما كان السوء، ولولا حاشية فساق الحكام ما استمكنوا، وما طغوا في البلاد، وكلمة حق من حاشيتهم تقيم عدلا، وتدفع ظلما.
لذلك عبر بآل فرعون، لأنه لم يستمكن وحده من الظلم.
وذكر سبحانه ما كان يفعله فرعون وآله، فقال سبحانه: (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) أي يذيقونكم سوء العذاب ويجعلونه ملازما لكم لَا تفارقونه، ولا يفارقكم، ويقال: سامه خطة خسف، وأولاه خطة خسف، أي جعل ولايته خسفا وعسفا، ولقد قال عمرو بن كلثوم الفارس العربي:
إذا ما المَلكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفًا | أَبَيْنَا أنْ نُقِرَّ الخَسْفَ فِينَا |
والتعبير بـ (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ) كناية عن العمل على إفنائهم وتخضيد شوكتهم وإبعادهم عن مواطن السلطان، وذلك بذبحهم أحيانا، ووضعهم في مواضع الذل والمهانة، والغاية ألا يكون لهم وجود قائم بذاته، فقد حكى عنهم أن فرعون كان
225
يذبح منهم، وكان يتخذ منهم عمالاً مسخرين في الأبنية التي يشيدها، وكان يسخرهم لحرث الأرض، والثمرة لغيرهم ليذلهم، وكان يتخذ منهم خدما في البيوت وهم الأرذلون.
وذكر الذبح بالذات، وهو إحدى وسائل فرعون لسوء العذاب الذي كان يذيقه إياهم لأنه أشدها هولا، ولأن إفناءهم هو الغاية، وهو أقرب طرقه، وهو المصدر لما كانوا عليه من الآلام.
وقوله تعالى: (وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكمْ) أي أبقوهن أحياء لم يذبحوهن، وكانوا راغبين في ذلك، ولذلك كانت السين والتاء اللتان تدلان على الطلب، والمعنى طلبوا حياة نسائهم لغايات في نفوسهم وليشبعوا بهن شهواتهم، وقد بين الله تعالى أن ذلك هول شديد تختبر به نفوسهم؛ ولذلك قال تعالى: (وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ) الإشارة هنا إلى هذا العذاب الشديد السيئ، والخطاب لهم، ولأن الإشارة إلى ما نزل بهم جعل الخطاب لهم لَا بالكاف المفردة بل بالكاف وعلامة خطاب الجمع، وبلاء معناه الاختبار الشديد لتتربى نفوسهم على التحمل، ولبثَّ الرحمة في قلوبهم، لأنه لَا تكون الرحمة إلا بالآلام الشديدة التي يحس بها الشخص فيرحم غيره، فإنه لَا تنبع الرحمة إلا من قلب أحس بالآلام، وتربى في أحضانها فلا يكون قاسيا على الناس، ويكون رحيما بهم، فكان هذا البلاء الفرعوني تربية لنفوسهم لتكون بارة؛ ولذلك قال: (مِّن رَّبِّكُمْ) أي من الله الذي خلقكم، وربكم بعنايته وحماكم بكلاءته، ووصفه سبحانه وتعالى بأنه (عَظِيمٌ) لكبر هوله، وبعد أثره.
وإن الله تعالى مكَّنَ فرعون منهم لكي يعلموا أنهم ليس لهم فضل لذواتهم، ولكن لما هيأهم الله تعالى لتلقي رسالته، وتبليغ كلمته، وهي كلمة التوحيد، والعمل بالأوامر الإلهية.
ولقد بين الله سبحانه وتعالى كيف نجاهم بقدرته الإلهية القاطعة في الدلالة على إخراجهم من ظلمات القهر والطغيان إلى نور العدالة والإيمان، فقال تعالى:
وذكر الذبح بالذات، وهو إحدى وسائل فرعون لسوء العذاب الذي كان يذيقه إياهم لأنه أشدها هولا، ولأن إفناءهم هو الغاية، وهو أقرب طرقه، وهو المصدر لما كانوا عليه من الآلام.
وقوله تعالى: (وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكمْ) أي أبقوهن أحياء لم يذبحوهن، وكانوا راغبين في ذلك، ولذلك كانت السين والتاء اللتان تدلان على الطلب، والمعنى طلبوا حياة نسائهم لغايات في نفوسهم وليشبعوا بهن شهواتهم، وقد بين الله تعالى أن ذلك هول شديد تختبر به نفوسهم؛ ولذلك قال تعالى: (وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ) الإشارة هنا إلى هذا العذاب الشديد السيئ، والخطاب لهم، ولأن الإشارة إلى ما نزل بهم جعل الخطاب لهم لَا بالكاف المفردة بل بالكاف وعلامة خطاب الجمع، وبلاء معناه الاختبار الشديد لتتربى نفوسهم على التحمل، ولبثَّ الرحمة في قلوبهم، لأنه لَا تكون الرحمة إلا بالآلام الشديدة التي يحس بها الشخص فيرحم غيره، فإنه لَا تنبع الرحمة إلا من قلب أحس بالآلام، وتربى في أحضانها فلا يكون قاسيا على الناس، ويكون رحيما بهم، فكان هذا البلاء الفرعوني تربية لنفوسهم لتكون بارة؛ ولذلك قال: (مِّن رَّبِّكُمْ) أي من الله الذي خلقكم، وربكم بعنايته وحماكم بكلاءته، ووصفه سبحانه وتعالى بأنه (عَظِيمٌ) لكبر هوله، وبعد أثره.
وإن الله تعالى مكَّنَ فرعون منهم لكي يعلموا أنهم ليس لهم فضل لذواتهم، ولكن لما هيأهم الله تعالى لتلقي رسالته، وتبليغ كلمته، وهي كلمة التوحيد، والعمل بالأوامر الإلهية.
ولقد بين الله سبحانه وتعالى كيف نجاهم بقدرته الإلهية القاطعة في الدلالة على إخراجهم من ظلمات القهر والطغيان إلى نور العدالة والإيمان، فقال تعالى:
226
(وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) والمعنى اذكروا ذلك الوقت الذي فرقنا أي أوجدنا شقا طوليا في البحر من ساحل مصر إلى ساحل سيناء، وقد كان متصل الأجزاء، وسطحا لَا فرقة فيه ولا انشقاق، فسرتم فيه، كأن الماء قد افترق على قدر حاجتكم، وسرتم فيه آمنين مطمئنين، وسار وراءكم الذين عذبوكم، ودبروا السوء لكم، وذبَّحوا أبناءكم، واستحيوا نساءكم لأهوائهم، وهم آل فرعون الذين ناصروه وأيدوه، وقد ازدلفوا من ورائكم فأغرقهم، وأنتم تنظرون إلى تدبير الله تعالى، وإعجازه، وأنتم ترونه رأي العين لَا بالخبر والسماع.
وقد فصل الله سبحانه وتعالى تلك النجاة وذلك الإغراق وما أحاط بهما بعض التفصيل، فقال تعالت كلماته في سورة الشعراء: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨).
نجا بنو إسرائيل، وظهرت آيتان؛ إحداهما أن موسى عليه السلام ضرب البحر بعصاه، فانشق وانفلق، وكان كل فرق من أقسامه، كأنه الجبل العظيم من الماء.
والثانية أن هذا كان على قدر مسير بني إسرائيل بقيادة موسى عليه السلام، وظن فرعون وآله أن الطريق مفتوح لهم، كما فتح لبني إسرائيل، فساروا وراءهم فانطبق البحر عليهم، وكانوا مغرقين.
وقد فصل الله سبحانه وتعالى تلك النجاة وذلك الإغراق وما أحاط بهما بعض التفصيل، فقال تعالت كلماته في سورة الشعراء: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨).
نجا بنو إسرائيل، وظهرت آيتان؛ إحداهما أن موسى عليه السلام ضرب البحر بعصاه، فانشق وانفلق، وكان كل فرق من أقسامه، كأنه الجبل العظيم من الماء.
والثانية أن هذا كان على قدر مسير بني إسرائيل بقيادة موسى عليه السلام، وظن فرعون وآله أن الطريق مفتوح لهم، كما فتح لبني إسرائيل، فساروا وراءهم فانطبق البحر عليهم، وكانوا مغرقين.
227
كانت هذه النجاة بمعجزة من الله تعالى كافية لإيمان الكافر حتى إن فرعون قال آمنت بالذي آمن به بنو إسرائيل، وإن كان لم ينفعه إيمانه، كما قال تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (٩٢).
نزل بنو إسرائيل أرض سيناء التي انبعث فيها نور الرسالة الموسوية. وكان حقا أن يكونوا أول المؤمنين، ولكن الله أخبر أنه لم يكن أكثرهم مؤمنين مع هذه المعجزات الحسية الباهرة، وكانوا قد ألفوا عبادة العجل من غير بينة ولا دليل بل قلدوا المصريين تقليدًا في عباداتهم، وتأثروا طريقهم، وألفوا ما ألفوه هم، وإن الهوى والوهم هما اللذان سيطرا على نفوسهم، فضلوا بضلالهم، ولذلك صنعوا عجلًا من الحلي؛ وجعلوه في مهب الريح، فكانت الريح إذا مرت به كان له خوار كخوار العجل الحي؛ ولذلك قال تعالى:
نزل بنو إسرائيل أرض سيناء التي انبعث فيها نور الرسالة الموسوية. وكان حقا أن يكونوا أول المؤمنين، ولكن الله أخبر أنه لم يكن أكثرهم مؤمنين مع هذه المعجزات الحسية الباهرة، وكانوا قد ألفوا عبادة العجل من غير بينة ولا دليل بل قلدوا المصريين تقليدًا في عباداتهم، وتأثروا طريقهم، وألفوا ما ألفوه هم، وإن الهوى والوهم هما اللذان سيطرا على نفوسهم، فضلوا بضلالهم، ولذلك صنعوا عجلًا من الحلي؛ وجعلوه في مهب الريح، فكانت الريح إذا مرت به كان له خوار كخوار العجل الحي؛ ولذلك قال تعالى:
228
(وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (٥١)
هذا ما كان منهم كفرا بالنعم التي أنعم الله تعالى بها عليهم، وفيها الدلالة القاطعة مع النعم الظاهرة، ومع ذلك قلدوا المصريين في عبادتهم.
واعد الله تعالى نبيه موسى عليه السلام على أن يترك بني إسرائيل لتلقي التوراة، وفيها الألواح العشرة التي تتضمن التكليفات التي كلف الله تعالى بني إسرائيل.
فتركهم فتحرك فيهم ما ألفوه من عبادة العجل، كما كان يعبد المصريون العجل وقد جعل لهم السامري ذلك العجل من الذهب، وكان عجلا جسدا لَا حياة فيه، ولكن كان له خوار أي صوت كصوت البقر، إذا مرت الريح في التجاويف التي صنعت فيه، وقد ذكر الله تعالى هذا العجل المصنوع ببعض قليل من البيان في
هذا ما كان منهم كفرا بالنعم التي أنعم الله تعالى بها عليهم، وفيها الدلالة القاطعة مع النعم الظاهرة، ومع ذلك قلدوا المصريين في عبادتهم.
واعد الله تعالى نبيه موسى عليه السلام على أن يترك بني إسرائيل لتلقي التوراة، وفيها الألواح العشرة التي تتضمن التكليفات التي كلف الله تعالى بني إسرائيل.
فتركهم فتحرك فيهم ما ألفوه من عبادة العجل، كما كان يعبد المصريون العجل وقد جعل لهم السامري ذلك العجل من الذهب، وكان عجلا جسدا لَا حياة فيه، ولكن كان له خوار أي صوت كصوت البقر، إذا مرت الريح في التجاويف التي صنعت فيه، وقد ذكر الله تعالى هذا العجل المصنوع ببعض قليل من البيان في
228
سور أخرى، وذكر عنهم الله تعالى في هذه السورة أنهم عبدوه، وأن هارون أخا موسى وردءه في الرسالة نهاهم عن العبادة، وقد خلفه موسى فيهم، فقال تعالى حكاية في ذلك: (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (٩١). وذكر تمام ذلك في سورة طه: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (٨٣) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (٨٤) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (٨٩) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (٩١) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (٩٥) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (٩٧).
* * *
وقد نسبت العبادة إلى كلهم، والذي عبد العجل بعضهم؛ لأن الذين لم يعبدوا لم ينهوا غيرهم فكانوا مثلهم كما قال تعالى فيهم: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩).
* * *
وقد نسبت العبادة إلى كلهم، والذي عبد العجل بعضهم؛ لأن الذين لم يعبدوا لم ينهوا غيرهم فكانوا مثلهم كما قال تعالى فيهم: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩).
229
ومعنى لنحرقنه أي نحكه ونبرده ثم بعد برده لننسفنه في اليم نسفا، وذلك كقولهم حرَّق الأرَّم (١) أي حكها حكا شديدًا.
هذا خبر عبادتهم العجل، وكيف كانت وذلك لتأثرهم طريق المصريين، وسلوكهم طريق الأوهام التي سلكوها. وقوله: واعدنا موسى أربعين ليلة فيها قراءتان: إحداهما (وعدنا موسى)، والقراءة الأخرى: (واعدنا موسى)، وإن المواعدة لَا تكون إلا بين طرفين، وذلك بعيد عن الله تعالى، ولذا قيل إن معنى واعدنا ليس المفاعلة التي تكون بين طرفين، بل معناها وعدنا، وقد تستعمل: صيغة فاعل في غير معنى المفاعلة، كقولهم داويت العليل، وعالجت المريض، وعاقبت المجرم.
وعندي أن المواعدة على معناها وهي من الله الوعد، ومن موسى التلقي والاستجابة وإنجاز ما وعد الله.
توالت نعمة الله تعالى، ولكنهم فتنوا بما كان عليه المصريون الأقوياء، وكانوا هم الضعفاء، والضعيف دائما مأخوذ بتقليد القوي، فسرى ما عند الأقوياء، وهم قوم فرعون إلى الضعفاء، وكانوا يشعرون بالمذلة والاستكانة، وشعروا من بعد بأنهم ذلوا، فتابوا وتاب الله تعالى عليهم وعفا عنهم، وعدَّ الله تعالى ذلك عليهم نعمة، فقال تعالى:
________
(١) حرَّق الحديد حرقا: برده، يقال: حرقه بالمبرد. ويقال: هو يحرق عليه الأُرَّم: يحك أضراسه بعضها ببعض من الغيظ. [الوسيط - أرم - ح رق].
هذا خبر عبادتهم العجل، وكيف كانت وذلك لتأثرهم طريق المصريين، وسلوكهم طريق الأوهام التي سلكوها. وقوله: واعدنا موسى أربعين ليلة فيها قراءتان: إحداهما (وعدنا موسى)، والقراءة الأخرى: (واعدنا موسى)، وإن المواعدة لَا تكون إلا بين طرفين، وذلك بعيد عن الله تعالى، ولذا قيل إن معنى واعدنا ليس المفاعلة التي تكون بين طرفين، بل معناها وعدنا، وقد تستعمل: صيغة فاعل في غير معنى المفاعلة، كقولهم داويت العليل، وعالجت المريض، وعاقبت المجرم.
وعندي أن المواعدة على معناها وهي من الله الوعد، ومن موسى التلقي والاستجابة وإنجاز ما وعد الله.
توالت نعمة الله تعالى، ولكنهم فتنوا بما كان عليه المصريون الأقوياء، وكانوا هم الضعفاء، والضعيف دائما مأخوذ بتقليد القوي، فسرى ما عند الأقوياء، وهم قوم فرعون إلى الضعفاء، وكانوا يشعرون بالمذلة والاستكانة، وشعروا من بعد بأنهم ذلوا، فتابوا وتاب الله تعالى عليهم وعفا عنهم، وعدَّ الله تعالى ذلك عليهم نعمة، فقال تعالى:
________
(١) حرَّق الحديد حرقا: برده، يقال: حرقه بالمبرد. ويقال: هو يحرق عليه الأُرَّم: يحك أضراسه بعضها ببعض من الغيظ. [الوسيط - أرم - ح رق].
230
(ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢)
أي أن هذه الجريمة الكبرى، وهي الإشراك بالله تعالى ما كانت لتغفر، ولكن الله تعالى عفا عنها، والتعبير هنا بـ (ثُمَّ) الدالة على التراخي والبعد، لبيان بُعد ما كان منهم عن أن ينالوا من بعده عفو الله تعالى، ولكنه سبحانه وتعالى توَّاب رحيم وسعت رحمته كل شيء ما دامت التوبة قد حصلت.
أي أن هذه الجريمة الكبرى، وهي الإشراك بالله تعالى ما كانت لتغفر، ولكن الله تعالى عفا عنها، والتعبير هنا بـ (ثُمَّ) الدالة على التراخي والبعد، لبيان بُعد ما كان منهم عن أن ينالوا من بعده عفو الله تعالى، ولكنه سبحانه وتعالى توَّاب رحيم وسعت رحمته كل شيء ما دامت التوبة قد حصلت.
230
وهنا نجده سبحانه وتعالى عبر بالعفو، ولم يعبر بالغفران وقبول التوبة، وذلك لأن العفو يكون عما وقع بجهالة، وهم كانوا في حال جهالة، لتأثرهم بما كان عند المصريين من عادات جاهلية، ولأنهم خرجوا من ذل المعاصي إلى عزة الحق، فكان العفو أدنى إليهم، لأنهم كانوا في فتنة.
وقوله من بعد ذلك الكفران، والفتنة التي أضلتهم، فالإشارة إلى البعيد، لبعد ما ارتكبوا عن موجب العفو الذي نالوه، فهم كفروا كفرانًا مبينا، ولكن التوبة تجبُّ ما قبلها، ولم يكن الخطاب بالجمع لأن فتنة العجل لم تكن منهم أجمعين، بخلاف ما كان يسومهم به فرعون وآله من عذاب، فقد كان يعمهم، ولا يخص فريقا.
وقوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، لعل هنا للرجاء، والرجاء هنا من العبيد لَا من الله، والمعنى: عفونا عنكم لتكون حالكم حال الرجاء لشكر الله تعالى، فالرجاء لأمر يقع أو لَا يقع إنما هو من شأن الناس، ولا يمكن أن يكون من الله تعالى الذي يعلم ما يقع وما لَا يقع، ولا يغيب عن علمه شيء في الأرض، ولا في السماء، والله سميع عليم.
أو يكون الرجاء من الله تعالى، ويكون بمعنى الأمر، كما يقول السيد لخادمه فعلت معك كذا وكذا رجاء أن تعترف بالجميل، وتشكر لي حسن صنيعي، فهذا يكون حثا على فعل الجميل، بذكر موجبه، وعلى هذا المعنى تكون (لَعَلَّكُمْ) في مقام التعليل لوجوب الشكر، وتكون بمعنى: لكي تشكروا، إن كنتم لَا تكفرون بالنعمة، ولكن تشكرونها.
وبعد أن بين الله تعالى أنه سبحانه وتعالى عفا عنهم، مع عظيم ما ارتكبوا، وأنه سبحانه يدعوهم إلى شكره، وأن حالهم حال من يوجب على نفسه الشكر، بعد ذلك ذكر الله تعالى أنهم قد صاروا في منزلة ليست كمنزلة فرعون وقومه، وآله الذين ناصروه، ومالئوه في كفره، ولم يرشدوه أو يوجهوه إلى طريق الهداية؛ لأنهم ببعث
وقوله من بعد ذلك الكفران، والفتنة التي أضلتهم، فالإشارة إلى البعيد، لبعد ما ارتكبوا عن موجب العفو الذي نالوه، فهم كفروا كفرانًا مبينا، ولكن التوبة تجبُّ ما قبلها، ولم يكن الخطاب بالجمع لأن فتنة العجل لم تكن منهم أجمعين، بخلاف ما كان يسومهم به فرعون وآله من عذاب، فقد كان يعمهم، ولا يخص فريقا.
وقوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، لعل هنا للرجاء، والرجاء هنا من العبيد لَا من الله، والمعنى: عفونا عنكم لتكون حالكم حال الرجاء لشكر الله تعالى، فالرجاء لأمر يقع أو لَا يقع إنما هو من شأن الناس، ولا يمكن أن يكون من الله تعالى الذي يعلم ما يقع وما لَا يقع، ولا يغيب عن علمه شيء في الأرض، ولا في السماء، والله سميع عليم.
أو يكون الرجاء من الله تعالى، ويكون بمعنى الأمر، كما يقول السيد لخادمه فعلت معك كذا وكذا رجاء أن تعترف بالجميل، وتشكر لي حسن صنيعي، فهذا يكون حثا على فعل الجميل، بذكر موجبه، وعلى هذا المعنى تكون (لَعَلَّكُمْ) في مقام التعليل لوجوب الشكر، وتكون بمعنى: لكي تشكروا، إن كنتم لَا تكفرون بالنعمة، ولكن تشكرونها.
وبعد أن بين الله تعالى أنه سبحانه وتعالى عفا عنهم، مع عظيم ما ارتكبوا، وأنه سبحانه يدعوهم إلى شكره، وأن حالهم حال من يوجب على نفسه الشكر، بعد ذلك ذكر الله تعالى أنهم قد صاروا في منزلة ليست كمنزلة فرعون وقومه، وآله الذين ناصروه، ومالئوه في كفره، ولم يرشدوه أو يوجهوه إلى طريق الهداية؛ لأنهم ببعث
231
موسى عليه السلام إليهم، قد صاروا أهل كتاب، ولذا ذكرهم الله تعالي بنعمة النبوة فيهم فقال تعالى:
232
(وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ... (٥٣) يذكرهم الله تعالى بنعمه عليه بأن آتاه سبحانه وتعالى الكتاب، وهو التوراة، وفيها أحكام الله تعالى، وأنهم بها يخرجون من حكم الطاغوت الظالم الذي يسيطر عليه هوى فرعون وأوهامه والذي كان لَا يرعى في عذابكم عهدا ولا ذمة، ولا خلقا، ولا مراعاة، تخرجون من هذا إلى حكم الله تعالى بكتاب تتقيدون بأحكامه حكاما ومحكومين، فلا يفرط عليكم حالكم ولا يطغى كما كان بشأن في فرعون لعنه الله تعالى.
والفرقان هو الكتاب نفسه، وهو التوراة، فهي كتاب مكتوب لَا تخالف أحكامه، ومسجل عليكم، وهو ميثاق الله تعالى، وهو مع هذه الحال فارق بين الحق والباطل وحكم الله تعالى، وحكم فرعون، فالتعبير بالفرقان إشارة إلى أنه قد نزل عليهم ما هو مفرق بينهم، وبين ما كانوا فيه، فإذا كانت المعجزة الباهرة أن الله تعالى فرق لكم البحر فخرجتم، فقد فرق بينكم وبين طغيان فرعون بحكمه السماوي، الذي لَا يخالطه باطل ولا ظلم.
وإن هذا الكتاب هو سبيل هدايتكم، ولذا قال سبحانه لعلكم تهتدون، أي رجاء أن تهتدوا بهداية الله تعالى، فالرجاء منهم، أو الرجاء من الله تعالى على معنى أن حالهم فيما أنزل إليهم، وفيما جاءهم من الآيات حال من يرجون الهداية، أو أن ذلك أمر لهم بالهداية، وهم على رجاء منها.
* * *
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً
والفرقان هو الكتاب نفسه، وهو التوراة، فهي كتاب مكتوب لَا تخالف أحكامه، ومسجل عليكم، وهو ميثاق الله تعالى، وهو مع هذه الحال فارق بين الحق والباطل وحكم الله تعالى، وحكم فرعون، فالتعبير بالفرقان إشارة إلى أنه قد نزل عليهم ما هو مفرق بينهم، وبين ما كانوا فيه، فإذا كانت المعجزة الباهرة أن الله تعالى فرق لكم البحر فخرجتم، فقد فرق بينكم وبين طغيان فرعون بحكمه السماوي، الذي لَا يخالطه باطل ولا ظلم.
وإن هذا الكتاب هو سبيل هدايتكم، ولذا قال سبحانه لعلكم تهتدون، أي رجاء أن تهتدوا بهداية الله تعالى، فالرجاء منهم، أو الرجاء من الله تعالى على معنى أن حالهم فيما أنزل إليهم، وفيما جاءهم من الآيات حال من يرجون الهداية، أو أن ذلك أمر لهم بالهداية، وهم على رجاء منها.
* * *
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً
232
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧)
* * *
ذكرهم سبحانه وتعالى بعبادتهم في هذا النص الكريم، وهو
* * *
ذكرهم سبحانه وتعالى بعبادتهم في هذا النص الكريم، وهو
233
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ) وإذ هنا دالة على الوقت الماضي، والمعنى واذكروا ذلك الوقت، يأمر الحاضرين والماضين لأنهم أمة واحدة في ضلال الفكر، والكفر بالنعمة، اذكروا ذلك العمل الفاجر، وما جرى فيه من نسيان للحق والإيمان، واذكروا كيف كان ضلالكم باستهواء قوم فرعون، واذكروا الوقت الذي ناداكم فيه على أنكم قومه، وأنكم نابذتم الحق، واتبعتم الباطل، واذكروا وقت أن قال موسى لكم (يَا قَوْمِ) لأنهم قومه الذين ناصرهم وأيدهم، وأحبهم ولم يتركهم للظالمين، فالنداء بقوله (يَا قَوْمِ) إشارة إلى ما يربطه بهم من مودة ومناصرة، وتأييد، وإعزاز، وتنزيه لهم عن الباطل، فالقريب نداؤه محبوب ومجاب، ولقد منَّ الله تعالى على العرب أن بعث فيهم رسولا منهم، فقال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رحيمٌ).
ناداهم موسى: (يَا قَوْمِ إِنًّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ)، وهذا عتب رقيق لإثم قوي، ومعنى اتخاذ العجل أنهم عبدوه، وعبر سبحانه وتعالى عن عبادة العجل بانهم اتخذوه تنزها عن أن يقول أنهم عبدوه، لأن ما كان منهم وهمٌ باطل لَا يسمى عبادة في الحق، والقول الطيب، ولأنهم لم يعبدوه فقط، بل صنع بأيديهم، أو بأيدي بعضهم، وهو ما لَا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر فهذا كله يدل عليه كلمة اتخذوه.
ولقد أكد موسى نبي الله تعالى عليه السلام أنهم إذ اتخذوا العجل ظلموا أنفسهم، باتخاذهم العجل، أكد ذلك بـ " إن " الدالة على التوكيد، وظلمهم لأنفسهم
ناداهم موسى: (يَا قَوْمِ إِنًّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ)، وهذا عتب رقيق لإثم قوي، ومعنى اتخاذ العجل أنهم عبدوه، وعبر سبحانه وتعالى عن عبادة العجل بانهم اتخذوه تنزها عن أن يقول أنهم عبدوه، لأن ما كان منهم وهمٌ باطل لَا يسمى عبادة في الحق، والقول الطيب، ولأنهم لم يعبدوه فقط، بل صنع بأيديهم، أو بأيدي بعضهم، وهو ما لَا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر فهذا كله يدل عليه كلمة اتخذوه.
ولقد أكد موسى نبي الله تعالى عليه السلام أنهم إذ اتخذوا العجل ظلموا أنفسهم، باتخاذهم العجل، أكد ذلك بـ " إن " الدالة على التوكيد، وظلمهم لأنفسهم
233
بأن أضلوها عن الحق، ونوره ساطع بينهم إذ قد قامت لديهم البراهين على قدرة الله تعالى في ضرب البحر بعصا موسى، وانشقاقه، وفي نجاتهم من الذل، وظلموا أنفسهم بأن أعادوا إليها عهد الذل والضلال باتخاذهم العجل، كما كان يفعل الذين أذلوها، وظلموا أنفسهم بكفرهم بالله تعالى، وضلوا ضلالا بعيدًا.
هذه خطيئة ارتكبوها، ولا يكفرها إلا توبة نصوح يقومون بها، وقد بين لهم موسى الطريق للتوبة النصوح أو حقيقة التوبة النصوح، فقال تعالى: (فَتُوبوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتلُوا أَنفسَكمْ) الفاء في قوله تعالى: (فَتُوبُوا) هي فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كنتم قد ضللتم هذا الضلال وظلمتم أنفسكم ذلك الظلم فتوبوا إلى بارئكم أي فارجعوا إلى الله تعالى الذي خلقكم على غير مثال سبق، ومعنى " برأ " أبدع وأنشأ وجودكم، والتوبة رجوع إلى الحق، والتعبير بـ بارئكم يؤكد معنى ظلمهم لأنفسهم، لأنهم تركوا من خلقهم إلى ما خلقوه بأيديهم، وصنعوه تحت نظرهم، ولا يضرهم، ولا ينفعهم.
والطريق الذي بينه موسى هو قوله: (وفَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) أي فابخعوها واجعلوها مطية ذلولا للعقل والإرادة، واقطعوا شهواتها، والتعبير عن ذلك بقتل النفس، لأن النفس الفاجرة الضالة إذا فطمت عن الشهوات كأنها قتلت، وحلت محلها النفس الطاهرة اللوامة التي تقهر الشهوات قهرا، والشرور دائما من الأهواء والشهوات، وقد جاء في الأمثال عند أهل المعرفة: " من لم يعذب نفسه لم ينفعها، ومن لم يقتلها لم يحفظها " وتعذيب النفس الذي يريده أهل المعرفة هو فطمها عن الشهوات.
وقد أخذت الكثرة من المفسرين بظاهر اللفظ وهو القتل، ورووا في ذلك روايات عن بعض الصحابة لم يصح سندها، وبالأولى لم يصح كلام في نسبته إلى الرسول - ﷺ -
واستعمال القتل والبخع بالنسبة للنفوس، وإرادة غير الظاهر كثير في كلام العرب، وفي القرآن كقوله تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ ئفْسَكَ أَلَّا يَكونُوا مُؤْمِنِين).
هذه خطيئة ارتكبوها، ولا يكفرها إلا توبة نصوح يقومون بها، وقد بين لهم موسى الطريق للتوبة النصوح أو حقيقة التوبة النصوح، فقال تعالى: (فَتُوبوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتلُوا أَنفسَكمْ) الفاء في قوله تعالى: (فَتُوبُوا) هي فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كنتم قد ضللتم هذا الضلال وظلمتم أنفسكم ذلك الظلم فتوبوا إلى بارئكم أي فارجعوا إلى الله تعالى الذي خلقكم على غير مثال سبق، ومعنى " برأ " أبدع وأنشأ وجودكم، والتوبة رجوع إلى الحق، والتعبير بـ بارئكم يؤكد معنى ظلمهم لأنفسهم، لأنهم تركوا من خلقهم إلى ما خلقوه بأيديهم، وصنعوه تحت نظرهم، ولا يضرهم، ولا ينفعهم.
والطريق الذي بينه موسى هو قوله: (وفَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) أي فابخعوها واجعلوها مطية ذلولا للعقل والإرادة، واقطعوا شهواتها، والتعبير عن ذلك بقتل النفس، لأن النفس الفاجرة الضالة إذا فطمت عن الشهوات كأنها قتلت، وحلت محلها النفس الطاهرة اللوامة التي تقهر الشهوات قهرا، والشرور دائما من الأهواء والشهوات، وقد جاء في الأمثال عند أهل المعرفة: " من لم يعذب نفسه لم ينفعها، ومن لم يقتلها لم يحفظها " وتعذيب النفس الذي يريده أهل المعرفة هو فطمها عن الشهوات.
وقد أخذت الكثرة من المفسرين بظاهر اللفظ وهو القتل، ورووا في ذلك روايات عن بعض الصحابة لم يصح سندها، وبالأولى لم يصح كلام في نسبته إلى الرسول - ﷺ -
واستعمال القتل والبخع بالنسبة للنفوس، وإرادة غير الظاهر كثير في كلام العرب، وفي القرآن كقوله تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ ئفْسَكَ أَلَّا يَكونُوا مُؤْمِنِين).
234
وإن هذا النص الكريم يشير إلى أن التوبة النصوح التي يقبلها الله تعالى، ويغفر بها الذنوب توجب قهر الشهوات والأهواء وقتل منابعها في النفس.
وقد حثهم كليم الله تعالى على هذه التوبة النصوح، فقال: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ) الإشارة إلى بخع النفوس عن شهواتها وسد منابع الأهواء وقتل نوازع الشيطان الذي يوسوس في الصدور، وأشير بالبعيد لبعد ما بين التوبة ورياضة النفس على ترك الأهواء والضبط بالصبر، وقوة الإرادة المسيطرة القاهرة الطاهرة، وكان الخطاب بصيغة الجمع لأن الإشارة إلى عمل صدر منهم.
وقد أشار النص إلى قبول التوبة النصوح التي كانت على هذه الشاكلة فقال: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ). أي رجع سبحانه عليهم وقد طهرت نفوسهم وزكيت قلوبهم بالانخلاع عن الشهوات وقتلها، رجع عليهم سبحانه وتعالى بالغفران. وعبر سبحانه وتعالى بـ " على " للإشارة إلى علوه سبحانه وتعالى عليهم في كفرهم وتوبتهم، وأن ذلك لرحمته بهم، لَا لحاجته إلى طاعتهم، وقد ذيل الله سبحانه وتعالى بقوله: (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم). والتواب كثير قبول التوبة إذا قيل ذلك عن الله تعالى، أو كثير التوبة إذا قيل عن العبد، وتواب صيغة مبالغة من تائب، وتائب تطلق على التائب من الذنب، وتطلق على من يقبل التوبة، وهو الله سبحانه وتعالى، وهي هنا على هذا المعنى.
وقد اقترن وصف التواب بوصف الرحيم، لأن كليهما وصف لله تعالى، ولأن قبول التوبة من رحمة الله تعالى بعباده، ولقد قال: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى).
وقد أكد سبحانه اتصافه بهذين الوصفين اللذين كانا من فضل الله تعالى، ومنته، بصيغة المبالغة، وبالجملة الاسمية، وبالتأكيد بإنَّ - اللهم تب علينا وارحمنا.
يذكر الله سبحانه وتعالى النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل، وكفرهم بها، وبالله. ثم يذكر سبحانه تعنتهم في طلب الدليل رغم الآيات التي أراهم الله سبحانه وتعالى إياها، ولكن المتعنت لَا يقنعه الدليل مهما يكن باهرا ظاهرًا قاهرًا.
وقد حثهم كليم الله تعالى على هذه التوبة النصوح، فقال: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ) الإشارة إلى بخع النفوس عن شهواتها وسد منابع الأهواء وقتل نوازع الشيطان الذي يوسوس في الصدور، وأشير بالبعيد لبعد ما بين التوبة ورياضة النفس على ترك الأهواء والضبط بالصبر، وقوة الإرادة المسيطرة القاهرة الطاهرة، وكان الخطاب بصيغة الجمع لأن الإشارة إلى عمل صدر منهم.
وقد أشار النص إلى قبول التوبة النصوح التي كانت على هذه الشاكلة فقال: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ). أي رجع سبحانه عليهم وقد طهرت نفوسهم وزكيت قلوبهم بالانخلاع عن الشهوات وقتلها، رجع عليهم سبحانه وتعالى بالغفران. وعبر سبحانه وتعالى بـ " على " للإشارة إلى علوه سبحانه وتعالى عليهم في كفرهم وتوبتهم، وأن ذلك لرحمته بهم، لَا لحاجته إلى طاعتهم، وقد ذيل الله سبحانه وتعالى بقوله: (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم). والتواب كثير قبول التوبة إذا قيل ذلك عن الله تعالى، أو كثير التوبة إذا قيل عن العبد، وتواب صيغة مبالغة من تائب، وتائب تطلق على التائب من الذنب، وتطلق على من يقبل التوبة، وهو الله سبحانه وتعالى، وهي هنا على هذا المعنى.
وقد اقترن وصف التواب بوصف الرحيم، لأن كليهما وصف لله تعالى، ولأن قبول التوبة من رحمة الله تعالى بعباده، ولقد قال: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى).
وقد أكد سبحانه اتصافه بهذين الوصفين اللذين كانا من فضل الله تعالى، ومنته، بصيغة المبالغة، وبالجملة الاسمية، وبالتأكيد بإنَّ - اللهم تب علينا وارحمنا.
يذكر الله سبحانه وتعالى النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل، وكفرهم بها، وبالله. ثم يذكر سبحانه تعنتهم في طلب الدليل رغم الآيات التي أراهم الله سبحانه وتعالى إياها، ولكن المتعنت لَا يقنعه الدليل مهما يكن باهرا ظاهرًا قاهرًا.
235
ولذا طلبوا عنتا وانحرافا وجهلا أن يروا الله تعالى جهرة، وقد ذكر الله تعالى ذلك مبينا تعنتهم، وتدللهم في كفرهم:
236
(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً... (٥٥) أي اذكروا أيها الحاضرون في عهد النبي محمد - ﷺ - ما فعلتموه، وخاطبهم هم بذلك مع أن الذي فعله أسلافهم؛ لأنهم يسيرون سيرهم، ويفترون ويغترون مثلهم.
اذكروا ذلك الوقت الذي قلتم فيه ذلك، وليس غريبا أن تقولوه الآن، قالوا لموسى: (لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) أي لن نؤمن مسلمين لك، مستجيبين لما تدعونا إليه، حتى نرى الله جهرة، أي حتى نرى الله تعالى رأي العين، ولن لتأكيد النفي في المستقبل، وقيل لتأبيد النفي، والزمخشري وسائر المعتزلة يرون أنها دالة على الاستحالة، أي استحالة استجابتهم حتى يروا الله عيانا، ولقد ضاهى قولهم هذا قول المشركين.
وإن الله تعالى لَا يرى في الدنيا بإجماع العلماء قط؛ لأن رؤية الدنيا تقتضي مكانا والله سبحانه وتعالى منزه عن المكان، والأمر في الآخرة أمر الله تعالى لا نعلمه إلا منه، وهو عالم الغيب والشهادة، وقد أجابهم موسى إلى ما يريدون فطلب من الله تعالى أن يراه، ويروه، كما ذكر تعالى أن ذلك لَا يمكن في سورة الأعراف، فلما تجلى ربهم أصابتهم الصاعقة، فقال تعالى: (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ). وقد فصل الله سبحانه وتعالى مسألة الرؤية وطلب موسى عليه السلام، فقال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣).
لما طلب بنو إسرائيل رؤية الله تعالى جهرة أي عيانا، طلب موسى ذلك من الله تعالى ليروا ما رآه، وليعلموا ما علم، وقيل إن الذين طلبوا ذلك هم السبعون الذين اختارهم موسى ليكونوا معه عندما واعده الله لميقاته الذين قال الله تعالى فيهم: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا...)، فهم الذين
اذكروا ذلك الوقت الذي قلتم فيه ذلك، وليس غريبا أن تقولوه الآن، قالوا لموسى: (لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) أي لن نؤمن مسلمين لك، مستجيبين لما تدعونا إليه، حتى نرى الله جهرة، أي حتى نرى الله تعالى رأي العين، ولن لتأكيد النفي في المستقبل، وقيل لتأبيد النفي، والزمخشري وسائر المعتزلة يرون أنها دالة على الاستحالة، أي استحالة استجابتهم حتى يروا الله عيانا، ولقد ضاهى قولهم هذا قول المشركين.
وإن الله تعالى لَا يرى في الدنيا بإجماع العلماء قط؛ لأن رؤية الدنيا تقتضي مكانا والله سبحانه وتعالى منزه عن المكان، والأمر في الآخرة أمر الله تعالى لا نعلمه إلا منه، وهو عالم الغيب والشهادة، وقد أجابهم موسى إلى ما يريدون فطلب من الله تعالى أن يراه، ويروه، كما ذكر تعالى أن ذلك لَا يمكن في سورة الأعراف، فلما تجلى ربهم أصابتهم الصاعقة، فقال تعالى: (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ). وقد فصل الله سبحانه وتعالى مسألة الرؤية وطلب موسى عليه السلام، فقال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣).
لما طلب بنو إسرائيل رؤية الله تعالى جهرة أي عيانا، طلب موسى ذلك من الله تعالى ليروا ما رآه، وليعلموا ما علم، وقيل إن الذين طلبوا ذلك هم السبعون الذين اختارهم موسى ليكونوا معه عندما واعده الله لميقاته الذين قال الله تعالى فيهم: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا...)، فهم الذين
236
حملوا موسى على أن يطلب رؤية ربه فطلبها عليه الصلاة والسلام، ومهما يكن الطالبون فإن رؤية الله تعالى مستحيلة في الدنيا، على ما أشرنا.
والصاعقة الأمر الشديد الهائل الذي ينزل من السماء نارا، أو الذي يدك الجبال دكا، وقد يترتب عليه أن يصعق الإحساس فيغشى على من يراه.
ومعنى قوله تعالى: (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) أي أخذت ألبابهم، ونفوسهم فلم يشعروا وهم ينظرون إليها، وقد أذهلتهم وذهبت بمشاعرهم فصعقوا كما صعق موسى إذ قال تعالى: (وَخَرَّ موسَى صَقًا...).
وعلى ذلك يكون معنى أخذتهم الصاعقة أنهم غشيعليهم كما يدل على ذلك ما كان لموسى عليه السلام. ونرى أن القرآن يفسر بعضه بعضا ويبين بعضه الدلالة الواضحة لبعضه، تعالى كلام الله سبحانه وتعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا).
وقوله تعالى: (وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) أي ينظرون إلى الأمر الذي هز مشاعرهم من دك الجبال دكا، وهول ما وقع نتيجة لما طلبوا، ثم قوله تعالى:
والصاعقة الأمر الشديد الهائل الذي ينزل من السماء نارا، أو الذي يدك الجبال دكا، وقد يترتب عليه أن يصعق الإحساس فيغشى على من يراه.
ومعنى قوله تعالى: (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) أي أخذت ألبابهم، ونفوسهم فلم يشعروا وهم ينظرون إليها، وقد أذهلتهم وذهبت بمشاعرهم فصعقوا كما صعق موسى إذ قال تعالى: (وَخَرَّ موسَى صَقًا...).
وعلى ذلك يكون معنى أخذتهم الصاعقة أنهم غشيعليهم كما يدل على ذلك ما كان لموسى عليه السلام. ونرى أن القرآن يفسر بعضه بعضا ويبين بعضه الدلالة الواضحة لبعضه، تعالى كلام الله سبحانه وتعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا).
وقوله تعالى: (وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) أي ينظرون إلى الأمر الذي هز مشاعرهم من دك الجبال دكا، وهول ما وقع نتيجة لما طلبوا، ثم قوله تعالى:
237
(ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦)
أصل البعث هو الإثارة، جاء في مفردات الراغب الأصفهاني: " أصل البعث إثارة الشيء وتوجيهه، يقال بعثته فانبعث، ويختلف البعث بحسب اختلاف ما علق به، فبعثت البعير أثرته وسيَّرته، وقوله تعالى: (يَبْعَثُهُمُ) يخرجهم ويسيرهم إلى يوم القيامة.
وموتهم هنا هو ما غشيهم، وفقدوا به إحساسهم، وعبر عنه بالموت، لأنه يشبه الموت من حيث إنهم فقدوا شعورهم وأصبحوا لَا يحسون شيئا.
ومعنى قوله تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) أي أثرناهم، وحركناهم، وأوجدنا فيهم الإحساس. والتعبير بـ " ثم " للإشارة إلى البعد بين حالهم، وهم أشباه الموتى بما صعقهم من غاشية، وما آلوا إليه من شعور بالحياة والحركة.. ، وقد فقدوا ذلك، بسوء ما طلبوا، وعدم فهمهم. والله تعالى ولي المؤمنين.
أصل البعث هو الإثارة، جاء في مفردات الراغب الأصفهاني: " أصل البعث إثارة الشيء وتوجيهه، يقال بعثته فانبعث، ويختلف البعث بحسب اختلاف ما علق به، فبعثت البعير أثرته وسيَّرته، وقوله تعالى: (يَبْعَثُهُمُ) يخرجهم ويسيرهم إلى يوم القيامة.
وموتهم هنا هو ما غشيهم، وفقدوا به إحساسهم، وعبر عنه بالموت، لأنه يشبه الموت من حيث إنهم فقدوا شعورهم وأصبحوا لَا يحسون شيئا.
ومعنى قوله تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) أي أثرناهم، وحركناهم، وأوجدنا فيهم الإحساس. والتعبير بـ " ثم " للإشارة إلى البعد بين حالهم، وهم أشباه الموتى بما صعقهم من غاشية، وما آلوا إليه من شعور بالحياة والحركة.. ، وقد فقدوا ذلك، بسوء ما طلبوا، وعدم فهمهم. والله تعالى ولي المؤمنين.
237
وإن ذلك يقتضي شكرهم، لأنه كان قادرا على تركهم فيما آل إليه أمرهم ولذا قال تعالى: (ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي رجاء أن تشكروا، فالرجاء منهم لَا من الله تعالى.
بعد أن بعثهم الله تعالى، أو كان ذلك مقارنا لخروجهم من مصر، وهو الظاهر، لأن هذه النعم، وما كان منهم من حوادث جاء بعد أن أنجاهم الله تعالى من آل فرعون، وفرق البحر بهم، والواو لَا تقتضي ترتيبا، ولا تعقيبا، لقد انتقلوا من الوادي الخصيب إلى صحراء تلفح الوجوه، وليس فيها ظل ولا ظليل، ولكن الله تعالى لم يتركهم في حرور الصحراء وجردائها بل أظلهم بالغمام، وأمدهم بأطيب الطعام، وأبركه، فقال تعالى مبينا هذه النعمة:
بعد أن بعثهم الله تعالى، أو كان ذلك مقارنا لخروجهم من مصر، وهو الظاهر، لأن هذه النعم، وما كان منهم من حوادث جاء بعد أن أنجاهم الله تعالى من آل فرعون، وفرق البحر بهم، والواو لَا تقتضي ترتيبا، ولا تعقيبا، لقد انتقلوا من الوادي الخصيب إلى صحراء تلفح الوجوه، وليس فيها ظل ولا ظليل، ولكن الله تعالى لم يتركهم في حرور الصحراء وجردائها بل أظلهم بالغمام، وأمدهم بأطيب الطعام، وأبركه، فقال تعالى مبينا هذه النعمة:
238
(وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى... (٥٧)
أي جعلنا الغمام، وهو السحاب الشديد العتمة، اسم جنس جمعي للغمامة، واسم الجنس الجمعي هو الذي يفرق بينه وبين مفرده بالتاء المربوطة أو ياء النسب، مثل روم ورومي.
تكاثف الغمام في الصحراء، حتى صار كمظلة تظلهم أينما ساروا فلا يحسون بوهج الحر يلفح وجوههم، وقد شكوا من حر الشمس والجوع، فأنزل الله تعالى رزقا طيبا: المن والسلوى.
والمن كان بدل الخبز، وقد أصبحوا فوجدوه في الأرض صغيرا كحب الجزرة، وكانوا يتناولونه كالرقاق التي اختلطت بعسل فالتقى فيه خواص الدقيق والعسل معا، وسبحان الرزاق العليم، فكان خبزهم، فالمن على ذلك غذاء جيد ينزل من السماء ويبسط على الأرض فيه خواص الدقيق والعسل معا.
والسلوى طير، كان يجيء إليهم يطير على مقدار رمح من الأرض أو يزيد قليلا، فيأخذونه باليد من غير صيد أو أي محاولة، وبذلك اجتمع لديهم كل عناصر الغذاء الكامل، من غير كَدٍّ، ولا لُغُوب.
أي جعلنا الغمام، وهو السحاب الشديد العتمة، اسم جنس جمعي للغمامة، واسم الجنس الجمعي هو الذي يفرق بينه وبين مفرده بالتاء المربوطة أو ياء النسب، مثل روم ورومي.
تكاثف الغمام في الصحراء، حتى صار كمظلة تظلهم أينما ساروا فلا يحسون بوهج الحر يلفح وجوههم، وقد شكوا من حر الشمس والجوع، فأنزل الله تعالى رزقا طيبا: المن والسلوى.
والمن كان بدل الخبز، وقد أصبحوا فوجدوه في الأرض صغيرا كحب الجزرة، وكانوا يتناولونه كالرقاق التي اختلطت بعسل فالتقى فيه خواص الدقيق والعسل معا، وسبحان الرزاق العليم، فكان خبزهم، فالمن على ذلك غذاء جيد ينزل من السماء ويبسط على الأرض فيه خواص الدقيق والعسل معا.
والسلوى طير، كان يجيء إليهم يطير على مقدار رمح من الأرض أو يزيد قليلا، فيأخذونه باليد من غير صيد أو أي محاولة، وبذلك اجتمع لديهم كل عناصر الغذاء الكامل، من غير كَدٍّ، ولا لُغُوب.
238
وعبر الله سبحانه وتعالى عن ذلك الرزق الذي رزقهم الله تعالى إياه بقوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى) لأنه ما كان بكسب كسبوه، ولكنه رزق الله تعالى من السماء أنزله إليهم لتطيب إقامتهم في الصحراء، حتى يقضي الله تعالى أمره فيهم، فالإنزال معنوي لأنه بأمر الله تعالى لطفًا بهم ورحمة، وليكون ذلك معجزة فوق المعجزات التي توالت عليهم، ومع ذلك جحدوا بآيات ربهم، ولقد قرر الله سبحانه وتعالى أنه مكّن لهم ذلك تمكينا، فقال سبحانه: (كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) وقد وصف الله سبحانه وتعالى ذلك الطعام بأنه طيب، والطعام الطيب هو الذي تشتهيه النفس، ويكون مريئًا لَا يضر ولا يعاف، و (مِن) في قوله تعالى: (مِن طَيبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) هي للتبعيض باعتبار أنهم يأكلون منه ما يشتهون وما يطيقون غير مدخرين، لأنهم يجدون ما رزقهم الله تعالى مجددا دائما، ويذكر في بعض الكتب أنهم كانوا يأكلون رزق كل يوم، وقد أمروا بذلك لأنه يفسد في اليوم التالي ويجيء الجديد ليحل محل الفاسد (١).
ويحتمل أن تكون " مِنْ " بيانية، ويكون المعنى كلوا طيبات ما رزقناكم، وعلى التقديرين يتحقق وصف الطيبات، وذكر سبحانه أنه رزق خالص من الله جاءهم من غير جهد ولا نصب، بل هو رزق الله تعالى ساقه إليهم سبحانه وتعالى.
وأنهم بتوافر هذه النعم التي منحها الله سبحانه وتعالى لهم، إذا هم جحدوا آياته، وأعرضوا عن بيناته.. ما كان سبحانه وتعالى إلا منعما عليهم إذ أنجاهم من ظلم فرعون وإذلاله، وبعد أن كانوا مستضعفين مكن الله لهم في الأرض، ومنَّ عليهم، وكلما شكوا أمدهم الله تعالى بعونه، وسهل لهم الحياة العزيزة الكريمة المنيعة.
________
(١) روى البخاري (٣٠٨٣) ومسلم (٢٦٧٤) عَنْ أبِى هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النبِي - ﷺ -: " لَوْلا بَنُو إِسْرَائيلَ لَمْ يَخْنَزْ اللَّحْمُ " قال الحافظ ابن حجر في الفتح: قَوْلُهُ: " لَوْلا بَنُو إِسْرَائيل لَمْ يَخْنَز اللَّحْم " يَخْنَز بفَتْح أوّله وَسكُون الْخَاء وَكَسْر النون وَبِفَتْحِهَا أيْضًا بَعْدهَا زَاي أيْ يُنْتِن، وَالْخَنَز التَّغَير وَالنَّتْنُ.
ويحتمل أن تكون " مِنْ " بيانية، ويكون المعنى كلوا طيبات ما رزقناكم، وعلى التقديرين يتحقق وصف الطيبات، وذكر سبحانه أنه رزق خالص من الله جاءهم من غير جهد ولا نصب، بل هو رزق الله تعالى ساقه إليهم سبحانه وتعالى.
وأنهم بتوافر هذه النعم التي منحها الله سبحانه وتعالى لهم، إذا هم جحدوا آياته، وأعرضوا عن بيناته.. ما كان سبحانه وتعالى إلا منعما عليهم إذ أنجاهم من ظلم فرعون وإذلاله، وبعد أن كانوا مستضعفين مكن الله لهم في الأرض، ومنَّ عليهم، وكلما شكوا أمدهم الله تعالى بعونه، وسهل لهم الحياة العزيزة الكريمة المنيعة.
________
(١) روى البخاري (٣٠٨٣) ومسلم (٢٦٧٤) عَنْ أبِى هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النبِي - ﷺ -: " لَوْلا بَنُو إِسْرَائيلَ لَمْ يَخْنَزْ اللَّحْمُ " قال الحافظ ابن حجر في الفتح: قَوْلُهُ: " لَوْلا بَنُو إِسْرَائيل لَمْ يَخْنَز اللَّحْم " يَخْنَز بفَتْح أوّله وَسكُون الْخَاء وَكَسْر النون وَبِفَتْحِهَا أيْضًا بَعْدهَا زَاي أيْ يُنْتِن، وَالْخَنَز التَّغَير وَالنَّتْنُ.
239
(وَمَا ظَلَمُونَا) ما نقصهم سبحانه وتعالى شيئا من أسباب الحياة والقوة والسلطان، ولكنهم جحدوا شكر ما أنعم الله تعالى به عليهم، فكفروه، فكانوا هم الظالمين لأنفسهم؛ ولذا قال تعالى: (وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وأكد الله سبحانه وتعالى عليهم أنهم هم الظالمون لأنفسهم وذلك بالاستدراك في قوله: (وَلَكِن) إذ معنى الاستدراك عن ظلم الله تعالى لهم بيان أن ظلمهم لأنفسهم كان منهم لَا من الله سبحانه وتعالى، وأكده بالتعبير بـ (كَانُوا) وهي تدل على الاستمرار، كما نوهنا بذلك مرارا، وأكده سبحانه وتعالى بتقديم (أَنفُسَهُمْ) لأن التقديم يدل على الاختصاص، أي أنهم بهذا الجحود يظلمون أنفسهم، ولا يتجاوز ظلمهم أنفسهم إليَّ؛ فهم يظلمون أنفسهم وحدها.
وظلمهم أنفسهم، لأن الكفر ظلم للنفس، إذ هو ضلال في ذاته، وأي ظلم للنفس أشد من تدليتها في الضلال؟! وكفروا بأنعم الله تعالى، وذلك ظلم كبير واقع عليهم.
* * *
(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩)
* * *
كان بنو إسرائيل يعيشون في صحراء سيناء مع موسى عليه السلام، وقد أنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى، فأكلوا منها رزقا طيبا، وما كان يمكن أن يبقى ذلك رزقا دائما، وإن كان ذلك ممكنا سائغا في ذاته، ولكن لأنهم بَرِمون متململون مما يرزقهم الله تعالى رتيبا مستمرا، بل إنهم يطلبون التغيير.
وظلمهم أنفسهم، لأن الكفر ظلم للنفس، إذ هو ضلال في ذاته، وأي ظلم للنفس أشد من تدليتها في الضلال؟! وكفروا بأنعم الله تعالى، وذلك ظلم كبير واقع عليهم.
* * *
(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩)
* * *
كان بنو إسرائيل يعيشون في صحراء سيناء مع موسى عليه السلام، وقد أنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى، فأكلوا منها رزقا طيبا، وما كان يمكن أن يبقى ذلك رزقا دائما، وإن كان ذلك ممكنا سائغا في ذاته، ولكن لأنهم بَرِمون متململون مما يرزقهم الله تعالى رتيبا مستمرا، بل إنهم يطلبون التغيير.
240
والقرية هي المدينة العظيمة الجامعة لعدد كبير من السكان، من قَرَى بمعنى جمع، ولذلك أطلق على مكة أنها قرية وأم القرى، ولم يبين القرآن الكريم ما هي هذه القرية، لم يرد في القرآن ما يبين عين هذه القرية أهي الأرض المقدسة أم هي قرية قريبة أمرهم موسى بالدخول فيها، وإن الذي نفهمه من النص والسياق أنها قرية ليست بعيدة عن صحراء سيناء، وأن ذلك في عهد موسى عليه السلام.
أما أنها قريبة ليست بعيدة فقد أخذناه من الإشارة، فقد أشير إليها بالإشارة الدالة على القرب، وهي " هذه "، فهي لابد أن تكون قريبة، والنص يدل على أنهم دخلوها، وقد عصوا أمر ربهم الذي أمر به عند دخولهم.
وأما أنها كانت في عهد موسى عليه السلام، ولم يكن قد فارقهم بالموت، فإن ذلك يثبت من سياق القول، لأن موسى عليه السلام من قبل الأمر بالدخول كان هو الذي يخاطبهم بأمر الله تعالى، ومن بعد الأمر بالدخول هو الذي كان يخاطبهم ويخاطبونه، فلم يكن من مقتضى ذلك أن يكون الدخول، وقد انقضى عهد موسى عليه السلام، وجاء غيره.
وعلى ذلك نقول إن الله سبحانه وتعالى أَبْهم ذكر هذه القرية، ولا نتعرض لبيان ما أبهمه الله تعالى، ولم يذكره نبيه - ﷺ -، ولم يثبت قول عن أصحابه الذين تلقوا عن رسول الله - ﷺ - علم النبوة ليبلغوه للناس، وإن القول في هذه القرية ما هي؟ داخل في النهي في قوله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ...).
ولكن قال بعض العلماء إنها أريحا، أو بعض بلاد في الأردن، ورجح الأكثرون وقالوا إنه القول الصحيح، أنها بيت المقدس التي كتب الله تعالى لهم أن يدخلوا، وقالوا إن ذلك ذكر في القرآن في سورة المائدة، إذ قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (٢٠) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (٢١) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ
أما أنها قريبة ليست بعيدة فقد أخذناه من الإشارة، فقد أشير إليها بالإشارة الدالة على القرب، وهي " هذه "، فهي لابد أن تكون قريبة، والنص يدل على أنهم دخلوها، وقد عصوا أمر ربهم الذي أمر به عند دخولهم.
وأما أنها كانت في عهد موسى عليه السلام، ولم يكن قد فارقهم بالموت، فإن ذلك يثبت من سياق القول، لأن موسى عليه السلام من قبل الأمر بالدخول كان هو الذي يخاطبهم بأمر الله تعالى، ومن بعد الأمر بالدخول هو الذي كان يخاطبهم ويخاطبونه، فلم يكن من مقتضى ذلك أن يكون الدخول، وقد انقضى عهد موسى عليه السلام، وجاء غيره.
وعلى ذلك نقول إن الله سبحانه وتعالى أَبْهم ذكر هذه القرية، ولا نتعرض لبيان ما أبهمه الله تعالى، ولم يذكره نبيه - ﷺ -، ولم يثبت قول عن أصحابه الذين تلقوا عن رسول الله - ﷺ - علم النبوة ليبلغوه للناس، وإن القول في هذه القرية ما هي؟ داخل في النهي في قوله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ...).
ولكن قال بعض العلماء إنها أريحا، أو بعض بلاد في الأردن، ورجح الأكثرون وقالوا إنه القول الصحيح، أنها بيت المقدس التي كتب الله تعالى لهم أن يدخلوا، وقالوا إن ذلك ذكر في القرآن في سورة المائدة، إذ قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (٢٠) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (٢١) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ
241
نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (٢٢) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (٢٤) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٢٥) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٢٦)
* * *
وإني وإن كنت لَا يمكنني أن أعيّن قرية بعينها، فإني لَا أختار أنها الأرض المقدسة، وذلك لأن الإشارة إلى القرية كانت إلى قرية قريبة، ولأن الأرض المقدسة لا تذكر بهذا الإبهام المستغرق، ولأن ما حدث منهم من تبديل القول يدل على قرب عهدهم بالكفر، وأنه لم يكن التيه الذي يقوى شكيمتهم، ولأنه إذا كانت بيت المقدس، فإن دخولهم فيها بعد التيه كان على يد سيدنا يوشع عليه السلام.
وإننا ننتهي إلى هذه القرية، وليست في هذه القرية عبرة خاصة توجب معرفتها إذا كانت القرية، إنما يكفي في التعريف بها أنها كانت ذات رزق راغد، وعيش واسع؛ ولذلك قال تعالى:
* * *
وإني وإن كنت لَا يمكنني أن أعيّن قرية بعينها، فإني لَا أختار أنها الأرض المقدسة، وذلك لأن الإشارة إلى القرية كانت إلى قرية قريبة، ولأن الأرض المقدسة لا تذكر بهذا الإبهام المستغرق، ولأن ما حدث منهم من تبديل القول يدل على قرب عهدهم بالكفر، وأنه لم يكن التيه الذي يقوى شكيمتهم، ولأنه إذا كانت بيت المقدس، فإن دخولهم فيها بعد التيه كان على يد سيدنا يوشع عليه السلام.
وإننا ننتهي إلى هذه القرية، وليست في هذه القرية عبرة خاصة توجب معرفتها إذا كانت القرية، إنما يكفي في التعريف بها أنها كانت ذات رزق راغد، وعيش واسع؛ ولذلك قال تعالى:
242
(فَكُلُوا مِنْهَا حَيثُ شِئْتُمْ رَغَدًا) أي فكلوا أيَّ أكلٍ تشاءونه رغدا في هذه القرية، فلا تقتصروا على المن والسلوى، كما أنزل الله تعالى رحمة بكم، وهما أطيب الطعام وأشهاه وأمرؤه، وأهنؤه، كلوا أي أكل شئتم من الحلال رغدا واسعا كثيرا.
ثم أمرهم سبحانه أن يدخلوا الباب لهذه القرية خاشعين خاضعين شاكرين لنعمة الله تعالى التي أنعم بها عليهم طالبين غفران خطاياهم، فقال تعالى: (وَادْخلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) أي ساجدين شكرا لله تعالى على ما أنعم به عليكم وأن أخرجكم من الظلمات إلى النور، ومن الذل إلى العزة، ومن الظلم المرهق إلى العدل المنصف، وأن أعطاكم ما تحبون من طيب العيش، وما تشتهون من حلال.
(وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي حط عنا ذنوبنا، وتغمدنا برحمتك والتوبة إليك، وإن الله رتب على خضوعهم، وشكرهم لنعمة الله تعالى، وطلبهم من الله تعالى أن يحط
ثم أمرهم سبحانه أن يدخلوا الباب لهذه القرية خاشعين خاضعين شاكرين لنعمة الله تعالى التي أنعم بها عليهم طالبين غفران خطاياهم، فقال تعالى: (وَادْخلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) أي ساجدين شكرا لله تعالى على ما أنعم به عليكم وأن أخرجكم من الظلمات إلى النور، ومن الذل إلى العزة، ومن الظلم المرهق إلى العدل المنصف، وأن أعطاكم ما تحبون من طيب العيش، وما تشتهون من حلال.
(وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي حط عنا ذنوبنا، وتغمدنا برحمتك والتوبة إليك، وإن الله رتب على خضوعهم، وشكرهم لنعمة الله تعالى، وطلبهم من الله تعالى أن يحط
242
عنهم ذنوبهم، ويخلعوها متبرئين، ويتطهروا، رتب على ذلك غفران خطاياهم فقال تعالى: (نَّغْفِرْ لَكمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ).
ومعنى نغفر لكم أي نستر ذنوبكم ثم نرفعها عنكم، ووعد الله تعالى بأنه سيزيد المحسنين خيرا وبركة، والمحسن هو من أتقن وأجاد فعل الخير، والمعنى أن الله تعالى يغفر لهم ما ارتكبوا من آثام كبيرة كانوا قد تعودوها حتى صارت خطايا، يغفرها، سبحانه وتعالى، ثم وعد سبحانه ووعده الحق أنه سيزيد المحسنين، وينعم عليهم بالتوفيق إذا تابوا وآمنوا، ويجزيهم أحسن الجزاء.
والخطايا جمع خطيئة، وهي الذنوب التي تتكاثر، حتى يفعل الذنب، وكأنه يِقع منه من غير قصد إليه لتمرسه به، وقساوة نفسه وقلبه، كما قال تعالى: (بَلَى من كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). ويقول الخليل بن أحمد في تصريف خطايا إنها جمع خطيئة، أصلها خطائي، ثم قلبت الياء ألفا، كما قلبت في قوله تعالى: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ...)، فصارت خطاءا، ثم قلبت الهمزة ياء لأنها صارت بين ألفين، وذلك تسهيل في النطق.
هذا ما أمرهم ربهم، أمرهم بالدخول خاشعين ساجدين، وأن يقولوا حطة أي حط عنا ذنوبنا، ولكنهم وقد تعودوا المعصية وألفوها: غيروا الألفاظ، وبدلوها إلى ألفاظ تدل على نقيض معناها، وكذلك دائما شأن العصاة المذنبين وخصوصا بني إسرائيل؛ ولذلك قال الله تعالى:
ومعنى نغفر لكم أي نستر ذنوبكم ثم نرفعها عنكم، ووعد الله تعالى بأنه سيزيد المحسنين خيرا وبركة، والمحسن هو من أتقن وأجاد فعل الخير، والمعنى أن الله تعالى يغفر لهم ما ارتكبوا من آثام كبيرة كانوا قد تعودوها حتى صارت خطايا، يغفرها، سبحانه وتعالى، ثم وعد سبحانه ووعده الحق أنه سيزيد المحسنين، وينعم عليهم بالتوفيق إذا تابوا وآمنوا، ويجزيهم أحسن الجزاء.
والخطايا جمع خطيئة، وهي الذنوب التي تتكاثر، حتى يفعل الذنب، وكأنه يِقع منه من غير قصد إليه لتمرسه به، وقساوة نفسه وقلبه، كما قال تعالى: (بَلَى من كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). ويقول الخليل بن أحمد في تصريف خطايا إنها جمع خطيئة، أصلها خطائي، ثم قلبت الياء ألفا، كما قلبت في قوله تعالى: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ...)، فصارت خطاءا، ثم قلبت الهمزة ياء لأنها صارت بين ألفين، وذلك تسهيل في النطق.
هذا ما أمرهم ربهم، أمرهم بالدخول خاشعين ساجدين، وأن يقولوا حطة أي حط عنا ذنوبنا، ولكنهم وقد تعودوا المعصية وألفوها: غيروا الألفاظ، وبدلوها إلى ألفاظ تدل على نقيض معناها، وكذلك دائما شأن العصاة المذنبين وخصوصا بني إسرائيل؛ ولذلك قال الله تعالى:
243
(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الذِي قِيلَ لَهُمْ... (٥٩)
لقد قيل لهم قولوا حطة أي حطَّ عنا ياربنا ذنوبنا، ولا تعذبنا بما فعلنا واعف عنا، بدلوا هذه الكلمة الضارعة الخاشعة إلى كلمة أخرى قريبة اللفظ ولكن فيها معنى مغاير، فقالوا: (حنطة) أي أنهم بدل أن يتوجهوا إلى الله تعالى بالضراعة توجهوا إليه بطلب المادة، والحنطة هي القمح، يتركون الضراعة التي هي نعمة التقوى إلى طلب القوت، وفي ذلك عدول عن إرضاء الله تعالى إلى طلب ما يرضي أهواءهم،
لقد قيل لهم قولوا حطة أي حطَّ عنا ياربنا ذنوبنا، ولا تعذبنا بما فعلنا واعف عنا، بدلوا هذه الكلمة الضارعة الخاشعة إلى كلمة أخرى قريبة اللفظ ولكن فيها معنى مغاير، فقالوا: (حنطة) أي أنهم بدل أن يتوجهوا إلى الله تعالى بالضراعة توجهوا إليه بطلب المادة، والحنطة هي القمح، يتركون الضراعة التي هي نعمة التقوى إلى طلب القوت، وفي ذلك عدول عن إرضاء الله تعالى إلى طلب ما يرضي أهواءهم،
243
ويشبع شهوات بطونهم، وفوق ذلك فيه تلاعب بأمر الله تعالى ونهيه، واستهزاء بأوامر ربهم، وتحريف للقول عن مواضعه، كما فعلوا من بعد موسى عليه السلام، إذ حرفوا القول عن مواضعه، وضلوا ضلالا بعيدا. وذكر الله تعالى الموصول، فقال: (الَّذِينَ ظَلَمُوا)، فأظهر في موضع الإضمار للإشارة إلى أن الدافع لهم على التغيير والتبديل في أمر الله تعالى أو نهيه هو ظلمهم وإلحادهم في دين الله تعالى.
وقد عاقبهم الله تعالى فأنزل العذاب بهم فقال تعالى: (فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسقُونَ) الرجز هو العذاب، أو هو الرجس، والرجز قاذورات النفوس وفسادها، وقد أصابهم الله تعالى بالأمرين ففسدت نفوسهم إلا أن يتوبوا، وأنزل الله تعالى عذابه بهم إذ جعلهم أذلاء مستضعفين في الأرض إلا أن يتسربلوا سربال التقوى، ويسيروا في طريق العزة، ويهجروا أسباب الذل.
والرجز قسمه الأصفهاني في مفرداته إلى قسمين: رجز ينزل بسبب أعمال الإنسان من عصيان للرب، ومخالفة لأمره، وسوء تدبيره، وهذا عذاب الله تعالى، ورجز ينزل بلاء من الله، واختبارًا يصهر نفوسهم. كطاعون ينزل بهم، أو إهلاك للحرث والنسل، أو ضرب الذلة عليهم.
وقد أصاب الله تعالى بني إسرائيل بالنوعين من الرجز فعذبوا في الحياة الدنيا رجاء أن يتوبوا ويهتدوا، وأصيبت نفوسهم بالذلة، التي ضربت عليهم إلا بحبل من الله وحبل من الناس، ونزلت بهم الآفات البشرية.
وذكر سبحانه وتعالى أن السبب في ذلك ظلمهم وفسقهم، فأما الظلم فبينه سبحانه بالإظهار في موضع الإضمار إذ قال: (فَأنزلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ) والتعبير بالموصول يفيد أن الصلة سبب لما أنزل الله تعالى من رجز، وهذا بيان للسبب بالإشارة، أما فسقهم فقد بين سبحانه سببيته بصريح اللفظ الكريم، فقال: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) أي بسبب أنهم يفسقون، و (كَانُوا) دالة على
وقد عاقبهم الله تعالى فأنزل العذاب بهم فقال تعالى: (فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسقُونَ) الرجز هو العذاب، أو هو الرجس، والرجز قاذورات النفوس وفسادها، وقد أصابهم الله تعالى بالأمرين ففسدت نفوسهم إلا أن يتوبوا، وأنزل الله تعالى عذابه بهم إذ جعلهم أذلاء مستضعفين في الأرض إلا أن يتسربلوا سربال التقوى، ويسيروا في طريق العزة، ويهجروا أسباب الذل.
والرجز قسمه الأصفهاني في مفرداته إلى قسمين: رجز ينزل بسبب أعمال الإنسان من عصيان للرب، ومخالفة لأمره، وسوء تدبيره، وهذا عذاب الله تعالى، ورجز ينزل بلاء من الله، واختبارًا يصهر نفوسهم. كطاعون ينزل بهم، أو إهلاك للحرث والنسل، أو ضرب الذلة عليهم.
وقد أصاب الله تعالى بني إسرائيل بالنوعين من الرجز فعذبوا في الحياة الدنيا رجاء أن يتوبوا ويهتدوا، وأصيبت نفوسهم بالذلة، التي ضربت عليهم إلا بحبل من الله وحبل من الناس، ونزلت بهم الآفات البشرية.
وذكر سبحانه وتعالى أن السبب في ذلك ظلمهم وفسقهم، فأما الظلم فبينه سبحانه بالإظهار في موضع الإضمار إذ قال: (فَأنزلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ) والتعبير بالموصول يفيد أن الصلة سبب لما أنزل الله تعالى من رجز، وهذا بيان للسبب بالإشارة، أما فسقهم فقد بين سبحانه سببيته بصريح اللفظ الكريم، فقال: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) أي بسبب أنهم يفسقون، و (كَانُوا) دالة على
244
الاستمرار، والتعبير بالمضارع يفيد أن فسقهم على دوامه يتجدد وقتا بعد آخر فكلما تاب عليهم فسقوا مرة أخرى.
والفسق هو الخروج، يقال فسقت الفأرة خرجت من جحرها، وفسق الثمر خرج، فهؤلاء يخرجون عن الحق، ويسيرون وراء الباطل سيرا متجددا مستمرا آنًا بعد آنٍ.
وذكر الله تعالى أن الرجز من السماء إشارة إلى أنه يأتيهم من حيث لا يحتسبون ولا يظنون، وأنه من الله العزيز الحكيم، فإن ما يكون من السماء مغيب لا يعلم متى يجيء ولا من أي جهة يجيء.
* * *
(وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٦١)
* * *
والفسق هو الخروج، يقال فسقت الفأرة خرجت من جحرها، وفسق الثمر خرج، فهؤلاء يخرجون عن الحق، ويسيرون وراء الباطل سيرا متجددا مستمرا آنًا بعد آنٍ.
وذكر الله تعالى أن الرجز من السماء إشارة إلى أنه يأتيهم من حيث لا يحتسبون ولا يظنون، وأنه من الله العزيز الحكيم، فإن ما يكون من السماء مغيب لا يعلم متى يجيء ولا من أي جهة يجيء.
* * *
(وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٦١)
* * *
245
كان بنو إسرائيل يعيشون مع موسى عليه السلام في معجزات حسية مستمرة، ولو كانت قوة الدليل وحسيته سببا للإيمان لكان بنو إسرائيل أشد الناس إيمانًا وأقواهم يقينا، ولكن الإيمان نور يقذفه الله تعالى في قلوب الأتقياء فيدركون الحق، ويذعنون له، ويطمئنون إليه. وقد أرانا الله تعالى آياته في بني إسرائيل، فكلما أتاهم بدليل وكلما أتتهم آية كفروا بها، فلو كانوا يذعنون للحق لأذعنوا لبعض هذه الآيات، ولكنهم قوم معاندون، مناقضون الحس.
شكوا إلى موسى أنهم لَا يجدون الماء الذي يشربونه فاتجه موسى إلى ربه ضارعا يطلب الماء، ولذا قال تعالى:
شكوا إلى موسى أنهم لَا يجدون الماء الذي يشربونه فاتجه موسى إلى ربه ضارعا يطلب الماء، ولذا قال تعالى:
246
(وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ).
وإذ - كما ذكرنا - دالة على الوقت الماضي، والمعنى اذكروا ذلك الوقت الذي استسقى فيه موسى لكم، تذكَّروا عطشكم في ذلك الوقت، وكيف استسقى موسى ربه لأجلكم، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يضرب بعصاه الحجر، فضرب، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، هي بقدر عدد الأسباط أولاد يعقوب عليه السلام، وذريتهم من بعدهم، اذكروا ذلك وتذكروه، فإنه معجزة من الله تعالى. فكان لكل سبط عينه، يشرب منها هو ومن معه من سبطه لكيلا يُتزاحم على الماء، فينال الماءَ القويُّ، ويضيع الضعيف، واستسقى، السين والتاء للطلب، أو السؤال، والاستسقاء الضراعة إلى الله تعالى أن ينزل الماء، فهذا الاستسقاء عبادة لأنه دعاء الله تعالى ضارعا إليه أن ينزل عليه الماء، والدعاء المتضرع عبادة في ذاته، ولقد كان النبي - ﷺ - إذا جف المطر، وأجدبت الأرض استسقى.. فقد خرج إلى المصلى متواضعا، متذللا متوسلا متضرعا ودعا ربه أن يسقى المطرَ، فنزل مدرارا، حتى خشي الناس أن يَضُر، فقال النبي - ﷺ -: " اللهم حوالينا، ولا علينا " (١).
________
(١) عَنْ أنَس بْنِ مَالك قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّه - ﷺ - يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَة إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَحَطَ الْمَطَرُ؛ فَادع الله أَنْ يَسْقيَنَا. فَدَعَا فَمُطِرنا، فَمَا كِدَنا أنْ نَصلً إِلَى مَنَازلنَا، فَمَا زِلْنَا نُمْطَرُ إِلَى الْجُمُعَة الْمُقْبلَةِ، قَالَ: فَقَامَ ذَلكً الرجلُ أوْ غَيْرُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه ادع الله أَنْ يَصْرِفَهُ عَنَّا. فَقَالَ رَسُولُ اللهَ - ﷺ - " اللَهُمَّ حَوَالَيا ولا عَلَيْنَا " قَالَ: فَلَقدْ رَأيْتُ السَّحَابَ يَتَقًطَّعُ يَمينَا وَشِمَالا يُمْطَرُونَ وَلا يُمْطَرُ أهْلُ الْمَدِينَةِ. [متفق عليه رواه البخاري: كتاب الجمعة (٩٥٩)، ومسلم صلاة الاستسقاء (١٤٩٠)].
وإذ - كما ذكرنا - دالة على الوقت الماضي، والمعنى اذكروا ذلك الوقت الذي استسقى فيه موسى لكم، تذكَّروا عطشكم في ذلك الوقت، وكيف استسقى موسى ربه لأجلكم، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يضرب بعصاه الحجر، فضرب، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، هي بقدر عدد الأسباط أولاد يعقوب عليه السلام، وذريتهم من بعدهم، اذكروا ذلك وتذكروه، فإنه معجزة من الله تعالى. فكان لكل سبط عينه، يشرب منها هو ومن معه من سبطه لكيلا يُتزاحم على الماء، فينال الماءَ القويُّ، ويضيع الضعيف، واستسقى، السين والتاء للطلب، أو السؤال، والاستسقاء الضراعة إلى الله تعالى أن ينزل الماء، فهذا الاستسقاء عبادة لأنه دعاء الله تعالى ضارعا إليه أن ينزل عليه الماء، والدعاء المتضرع عبادة في ذاته، ولقد كان النبي - ﷺ - إذا جف المطر، وأجدبت الأرض استسقى.. فقد خرج إلى المصلى متواضعا، متذللا متوسلا متضرعا ودعا ربه أن يسقى المطرَ، فنزل مدرارا، حتى خشي الناس أن يَضُر، فقال النبي - ﷺ -: " اللهم حوالينا، ولا علينا " (١).
________
(١) عَنْ أنَس بْنِ مَالك قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّه - ﷺ - يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَة إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَحَطَ الْمَطَرُ؛ فَادع الله أَنْ يَسْقيَنَا. فَدَعَا فَمُطِرنا، فَمَا كِدَنا أنْ نَصلً إِلَى مَنَازلنَا، فَمَا زِلْنَا نُمْطَرُ إِلَى الْجُمُعَة الْمُقْبلَةِ، قَالَ: فَقَامَ ذَلكً الرجلُ أوْ غَيْرُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه ادع الله أَنْ يَصْرِفَهُ عَنَّا. فَقَالَ رَسُولُ اللهَ - ﷺ - " اللَهُمَّ حَوَالَيا ولا عَلَيْنَا " قَالَ: فَلَقدْ رَأيْتُ السَّحَابَ يَتَقًطَّعُ يَمينَا وَشِمَالا يُمْطَرُونَ وَلا يُمْطَرُ أهْلُ الْمَدِينَةِ. [متفق عليه رواه البخاري: كتاب الجمعة (٩٥٩)، ومسلم صلاة الاستسقاء (١٤٩٠)].
246
ولما استسقى موسى عليه السلام لم ينزل عليه مطر، ولكن قال له ربه: (اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ) والعصا هي آية الله تعالى، ومعجزة موسى التي انقلبت حية تسعى، والتي بها ضرب البحر بها فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم، ضرب بها الحجر، ولم يكن حجرا معينا له صفات ذاتية، بل إنه للعهد الذهني الذي ينطبق عليه اسم الحجر، كما تقول ادخل السوق، فالمراد أي شيء ينطبق عليه اسم السوق، ضرب موسى عليه السلام الحجر (فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا) انفجرت: انشقت، وخرجت من الحجر اثنتا عشرة عينا، والعين هي الموضع الذي يخرج منه كعين زمزم، فماء العيون لَا يكون من السماء كالمطر، ولكن يكون من الأرض، أو الحجر، كما رأينا ما فعلته عصا موسى عليه السلام؛ وهنا ثلاث معجزات خارقة للعادة:
الأولى: ضرب الحجر بالعصا، فينبثق منه الماء، وهذه معجزة العصا.
والثانية: أن الضرب في الحجر الذي لَا يخرج منه الماء عادة، ولا يعلم أن الماء ينبع من الأحجار، ولكن من الأرض اللينة التي لَا تكون حجرا متماسكا، وقد يخرج ماء العيون من الجبال ولكن يكون من شقوق يخرج منها لَا من ذات الحجر، أما الذي يخرج من ذات الحجر فإنه خاص بمعجزة موسى عليه السلام.
الثالثة: كون الماء يخرج اثنتي عشرة عينا على قدر عدد الأسباط، و (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مشْرَبَهُمْ) أي مكان شربهم، أي العين التي خصصت لهم، وقد كان الحجر الذي ضربه موسى عليه السلام بعصاه مكعبا له أربعة جوانب ظاهرة على الأرض، فكان في كل جانب قد انبثق فيه ثلاث عيون، فيكون عددها في كل اثنتي عشرة عينا، وعلم كل أناس العين التي يشربون منها، فكان لكل سبط منهم ثلاث عيون.
وإن هذا التوزيع بينهم لَا يفرق، ولكنه يجمعهم، فالعدل يجمع ولا يفرق، وفوق ذلك فيه تسهيل للتناول فلا يتزاحمون ولا يتنازعون ولا يضيع الضعيف بينهم.
وقد بين الله تعالى أن الماء مباح لهم، كما أبيح لهم الطعام؛ ولذا قال تعالى: (كلُوا وَاشْرَبُوا) أي أنه أبيح لهم الأكل من المن والسلوى، كما ذكرنا آنفا، أو أبيح
الأولى: ضرب الحجر بالعصا، فينبثق منه الماء، وهذه معجزة العصا.
والثانية: أن الضرب في الحجر الذي لَا يخرج منه الماء عادة، ولا يعلم أن الماء ينبع من الأحجار، ولكن من الأرض اللينة التي لَا تكون حجرا متماسكا، وقد يخرج ماء العيون من الجبال ولكن يكون من شقوق يخرج منها لَا من ذات الحجر، أما الذي يخرج من ذات الحجر فإنه خاص بمعجزة موسى عليه السلام.
الثالثة: كون الماء يخرج اثنتي عشرة عينا على قدر عدد الأسباط، و (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مشْرَبَهُمْ) أي مكان شربهم، أي العين التي خصصت لهم، وقد كان الحجر الذي ضربه موسى عليه السلام بعصاه مكعبا له أربعة جوانب ظاهرة على الأرض، فكان في كل جانب قد انبثق فيه ثلاث عيون، فيكون عددها في كل اثنتي عشرة عينا، وعلم كل أناس العين التي يشربون منها، فكان لكل سبط منهم ثلاث عيون.
وإن هذا التوزيع بينهم لَا يفرق، ولكنه يجمعهم، فالعدل يجمع ولا يفرق، وفوق ذلك فيه تسهيل للتناول فلا يتزاحمون ولا يتنازعون ولا يضيع الضعيف بينهم.
وقد بين الله تعالى أن الماء مباح لهم، كما أبيح لهم الطعام؛ ولذا قال تعالى: (كلُوا وَاشْرَبُوا) أي أنه أبيح لهم الأكل من المن والسلوى، كما ذكرنا آنفا، أو أبيح
247
لهم أن يأكلوا من ثمرات هذا الماء الذي يجيء إليهم من هذه العيون التي تفيض فى الأرض غير مقطوعة، ولا ممنوعة.
وإن النعمة إذا كثرت على أمثال بني إسرائيل كانت مظنة الفساد، ولذا قال تعالى: (وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) العثو، من عثى يعثى بمعنى أفسد، أو بمعنى أضاع كل ما فيه من خير، فاعتدى على حق غيره، فيعثون يشمل كل فعل يؤدي إلى الاضطراب والإفزاع ومنع الخير، ويتقارب من معنى العبث، ويكون قوله تعالى: (مفْسِدِينَ) ليس تكرارًا للفظ لَا تعثوا أو تأكيداً، إنما هو لبيان العثو، وهو القصد إلى الإفساد، فمفسدين معناها قاصدين إلى الإفساد.
وإن بني إسرائيل شأنهم دائما ألا يستقروا، بل هم في تململ مستمر، ولا يهمهم إلا الطعام والشراب، ولذا قالوا لموسى عليه السلام الذي ابتلى بهم: (يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٦١). كان اليهود (لعنهم الله) لَا يهمهم إلا ما يطعمون، فسألوا الأكل أولا ثم سألوا الماء ثانيا، ثم سألوا تلوُّن الأطعمة، ولم يفكروا في أمر معنوي، لم يفكروا في العزة بعد الذلة، ولا في النجاة بعد القتل، ولا في المعاني الروحية التي جاء بها موسى عليه السلام، ولا في الإيمان بعد الكفر، ولا في الرفعة بعد الحطة.
لم يفكروا في شيء من هذا إنما فكروا في الطعام وألوانه، لم يطلبوا الهداية، ولكن طلبوا ألوان الطعام، وقال تعالى عنهم:
وإن النعمة إذا كثرت على أمثال بني إسرائيل كانت مظنة الفساد، ولذا قال تعالى: (وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) العثو، من عثى يعثى بمعنى أفسد، أو بمعنى أضاع كل ما فيه من خير، فاعتدى على حق غيره، فيعثون يشمل كل فعل يؤدي إلى الاضطراب والإفزاع ومنع الخير، ويتقارب من معنى العبث، ويكون قوله تعالى: (مفْسِدِينَ) ليس تكرارًا للفظ لَا تعثوا أو تأكيداً، إنما هو لبيان العثو، وهو القصد إلى الإفساد، فمفسدين معناها قاصدين إلى الإفساد.
وإن بني إسرائيل شأنهم دائما ألا يستقروا، بل هم في تململ مستمر، ولا يهمهم إلا الطعام والشراب، ولذا قالوا لموسى عليه السلام الذي ابتلى بهم: (يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٦١). كان اليهود (لعنهم الله) لَا يهمهم إلا ما يطعمون، فسألوا الأكل أولا ثم سألوا الماء ثانيا، ثم سألوا تلوُّن الأطعمة، ولم يفكروا في أمر معنوي، لم يفكروا في العزة بعد الذلة، ولا في النجاة بعد القتل، ولا في المعاني الروحية التي جاء بها موسى عليه السلام، ولا في الإيمان بعد الكفر، ولا في الرفعة بعد الحطة.
لم يفكروا في شيء من هذا إنما فكروا في الطعام وألوانه، لم يطلبوا الهداية، ولكن طلبوا ألوان الطعام، وقال تعالى عنهم:
248
(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِد) والمعنى: اذكروا معشر الحاضرين ما قلتم أنتم وأسلافكم، ولا تفكير لكم في جهاد تجاهدونه، ولكن في طعام تأكلونه، نادوا موسى وهو لهم كالأم الرءوم: (يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِد) وهو المن والسلوى، وقالوا: على طعام واحد، لأنه لون واحد متكرر مستمر، لَا يتغير، فهو يعرض بطريقة واحدة، والشيء المتكرر
248
يكون شيئًا واحدًا، ولو تجدد وتكرر، ولو كان أكثر من واحد، ولو كان طيبا، وإن الرجل المادي يسأم ما يقدم له كل يوم، ولو كان أشهى، وقالوا يائسين من أن يرضوا: لن نصبر على طعام، فأكدوا النفي بـ " لن "، ودلوا على تململهم بقولهم: " لن نصبر "، أي لن نستطيع أن نضبط أنفسنا فنحملها على الرضا بطعام واحد.
ورتبوا على نفيهم الصبر نفيا مؤكدا قولهم: (فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِت الأَرْض مِنْ بَقْلِهَا)، الفاء فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر دل عليه قولهم لن نصبر تقديره؛ فإذا كنا لَا نصبر، (فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ) ومعناه اضرع إلى ربك الذي خلقك وربك لَا إلى أن يهدينا بل إلى أن يخرج لنا مما تنبت الأرض، وقوله " يخرج " في معنى جواب الأمر، أي إن تدع ربك فإنه يخرج لنا، فهم لتلهفهم على ما يأكلون افترضوا أن الدعاء قد وقع، وافترضوا أن إجابة الدعاء قد تمت، فقالوا هذا الكلام الدال على رغبتهم في الإجابة السريعة.
والبقل معروف، وهو كل نبات لَا ساق له غالبا كاللوبيا والفاصوليا ونحوهما كالفول، وفومها وهو الثوم وقيل القمح واللغة لَا تساعد ذلك، وعدسها وبصلها وهما معروفان، ولكن موسى عليه السلام لم يسارع بالدعوة التي طلبوها، ولم تكن الإجابة التي رغبوها لإشباع نهمتهم، بل ذاكرهم فيما يطلبون، وبين لهم أنهم يطلبون غير الحسن ويتركون الحسن، فقال لهم: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بَالَّذِي هو خَيْرٌ)، أي أتتركون الخيو، وتطلبون بدلا منه الذي هو أدنى منه هان كان من نعمة الله تعالى.
وعبر عن الذي طلبوه بأنه هو الذي أدنى في الرتبة والمنزلة الغذائية وأنه خلق كذلك، وإن كان نعمة في ذاته ولكن رتبته دون ما أنتم فيه، وعبر بقوله تعالى: (الَّذِي هُوَ أَدْنَى) أي أنه في ذاته دانٍ في رتبته ولا يعلو عنها ولا يصل إلى الذي هو خير في ذاته، وثابت على الخيوية؛ لَا يزيل صفة الخيوية ما تطلبون.
والأدنى معناه القريب، ولما كان القريب سهل التناول، والبعيد صعب التناول أطلق الأدنى على كل أمر يسهل الحصول عليه وفي العادة لَا يكون ذا منزلة.
ورتبوا على نفيهم الصبر نفيا مؤكدا قولهم: (فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِت الأَرْض مِنْ بَقْلِهَا)، الفاء فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر دل عليه قولهم لن نصبر تقديره؛ فإذا كنا لَا نصبر، (فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ) ومعناه اضرع إلى ربك الذي خلقك وربك لَا إلى أن يهدينا بل إلى أن يخرج لنا مما تنبت الأرض، وقوله " يخرج " في معنى جواب الأمر، أي إن تدع ربك فإنه يخرج لنا، فهم لتلهفهم على ما يأكلون افترضوا أن الدعاء قد وقع، وافترضوا أن إجابة الدعاء قد تمت، فقالوا هذا الكلام الدال على رغبتهم في الإجابة السريعة.
والبقل معروف، وهو كل نبات لَا ساق له غالبا كاللوبيا والفاصوليا ونحوهما كالفول، وفومها وهو الثوم وقيل القمح واللغة لَا تساعد ذلك، وعدسها وبصلها وهما معروفان، ولكن موسى عليه السلام لم يسارع بالدعوة التي طلبوها، ولم تكن الإجابة التي رغبوها لإشباع نهمتهم، بل ذاكرهم فيما يطلبون، وبين لهم أنهم يطلبون غير الحسن ويتركون الحسن، فقال لهم: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بَالَّذِي هو خَيْرٌ)، أي أتتركون الخيو، وتطلبون بدلا منه الذي هو أدنى منه هان كان من نعمة الله تعالى.
وعبر عن الذي طلبوه بأنه هو الذي أدنى في الرتبة والمنزلة الغذائية وأنه خلق كذلك، وإن كان نعمة في ذاته ولكن رتبته دون ما أنتم فيه، وعبر بقوله تعالى: (الَّذِي هُوَ أَدْنَى) أي أنه في ذاته دانٍ في رتبته ولا يعلو عنها ولا يصل إلى الذي هو خير في ذاته، وثابت على الخيوية؛ لَا يزيل صفة الخيوية ما تطلبون.
والأدنى معناه القريب، ولما كان القريب سهل التناول، والبعيد صعب التناول أطلق الأدنى على كل أمر يسهل الحصول عليه وفي العادة لَا يكون ذا منزلة.
249
والسؤال استفهامي تقريري لإنكار الواقع، أي فيه معنى التوبيخ، لأنهم في نعمة بالطعام الطيب الذي يجيء من غير كد ولا لغوب، وهو المن والسلوى، ولأنهم في مكان من العزة والنعمة يحمدون الله تعالى عليهما، ولا يفكرون في شهوة البطن مع هذه العزة إن كانوا أعزة كراما.
ولقد قال موسى كما أخبر ربه: (اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّما سَألْتُمْ) ويفيد ذلك ضمنا بأن موسى لم يدع ربه كما طلبوا ولكن بين لهم المكان الذي يرون فيه ذلك، وعبر بقوله: (اهْبِطُوا مِصْرًا)، لأن فيه إشارة إلى أنهم ينزلون من منزلة مرتفعة العزة والرفعة إلى مكان دون ذلك؛ لأن الهبوط نزول من مرتفع إلى منخفض، وهم ينزلون من العزة، وضيافة الله تعالى إلى حيث يشبعون بطونهم ويرضون أهواءهم، وبذلك استبدلوا الخبيث بالطيب.
وقوله: (اهْبِطُوا مِصْرًا) بالتنكير يجعلنا نفكر أهي مصر التي اضطهدوا فيها، وذبحت أبناءهم، واستحيت نساءهم، أم مصر فيه ريف وأرض طيبة زارعة منتجة ما يريدون من فوم وقثاء وعدس وبصل.
إن التنكير يفيد أي مصر فيها زرع وثمار، ولكن الكثيرين من المفسرين يذكرون أنها مصر التي أخرجوا منها والتي أرهقوا في حياتهم فيها، ومع ذلك لم يذكر أنهم عادوا إلى أرض مصر، وموسى بينهم؛ ولذا نرجح أن موسى عليه السلام طلب إليهم أن ينزلوا من علياء الضيافة الربانية والعزة الإلهية وأن يشبعوا شهواتهم في أي مصر فيه الريف وما تنبت الأرض من زروع وعيون بدل عزة الصحراء.
بعد هذا يئس موسى من إصلاحهم.. أراد أن يربيهم على الوحدانية فقالوا: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.. وأراد موسى عليه السلام، أن يبعدهم عن فرعون وقومه، وأن يخلصهم من أوهامهم، فانتهزوا غيبته، واتخذوا العجل، وعبدوه.. وطلب إليهم أن يقتلوا منابع الأهواء والشهوات في نفوسهم فتابوا وقبل الله تعالى توبتهم.. ولما أراد الله تعالى أن يختبر نفوسهم فأمرهم أن يدخلوا القرية ساجدين، ويطلبوا ضارعين إليه أن يحط عنهم ذنوبهم، (دخلوا على أستاههم طالبين الحنطة).
ولقد قال موسى كما أخبر ربه: (اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّما سَألْتُمْ) ويفيد ذلك ضمنا بأن موسى لم يدع ربه كما طلبوا ولكن بين لهم المكان الذي يرون فيه ذلك، وعبر بقوله: (اهْبِطُوا مِصْرًا)، لأن فيه إشارة إلى أنهم ينزلون من منزلة مرتفعة العزة والرفعة إلى مكان دون ذلك؛ لأن الهبوط نزول من مرتفع إلى منخفض، وهم ينزلون من العزة، وضيافة الله تعالى إلى حيث يشبعون بطونهم ويرضون أهواءهم، وبذلك استبدلوا الخبيث بالطيب.
وقوله: (اهْبِطُوا مِصْرًا) بالتنكير يجعلنا نفكر أهي مصر التي اضطهدوا فيها، وذبحت أبناءهم، واستحيت نساءهم، أم مصر فيه ريف وأرض طيبة زارعة منتجة ما يريدون من فوم وقثاء وعدس وبصل.
إن التنكير يفيد أي مصر فيها زرع وثمار، ولكن الكثيرين من المفسرين يذكرون أنها مصر التي أخرجوا منها والتي أرهقوا في حياتهم فيها، ومع ذلك لم يذكر أنهم عادوا إلى أرض مصر، وموسى بينهم؛ ولذا نرجح أن موسى عليه السلام طلب إليهم أن ينزلوا من علياء الضيافة الربانية والعزة الإلهية وأن يشبعوا شهواتهم في أي مصر فيه الريف وما تنبت الأرض من زروع وعيون بدل عزة الصحراء.
بعد هذا يئس موسى من إصلاحهم.. أراد أن يربيهم على الوحدانية فقالوا: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.. وأراد موسى عليه السلام، أن يبعدهم عن فرعون وقومه، وأن يخلصهم من أوهامهم، فانتهزوا غيبته، واتخذوا العجل، وعبدوه.. وطلب إليهم أن يقتلوا منابع الأهواء والشهوات في نفوسهم فتابوا وقبل الله تعالى توبتهم.. ولما أراد الله تعالى أن يختبر نفوسهم فأمرهم أن يدخلوا القرية ساجدين، ويطلبوا ضارعين إليه أن يحط عنهم ذنوبهم، (دخلوا على أستاههم طالبين الحنطة).
250
طلب الله تعالى إليهم كل ذلك، ولكن نفوسهم طبعت على الأهواء والشهوات والأوهام فتركهم الله تعالى لتؤدي هذه الأخلاق إلى ما تنتهي إليه، وهو الذلة، فما أذل النفوس كالشهوات والأهواء، وإذا هانت النفوس ذلت، وإذا سيطرت عليها الأهواء خنعت، ولا يورث في النفس المذلة إلا المطامع.
ولذا قال تعالى: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَة) أي أحاطت بهم المذلة لا يخرجون من دائرتها، بل يتنقلون في دائرتها؛ ينتقلون فيها من جانب إلى جانب، ولا يخرجون منها، فصارت حالهم في ذلتهم، كحال من ضربت عليهم قبة لا يخرجون منها، ولذلك عبَّر بـ ضربت عليهم، والمسكنة هي الخضوع والاستسلام للوهن والضعف، وهي لازمة للذلة، فحيث كانت الذلة كانت المسكنة، والخضوع للظالم، ولا يرضون إلا بالذل، ولا يقبلون غيره، فإن النفس إذا ألفت الذل، واستمرأته، ترضى بكل من يذلها وتسكن خاضعة له.
فالمسكنة مصدر ميمي على وزن مَفْعَلَة معناه الخضوع المطلق والرضا بالظلم، أو الظهور بمظهر قبوله، وهو السكون ممن لَا يجابهون أهل الباطل بقولهم الحق يصك آذانهم صكا.
هذه الأخلاق هي نتيجة لسيطرة الأهواء والشهوات، وهي الداء الذي يصحب من يعيشون في خصيب الأرض ولين العيش، ويفكهون في ملاذ الدنيا، ويستمرئون البقاء فيها.
ولقد قرر الله تعالى عقوبة قاسية لذوي الضمائر الفاسدة، وهي أنهم يرجعون بغضب الله تعالى، فهم مطرودون من رحمة الله تعالى، فمعنى (وَبَاءُوا بِغَضَب مِّنَ اللَّهِ) أي أنهم رجعوا مصاحبين غضب الله تعالى ملازما لهم لَا ينفكون عن الغضب، بل إنه يلازمهم في كل أدوار حياتهم.
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك الغضب الذي لازمهم بعد أن طردهم من رحمته، وأنهم لَا يستحقونها، ذكر سبحانه وتعالى السبب في ذلك فقال تعالت كلماته: (ذَلِكَ بِأنَّهمْ كانُوا يَكفرونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ).
ولذا قال تعالى: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَة) أي أحاطت بهم المذلة لا يخرجون من دائرتها، بل يتنقلون في دائرتها؛ ينتقلون فيها من جانب إلى جانب، ولا يخرجون منها، فصارت حالهم في ذلتهم، كحال من ضربت عليهم قبة لا يخرجون منها، ولذلك عبَّر بـ ضربت عليهم، والمسكنة هي الخضوع والاستسلام للوهن والضعف، وهي لازمة للذلة، فحيث كانت الذلة كانت المسكنة، والخضوع للظالم، ولا يرضون إلا بالذل، ولا يقبلون غيره، فإن النفس إذا ألفت الذل، واستمرأته، ترضى بكل من يذلها وتسكن خاضعة له.
فالمسكنة مصدر ميمي على وزن مَفْعَلَة معناه الخضوع المطلق والرضا بالظلم، أو الظهور بمظهر قبوله، وهو السكون ممن لَا يجابهون أهل الباطل بقولهم الحق يصك آذانهم صكا.
هذه الأخلاق هي نتيجة لسيطرة الأهواء والشهوات، وهي الداء الذي يصحب من يعيشون في خصيب الأرض ولين العيش، ويفكهون في ملاذ الدنيا، ويستمرئون البقاء فيها.
ولقد قرر الله تعالى عقوبة قاسية لذوي الضمائر الفاسدة، وهي أنهم يرجعون بغضب الله تعالى، فهم مطرودون من رحمة الله تعالى، فمعنى (وَبَاءُوا بِغَضَب مِّنَ اللَّهِ) أي أنهم رجعوا مصاحبين غضب الله تعالى ملازما لهم لَا ينفكون عن الغضب، بل إنه يلازمهم في كل أدوار حياتهم.
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك الغضب الذي لازمهم بعد أن طردهم من رحمته، وأنهم لَا يستحقونها، ذكر سبحانه وتعالى السبب في ذلك فقال تعالت كلماته: (ذَلِكَ بِأنَّهمْ كانُوا يَكفرونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ).
251
الإشارة إلى ما أنزله الله تعالى عليهم من الذلة والمسكنة وأنهما أبعدوا عن رحمة الله مصحوبين بغضبه وقد لبسهم غضب الله تعالى، ومعه الخزي والعار.
قال سبحانه في سبب ذلك: (بِأنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) آيات الله تعالى المعجزات الدالة على رسالة موسى، وهي في ذاتها نفع لهم، أنجاهم من فرعون الذي كان يقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم، إذ ضرب البحر بعصاه عليه السلام ففرقت البحر ونجا بنو إسرائيل وأغرق الله تعالى فرعون، وأنه أنزل عليهم المن والسلوى إلى آخر آيات الله التي كانت نعما عليهم ومعجزات دالة على نبوة موسى عليه السلام، والتعبير منه سبحانه وتعالى بقوله: (بِأنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ) بيان لاستمرار كفرهم، وتكرره بتكرر آياته، فإن " كانوأ دالة على الاستمرار، والتعبير بالمضارع للدلالة على تكرر الكفر بتكرار الآيات، فما جاءتهم آية إلا كفروا بها، وهي باهرة تتضمن نعمة أنعم بها سبحانه وتعالى عليهم، فاجتمع فيهم كفر الإيمان بالكفر بدلائله، وكفر النعمة بعدم شكرها، وشكر المنعم واجب بحكم العقل والشرع، وما جرى عليه الناس، ويجرون عليه إلى يوم القيامة.
وقد ذكر سبحانه وتعالى جريمة ثانية إيجابية فالجرائم السابقة كلها سلبية، الكفر سلب، وعدم شكر الله تعالى حيث يجب الشكر جريمة سلبية أيضا، أما الجريمة الإيجابية فهي قتلهم الأنبياء بغير حق، فهم لَا يكتفون بعصيان الله تعالى وكفرهم بآياته، بل يزيدون على ذلك لإمعانهم في الضلال بقتلهم النبيين الصديقين الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى لهدايتهم ودعوتهم إلى الحق كما قتلوا يحيى بن زكريا عليهما السلام.
ويظهر أنهم لم يقتلوا واحدا، بل كانوا يقتلون النبيين كلما خالفوهم لا يرعون مقامهم من الله تعالى، ولذلك كان التعبير بالمضارع الدال على التكرار، وكأن قتل النبيين كان عادة لهم وشأنا من شئونهم لتغلغل الكفر والعصيان في نفوسهم، واستمرائهم الباطل والعصيان، ولذلك علل تعالى تكرار كفرهم للآيات، وقتلهم للأنبياء بقوله: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).
قال سبحانه في سبب ذلك: (بِأنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) آيات الله تعالى المعجزات الدالة على رسالة موسى، وهي في ذاتها نفع لهم، أنجاهم من فرعون الذي كان يقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم، إذ ضرب البحر بعصاه عليه السلام ففرقت البحر ونجا بنو إسرائيل وأغرق الله تعالى فرعون، وأنه أنزل عليهم المن والسلوى إلى آخر آيات الله التي كانت نعما عليهم ومعجزات دالة على نبوة موسى عليه السلام، والتعبير منه سبحانه وتعالى بقوله: (بِأنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ) بيان لاستمرار كفرهم، وتكرره بتكرر آياته، فإن " كانوأ دالة على الاستمرار، والتعبير بالمضارع للدلالة على تكرر الكفر بتكرار الآيات، فما جاءتهم آية إلا كفروا بها، وهي باهرة تتضمن نعمة أنعم بها سبحانه وتعالى عليهم، فاجتمع فيهم كفر الإيمان بالكفر بدلائله، وكفر النعمة بعدم شكرها، وشكر المنعم واجب بحكم العقل والشرع، وما جرى عليه الناس، ويجرون عليه إلى يوم القيامة.
وقد ذكر سبحانه وتعالى جريمة ثانية إيجابية فالجرائم السابقة كلها سلبية، الكفر سلب، وعدم شكر الله تعالى حيث يجب الشكر جريمة سلبية أيضا، أما الجريمة الإيجابية فهي قتلهم الأنبياء بغير حق، فهم لَا يكتفون بعصيان الله تعالى وكفرهم بآياته، بل يزيدون على ذلك لإمعانهم في الضلال بقتلهم النبيين الصديقين الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى لهدايتهم ودعوتهم إلى الحق كما قتلوا يحيى بن زكريا عليهما السلام.
ويظهر أنهم لم يقتلوا واحدا، بل كانوا يقتلون النبيين كلما خالفوهم لا يرعون مقامهم من الله تعالى، ولذلك كان التعبير بالمضارع الدال على التكرار، وكأن قتل النبيين كان عادة لهم وشأنا من شئونهم لتغلغل الكفر والعصيان في نفوسهم، واستمرائهم الباطل والعصيان، ولذلك علل تعالى تكرار كفرهم للآيات، وقتلهم للأنبياء بقوله: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).
252
وقوله تعالى في وصف قتلهم للأنبياء بأنه بغير الحق، وصف لإفادة عتوهم وكفرهم لَا لبيان أن القتل للنبيين قد يكون بحق، بل لبيان أن فعلهم إثم وليس له مبرر، وأن كونه بغير الحق للتشنيع على فعلهم، وقبح تصرفاتهم، وقد علل تعالى كما تلونا بأن ذلك كان بعصيانهم واعتدائهم.
(ذَلِكَ بِمَا عَصَوا) أي ذلك الجرم الذي ارتكبوه سببه أنهم عصوا أي أن نفوسهم تمردت واستمرأت العصيان، وأنها أظلمت بتراكم المعاصي حتى استمرأتها، وهل يصدر من النفوس المظلمة إلا ما يكون فسادا وشرا؟! ويصلون إلى أقبح أنواع الشرور، وهو قتل الهداة أحباب الله تعالى وهم الأنبياء.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن ذلك كان لمجرد الاعتداء، فهم في طبيعتهم العدوان، لأن المعصية إذا استمرت ولجوا في العصيان، وسيطرت الأثرة عليها يكون من آثارها لَا محالة الاعتداء، الاعتداء في طلب الأشياء، والاعتداء بسيطرة الأهواء والشهوات، والاعتداء بقتل الأنبياء، فالاعتداء والعصيان من شئونهم، وهكذا هم بلاء هذا الوجود.
* * *
الناس جميعا سواء أمام الله يجزيهم إن آمنوا
(ذَلِكَ بِمَا عَصَوا) أي ذلك الجرم الذي ارتكبوه سببه أنهم عصوا أي أن نفوسهم تمردت واستمرأت العصيان، وأنها أظلمت بتراكم المعاصي حتى استمرأتها، وهل يصدر من النفوس المظلمة إلا ما يكون فسادا وشرا؟! ويصلون إلى أقبح أنواع الشرور، وهو قتل الهداة أحباب الله تعالى وهم الأنبياء.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن ذلك كان لمجرد الاعتداء، فهم في طبيعتهم العدوان، لأن المعصية إذا استمرت ولجوا في العصيان، وسيطرت الأثرة عليها يكون من آثارها لَا محالة الاعتداء، الاعتداء في طلب الأشياء، والاعتداء بسيطرة الأهواء والشهوات، والاعتداء بقتل الأنبياء، فالاعتداء والعصيان من شئونهم، وهكذا هم بلاء هذا الوجود.
* * *
الناس جميعا سواء أمام الله يجزيهم إن آمنوا
253
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)
* * *
اختص الله سبحانه وتعالى الآيات السابقة ببني إسرائيل وكفرهم بالآيات المتتالية آية بعد آية، وبتكرار وتوالى ذلك الكفر ليبين سبحانه وتعالى انصرافهم عن الحق مع كثرة الآيات، وكفرهم بالنعم مع تواليها. وكأن القارئ للقرآن الكريم يحسب أن العبر تنزل لمن يكفر بها، والآيات المعجزة تتوالى على من ينكرها..
* * *
اختص الله سبحانه وتعالى الآيات السابقة ببني إسرائيل وكفرهم بالآيات المتتالية آية بعد آية، وبتكرار وتوالى ذلك الكفر ليبين سبحانه وتعالى انصرافهم عن الحق مع كثرة الآيات، وكفرهم بالنعم مع تواليها. وكأن القارئ للقرآن الكريم يحسب أن العبر تنزل لمن يكفر بها، والآيات المعجزة تتوالى على من ينكرها..
253
فيبْين الله تعالى أن الغاية من هذه النعم هي الإيمان، وأنهم إن كفروا بها فباب التوبة مفتوح لهم ولغيرهم، وأن الله تعالى خلق الخلق ليتفكر الناس فيؤمنوا وليجدوا فيها البرهان فيؤمنوا (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدونِ).
وقد قضى الله تعالى أن الإيمان مقبول من كل الطوائف والملل، وقد جعل سبحانه وتعالى ذلك الحكم الخالد الأبدي معترضا في أخبار بني إسرائيل ليفتح باب الإيمان لهم، ولغيرهم، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَالَّذينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا).
والإيمان بالله تعالى هو الإيمان بالله باعتقاد وحدانيته في الخلق والتكوين بألا يعتقدوا أن أحدا شارك الله تعالى في إنشائه الخلق، وأنه وحده خالق كل مَن في الوجود وأنه لَا تخرج حركة عن حركة في الوجود، وإنما ذلك قيوميته وإرادته، وأنه ليس بوالد ولا ولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأنه جلت صفاته، فليس كمثله أحد، وهو السميع البصير، وأن يؤمن باليوم الآخر وما فيه من حساب، وثواب وعقاب، وأن يؤمن بملائكته وكتبه ورسله.
هذا هو الإيمان فمن آمن من أتباع محمد - ﷺ - ذلك الإيمان، وأردف إيمانه
بالعمل الصالحِ الذي يكون طاعة لله تعالى وفيه صلاح الناس، (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون).
وكذلك من آمن من اليهود بالله والملائكة الأطهار والرسل الأمجاد ومنهم محمد بن عبد الله رسوله الأمين، علم أن الله منزهٌ عن مشابهة المخلوقين، وأنه ليس كمثله شيء وعمل صالحا (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا همْ يَحْزَنُونَ).
وكذلك النصارى إذا آمنوا بالله ورسله وأنه ليس بوالد ولا ولد (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). هذا هو الإيمان بالله حق الإيمان.
وكذلك الصابئون من توافر فيهم ذلك الإيمان الموحد بالله تعالى في الخلق والتكوين والعبادة وآمن بالغيب، وملائكته وكتبه ورسله عامة ورسوله محمد - ﷺ - خاصة.
وقد قضى الله تعالى أن الإيمان مقبول من كل الطوائف والملل، وقد جعل سبحانه وتعالى ذلك الحكم الخالد الأبدي معترضا في أخبار بني إسرائيل ليفتح باب الإيمان لهم، ولغيرهم، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَالَّذينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا).
والإيمان بالله تعالى هو الإيمان بالله باعتقاد وحدانيته في الخلق والتكوين بألا يعتقدوا أن أحدا شارك الله تعالى في إنشائه الخلق، وأنه وحده خالق كل مَن في الوجود وأنه لَا تخرج حركة عن حركة في الوجود، وإنما ذلك قيوميته وإرادته، وأنه ليس بوالد ولا ولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأنه جلت صفاته، فليس كمثله أحد، وهو السميع البصير، وأن يؤمن باليوم الآخر وما فيه من حساب، وثواب وعقاب، وأن يؤمن بملائكته وكتبه ورسله.
هذا هو الإيمان فمن آمن من أتباع محمد - ﷺ - ذلك الإيمان، وأردف إيمانه
بالعمل الصالحِ الذي يكون طاعة لله تعالى وفيه صلاح الناس، (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون).
وكذلك من آمن من اليهود بالله والملائكة الأطهار والرسل الأمجاد ومنهم محمد بن عبد الله رسوله الأمين، علم أن الله منزهٌ عن مشابهة المخلوقين، وأنه ليس كمثله شيء وعمل صالحا (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا همْ يَحْزَنُونَ).
وكذلك النصارى إذا آمنوا بالله ورسله وأنه ليس بوالد ولا ولد (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). هذا هو الإيمان بالله حق الإيمان.
وكذلك الصابئون من توافر فيهم ذلك الإيمان الموحد بالله تعالى في الخلق والتكوين والعبادة وآمن بالغيب، وملائكته وكتبه ورسله عامة ورسوله محمد - ﷺ - خاصة.
254
هؤلاء إذا آمنوا ذلك الإيمان، وأخلصوا لله ذلك الإخلاص وقوّوا إيمانهم بالعمل الصالح الذي يكون فيه الطاعة لله ولرسله والاستجابة لكل ما أمر به - من كانوا كذلك فلا خوف عليهم من عقاب ينزل بهم، ولا يحزنون على ما فاتهم في ماضيهم من شر، لأن الإيمان يجبُّ ما قبله كما قال تعالى: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ...)، فلا يأسون على ما فاتهم ويفرحون بما أتاهم.
ونقبس قبسة من صورة الإيمان كما علم جبريل أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم:
روى ابن ماجه عن عمر رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند النبي - ﷺ - فجاء رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد شعر الرأس، لَا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فجلس إلى النبي - ﷺ -، فأسند ركبته إلى ركبته، ووضع يديه على فخذيه، ثم قال: " يا محمد، ما الإسلام؟ فقال: شهادة أن لَا إله إلا الله، وأني رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت. قال: صدقت، فعجبنا منه يسأله ويصدقه، ثم قال: يا محمد، ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، قال: صدقت، فعجبنا منه يسأله ويصدقه، ثم قال: يا محمد، ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لَا تراه فإنه يراك، قال: فمتي الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فما أمارتها؛ قال؛ أن تلد الأمةُ ربتَها، وأن ترى الحفَاةَ العُراة العَالَة رِعَاء الشاء يتطاولون في البنيان " (١). هذا هو الإيمان الذي يزيل الفوارق التي تكون بين الأمم والجماعات والأديان، وقبل أن نتم الكلام حول الآية الكريمة نذكر أمورا ثلاثة فيها بيان للناس في ظل بيان القرآن الكريم.
________
(١) حديث جبريل الشهير، رواه بهذا اللفظ ابن ماجه: المقدمة (٦٢)، ورواه مسلم: كتاب الإيمان (٩)، والبخاري: الإيمان (٤٨)، والنسائي (٤٩٠٤) وأبو داود (٤٩٧٥) وأحمد: مسند العشرة المبشرين (١٧٩).
ونقبس قبسة من صورة الإيمان كما علم جبريل أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم:
روى ابن ماجه عن عمر رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند النبي - ﷺ - فجاء رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد شعر الرأس، لَا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فجلس إلى النبي - ﷺ -، فأسند ركبته إلى ركبته، ووضع يديه على فخذيه، ثم قال: " يا محمد، ما الإسلام؟ فقال: شهادة أن لَا إله إلا الله، وأني رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت. قال: صدقت، فعجبنا منه يسأله ويصدقه، ثم قال: يا محمد، ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، قال: صدقت، فعجبنا منه يسأله ويصدقه، ثم قال: يا محمد، ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لَا تراه فإنه يراك، قال: فمتي الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فما أمارتها؛ قال؛ أن تلد الأمةُ ربتَها، وأن ترى الحفَاةَ العُراة العَالَة رِعَاء الشاء يتطاولون في البنيان " (١). هذا هو الإيمان الذي يزيل الفوارق التي تكون بين الأمم والجماعات والأديان، وقبل أن نتم الكلام حول الآية الكريمة نذكر أمورا ثلاثة فيها بيان للناس في ظل بيان القرآن الكريم.
________
(١) حديث جبريل الشهير، رواه بهذا اللفظ ابن ماجه: المقدمة (٦٢)، ورواه مسلم: كتاب الإيمان (٩)، والبخاري: الإيمان (٤٨)، والنسائي (٤٩٠٤) وأبو داود (٤٩٧٥) وأحمد: مسند العشرة المبشرين (١٧٩).
255
أولها الفاء في قوله تعالى ([فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ] (١) وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) هي في جواب الشرط أي أن الإيمان الذي شرحناه والعمل الصالح الذي ذكرناه هو الشرط لأن ينالوا الجزاء من أمن الخوف، وألا ينالهم حزن على الماضي.
الأمر الثاني: قد عرفنا اليهود، وهم منحرفون دائما، ولكن فتح لهم باب الرجاء، والنصارى كذلك، فمن هم الصابئون؟.
الصابئون الذين ظهروا في الإسلام وقبله هم أكتم الناس لعبادة الأوثان، ويعلمون صبيانهم كتمانها، وقد قال عنهم أبو بكر الرازي في كتابه أحكام القرآن: وأصل اعتقادهم تعظيم الكواكب السبعة أو عبادتها واتخاذها آلهة، وهم عبدة أوثان في الأصل إلا أنهم منذ ظهر الفرس على إقليم العراق، وأزالوا مملكة الصابئين لم يجسروا على عبادة الأوثان ظاهرا، لأنهم منعوهم من ذلك، وكذلك الروم وأهل الشام والجزيرة كانوا صابئين، فلما تنصر قسطنطين حملهم بالسيف على الدخول في النصرانية، فبطلت عبادة الأوثان من ذلك الوقت، ودخلوا في غمار النصارى في الظاهر، وبقي كثير منهم على تلك النحلة مستخفين بعبادة الأوثان، فلما ظهر الإسلام دخلوا في غمار النصارى، ولم يميز المسلمون بينهم وبين النصارى، إذ كانوا مستخفين بعبادة الأوثان، كاتمين لأصل اعتقادهم، وهم أكتم الناس لاعتقادهم، فالصابئة يعبدون الكواكب والأوثان، ويظهرون بالنصرانية، هذا ما يجب بيانه هنا، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا تاريخ الجدل.
الأمر الثالث: إن بعض النصارى - ومال مَيْلَهُم من في دينه لين - قال: إن القرآن الكريم يعترف بأن النصارى لَا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ونقول إنه اشترط للاعتراف للنصارى بأنه لَا خوف عليهم ولا هم يحزنون - الإيمان بالله تعالى، وأنه الواحد الأحد، وأنه ليس بوالد ولا ولد، وليس له كفوا أحد، فهل يؤمن النصارى في عصرنا ذلك الإيمان وهم يقولون إن الله ثالث ثلاثة، والله تعالى يقول: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثةٍ...)، ويقولون بألوهية المسيح كما قرروا ذلك في مجمع نيقية بإجماع القساوسة وإجماعهم إلى اليوم،
_________
(١) ما بين المعقوفتين زيادة من قبل مصحح النسخة الإلكترونية لتصحيح الكلام، ويبدو أن هذا السقط مرده إلى دار النشر.
الأمر الثاني: قد عرفنا اليهود، وهم منحرفون دائما، ولكن فتح لهم باب الرجاء، والنصارى كذلك، فمن هم الصابئون؟.
الصابئون الذين ظهروا في الإسلام وقبله هم أكتم الناس لعبادة الأوثان، ويعلمون صبيانهم كتمانها، وقد قال عنهم أبو بكر الرازي في كتابه أحكام القرآن: وأصل اعتقادهم تعظيم الكواكب السبعة أو عبادتها واتخاذها آلهة، وهم عبدة أوثان في الأصل إلا أنهم منذ ظهر الفرس على إقليم العراق، وأزالوا مملكة الصابئين لم يجسروا على عبادة الأوثان ظاهرا، لأنهم منعوهم من ذلك، وكذلك الروم وأهل الشام والجزيرة كانوا صابئين، فلما تنصر قسطنطين حملهم بالسيف على الدخول في النصرانية، فبطلت عبادة الأوثان من ذلك الوقت، ودخلوا في غمار النصارى في الظاهر، وبقي كثير منهم على تلك النحلة مستخفين بعبادة الأوثان، فلما ظهر الإسلام دخلوا في غمار النصارى، ولم يميز المسلمون بينهم وبين النصارى، إذ كانوا مستخفين بعبادة الأوثان، كاتمين لأصل اعتقادهم، وهم أكتم الناس لاعتقادهم، فالصابئة يعبدون الكواكب والأوثان، ويظهرون بالنصرانية، هذا ما يجب بيانه هنا، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا تاريخ الجدل.
الأمر الثالث: إن بعض النصارى - ومال مَيْلَهُم من في دينه لين - قال: إن القرآن الكريم يعترف بأن النصارى لَا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ونقول إنه اشترط للاعتراف للنصارى بأنه لَا خوف عليهم ولا هم يحزنون - الإيمان بالله تعالى، وأنه الواحد الأحد، وأنه ليس بوالد ولا ولد، وليس له كفوا أحد، فهل يؤمن النصارى في عصرنا ذلك الإيمان وهم يقولون إن الله ثالث ثلاثة، والله تعالى يقول: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثةٍ...)، ويقولون بألوهية المسيح كما قرروا ذلك في مجمع نيقية بإجماع القساوسة وإجماعهم إلى اليوم،
_________
(١) ما بين المعقوفتين زيادة من قبل مصحح النسخة الإلكترونية لتصحيح الكلام، ويبدو أن هذا السقط مرده إلى دار النشر.
256
والله تعالى يقول: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ...).
* * *
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٤)
* * *
عاد القول إلى بني إسرائيل بعد أن ذكر اليهود والنصارى والصابئين، لبيان أنه لا يصح أن ييئسوا من رحمة الله تعالى بعد ما كان منهم في ماضيهم، وما يكون منهم في حاضرهم إن آمنوا بالله حق إيمانه، وبالآخرة إيمان إذعان ورجاء إن أطاعوا، وخوف العقاب إن عصوا.
بين الله تعالى حال اليهود في ماضيهم ويتحمله الذين حضروا النبي - ﷺ -، لأنهم أقروهم عليه فكان الخطاب بما حصل من أسلافهم موجها أيضا لأخلافهم. قال تعالى:
* * *
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٤)
* * *
عاد القول إلى بني إسرائيل بعد أن ذكر اليهود والنصارى والصابئين، لبيان أنه لا يصح أن ييئسوا من رحمة الله تعالى بعد ما كان منهم في ماضيهم، وما يكون منهم في حاضرهم إن آمنوا بالله حق إيمانه، وبالآخرة إيمان إذعان ورجاء إن أطاعوا، وخوف العقاب إن عصوا.
بين الله تعالى حال اليهود في ماضيهم ويتحمله الذين حضروا النبي - ﷺ -، لأنهم أقروهم عليه فكان الخطاب بما حصل من أسلافهم موجها أيضا لأخلافهم. قال تعالى:
257
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ).
الطور هو الجبل الذي هو في سيناء، فهو جبل معين ذكره الله تعالى في عدة آيات، وهو منسوب إلى سيناء كما قال تعالى: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣). أخذ الله ميثاق بني إسرائيل، والميثاق مفعال من الوثوق أي: وققنا القول والأوامر التي أمر الله بها ونهى فيها، وبين لهم عظمة قدرته وقوة عظمته، وترهيبا لأمره بعد ترغيبهم فيه، وفي هذا الرفع آية حسية تدل على رسالة موسى عليه السلام، وأنه يتلقى أوامره من ربه، إذ كانوا قد طلبوا رؤية ربهم فخروا صعقين، فهذا ربهم يخاطبهم بآية، ورفع الجبل هذا هو ما قاله الله تعالى في سورة الأعراف: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّة وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ...).
الطور هو الجبل الذي هو في سيناء، فهو جبل معين ذكره الله تعالى في عدة آيات، وهو منسوب إلى سيناء كما قال تعالى: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣). أخذ الله ميثاق بني إسرائيل، والميثاق مفعال من الوثوق أي: وققنا القول والأوامر التي أمر الله بها ونهى فيها، وبين لهم عظمة قدرته وقوة عظمته، وترهيبا لأمره بعد ترغيبهم فيه، وفي هذا الرفع آية حسية تدل على رسالة موسى عليه السلام، وأنه يتلقى أوامره من ربه، إذ كانوا قد طلبوا رؤية ربهم فخروا صعقين، فهذا ربهم يخاطبهم بآية، ورفع الجبل هذا هو ما قاله الله تعالى في سورة الأعراف: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّة وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ...).
257
ولقد ذكر سبحانه وتعالى مضمون الميثاق إجمالا، فقال خذوا ما آتيناكم بقوة، أي بجد وإتقان، وتعرف، وعناية، (وَاذْكُرُوا مَا فيهِ)، أي اجعلوه في ذاكرتكم دائما لَا تغفلون عنه، ولا تهملونه، واجعلوه حاضرا دائما في قلوبكم لتعملوا به، ويكون في وعيكم دائما، ولقد ذكر بعض ما في هذا الميثاق بالتفصيل فقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣).
هذا هو بعض التفصيل لهذا الميثاق المحكم الذي واثقه الله عليهم مؤكدًا ذلك التوثيق برفع الجبل فوقهم كأنه ظلة يظلهم، وطالبهم بأن يأخذوا ما آتاهم الله تعالى من تكليفات ذكرنا بعضها، بقوة، أي بيقين وجزم وتصديق وإذعان، وأن يقرن ذلك بالعمل، فلا تأخذونه بيد، وتردونه باليد الأخرى، واذكروا ما فيه، أي اجعلوه دائما في وعيكم وذاكرتكم وقلوبكم، ولا تنسوه.
وإن ذكر الشريعة وأحكامها هو أساس تنفيذها، وإن المسلمين اليوم قد عراهم ما أصاب في ماضيهم، يحفظون القرآن ولا يعونه، ويرددون حروفه، ولا يتدبرونه، ولقد روى مالك في موطئه عن ابن مسعود أنه قال: (سيأتي على الناس - زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي يطيلون فيه الخطبة، ويقصرون الصلاة يُبَدُّون فيه أهواءهم قبل أعمالهم) (١). أي يتبعون أهواءهم ويتركون ما افترض عليهم.
كانت هذه الأوامر التي واثقهم الله تعالى عليها، وأمرهم أن يذكروها دائما لأجل أن يتقوا الله تعالى أي يجعلونها وقاية لهم من ذنوبهم، أو رجاء أن تمتلئ
________
(١) عن عَبْد اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، قَالَ لِإِنْسَانٍ: «إِنَّكَ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ، وَتُضَيَّعُ حُرُوفُهُ. قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ. كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِي. يُطِيلُونَ فِيهِ الصَّلَاةَ، وَيَقْصُرُونَ الْخُطْبَةَ يُبَدُّونَ. أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ، وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ، يُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ. كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ، قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ، وَيَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ. يُبَدُّونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ». أَموطا مالك: كتاب النداء للصلاة (٣٧٩)].
هذا هو بعض التفصيل لهذا الميثاق المحكم الذي واثقه الله عليهم مؤكدًا ذلك التوثيق برفع الجبل فوقهم كأنه ظلة يظلهم، وطالبهم بأن يأخذوا ما آتاهم الله تعالى من تكليفات ذكرنا بعضها، بقوة، أي بيقين وجزم وتصديق وإذعان، وأن يقرن ذلك بالعمل، فلا تأخذونه بيد، وتردونه باليد الأخرى، واذكروا ما فيه، أي اجعلوه دائما في وعيكم وذاكرتكم وقلوبكم، ولا تنسوه.
وإن ذكر الشريعة وأحكامها هو أساس تنفيذها، وإن المسلمين اليوم قد عراهم ما أصاب في ماضيهم، يحفظون القرآن ولا يعونه، ويرددون حروفه، ولا يتدبرونه، ولقد روى مالك في موطئه عن ابن مسعود أنه قال: (سيأتي على الناس - زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي يطيلون فيه الخطبة، ويقصرون الصلاة يُبَدُّون فيه أهواءهم قبل أعمالهم) (١). أي يتبعون أهواءهم ويتركون ما افترض عليهم.
كانت هذه الأوامر التي واثقهم الله تعالى عليها، وأمرهم أن يذكروها دائما لأجل أن يتقوا الله تعالى أي يجعلونها وقاية لهم من ذنوبهم، أو رجاء أن تمتلئ
________
(١) عن عَبْد اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، قَالَ لِإِنْسَانٍ: «إِنَّكَ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ، وَتُضَيَّعُ حُرُوفُهُ. قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ. كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِي. يُطِيلُونَ فِيهِ الصَّلَاةَ، وَيَقْصُرُونَ الْخُطْبَةَ يُبَدُّونَ. أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ، وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ، يُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ. كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ، قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ، وَيَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ. يُبَدُّونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ». أَموطا مالك: كتاب النداء للصلاة (٣٧٩)].
258
بتقوى الله تعالى قلوبهم، وتغلب عليهم مخافة ربهم فلا يعصوه، ويبادروا إلى طاعته، ولذلك قال تعالى: (ولَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي ترجون التقوى والخوف منه.
ولكن كان هذا الميثاق الذي وثقه تعالى بأمر حسي، لأنهم لَا يعتبرون إلا بالمحسوسات مؤديا إلى أن يتقوه سبحانه بل إنهم تلقوا أمرًا موثقا ذلك التوثيق، مؤكدا ذلك التوكيد، ولكنهم كعادتهم في استهانتهم بَأمر الله ونهيه نسوه وتولوا عنه معرضين؛ ولذلك قال تعالى:
ولكن كان هذا الميثاق الذي وثقه تعالى بأمر حسي، لأنهم لَا يعتبرون إلا بالمحسوسات مؤديا إلى أن يتقوه سبحانه بل إنهم تلقوا أمرًا موثقا ذلك التوثيق، مؤكدا ذلك التوكيد، ولكنهم كعادتهم في استهانتهم بَأمر الله ونهيه نسوه وتولوا عنه معرضين؛ ولذلك قال تعالى:
259
(ثُمَّ تَولَّيْتُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ... (٦٤) التولي هو الإعراض، وأصله الإدبار، وأن يجعل جسمه موليا وجه من يطالبه بقول أو عمل، والمعنى أنهم أعرضوا إعراضا شديدا واضحا، كمن يعرض عن القول بتولية جسمه، واتجاهه في اتجاه غير اتجاه من يواجهه بالقول، ومعنى ذلك أنهم جعلوا الله وميثاقه وراءهم، ودبر آذانهم. والتعبير هنا بـ " ثم " التي تدل على التراخي للإشارة إلى البعد عن الميثاق وموجبه، وعملهم المناقض لأمر الله تعالى، والإشارة فيها بالبعيد في قوله تعالى: (ثُمَّ تَوَلتم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ) لبيان بعد عملهم، عن الميثاق الذي أمرهم سبحانه وتعالى أن يأخذوه بقوة، وأن يذكروه دائما وأن يكون في وعيهم في كل أحوالهم.
وإن ذلك التولي كان بالإعراض عما جاء في التوراة أو الألواح العشرة التي أخذوها بقوة، وطولبوا بذكرها دائما ليمكنهم أن يعملوا بها، وقد قال القفال الشاسي بعض ما تولوا به عن التوراة فقال: وإنهم بعد قبول التوراة، ورفع الطور تولوا عن التوراة بأمور كثيرة فحرفوا كلمها عن مواضعه، وتركوا العمل بها، وقتلوا الأنبياء، بعد أن كفروا بهم، وعصوا أمرهم، ومنه ما عمله أوائلهم، ومنه ما فعله متأخروهم، ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم لأعاجيب البلاء يخالفون موسى ويعترضون عليه، ويلقونه بكل أذى، ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك، حتى لقد خسف ببعضهم وأحرقت النار بعضهم، وعوقبوا بالطاعون، ثم نقل متأخروهم ما لَا خفاء فيه، حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس، وكفروا بالمسيح وهموا بقتله.
وإن ذلك التولي كان بالإعراض عما جاء في التوراة أو الألواح العشرة التي أخذوها بقوة، وطولبوا بذكرها دائما ليمكنهم أن يعملوا بها، وقد قال القفال الشاسي بعض ما تولوا به عن التوراة فقال: وإنهم بعد قبول التوراة، ورفع الطور تولوا عن التوراة بأمور كثيرة فحرفوا كلمها عن مواضعه، وتركوا العمل بها، وقتلوا الأنبياء، بعد أن كفروا بهم، وعصوا أمرهم، ومنه ما عمله أوائلهم، ومنه ما فعله متأخروهم، ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم لأعاجيب البلاء يخالفون موسى ويعترضون عليه، ويلقونه بكل أذى، ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك، حتى لقد خسف ببعضهم وأحرقت النار بعضهم، وعوقبوا بالطاعون، ثم نقل متأخروهم ما لَا خفاء فيه، حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس، وكفروا بالمسيح وهموا بقتله.
259
هذه كلمات صورت توليهم عن الحق، واستدباره في عامة أمورهم، وكان منهم في عهد موسى وهو يكلمهم عن الله، ويتولى تربيتهم وبث روح الإيمان في قلوبهم التي قست وكانوا صورة واضحة للناس الذين تغلب عليهم شقوتهم.
ولقد قال تعالى: (فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتم مِّنَ الْخَاسِرِينَ) الفاء فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر أي إذا كان ذلك كله منكم بعد ذلك التوثيق لأمر الله تعالى ونهيه، وأمركم أن تأخذوه فإنه كان ينزل بكم الخسران المبين والعذاب المهين، ولكن لولا فضل الله عليكم ورحمته.. و " لولا " هنا هي التي يقال فيها أنها حرف امتناع وجود أي حرف امتناع الجواب لوجود الشرط. والمعنى أنكم كنتم تستحقون بذلك عذاب الهون، ولولا فضل الله أي إرادته أن يزيد خيره عليكم تمكينا لكم من فعل الخير بإمهالكم لكنتم من الخاسرين، ولقد قال الراغب في تفسيره: الخاسر المطلق هو الذي خسر أعظم ما يقتنى، وهو نعيم الأبد.
فالخاسرون: هم الذين خسروا أنفسهم، بأن أوقعوها في الهلكة والعذاب.
وإن النص القرآني يفيد أن الله بفضله ورحمته أعطاهم مهلة ليتداركوا أمرهم، ولم يكتبهم من الخاسرين.
* * *
اعقداؤهم في السبت
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)
* * *
لقد كان بنو إسرائيل قوما غلبت عليهم شقوتهم، فكان رب العالمين يشرع لهم من الشرائع ما يربون به نفوسهم، ويعودهم ضبط النفس، وفطمها، ليتربوا على البعد عن الشهوات، ويقتصروا على ما فيه مصلحتهم، ويقيم حياتهم مستقيمة؛ ولذلك حرم عليهم بعض المباحات قرعًا لنفوسهم وفطمًا لها، وقد قال
ولقد قال تعالى: (فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتم مِّنَ الْخَاسِرِينَ) الفاء فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر أي إذا كان ذلك كله منكم بعد ذلك التوثيق لأمر الله تعالى ونهيه، وأمركم أن تأخذوه فإنه كان ينزل بكم الخسران المبين والعذاب المهين، ولكن لولا فضل الله عليكم ورحمته.. و " لولا " هنا هي التي يقال فيها أنها حرف امتناع وجود أي حرف امتناع الجواب لوجود الشرط. والمعنى أنكم كنتم تستحقون بذلك عذاب الهون، ولولا فضل الله أي إرادته أن يزيد خيره عليكم تمكينا لكم من فعل الخير بإمهالكم لكنتم من الخاسرين، ولقد قال الراغب في تفسيره: الخاسر المطلق هو الذي خسر أعظم ما يقتنى، وهو نعيم الأبد.
فالخاسرون: هم الذين خسروا أنفسهم، بأن أوقعوها في الهلكة والعذاب.
وإن النص القرآني يفيد أن الله بفضله ورحمته أعطاهم مهلة ليتداركوا أمرهم، ولم يكتبهم من الخاسرين.
* * *
اعقداؤهم في السبت
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)
* * *
لقد كان بنو إسرائيل قوما غلبت عليهم شقوتهم، فكان رب العالمين يشرع لهم من الشرائع ما يربون به نفوسهم، ويعودهم ضبط النفس، وفطمها، ليتربوا على البعد عن الشهوات، ويقتصروا على ما فيه مصلحتهم، ويقيم حياتهم مستقيمة؛ ولذلك حرم عليهم بعض المباحات قرعًا لنفوسهم وفطمًا لها، وقد قال
260
تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (١٤٦).
من ذلك كان تحريم الصيد عليهم يوم السبت قمعا للشهوات، وقد يكون فيه تنظيم اقتصادي، وراحة لهم، وأن يعكفوا على العبادة، ويروضوا أنفسهم على حياة روحية تتطهر فيها نفوسهم وتتجرد من سطوة المادة وشهواتها.
حرم الله تعالى عليهم الصيد في يوم السبت، ولكنهم مرقوا عن أمر الله تعالى، واستباحوا السبت، أو بعبارة أدق استباحه بعضهم، وسكت عن نهيهم سائرهم، وإن كان الذين امتنعوا خيرهم، وقالوا في إخوانهم: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ...)، ولأن أصواتهم لم تصل إلى درجة المنع - نسب الاعتداء إليهم جميعا.
يقول الله تعالى:
من ذلك كان تحريم الصيد عليهم يوم السبت قمعا للشهوات، وقد يكون فيه تنظيم اقتصادي، وراحة لهم، وأن يعكفوا على العبادة، ويروضوا أنفسهم على حياة روحية تتطهر فيها نفوسهم وتتجرد من سطوة المادة وشهواتها.
حرم الله تعالى عليهم الصيد في يوم السبت، ولكنهم مرقوا عن أمر الله تعالى، واستباحوا السبت، أو بعبارة أدق استباحه بعضهم، وسكت عن نهيهم سائرهم، وإن كان الذين امتنعوا خيرهم، وقالوا في إخوانهم: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ...)، ولأن أصواتهم لم تصل إلى درجة المنع - نسب الاعتداء إليهم جميعا.
يقول الله تعالى:
261
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذينَ اعْتَدَوْا منكُمْ فِي السَّبْتِ) أكد سبحانه وتعالى علمهم بهذا الاعتداء باللام التي تَكون للتأكيد، وبـ قد التي تكون للتحقيق دائما سواء أدخلت على المضارع أم دخلت على الماضي، كما هو في القرآن الكريم.
وقالوا: إنه سبحانه وتعالى قال: علمتم، ولم يقل عرفتم؛ لأن المعرفة تمييز للشخص في ظاهر أمره، فتقول: عرفت فلانا إذا لقيته ولم تخبر أحواله، وإذا قلت: علمته؛ فمعنى ذلك أنك علمت أحوال ظاهره وباطنه، فتقول: علمت زيدا إذا علمت أحواله ظهورها، وخفاياها.
أي أنكم علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت، في شره نفوسهم، وَقَرِمِهم إلى الصيد، واندفاعهم نحو المخالفة لأمر ربهم مدفوعين بشهوات جامحة يتحايلون فيها تحايل الولهى لتحقيقها، حاسبين أن ذلك يخفى على الله تعالى، ولكن سبحانه وتعالى يزيد في اختبار نفوسهم، فيرسل حيتان السمك إليهم شارعة يوم السبت، ثم لَا تأتيهم بعد ذلك، ولذلك قال تعالى مبينًا الاختبار في آية أخرى، فقال تعالى:
وقالوا: إنه سبحانه وتعالى قال: علمتم، ولم يقل عرفتم؛ لأن المعرفة تمييز للشخص في ظاهر أمره، فتقول: عرفت فلانا إذا لقيته ولم تخبر أحواله، وإذا قلت: علمته؛ فمعنى ذلك أنك علمت أحوال ظاهره وباطنه، فتقول: علمت زيدا إذا علمت أحواله ظهورها، وخفاياها.
أي أنكم علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت، في شره نفوسهم، وَقَرِمِهم إلى الصيد، واندفاعهم نحو المخالفة لأمر ربهم مدفوعين بشهوات جامحة يتحايلون فيها تحايل الولهى لتحقيقها، حاسبين أن ذلك يخفى على الله تعالى، ولكن سبحانه وتعالى يزيد في اختبار نفوسهم، فيرسل حيتان السمك إليهم شارعة يوم السبت، ثم لَا تأتيهم بعد ذلك، ولذلك قال تعالى مبينًا الاختبار في آية أخرى، فقال تعالى:
261
(وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣).
وهذه القرية يروى ابن كثير في تفسيره أنها كانت بين الأيلة والطور، ولعلها المصر الذي هبطوا إليه في قول موسى: (اهْبِطُوا مِصْرًا). ويروى ابن كثير أنه اشتهى بعضهم السمك فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا إلى البحر. فإذا كان يوم السبت فتح السد فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة، فيريد الحوت أن يخرج، فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر فيها فإذا كان يوم الأحد جاءه، فأخذه، فشواه، وقد قلده جاره، وشاع هذا وفشا فيهم.. فقال لهم علماؤهم: إنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل، فأنتم اصطدتموه يوم السبت.
وما أشبه هؤلاء بإخوانهم ينتسبون إلى دين محمدٍ - ﷺ - حتى إنهم يستبيحون الربا بحيل محرمة، والله عليم بهم وبأحوالهم، ولهم ما أعده الله لبني إسرائيل، وهم أصل الداء في هذا وفي غيره (١).
وقد قال تعالى ما يفيد أنهم إذا لم تتهذب نفوسهم، ولم تتربَّ بالضبط قلوبهم فإنهم كالقردة والخنازير، فقال تعالى: (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) الفاء كأخواتها تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كانوا قد اعتدوا ذلك الاعتداء وشرهوا ذلك الشره، قلنا لهم بلسان التكوين: (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) وروي عن مجاهد أنه قال أنه مسخت قلوبهم فصارت كقلوب القردة تنزوا لشهواتها ولا تتعقل ولا تتدبر في عاقبة أمرها فهبطوا إلى هذه المنزلة الدون وقال: إنه مثل ضربه الله تعالى مبينا حالهم، كالمثل في قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا...)، فصارت قلوبهم قلوب قردة.
________
(١) عَنْ أبِى سَعِيد الخُدْرِى عَنْ الئبِي - ﷺ - قَالَ: " لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ شِبْرًا شبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاع، حَتَى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضبٍّ تَبعْتُمُوهم " قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اليَهُودُ وَالنصَارَى؟ قَالَ: " فَمَنْ "؟ [متفق عليه] رواه البخاري: كتاب الاعتصام بالسنة (٦٧٧٥)، ومسلم: العلم (٤٨٢٢)].
وهذه القرية يروى ابن كثير في تفسيره أنها كانت بين الأيلة والطور، ولعلها المصر الذي هبطوا إليه في قول موسى: (اهْبِطُوا مِصْرًا). ويروى ابن كثير أنه اشتهى بعضهم السمك فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا إلى البحر. فإذا كان يوم السبت فتح السد فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة، فيريد الحوت أن يخرج، فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر فيها فإذا كان يوم الأحد جاءه، فأخذه، فشواه، وقد قلده جاره، وشاع هذا وفشا فيهم.. فقال لهم علماؤهم: إنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل، فأنتم اصطدتموه يوم السبت.
وما أشبه هؤلاء بإخوانهم ينتسبون إلى دين محمدٍ - ﷺ - حتى إنهم يستبيحون الربا بحيل محرمة، والله عليم بهم وبأحوالهم، ولهم ما أعده الله لبني إسرائيل، وهم أصل الداء في هذا وفي غيره (١).
وقد قال تعالى ما يفيد أنهم إذا لم تتهذب نفوسهم، ولم تتربَّ بالضبط قلوبهم فإنهم كالقردة والخنازير، فقال تعالى: (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) الفاء كأخواتها تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كانوا قد اعتدوا ذلك الاعتداء وشرهوا ذلك الشره، قلنا لهم بلسان التكوين: (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) وروي عن مجاهد أنه قال أنه مسخت قلوبهم فصارت كقلوب القردة تنزوا لشهواتها ولا تتعقل ولا تتدبر في عاقبة أمرها فهبطوا إلى هذه المنزلة الدون وقال: إنه مثل ضربه الله تعالى مبينا حالهم، كالمثل في قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا...)، فصارت قلوبهم قلوب قردة.
________
(١) عَنْ أبِى سَعِيد الخُدْرِى عَنْ الئبِي - ﷺ - قَالَ: " لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ شِبْرًا شبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاع، حَتَى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضبٍّ تَبعْتُمُوهم " قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اليَهُودُ وَالنصَارَى؟ قَالَ: " فَمَنْ "؟ [متفق عليه] رواه البخاري: كتاب الاعتصام بالسنة (٦٧٧٥)، ومسلم: العلم (٤٨٢٢)].
262
وإنه يزكي ذلك المعنى أنه شبه حالهم في آية أخرى بالقردة والخنازير لَا بالقردة وحدهم، وذلك في قوله تعالى في سورة المائدة: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (٦٠).
ومعنى خاسئين.. أي مبعدين يقال خسئ أي بعد، وخسأته أبعدته، والمعنى بعيدون عن مواطن العزة ورضا الله تعالى، لأن الشهوة والعزة نقيضان لَا يجتمعان فالشهوات مطية المذلة والهوان، ولا يهون إنسان إلا إذا هانت نفسه، وصارت أمة للشهوات. إن الله تعالى جعل تلك القرية التي كانت مكان الفسق عن أمر الله تعالى نكالا وموعظة فقال تعالى:
ومعنى خاسئين.. أي مبعدين يقال خسئ أي بعد، وخسأته أبعدته، والمعنى بعيدون عن مواطن العزة ورضا الله تعالى، لأن الشهوة والعزة نقيضان لَا يجتمعان فالشهوات مطية المذلة والهوان، ولا يهون إنسان إلا إذا هانت نفسه، وصارت أمة للشهوات. إن الله تعالى جعل تلك القرية التي كانت مكان الفسق عن أمر الله تعالى نكالا وموعظة فقال تعالى:
263
(فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا).
النكال المنع والزجر، والنكل القيد، والأنكال القيود، لأنها تمنع.
والفاء للإفصاح، كما ذكرنا في غير ذلك الموضع، والضمير في قوله تعالى: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا... (٦٦)
يعود إلى العقوبة أي جعلنا هذه العقوبة التي كان من
مقتضاها أن يفقدوا معاني السمو الإنساني، والارتفاع عن حضيض الحيوانية الأوهد، وقيل: إنها تعود على القرية التي كان فيها ذلك الاعتداء؛ لأنها حاضرة في الذهن ومشار إليها بذكر الذين اعتدوا منكم في السبت، أي والقرية التي كان فيها الاعتداء، فهي إن طويت في البيان ملاحظة في المعنى، وهكذا يفسر القرآن بعضه بعضا، وما يطوى في مكان يصرح به في مكان آخر، تعالت كلمات الله تعالى.
وقد أنزل سبحانه وتعالى بسبب هذه الشهوات الجامحة الخارجة عن مقتضى الطبع الإنساني عذابا شديدا من الذل بعد العزة، ومن الضيق بعد السعة، ومن الشدة بعد الرخاء ما جعلها عبرة لمن بين يدي الحاضرين، ومن يجيء بعدها من الناس، وعبر سبحانه وتعالى عن الحاضرين بقوله تعالى: (لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) كناية عن وجودها معهم، وأنها على مقربة منهم، قرب ما بين اليدين من الصدر، والذين تحوطهم ويحوطونها.
النكال المنع والزجر، والنكل القيد، والأنكال القيود، لأنها تمنع.
والفاء للإفصاح، كما ذكرنا في غير ذلك الموضع، والضمير في قوله تعالى: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا... (٦٦)
يعود إلى العقوبة أي جعلنا هذه العقوبة التي كان من
مقتضاها أن يفقدوا معاني السمو الإنساني، والارتفاع عن حضيض الحيوانية الأوهد، وقيل: إنها تعود على القرية التي كان فيها ذلك الاعتداء؛ لأنها حاضرة في الذهن ومشار إليها بذكر الذين اعتدوا منكم في السبت، أي والقرية التي كان فيها الاعتداء، فهي إن طويت في البيان ملاحظة في المعنى، وهكذا يفسر القرآن بعضه بعضا، وما يطوى في مكان يصرح به في مكان آخر، تعالت كلمات الله تعالى.
وقد أنزل سبحانه وتعالى بسبب هذه الشهوات الجامحة الخارجة عن مقتضى الطبع الإنساني عذابا شديدا من الذل بعد العزة، ومن الضيق بعد السعة، ومن الشدة بعد الرخاء ما جعلها عبرة لمن بين يدي الحاضرين، ومن يجيء بعدها من الناس، وعبر سبحانه وتعالى عن الحاضرين بقوله تعالى: (لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) كناية عن وجودها معهم، وأنها على مقربة منهم، قرب ما بين اليدين من الصدر، والذين تحوطهم ويحوطونها.
263
وإن ذلك العقاب يكون له صدى يتردد في الأجيال بعدهم جيلا بعد جيل، ومثل هذه القرية كمثل قرية عصت أمر الله تعالى، وكفرت بأنعمه سبحانه، وقال فيها تعالت كلماته: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (١١٣).
فما أشبه حال بني إسرائيل في أنعم الله تعالى عليهم بحال تلك القرية، وكأنها مثل بين لهم، والموعظة وزنها تَفْعِلَة بمعنى المصدر الميمي من الوعظ، وهو التخويف والزجر بما وقع لغيره، ويكون للتذكير بالخير مما يرق له القلب، كما يكون للتذكير والإنذار بما وقع للعصاة.
وخص سبحانه وتعالى تأثير الموعظة بالمتقين، وإن كانت هي للعالمين لتفردهم بالتأثر بها، والاهتداء بهديها وهم الذين تنفعل نفوسهم للخير لأنهم ليسوا مغرورين بعزة الشيطان، ولكن تمتلئ قلوبهم بتقوى الله تعالى، بأن يجعلوا بينهم وبين عذاب الله تعالى وقاية، فمن دأبهم الحذر من الشر، وإذا ذُكِّروا ذَكَروا، والله هو الهادي إلى الرشاد.
* * *
بقرة بني إسرائيل
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٦٧) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (٦٨) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ
فما أشبه حال بني إسرائيل في أنعم الله تعالى عليهم بحال تلك القرية، وكأنها مثل بين لهم، والموعظة وزنها تَفْعِلَة بمعنى المصدر الميمي من الوعظ، وهو التخويف والزجر بما وقع لغيره، ويكون للتذكير بالخير مما يرق له القلب، كما يكون للتذكير والإنذار بما وقع للعصاة.
وخص سبحانه وتعالى تأثير الموعظة بالمتقين، وإن كانت هي للعالمين لتفردهم بالتأثر بها، والاهتداء بهديها وهم الذين تنفعل نفوسهم للخير لأنهم ليسوا مغرورين بعزة الشيطان، ولكن تمتلئ قلوبهم بتقوى الله تعالى، بأن يجعلوا بينهم وبين عذاب الله تعالى وقاية، فمن دأبهم الحذر من الشر، وإذا ذُكِّروا ذَكَروا، والله هو الهادي إلى الرشاد.
* * *
بقرة بني إسرائيل
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٦٧) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (٦٨) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ
264
يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)
* * *
كان بنو إسرائيل في مصر، وكانوا أذلوهم يذبِّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، ولكنهم عاشروهم حقبة طويلة من الزمن تأثروا بعاداتهم، وألفوا ما كانوا يألفون، لقد كان المصريون يعبدون العجل، ويقدسونه وقد أراد الله تعالى أن يقتلع من بني إسرائيل ما تأثروا به، وقد رأينا السامري أضلهم فعبده بعضهم، ولم ينههم سائرهم عن عبادته، فاششركوا جميعا في هذا المنكر.
وإن الله تعالى قد اختبرهم ليزيل ما في نفوسهم من نزعة إلى تقديسه أو بقية من هذا التقديس فقال رسولهم الأمين القوي:
* * *
كان بنو إسرائيل في مصر، وكانوا أذلوهم يذبِّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، ولكنهم عاشروهم حقبة طويلة من الزمن تأثروا بعاداتهم، وألفوا ما كانوا يألفون، لقد كان المصريون يعبدون العجل، ويقدسونه وقد أراد الله تعالى أن يقتلع من بني إسرائيل ما تأثروا به، وقد رأينا السامري أضلهم فعبده بعضهم، ولم ينههم سائرهم عن عبادته، فاششركوا جميعا في هذا المنكر.
وإن الله تعالى قد اختبرهم ليزيل ما في نفوسهم من نزعة إلى تقديسه أو بقية من هذا التقديس فقال رسولهم الأمين القوي:
265
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً) ولو أتوا إلى أية بقرة فذبحوها لكان في ذلك استجابة لأمر الله تعالى؛ لأن الأمر المطلق تتحقق الإجابة فيه بالتنفيذ في أية جزئية من جزئياته، والمطلق يتحقق وجوده في أي فرد من أفراده.
ولكن الطلب لم يصادف أهواءهم، وحالهم في ذات أنفسهم فأخذوا يراوغون بكثرة الاستفهام، وإن أول التمرد هو كثرة الأسئلة، فالطاعة ألا تتمرد، ولا تثير الجدل، وكان أول قولهم في مجاوبة نبي الله وكليمه موسى عليه السلام أن قالوا، وكأنهم يتهكمون: (أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا) والهزو اللعب والسخرية، أي أنهم يستغربون ذلك الطلب، ولا ندري لماذا يكون الأمر بالذبح سخرية بهم، وعبثا بعقولهم العابثة إلا أن يكون ذلك مخالفا لمألوفهم، وبالغوا في الهزء فقالوا: (أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا) أي
ولكن الطلب لم يصادف أهواءهم، وحالهم في ذات أنفسهم فأخذوا يراوغون بكثرة الاستفهام، وإن أول التمرد هو كثرة الأسئلة، فالطاعة ألا تتمرد، ولا تثير الجدل، وكان أول قولهم في مجاوبة نبي الله وكليمه موسى عليه السلام أن قالوا، وكأنهم يتهكمون: (أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا) والهزو اللعب والسخرية، أي أنهم يستغربون ذلك الطلب، ولا ندري لماذا يكون الأمر بالذبح سخرية بهم، وعبثا بعقولهم العابثة إلا أن يكون ذلك مخالفا لمألوفهم، وبالغوا في الهزء فقالوا: (أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا) أي
265
أتجعلنا بأمرك في موضع الهزء والسخرية، وذلك لما ألفوه من أن البقرة مقدسة لا تذبح بل تعبد، وإذا لم تكن عندهم هذه الحال فإنه لَا موضع لأن يستهزأ بهم، ولا أن يسخر منهم بذكر أمر الله تعالى.
فقال موسى كليم الله: (أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) كانت إجابتهم لأمر الله تعالى خروجًا عن طاعته بأغلظ القول وأفظه، فأجابهم الرسول الرفيق، فقال: أعوذ بالله تعالى أن أكون من الجاهلين؛ أي ألجأ إليه عائذا به، متجها إليه أن أكون من الجاهلين، لأن الجاهل هو الذي يجعل الهزء والسخرية في موضع الجد وبيان أمر الله تعالى، ونفَى سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام وصف الجهل، ولم يكتف بنفي الفعل؛ لأنه أبلغ وبيان أنه لَا يليق بنبي من أنبياء الله تعالى: أولي العزم من الرسل، وبالغ عليه السلام في نفي الجهل بنفي أن يكون من زمرة الجاهلين لما يجب على الرسول من بيان أمر الله تعالى.
وإن ذلك الجواب القاطع كان جديرا بأن يمنعهم من اللجاجة والمراوغة في الاستجابة لأمر الله تعالى، ولكن لأن نفوسهم متأثرة بأوهام المصريين، استمروا في لجاجتهم ومراوغتهم عساهم يجدون مناصا للخروج من هذا الأمر الجازم قالوا:
فقال موسى كليم الله: (أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) كانت إجابتهم لأمر الله تعالى خروجًا عن طاعته بأغلظ القول وأفظه، فأجابهم الرسول الرفيق، فقال: أعوذ بالله تعالى أن أكون من الجاهلين؛ أي ألجأ إليه عائذا به، متجها إليه أن أكون من الجاهلين، لأن الجاهل هو الذي يجعل الهزء والسخرية في موضع الجد وبيان أمر الله تعالى، ونفَى سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام وصف الجهل، ولم يكتف بنفي الفعل؛ لأنه أبلغ وبيان أنه لَا يليق بنبي من أنبياء الله تعالى: أولي العزم من الرسل، وبالغ عليه السلام في نفي الجهل بنفي أن يكون من زمرة الجاهلين لما يجب على الرسول من بيان أمر الله تعالى.
وإن ذلك الجواب القاطع كان جديرا بأن يمنعهم من اللجاجة والمراوغة في الاستجابة لأمر الله تعالى، ولكن لأن نفوسهم متأثرة بأوهام المصريين، استمروا في لجاجتهم ومراوغتهم عساهم يجدون مناصا للخروج من هذا الأمر الجازم قالوا:
266
(ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ... (٦٨)
يقولون لنبي الله موسى: ادع ربك واضرع إليه - الذي رباك وكوَّنك أن يبين لنا ما هي؟ وصيغة السؤال هكذا استفهام عن ماهية البقرة وحقيقتها وكأنهم لم يروها ولم يعرفوها، ولم يكونوا مع الذين كانوا يعبدونها، ولكن نبي الله الحكيم، أجابهم بالأسلوب الحكيم، وهو ما ينبغي أن يكون السؤال عنه فقال عليه السلام بهداية من الله تعالى: (إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ) والفارض هي التي فرضت سنها أي أنها حطت سنها، وبلغت نهايته، أي كانت طاعنة في السن، ولا بكر: ليست صغيرة، أي أنها بقرة وسط ليست صغيرة ولا كبيرة؛ ولذا فالعوان بين ذلك أي وسط بين الصغر والكبر المفرط، ويظهر أن تلك كانت أوصاف عجل أهل مصر، وقد قال موسى بأمر ربه (فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ) بلا لجاجة ولا مراوغة، ولا محاولة الإفلات من أمر الله تعالى.
يقولون لنبي الله موسى: ادع ربك واضرع إليه - الذي رباك وكوَّنك أن يبين لنا ما هي؟ وصيغة السؤال هكذا استفهام عن ماهية البقرة وحقيقتها وكأنهم لم يروها ولم يعرفوها، ولم يكونوا مع الذين كانوا يعبدونها، ولكن نبي الله الحكيم، أجابهم بالأسلوب الحكيم، وهو ما ينبغي أن يكون السؤال عنه فقال عليه السلام بهداية من الله تعالى: (إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ) والفارض هي التي فرضت سنها أي أنها حطت سنها، وبلغت نهايته، أي كانت طاعنة في السن، ولا بكر: ليست صغيرة، أي أنها بقرة وسط ليست صغيرة ولا كبيرة؛ ولذا فالعوان بين ذلك أي وسط بين الصغر والكبر المفرط، ويظهر أن تلك كانت أوصاف عجل أهل مصر، وقد قال موسى بأمر ربه (فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ) بلا لجاجة ولا مراوغة، ولا محاولة الإفلات من أمر الله تعالى.
266
وكان حقا عليهم أن يطيعوا بعد ذلك فقد بين لهم كل شيء، والفاء للإفصاح ولكن لجاجتِهم لم تنته عند ذلك، وهم يريدون أن يراوغوا وأن يثيروا الجدل عساهم يفلتون من إجابة الأمر.
قالوا مجادلين مراوغين:
قالوا مجادلين مراوغين:
267
(ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنهَا) أي يبين اللون الذي يريدها أهي الصفراء أم السوداء، أم الخليط من ذلك، ولقد بين سيدنا موسى اللون، فقال: (إِنَّهُ يَقُولُ) مسندا القول لرب العالمين: (إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) الصفراء هي ما فيها لون الصفرة، ومعنى (فَاقِعٌ لوْنُهَا) أي خالص صافٍ له بريق ولمعان، ولذلك يسر الناظرين، أي تتلقاه الأنظُر بالسرور، وكأن هذه كانت أوصاف العجل الذي كان المصريون يعبدونه، وكان يجب عليهم بعد ذلك أن يفعلوا ما أمروا غير متلومين، ولا متحيرين ولكنهم أثاروا بعد ذلك ما يفيد حيرتهم، ولا حيرة في ذات الموضوع إنما الحيرة في نفوسهم الملتوية التي سرى إليها تقديس البقرة.
قالوا كأنهم متحيرون: (إِنَّ الْبَقَرِ تَشَابَهَ عَلَيْنَا... (٧٠)
وإن التشابه من عقولهم، لَا من الجهل في ذلك قالوا:
قالوا كأنهم متحيرون: (إِنَّ الْبَقَرِ تَشَابَهَ عَلَيْنَا... (٧٠)
وإن التشابه من عقولهم، لَا من الجهل في ذلك قالوا:
(ادع لَنَا رَبَّكَ يُبيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ) كان هذا التساؤل المستمر كاشفا لسوء نيتهم وعدم رغبتهم في الطاعة، وقدْ تكشف أمرهم فستروه مظهرين رجاءهم في الهداية وكان ذلك بقولهم: (وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّه لَمُهْتَدُونَ) أكدوا رغبتهم في الهداية بالجملة الاسمية، وبـ " أنَّ " وبـ " لام " التوكيد، والمشيئة الربانية، ومع ذلك كان سؤالهم عن الماهية، ولكن عدل في الإجابة إلى الأسلوب الحكيم، وهو بيان أنها ليست ذلولا معدة لحراثة ولا لسقاية الزرع، بل هي فارغة عن عمل، ولذا قال موسى في الرد:
(إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا... (٧١)
أوصاف يشترط وجودها ليكون ذبحها سائغًا جائزًا:
أولها: أنها ليست ذلولا أي ليست مذللة لعمل معين بل هي مطلقة ترعى في الكلأ، لَا رقابة عليها، ولا سلطان لأحد -
أوصاف يشترط وجودها ليكون ذبحها سائغًا جائزًا:
أولها: أنها ليست ذلولا أي ليست مذللة لعمل معين بل هي مطلقة ترعى في الكلأ، لَا رقابة عليها، ولا سلطان لأحد -
267
وثانيها: أنها لم تعد لحرث الأرض وإثارتها ليرمى فيها الزرع.
وثالثها: أنها لَا تسقي الزرع فلا تدير ساقية تسقي الزرع.
والوصف الرابع: أنها مسلَّمة، أي سليمة من العرج، ومن كل ما يشوب جسمها من شوائب المرض، فمسلمة اسم مفعول من سلَّم، أي أن الله تعالى سلمها من كل العيوب الجسمية، فلا بها عرج، ولا عور، ولا أي عيب جسمي.
والوصف الخامس: أنه لَا شية فيها، أي ليس فيها لون يخالف لونها الذي يعم كل أجزائها، والشية أصلها وشية حذفت فاؤها، لأنها وصلة، والشية مأخوذة من وشى الثوب إذا نسج على لونين مختلفين.
ونرى أن هذه الأوصاف في البقرة تشبه الأوصاف التي كان يذكرها قدماء المصريين في العجل الذي يعبدونه، فأتى الله سبحانه وتعالى بأوصافه، لتبين أنهم خلصوا من نفوسهم كل أوهام المصريين في البقر.
وقد يقال: إنه كان عجلا، ولم يكن بقرة، فنقول: إن بقرة مفرد لاسم جنس جمعي هو البقر، ويراد به الذكور والإناث، وإن طلب ذبح بقرة تتشابه في أوصافها مع أوصاف العجل الذي توهموا أنه يستحق أن يعبد، فيه اختبار شديد لهم، وحمل لهم على أن يخلعوا كل أوهام المصريين التي سرت إلى نفوسهم.
ولقد قال تعالى من بعد ذلك: (فَذَبَحوهَا) أي قاموا بذبحها (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) لكثرة لجاجتهم، ومراوغاتهم وجدلهم، ولكن الله سبحانه وتعالى راضهم على ذلك حتى فعلوا كارهين غير راضين.
* * *
وثالثها: أنها لَا تسقي الزرع فلا تدير ساقية تسقي الزرع.
والوصف الرابع: أنها مسلَّمة، أي سليمة من العرج، ومن كل ما يشوب جسمها من شوائب المرض، فمسلمة اسم مفعول من سلَّم، أي أن الله تعالى سلمها من كل العيوب الجسمية، فلا بها عرج، ولا عور، ولا أي عيب جسمي.
والوصف الخامس: أنه لَا شية فيها، أي ليس فيها لون يخالف لونها الذي يعم كل أجزائها، والشية أصلها وشية حذفت فاؤها، لأنها وصلة، والشية مأخوذة من وشى الثوب إذا نسج على لونين مختلفين.
ونرى أن هذه الأوصاف في البقرة تشبه الأوصاف التي كان يذكرها قدماء المصريين في العجل الذي يعبدونه، فأتى الله سبحانه وتعالى بأوصافه، لتبين أنهم خلصوا من نفوسهم كل أوهام المصريين في البقر.
وقد يقال: إنه كان عجلا، ولم يكن بقرة، فنقول: إن بقرة مفرد لاسم جنس جمعي هو البقر، ويراد به الذكور والإناث، وإن طلب ذبح بقرة تتشابه في أوصافها مع أوصاف العجل الذي توهموا أنه يستحق أن يعبد، فيه اختبار شديد لهم، وحمل لهم على أن يخلعوا كل أوهام المصريين التي سرت إلى نفوسهم.
ولقد قال تعالى من بعد ذلك: (فَذَبَحوهَا) أي قاموا بذبحها (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) لكثرة لجاجتهم، ومراوغاتهم وجدلهم، ولكن الله سبحانه وتعالى راضهم على ذلك حتى فعلوا كارهين غير راضين.
* * *
268
ادِّراؤهم في قتل نفس
(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)
* * *
المفسرون على أن هذه الآيات جزء من قصة البقرة إلا ما يتعلق بقسوة قلوبهم، والحجارة وبعض خواصها، فهم يقولون إن الأمر بذبح البقرة كان ليضربوه بها أي ليضربوا المقتول بها فيحيا، فقوله تعالى: (اضْرِبُوهُ بِبَعْضهَا كذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى) الضمير يعود إلى البقرة التي ذبحت: يضرب ببعضها فيحيا ويخبر عمن قتله ونحن لَا نرد ذلك ولا نكذبه فأخبار بني إسرائيل فيها العجائب الكثيرة التي ساقها الله تعالى ليؤمنوا ويذعنوا، ولكن لم يذعنوا قط مع توالي هذه الأمور الخارقة للعادة التي توالت وكثرت.
ولكن في العصر الحديث قرر المرحوم الأستاذ الكبير الشيخ عبد الوهاب النجار، أنهما قصتان سيقتا لغرضين مختلفين: أما الأولى فهي قصة البقرة، وهي قائمة بذاتها سيقت لبيان آثار العقائد المصرية في نفوس بني إسرائيل، ولجاجتهم في الامتناع عن ذبح البقرة متأثرين بتقديس المصريين للبقر.. والثانية سيقت لبيان أثر رؤية المقتول في نفس القاتل، وتأثره بذلك، وأنه يحمله على الاعتراف بالجريمة عندما يرى المقتول ويمس جسده، وقد ذكر ذلك الرأي في كتابه قصص القرآن قال تعالى:
(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)
* * *
المفسرون على أن هذه الآيات جزء من قصة البقرة إلا ما يتعلق بقسوة قلوبهم، والحجارة وبعض خواصها، فهم يقولون إن الأمر بذبح البقرة كان ليضربوه بها أي ليضربوا المقتول بها فيحيا، فقوله تعالى: (اضْرِبُوهُ بِبَعْضهَا كذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى) الضمير يعود إلى البقرة التي ذبحت: يضرب ببعضها فيحيا ويخبر عمن قتله ونحن لَا نرد ذلك ولا نكذبه فأخبار بني إسرائيل فيها العجائب الكثيرة التي ساقها الله تعالى ليؤمنوا ويذعنوا، ولكن لم يذعنوا قط مع توالي هذه الأمور الخارقة للعادة التي توالت وكثرت.
ولكن في العصر الحديث قرر المرحوم الأستاذ الكبير الشيخ عبد الوهاب النجار، أنهما قصتان سيقتا لغرضين مختلفين: أما الأولى فهي قصة البقرة، وهي قائمة بذاتها سيقت لبيان آثار العقائد المصرية في نفوس بني إسرائيل، ولجاجتهم في الامتناع عن ذبح البقرة متأثرين بتقديس المصريين للبقر.. والثانية سيقت لبيان أثر رؤية المقتول في نفس القاتل، وتأثره بذلك، وأنه يحمله على الاعتراف بالجريمة عندما يرى المقتول ويمس جسده، وقد ذكر ذلك الرأي في كتابه قصص القرآن قال تعالى:
269
(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) أي لم يعرف القاتل، ودرء كل فريق القتل عن
269
نفسه باتهام الآخر، فالادِّراء أو التدارؤ أن يدفع كل فريق التهمة عن النفس، ويتهم الآخر.
وكل منهم يعلم الواقع، ولكن يقرر غيره؛ ولذلك قال تعالى: (وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُون) أي من الحق، ومؤدى ذلك أنهم عالمون فيما بينهم من القاتل ولكن يجهِّلون الأمر، ولكن الله تعالى كاشف الأمر.
فالمفسرون جملة يقولون: الضمير في بعضها، في قوله تعالى:
وكل منهم يعلم الواقع، ولكن يقرر غيره؛ ولذلك قال تعالى: (وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُون) أي من الحق، ومؤدى ذلك أنهم عالمون فيما بينهم من القاتل ولكن يجهِّلون الأمر، ولكن الله تعالى كاشف الأمر.
فالمفسرون جملة يقولون: الضمير في بعضها، في قوله تعالى:
270
(اضْرِبُوهُ بِبَعضهَا) أي ببعض البقرة، وإن ضربهم للمقتول ببعض البقرة، يحييه الله تعالى فيخبر عمن قتله، ويعرف القاتل، وقصة البقرة سيقت لبيان إحياء الله تعالى الموتي في وسط قوم ينكرون البعث والنشور؛ ولذلك قال تعالى بعد ذلك: (كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى) أي كذلك الإحياء الذي شاهدتموه عيانا، إذ كان ميتا فأحياه الله تعالى؛ أي مثل ذلك الإحياء الجزئي الذي شاهدتموه وعاينتموه يحيي سبحانه وتعالى الأجسام بعد موتها، ويكون النشور ثم تقوم القيامة.
ويقول سبحانه وتعالى: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي رجاء منكم لأن تعقلوا وتدركوا الأمور على وجهها، وعلى هذا التفسير يكون المقصود أن الأمر بالذبح لكي يضرب ببعضها الميت فيحيا، وإن هذا يقتضي أن يقدم خبر الإحياء والضرب ببعضها على الأمر بالذبح.
وقد أجاب عن ذلك الزمخشري بأن التأخير يفيد بأن في الخبر أمرين عجيبين، وأن كليهما يصلح أن يكون قصة قائمة بذاته، فالأولى المراوغة في الطاعة، والثانية إظهار الأمر الخارق لمادة، في إحياء الميت بضربه ببعض بقرة، ولقد قال في ذلك:
إن كل ما قص من قصص بني إسرائيل إنما قص تعديدا لما وجد منهم من الخطايا، وتقريعا لهم عليها، ولما جُدِّد فيهم من الآيات العظام، وهاتان قصتان كل واحدة منهما خصت بنوع من التقريع، وإن كانتا متصلتين متحدتين، فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء، وترك المسارعة إلى الامتثال، وما يتبع ذلك، والثانية
ويقول سبحانه وتعالى: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي رجاء منكم لأن تعقلوا وتدركوا الأمور على وجهها، وعلى هذا التفسير يكون المقصود أن الأمر بالذبح لكي يضرب ببعضها الميت فيحيا، وإن هذا يقتضي أن يقدم خبر الإحياء والضرب ببعضها على الأمر بالذبح.
وقد أجاب عن ذلك الزمخشري بأن التأخير يفيد بأن في الخبر أمرين عجيبين، وأن كليهما يصلح أن يكون قصة قائمة بذاته، فالأولى المراوغة في الطاعة، والثانية إظهار الأمر الخارق لمادة، في إحياء الميت بضربه ببعض بقرة، ولقد قال في ذلك:
إن كل ما قص من قصص بني إسرائيل إنما قص تعديدا لما وجد منهم من الخطايا، وتقريعا لهم عليها، ولما جُدِّد فيهم من الآيات العظام، وهاتان قصتان كل واحدة منهما خصت بنوع من التقريع، وإن كانتا متصلتين متحدتين، فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء، وترك المسارعة إلى الامتثال، وما يتبع ذلك، والثانية
270
للتقريع على قتل النفس المحرمة، وما يتبعه من الآية العظيمة، وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل؛ لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة، ولذهب الغرض من تثنية التقريع، ولقد روعيت نكتة بعدما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها أن وصلت بالأولى دلالة على اتحادهما بضمير البقرة لَا باسمها الصريح في قوله تعالى: (اضْرِبُوهُ بِبَعْضهَا) حتى يتبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع - وتثنيته بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة.
هذا بيان أنها قصة، ولكن الزمخشري ذكر أنهما قصتان متحدتان في قصة واحدة، وأن الضمير العائد إلى البقرة في قوله تعالى: (اضْرِبُوهُ ببَعْضهَا) أي ببعض البقرة.
لكن المرحوم الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار، عدهما قصتين منفصلتين لا اتصال بينهما بأي نوع من الاتصال البياني؛ ولذا لم يجعل الضمير في قوله تعالى: (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا) عائدا على البقرة إنما جعله عائدا إلى جثة المقتول، بمعنى فاضربوا القاتل الذي قام الاتهام على أنه القاتل ببعض جثة المقتول فإن ذلك يحمله على الاعتراف، وإذا قام الاعتراف فقد قام الدليل الموجب للقصاص، وبذلك القصاص يحي الله تعالى من مات بالقصاص له.
ذلك كقوله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا...)، وإحياؤها بالقصاص، فالقصاص إحياء للنفوس كما قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩).
وقد ثبت بالإحصاء في تحقيق جرائم القتل أن مجرد رؤية الجاني للمجني عليه وهو مقتول يحركه للاعتراف، واعتمد المرحوم النجار في ذلك على إحصاءإت كثيرة كتبها له رجال الشرطة، وأن من الوسائل المتبعة لحمل المتهم على الاعتراف أن
هذا بيان أنها قصة، ولكن الزمخشري ذكر أنهما قصتان متحدتان في قصة واحدة، وأن الضمير العائد إلى البقرة في قوله تعالى: (اضْرِبُوهُ ببَعْضهَا) أي ببعض البقرة.
لكن المرحوم الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار، عدهما قصتين منفصلتين لا اتصال بينهما بأي نوع من الاتصال البياني؛ ولذا لم يجعل الضمير في قوله تعالى: (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا) عائدا على البقرة إنما جعله عائدا إلى جثة المقتول، بمعنى فاضربوا القاتل الذي قام الاتهام على أنه القاتل ببعض جثة المقتول فإن ذلك يحمله على الاعتراف، وإذا قام الاعتراف فقد قام الدليل الموجب للقصاص، وبذلك القصاص يحي الله تعالى من مات بالقصاص له.
ذلك كقوله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا...)، وإحياؤها بالقصاص، فالقصاص إحياء للنفوس كما قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩).
وقد ثبت بالإحصاء في تحقيق جرائم القتل أن مجرد رؤية الجاني للمجني عليه وهو مقتول يحركه للاعتراف، واعتمد المرحوم النجار في ذلك على إحصاءإت كثيرة كتبها له رجال الشرطة، وأن من الوسائل المتبعة لحمل المتهم على الاعتراف أن
271
يمكنوه من رؤية القتيل، فإن ذلك يجعله يقشعر ويحس بعظيم ما ارتكب، وربما حمله ذلك على الاعتراف، والاعتراف سلطان الأدلة.
وإنه يزكي كلام المرحوم الأستاذ النجار ما يأتي:
أولا: أن القصة الثانية: وهي قصة القتل ابتدأت بقوله تعالى: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا)، ولذلك لم يسع الزمخشري وهو الذواق للبيان القرآني إلا أن يذكر أنهما قصتان، وإن كان قد حاول أن يصل بينهما بأن الضمير في قوله تعالى: (اضْرِبوهُ بِبَعْضِهَا) يعود على البقرة، مع البعد بينهما بطائفة من القول، وعدم ظهور ذلك العود على البقرة.
الثاني: أن الضمير في (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا) إذا عاد إلى النفس المقتولة يعود إلى أقرب مذكور، وعودة الضمير إلى أقرب مذكور هو القاعدة العامة إلا إذا أدى فيها الأمر إلى شذوذ غير معقول، أو كان ذلك مستحيلا.
الثالث: أن عود الضمير على النفس يؤدي علما نفسيا اجتماعيا هاديا مرشدا، فيكون في ذلك فائدة جديدة لم تكن في قصة البقرة، لأن قصة البقرة تدل على عناد بني إسرائيل وتأثرهم بأهواء المصريين في تقديس العجل.
الرابع: أن الآية اختتمت بقوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وهو يدل على أن الموضوع يحتاج إلى تدبر، وفكر رشيد، وإدراك لمرمى التكليف.
وما نراه أن الفرق بين رأي المفسرين، ورأي المرحوم الأستاذ النجار أن اتجاه المفسرين إلى جعل مسألة البقرة مسألة معجزة، وأمرا خارقا للعادة على أساس أن الضرب ببعضها يحيي نفسا ميتة على أساس أن ذلك دليل حسي على إمكان البعث وقربه، والرحوم النجار يرى أن ذلك تكليف اجتماعي ينبه العقول إلى أمر مقرر ثابث في الدراسات النفسية والاجتماعية.
ونحن نميل إلى رأي الأستاذ النجار، لأنه لو كانت الحياة من الضرب ببعضها لأدى ذلك إلى إشباع ما في نفوسهم من أوهام حول تقديس البقر كما كان يتوهم
وإنه يزكي كلام المرحوم الأستاذ النجار ما يأتي:
أولا: أن القصة الثانية: وهي قصة القتل ابتدأت بقوله تعالى: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا)، ولذلك لم يسع الزمخشري وهو الذواق للبيان القرآني إلا أن يذكر أنهما قصتان، وإن كان قد حاول أن يصل بينهما بأن الضمير في قوله تعالى: (اضْرِبوهُ بِبَعْضِهَا) يعود على البقرة، مع البعد بينهما بطائفة من القول، وعدم ظهور ذلك العود على البقرة.
الثاني: أن الضمير في (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا) إذا عاد إلى النفس المقتولة يعود إلى أقرب مذكور، وعودة الضمير إلى أقرب مذكور هو القاعدة العامة إلا إذا أدى فيها الأمر إلى شذوذ غير معقول، أو كان ذلك مستحيلا.
الثالث: أن عود الضمير على النفس يؤدي علما نفسيا اجتماعيا هاديا مرشدا، فيكون في ذلك فائدة جديدة لم تكن في قصة البقرة، لأن قصة البقرة تدل على عناد بني إسرائيل وتأثرهم بأهواء المصريين في تقديس العجل.
الرابع: أن الآية اختتمت بقوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وهو يدل على أن الموضوع يحتاج إلى تدبر، وفكر رشيد، وإدراك لمرمى التكليف.
وما نراه أن الفرق بين رأي المفسرين، ورأي المرحوم الأستاذ النجار أن اتجاه المفسرين إلى جعل مسألة البقرة مسألة معجزة، وأمرا خارقا للعادة على أساس أن الضرب ببعضها يحيي نفسا ميتة على أساس أن ذلك دليل حسي على إمكان البعث وقربه، والرحوم النجار يرى أن ذلك تكليف اجتماعي ينبه العقول إلى أمر مقرر ثابث في الدراسات النفسية والاجتماعية.
ونحن نميل إلى رأي الأستاذ النجار، لأنه لو كانت الحياة من الضرب ببعضها لأدى ذلك إلى إشباع ما في نفوسهم من أوهام حول تقديس البقر كما كان يتوهم
272
المصريون، بينما الرأي الأخير لَا يؤدي إلى شيء من ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
بعد هذه الآيات البينات، والمعجزات الباهرة، والإرشادات الكثيرة لم ترق قلوبهم للحق، بل زادت قساوة ونفرة منه؛ ولذلك قال تعالى:
بعد هذه الآيات البينات، والمعجزات الباهرة، والإرشادات الكثيرة لم ترق قلوبهم للحق، بل زادت قساوة ونفرة منه؛ ولذلك قال تعالى:
273
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكم مِّن بَعْد ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)، وثم هنا للتراخي لبعد ما بين هذه الآيات البينات، والمعجزات الباهرة، وما انتهت إليه من قسوة القلوب وصلابتها، حتى كأنها الحجارة أو أشد من هذه الحجارة.
فقد توالت عليهم البينات، من إنقاذ من فرعون، وإغراقه وآله، ومن المن والسلوى، ومن أخذه الميثاق، ومن أنهم طلبوا أن يروا الله فصعقوا ثم أفاقوا... إلخ، فقسَوا من بعد ذلك فكان الفارق كبيرًا. فما جاءهم من البينات، وما انتهوا إليه من قسوة في القلوب، فجمدت حتى لَا يكون فيها ينبوع لرحمة.
والخطاب للذين حضروا النبي - ﷺ - باعتبارهم مع من كانوا قبلهم أمة واحدة يرضى حاضرهم بماضيهم وأخلافهم بأعمال أسلافهم، ولذا صح أن يوجه الخطاب إليهم على أساس أنهم مشتركون معهم، إن لم يكن بالفعل فبالرضا والتأييد والسير على منهاجهم.
وقد وصف سبحانه وتعالى حال قلوبهم بأنها كالحجارة، بل إنها أشد قسوة من الحجارة؛ لأن الحجارة قد يكون فيها رحمة أو يجعلها الله تعالى سببا للرحمة، أما هؤلاء فلا رجاء للرحمة فيهم قط، لأن القلوب إذا جفت فيها ينابيع الرحمة لا تخرج رحمة من بعد ذلك، وقوله تعالى: (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) خبر بعد خبر، فالمعنى فهي كالحجارة أو هي أشد قسوة من الحجارة.
وقد رشح الله تعالى لمعنى أن قلوبهم أشد قسوة، فذكر خواص بعض الحجارة، أو ما يكون منها أنهارًا فقال تعالت كلماته: (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ منهُ الأَنْهَارُ) أي إن من الحجارة للذي يتفجر منه الأنهار وهي الحجارة التي تهطل عليها الأمطار وابلا، فيتفجر منها ومن صخورها أنهار تجري كأنهار جبال الحبشة
فقد توالت عليهم البينات، من إنقاذ من فرعون، وإغراقه وآله، ومن المن والسلوى، ومن أخذه الميثاق، ومن أنهم طلبوا أن يروا الله فصعقوا ثم أفاقوا... إلخ، فقسَوا من بعد ذلك فكان الفارق كبيرًا. فما جاءهم من البينات، وما انتهوا إليه من قسوة في القلوب، فجمدت حتى لَا يكون فيها ينبوع لرحمة.
والخطاب للذين حضروا النبي - ﷺ - باعتبارهم مع من كانوا قبلهم أمة واحدة يرضى حاضرهم بماضيهم وأخلافهم بأعمال أسلافهم، ولذا صح أن يوجه الخطاب إليهم على أساس أنهم مشتركون معهم، إن لم يكن بالفعل فبالرضا والتأييد والسير على منهاجهم.
وقد وصف سبحانه وتعالى حال قلوبهم بأنها كالحجارة، بل إنها أشد قسوة من الحجارة؛ لأن الحجارة قد يكون فيها رحمة أو يجعلها الله تعالى سببا للرحمة، أما هؤلاء فلا رجاء للرحمة فيهم قط، لأن القلوب إذا جفت فيها ينابيع الرحمة لا تخرج رحمة من بعد ذلك، وقوله تعالى: (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) خبر بعد خبر، فالمعنى فهي كالحجارة أو هي أشد قسوة من الحجارة.
وقد رشح الله تعالى لمعنى أن قلوبهم أشد قسوة، فذكر خواص بعض الحجارة، أو ما يكون منها أنهارًا فقال تعالت كلماته: (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ منهُ الأَنْهَارُ) أي إن من الحجارة للذي يتفجر منه الأنهار وهي الحجارة التي تهطل عليها الأمطار وابلا، فيتفجر منها ومن صخورها أنهار تجري كأنهار جبال الحبشة
273
وغيرها من الجبال التي تنحدر السيول من فوقها فتتفجر خلالها أنهارًا تجري فيها المياه، وإن من الأحجار الذي يتشقق منه الماء أي ينبع الماء من عيونها بتشقق منها فتجري منها عيون يكون فيها أنهار ماء عذب فرات.
وإن من هذه الحجارة الذي ترجف فيه الرجفة خشية من الله تعالى أو أنه يرى كذلك كما قال تعالى: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ...).
وإذا كانت الحجارة منها ما هو مصدر خير عام، فقلوبهم أشد قسوة منها، لأنهم لَا خير فيهم قط، ولا تنبع منهم رحمة، كما تنبع العيون من هذه الأحجار وكما تتفجر فتجري فيها الأنهار.
وختم الله سبحانه وتعالى مهددا منذرا من عاصروا النبي - ﷺ -، فقال: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) نفَى مؤكدا غفلة الله تعالى عن أعمالهم، وأنها لأعمال خارجة من تلك القلوب القاسية التي نماها كَرُّ الأيام واستمرت سارية، حتى كاد منهم للنبي - ﷺ -. وأكد سبحانه وتعالى بالباء في قوله تعالى: (بِغَافِل) وبالجملة الاسمية، وإذا كان تبارك وتعالى غير غافل عما يعملون، فإنه لَا محالة مجازيهم به، آخذهم من نواصيهم فهذه الجملة السامية إنذار شديد.
* * *
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٧٦)
وإن من هذه الحجارة الذي ترجف فيه الرجفة خشية من الله تعالى أو أنه يرى كذلك كما قال تعالى: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ...).
وإذا كانت الحجارة منها ما هو مصدر خير عام، فقلوبهم أشد قسوة منها، لأنهم لَا خير فيهم قط، ولا تنبع منهم رحمة، كما تنبع العيون من هذه الأحجار وكما تتفجر فتجري فيها الأنهار.
وختم الله سبحانه وتعالى مهددا منذرا من عاصروا النبي - ﷺ -، فقال: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) نفَى مؤكدا غفلة الله تعالى عن أعمالهم، وأنها لأعمال خارجة من تلك القلوب القاسية التي نماها كَرُّ الأيام واستمرت سارية، حتى كاد منهم للنبي - ﷺ -. وأكد سبحانه وتعالى بالباء في قوله تعالى: (بِغَافِل) وبالجملة الاسمية، وإذا كان تبارك وتعالى غير غافل عما يعملون، فإنه لَا محالة مجازيهم به، آخذهم من نواصيهم فهذه الجملة السامية إنذار شديد.
* * *
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٧٦)
274
أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٧٨)
* * *
ذكر الله تعالى أحوال بني إسرائيل عقب ما كان من إبليس لآدم عليه السلام، وقد كان ذكرهم بعد آدم هان لم يكونوا أول أولاد آدم في الأرض، بل جاءوا بعده بمئات الألوف فيما نزعم، لأنهم أوضح صورة إنسانية، لتحكُّم إبليس في ابن آدم، فقد قامت بين أيديهم الأدلة، والآيات الحسية، والنعم، ومع ذلك كفروا وإذا كانت تلك حالهم في الماضي، والحاضرون يوافقونهم ويعتزون بهم مع هذه المآثم، ويحسبون أنهم بماضيهم الذي نسوه مفاخرون العرب، ويقولون فيهم: ما علينا في الأميين من سبيل، فإنه لَا مطمع في إيمانهم؛ لأن الجاهل يطمع في إيمانه إذا علم وقامت البينات الداعية، أما المغتر المعاند في ماضيه وحاضره، فإنه لَا مطمع في إيمانه.
ولذا قال الله تعالى مخاطبا محمدا - ﷺ -، ومن اتبعه من المؤمنين:
* * *
ذكر الله تعالى أحوال بني إسرائيل عقب ما كان من إبليس لآدم عليه السلام، وقد كان ذكرهم بعد آدم هان لم يكونوا أول أولاد آدم في الأرض، بل جاءوا بعده بمئات الألوف فيما نزعم، لأنهم أوضح صورة إنسانية، لتحكُّم إبليس في ابن آدم، فقد قامت بين أيديهم الأدلة، والآيات الحسية، والنعم، ومع ذلك كفروا وإذا كانت تلك حالهم في الماضي، والحاضرون يوافقونهم ويعتزون بهم مع هذه المآثم، ويحسبون أنهم بماضيهم الذي نسوه مفاخرون العرب، ويقولون فيهم: ما علينا في الأميين من سبيل، فإنه لَا مطمع في إيمانهم؛ لأن الجاهل يطمع في إيمانه إذا علم وقامت البينات الداعية، أما المغتر المعاند في ماضيه وحاضره، فإنه لَا مطمع في إيمانه.
ولذا قال الله تعالى مخاطبا محمدا - ﷺ -، ومن اتبعه من المؤمنين:
275
(أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ منْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ).
الفاء مؤخرة عن تقدم، لأن الاستفهام له الصدارة، والفاء للإفصاح عن شرط متضمن ما كان في ماضيهم منذ آدم، وكفر متوال بأنعم الله تعالى، والاستفهام إنكاري بمعنى النهي، لأنه إنكار للواقع، إذ الواقع أن النبي - ﷺ - لأنه رسول يدعو إلى الهدى يطمع في إيمان من يدعوهم، فينكر الله تعالى عليه ذلك، ويكون الاستنكار بمعنى النهي، أي لَا تطمعوا في أن يؤمن هؤلاء فإن ماضيهم الذي يراه حاضرهم ويؤمنون به ليس من شأنه أن يطمعكم في إيمانهم، بل إنه يلقى باليأس من الإيمان في قلوب الذين يدعونهم، ويخلصون في دعوتهم.
وقوله تعالى: (أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ) التعدية باللام؛ لأنها تتضمن معنى الاستجابة، والمعنى أتطمعون أن يؤمنوا مستجيبين لكم. وآمنوا تتعدى بالباء إذا كان
الفاء مؤخرة عن تقدم، لأن الاستفهام له الصدارة، والفاء للإفصاح عن شرط متضمن ما كان في ماضيهم منذ آدم، وكفر متوال بأنعم الله تعالى، والاستفهام إنكاري بمعنى النهي، لأنه إنكار للواقع، إذ الواقع أن النبي - ﷺ - لأنه رسول يدعو إلى الهدى يطمع في إيمان من يدعوهم، فينكر الله تعالى عليه ذلك، ويكون الاستنكار بمعنى النهي، أي لَا تطمعوا في أن يؤمن هؤلاء فإن ماضيهم الذي يراه حاضرهم ويؤمنون به ليس من شأنه أن يطمعكم في إيمانهم، بل إنه يلقى باليأس من الإيمان في قلوب الذين يدعونهم، ويخلصون في دعوتهم.
وقوله تعالى: (أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ) التعدية باللام؛ لأنها تتضمن معنى الاستجابة، والمعنى أتطمعون أن يؤمنوا مستجيبين لكم. وآمنوا تتعدى بالباء إذا كان
275
ما بعدها هو الذي يؤمَنِ به كقولك (آمِنُوا باللَّه وَرَسُوله)، ومثل قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨). وتتعدى باللام إذا كانت متضمنة معنى الاستجابة للداعي، ومن ذلك: (فآمنَ لَهُ لوطٌ...) ومثل قوله: (وَلا تَؤمِنوا إِلَّا لِمَن تَبِع دِينَكمْ...).
ولذلك كان التعدي هنا باللام: إما لتضمن الإجابة معنى الاستجابة، وإما لأن اللام للتعليل، أي لَا تطمعوا في إيمانهم لأجل دعوتكم، فهم ميئوس من إيمانهم لا كان منهم في الماضي، وما يكون منهم في الحاضر.
وقد بين سبحانه سبب الغواية في جملة حالية وهي (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) هذا الفريق أكان في عهود سابقة في عهد موسى أم حالهم الحاضرة.
قال كثير من مفسري السلف: إنهم كانوا في عهد موسى عليه السلام، وقد كانوا يحاولون أن يسمعوا كلام الرب سبحانه وتعالى، كما يسمعه كليم الله موسى عليه السلام، ولكن ذلك بعيد، إنهم سمعوا كلام الله تعالى من لسان موسى في التوراة التي نزلت على موسى عليه السلام، وعقلوه، وفهموه ثم حرفوه قاصدين تشويه ما سمعوا، وإفساد الحقائق وقد فهموها.
وبعض المفسرين يرون أن الخطاب للنبي - ﷺ - ومن معه، وأن الفريق الذي سمع كلام الله تعالى بتبليغ النبي - ﷺ - هو من اليهود الذين عاصروا رسول الله - ﷺ -، وسمعوا ما يدعوهم إليه النبي - ﷺ - وعقلوه، وأدركوا مراميه وغاياته وما يدعوهم إليه، ثم بعد ذلك يحرفونه، وينقلونه إلى إخوانهم محرفا، غير دال على حقيقة ما يريد النبي - ﷺ -، فهم فريقان: سامع محرف، ومعرض ابتداء لَا يحضر في المجلس النبوي، وما التحريف وكيف يكون؟ فنقول: التحريف في الكلام له معنيان: أحدهما التغيير في معناه، بأن يحرفوه على طرف من المعنى، بأن يخرجوه
ولذلك كان التعدي هنا باللام: إما لتضمن الإجابة معنى الاستجابة، وإما لأن اللام للتعليل، أي لَا تطمعوا في إيمانهم لأجل دعوتكم، فهم ميئوس من إيمانهم لا كان منهم في الماضي، وما يكون منهم في الحاضر.
وقد بين سبحانه سبب الغواية في جملة حالية وهي (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) هذا الفريق أكان في عهود سابقة في عهد موسى أم حالهم الحاضرة.
قال كثير من مفسري السلف: إنهم كانوا في عهد موسى عليه السلام، وقد كانوا يحاولون أن يسمعوا كلام الرب سبحانه وتعالى، كما يسمعه كليم الله موسى عليه السلام، ولكن ذلك بعيد، إنهم سمعوا كلام الله تعالى من لسان موسى في التوراة التي نزلت على موسى عليه السلام، وعقلوه، وفهموه ثم حرفوه قاصدين تشويه ما سمعوا، وإفساد الحقائق وقد فهموها.
وبعض المفسرين يرون أن الخطاب للنبي - ﷺ - ومن معه، وأن الفريق الذي سمع كلام الله تعالى بتبليغ النبي - ﷺ - هو من اليهود الذين عاصروا رسول الله - ﷺ -، وسمعوا ما يدعوهم إليه النبي - ﷺ - وعقلوه، وأدركوا مراميه وغاياته وما يدعوهم إليه، ثم بعد ذلك يحرفونه، وينقلونه إلى إخوانهم محرفا، غير دال على حقيقة ما يريد النبي - ﷺ -، فهم فريقان: سامع محرف، ومعرض ابتداء لَا يحضر في المجلس النبوي، وما التحريف وكيف يكون؟ فنقول: التحريف في الكلام له معنيان: أحدهما التغيير في معناه، بأن يحرفوه على طرف من المعنى، بأن يخرجوه
276
عن الب معناها إلى طرف من أطرافه؛ لأن الحرف أصله الطرف دون اللب والوسط فهم يتجهون إلى التعلق بغير لب القول.
والتحريف إمالة القول إلى غير معناه، وهذا هو النوع الثاني، وقال الراغب الأصفهاني في مفرداته ونص كلامه " تحريف الكلام " أن تجعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين. قال عز وجل: (يُحَرِفُونَ الْكلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ...) (يحَرِّفونَ الْكلِمَ مِن بَعدِ مَوَاضِعِهِ...)، (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
والتعريض بـ " ثم " يفيد البعد المعنوي بين ما سمعوه وعقلؤه، وتدبروه، وعرفوا غايته، وبين التحريف الذي حرفوه مما يدل على فساد نفوسهم، وضلال قلوبهم.
وأخبر سبحانه وتعالى أن التحريف من بعد ما عقلوه، وعرفوه عرفان الخبير المدرك، الفاهم، لَا أنهم حرفوا عن غير علم ومن غير معرفة بمدلولات الألفاظ ومراميها، ومقاصدها، وغاياتها، فتحريفهم بقصد التضليل، ومن يقصد التضليل يكون قلبه مصروفا عن الحقائق فلا يدركها، ولا يذعن لها إن أدركها، بل هو يصد عن سبيلها.
ثم أكد سبحانه وتعالى سوء مقصدهم، وغاية عملهم، فقال تعالى: (وَهُمْ يَعْلمُونَ) أي وهم يدركون الكلام الذي سمعوه، ويعرفون مرماه ومقصده، ومع ذلك يحرفونه آثمين فاسدين مفسدين.
هذا على اعتبار أن الذي خاطب الفريق محمد - ﷺ - وأتباعه.
ويجب في مقام ذكر معاني هذه الآية أن نذكر أمورًا ثلاثة:
أولها: أن الذين حرفوا القول عن مواضعه فريق منهم، وليسوا جميعهم، فكيف يكون اليأس من إيمان كلهم بعمل فريق والجواب عن ذلك أن الفريق الذي سمع أرضى بقوله الفريق الذي لم يسمع، بل إن الفريق الذي لم يسمع كان معرضا
والتحريف إمالة القول إلى غير معناه، وهذا هو النوع الثاني، وقال الراغب الأصفهاني في مفرداته ونص كلامه " تحريف الكلام " أن تجعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين. قال عز وجل: (يُحَرِفُونَ الْكلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ...) (يحَرِّفونَ الْكلِمَ مِن بَعدِ مَوَاضِعِهِ...)، (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
والتعريض بـ " ثم " يفيد البعد المعنوي بين ما سمعوه وعقلؤه، وتدبروه، وعرفوا غايته، وبين التحريف الذي حرفوه مما يدل على فساد نفوسهم، وضلال قلوبهم.
وأخبر سبحانه وتعالى أن التحريف من بعد ما عقلوه، وعرفوه عرفان الخبير المدرك، الفاهم، لَا أنهم حرفوا عن غير علم ومن غير معرفة بمدلولات الألفاظ ومراميها، ومقاصدها، وغاياتها، فتحريفهم بقصد التضليل، ومن يقصد التضليل يكون قلبه مصروفا عن الحقائق فلا يدركها، ولا يذعن لها إن أدركها، بل هو يصد عن سبيلها.
ثم أكد سبحانه وتعالى سوء مقصدهم، وغاية عملهم، فقال تعالى: (وَهُمْ يَعْلمُونَ) أي وهم يدركون الكلام الذي سمعوه، ويعرفون مرماه ومقصده، ومع ذلك يحرفونه آثمين فاسدين مفسدين.
هذا على اعتبار أن الذي خاطب الفريق محمد - ﷺ - وأتباعه.
ويجب في مقام ذكر معاني هذه الآية أن نذكر أمورًا ثلاثة:
أولها: أن الذين حرفوا القول عن مواضعه فريق منهم، وليسوا جميعهم، فكيف يكون اليأس من إيمان كلهم بعمل فريق والجواب عن ذلك أن الفريق الذي سمع أرضى بقوله الفريق الذي لم يسمع، بل إن الفريق الذي لم يسمع كان معرضا
277
عن سماع النبي - ﷺ -، فهو كان قابلا لاستماع القول المحرف راضيا به مصدقا له، فهم كانوا على سواء، وكذلك الأمر على التفسير بأن السماع كان من فريق من قوم موسى سمعوا من موسى وحرفوه، فقبله الآخرون وهم راضون، فكانوا مع غيرهم على سواء، ولا فرق بينهم.
الأمر الثاني: أنه إذا كان الفريق الذي حرف في عهد موسى أو بعده، فإن ذلك سائغ بعد موسى ثابت، والراجع للتوراة القائمة بين أيدينا يجد أمارات التحريف تلوح، وقد بينا ذلك في بحث رددنا به على بعض الكذابين، الذين قالوا في القرآن ما قالوا من افتراء وكذب رددناه في نحورهم.
وقد أثبت كتّاب النصارى أن التحريف لَا يزال يجري في الكتب عندهم ما بين كتب العهد القديم، والجديد، واقرأ في ذلك كتاب " ذخيرة الألباب " لأحد كتاب النصارى، فإنه بين بطريق لَا يقبل الشك أن التحريف حدث في التوراة والإنجيل، وأثبت الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه " إظهار الحق " أن التغيير والتبديل لَا يزال يجري إلى الآن في كتبهم.
الأمر الثالث: الذي نشير إليه أن أثارة باقية في كتبهم ربما تكون صادقة، ولكن اختلطت بباطل كثير.
كان اليهود يسمعون كلام الله تعالى، ثم يحرفونه من بعد أن يعقلوه، وهم يعلمون موضع التحريف. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى حالا أخرى من أحوالهم، وهي أنهم كانوا يظهرون الإيمان في حضرة المؤمنين فإذا خلوا مع أحد منهم تلاوموا على إظهارهم الإيمان؛ ولذا قال تعالى:
الأمر الثاني: أنه إذا كان الفريق الذي حرف في عهد موسى أو بعده، فإن ذلك سائغ بعد موسى ثابت، والراجع للتوراة القائمة بين أيدينا يجد أمارات التحريف تلوح، وقد بينا ذلك في بحث رددنا به على بعض الكذابين، الذين قالوا في القرآن ما قالوا من افتراء وكذب رددناه في نحورهم.
وقد أثبت كتّاب النصارى أن التحريف لَا يزال يجري في الكتب عندهم ما بين كتب العهد القديم، والجديد، واقرأ في ذلك كتاب " ذخيرة الألباب " لأحد كتاب النصارى، فإنه بين بطريق لَا يقبل الشك أن التحريف حدث في التوراة والإنجيل، وأثبت الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه " إظهار الحق " أن التغيير والتبديل لَا يزال يجري إلى الآن في كتبهم.
الأمر الثالث: الذي نشير إليه أن أثارة باقية في كتبهم ربما تكون صادقة، ولكن اختلطت بباطل كثير.
كان اليهود يسمعون كلام الله تعالى، ثم يحرفونه من بعد أن يعقلوه، وهم يعلمون موضع التحريف. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى حالا أخرى من أحوالهم، وهي أنهم كانوا يظهرون الإيمان في حضرة المؤمنين فإذا خلوا مع أحد منهم تلاوموا على إظهارهم الإيمان؛ ولذا قال تعالى:
278
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ).
هذ وصف للمنافقين ذكره الله تعالى من قبل في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) إلى آخر الآيات التي ساقها القرآن الكريم، والأمثلة التي ضربها في كشف حالهم.
هذ وصف للمنافقين ذكره الله تعالى من قبل في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) إلى آخر الآيات التي ساقها القرآن الكريم، والأمثلة التي ضربها في كشف حالهم.
278
وهذه الآية التي نتكلم في معناها أتت بأمر خاص باليهود الذين عاصروا النبي - ﷺ -، وهي أنهم لفرط غرورهم يحسبون أن الله تعالى لَا يعلم خفى أمرهم، فهو نوع من النفاق أضلهم.
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) أي صدقنا وأذعنا لكل ما جاء به محمد - ﷺ - آمنا بأنه الحق من عند الله وبأن ما جئت به هو الحق.
وقد حسبوا أنهم بذلك قد نجوا من الملامة، فحفظوا المظهر بما أظهروه، وحفظوا كفرهم فلم يعلنوه، ولكن إخوانهم وهم على ملتهم، وعلى جحودهم لم يرضوا بالظهور بهذا المظهر.
فإذا خلا بعضهم إلى بعض، فالتقى الذين أظهروا ما لم يبطنوا، والذين لم يلقوا الرسول - ﷺ -، كان التلاوم فيقول الذين لم يلقوا المؤمنين (أَتُحدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكمْ)، أي بما حكم الله تعالى به عليكم، فالفتح في لغة العرب والحكم بأمر القضاء، كما قال تعالى: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيتَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ...).
وما حكم الله تعالى به في هذا المقام هو بشارة التوراة بالنبي - ﷺ -، كما قال تعالى: (وَمبَشِّرًا بِرَسولٍ يَأتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ...)، وقد أخذ العهد عليهم بأن يتبعوه ويؤمنوا به إذا جاءهم، فالاستفهام إنكاري لإنكار فهم الوقوع فهم يوبخونهم على أنهم حدثوهم بما قضى الله تعالى عليهم بأن يؤمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام إذا جاءهم، وإنه كان يجب عليهم أن يستمروا في جحودهم، وعللوا لوم إخوانهم بقولهم: (لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ) أي ليكون حجة عليكم عند ربكم، يحاجونكم به، والاعتراف حجة ظاهرة.
وإنهم بذلك يزعمون أمرين كلاهما باطل:
أولهما - أنهم يحسبون أن الله تعالى يحتاج في معرفة ما هم عليه إلى إقرارهم، وهو عالم الغيب والشهادة، وعالم السر والجهر، وأنهم مأخوذون بما واثقهم عليه، وبالحق الذي أمرهم باتباعه.
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) أي صدقنا وأذعنا لكل ما جاء به محمد - ﷺ - آمنا بأنه الحق من عند الله وبأن ما جئت به هو الحق.
وقد حسبوا أنهم بذلك قد نجوا من الملامة، فحفظوا المظهر بما أظهروه، وحفظوا كفرهم فلم يعلنوه، ولكن إخوانهم وهم على ملتهم، وعلى جحودهم لم يرضوا بالظهور بهذا المظهر.
فإذا خلا بعضهم إلى بعض، فالتقى الذين أظهروا ما لم يبطنوا، والذين لم يلقوا الرسول - ﷺ -، كان التلاوم فيقول الذين لم يلقوا المؤمنين (أَتُحدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكمْ)، أي بما حكم الله تعالى به عليكم، فالفتح في لغة العرب والحكم بأمر القضاء، كما قال تعالى: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيتَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ...).
وما حكم الله تعالى به في هذا المقام هو بشارة التوراة بالنبي - ﷺ -، كما قال تعالى: (وَمبَشِّرًا بِرَسولٍ يَأتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ...)، وقد أخذ العهد عليهم بأن يتبعوه ويؤمنوا به إذا جاءهم، فالاستفهام إنكاري لإنكار فهم الوقوع فهم يوبخونهم على أنهم حدثوهم بما قضى الله تعالى عليهم بأن يؤمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام إذا جاءهم، وإنه كان يجب عليهم أن يستمروا في جحودهم، وعللوا لوم إخوانهم بقولهم: (لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ) أي ليكون حجة عليكم عند ربكم، يحاجونكم به، والاعتراف حجة ظاهرة.
وإنهم بذلك يزعمون أمرين كلاهما باطل:
أولهما - أنهم يحسبون أن الله تعالى يحتاج في معرفة ما هم عليه إلى إقرارهم، وهو عالم الغيب والشهادة، وعالم السر والجهر، وأنهم مأخوذون بما واثقهم عليه، وبالحق الذي أمرهم باتباعه.
279
وثانيهما أنهم يحسبون أن النبي - ﷺ - وأصحابه ما كانوا يعلمون ما عند االيهود إلا بإقرارهم أمام النبي - ﷺ -، والمؤمنون يعرفون ما في كتبهم من بشارة بالنبي - ﷺ - وهم أنفسهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
ولقد بين الله تعالى بطلان كلامهم وبعده عن العقول فقال تعالى: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) الفاء مؤخرة عن تقديم لأن صيغة الاستفهام لها الصدارة، والفاء للإفصاح، والاستفهام داخل على نفي، فهو من قبيل نفي النفي وهو في نتيجته يدعوهم سبحانه وتعالى إلى أن يعقلوا، ويتفكروا ويتدبروا، ويدركوا ما يؤدي إليه كلامهم، وهو بعده عن كل معقول، فهم يتصورون أن الله تعالى لَا يعلم حالهم، وما أخذ عليهم من مواثيق، وما وضع من إشارات إلى النبي - ﷺ - في كتبهم، يتصورون ذلك ويحسبون أن المؤمنين يحاجونهم عند الله بهذا الاعتراف، ولا يعرفون أن الله تعالى يعرف سرهم ونجواهم. وقد يفسر قوله تعالى: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) على أنه من كلام بعضهم، ويكون معناه على أنه من لسانهم، (أَفلا تَعْقِلُونَ) وتتدبرون نتيجة كلامكم من أنهم يحاجونكم به عند ربكم، ويكون هذا إمعانا في الجهل بحالهم وعلم الله تعالى، ونحن نميل إلى احتمال توجيهه من الله تعالت كلماته.
وإنهم ممعنون في الجهل بالله سبحانه وتعالى، وظنهم أن الله تعالى لا يعلم ما يخفون وما يبدون، وإنه لَا فائدة في أن يحدثوا النبي والمؤمنين، لأن الله تعالى بكل شيء عليم، ولذلك قال تعالى:
ولقد بين الله تعالى بطلان كلامهم وبعده عن العقول فقال تعالى: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) الفاء مؤخرة عن تقديم لأن صيغة الاستفهام لها الصدارة، والفاء للإفصاح، والاستفهام داخل على نفي، فهو من قبيل نفي النفي وهو في نتيجته يدعوهم سبحانه وتعالى إلى أن يعقلوا، ويتفكروا ويتدبروا، ويدركوا ما يؤدي إليه كلامهم، وهو بعده عن كل معقول، فهم يتصورون أن الله تعالى لَا يعلم حالهم، وما أخذ عليهم من مواثيق، وما وضع من إشارات إلى النبي - ﷺ - في كتبهم، يتصورون ذلك ويحسبون أن المؤمنين يحاجونهم عند الله بهذا الاعتراف، ولا يعرفون أن الله تعالى يعرف سرهم ونجواهم. وقد يفسر قوله تعالى: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) على أنه من كلام بعضهم، ويكون معناه على أنه من لسانهم، (أَفلا تَعْقِلُونَ) وتتدبرون نتيجة كلامكم من أنهم يحاجونكم به عند ربكم، ويكون هذا إمعانا في الجهل بحالهم وعلم الله تعالى، ونحن نميل إلى احتمال توجيهه من الله تعالت كلماته.
وإنهم ممعنون في الجهل بالله سبحانه وتعالى، وظنهم أن الله تعالى لا يعلم ما يخفون وما يبدون، وإنه لَا فائدة في أن يحدثوا النبي والمؤمنين، لأن الله تعالى بكل شيء عليم، ولذلك قال تعالى:
280
(أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) هذا استفهام إنكاري لجهلهم، وتوبيخ لهم على عدم علمهم، فالاستفهام داخل على فعل محذوف دل عليه عطف ما بعده والمعنى أيقولون ما يقولون من ذلك القول، ولا يعلمون أن الله - جل جلاله - وقد أحاط بكل شيء علمًا ويعلم ما يسرونه وما يجهرون به، وما يعلنونه للناس، يعلم ما تخفي صدورهم، ويعلم ما يجهرون، وفي بيان ذلك العلم تهديد بالجزاء الذي ينتظرهم، فهو سبحانه يعلم ما يفعلون، وما يخالفون به مواثيقهم وعهودهم، وما ينكثون به في أيمانهم، ومُؤاخذهم به.
280
وقد ذكر سبحانه وتعالى حال اليهود، فأشار سبحانه إلى أن اليهود قسمان: أحبار أو علماء، وأميون يضلون الآخرين بدعوى أنهم وحدهم أوتوا علم الكتاب؛ ولأن الآخرين لَا يعرفون الكتاب إلا أماني يتمنونها، فيشبعوا أمانيهم وأهواءهم، ولذلك قال تعالى:
281
(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ).
الأُمي هو الذي لَا يقرأ ولا يكتب نسبة إلى الأمة الأمية التي لَا يسودها العلم، وكان الأحبار من أهل الكتاب يقولون: (لَيسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ...)، وقد ينسب الأُمي إلى الأم على اعتبار أنه على أصل ولادة أمه، فهو لم يزد علما عما ولدته عليه أمه.
وهؤلاء الأميون لَا يقرأون الكتاب، ولا يعرفون أحكامه، وما اشتمل عليه من تكليفات اجتماعية وعبادية، وإنهم لفرط جهلهم بالكتاب لَا يعلمون إلا ما يكون فيه إرضاء لأمانيهم، والأماني جمع أمنية، وهي ما يتمناه القلب ويحبه، وما يتمنونه أهواء مسيطرة عليهم كقول عامتهم وخاصتهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، ولقد قال تعالى (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ...)
، أي ما يتمنونه ويقول تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (١٢٣).
وفى الجملة الأماني التي يعلم الأميون من أهل الكتاب مضمون كتابهم بها هي ما يكون متفقا مع ما يتمنون، فلا يعلمونه تكليفات وأحكاما، فيها حساب، وثوب أو عقاب، إنما يعلمونه رغبات تتحقق، وأهواء تثبت، ومثلهم كمثل عوامِّ المسلمين، الذين يقولون أمة الإسلام على خير، ولو لم يعملوا أي عمل، بل لو لم يعملوا عملا صالحا قط، ولو زنوا أو سرقوا، وسكروا، وعبثوا في كل معبث، ولم يتركوا منكرا إلا ارتكبوه، وسدوا باب الجهاد، وكانوا كَلًّا على أعدائهم يتصرفون في مصائرهم.
وقوله تعالى: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ) قالوا: إن الاستثناء منقطع، فيكون المعنى لَا يعلمون شيئا من الكتاب الذي يتلونه ولا يفهمونه، ولكن
الأُمي هو الذي لَا يقرأ ولا يكتب نسبة إلى الأمة الأمية التي لَا يسودها العلم، وكان الأحبار من أهل الكتاب يقولون: (لَيسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ...)، وقد ينسب الأُمي إلى الأم على اعتبار أنه على أصل ولادة أمه، فهو لم يزد علما عما ولدته عليه أمه.
وهؤلاء الأميون لَا يقرأون الكتاب، ولا يعرفون أحكامه، وما اشتمل عليه من تكليفات اجتماعية وعبادية، وإنهم لفرط جهلهم بالكتاب لَا يعلمون إلا ما يكون فيه إرضاء لأمانيهم، والأماني جمع أمنية، وهي ما يتمناه القلب ويحبه، وما يتمنونه أهواء مسيطرة عليهم كقول عامتهم وخاصتهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، ولقد قال تعالى (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ...)
، أي ما يتمنونه ويقول تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (١٢٣).
وفى الجملة الأماني التي يعلم الأميون من أهل الكتاب مضمون كتابهم بها هي ما يكون متفقا مع ما يتمنون، فلا يعلمونه تكليفات وأحكاما، فيها حساب، وثوب أو عقاب، إنما يعلمونه رغبات تتحقق، وأهواء تثبت، ومثلهم كمثل عوامِّ المسلمين، الذين يقولون أمة الإسلام على خير، ولو لم يعملوا أي عمل، بل لو لم يعملوا عملا صالحا قط، ولو زنوا أو سرقوا، وسكروا، وعبثوا في كل معبث، ولم يتركوا منكرا إلا ارتكبوه، وسدوا باب الجهاد، وكانوا كَلًّا على أعدائهم يتصرفون في مصائرهم.
وقوله تعالى: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ) قالوا: إن الاستثناء منقطع، فيكون المعنى لَا يعلمون شيئا من الكتاب الذي يتلونه ولا يفهمونه، ولكن
281
يعلمونه أماني يتمنونها وأهواء يبتغونها، ولا يدركون التكليفات والأحكام، ولا يعلمون المواثيق التي أخذت عليهم.
ولا مانع أن يكون الاستثناء متصلا، ويكون المعنى أنهم لَا يعلمون من علم الكتاب إلا ما يرضي أمانيهم، ويشبع أهواءهم. ويرشح لذلك قوله تعالى من بعد: (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي إن علمهم ظن، وليس بيقين له مقدمات يقينية ينتج علما يقينيا، وإنما تنتج ظنا، وإن الظن لَا يغني من الحق شيئا، فعلمهم أوهام في أوهام، وهل تنتج الأهواء التي تنبعث من الأماني يقينا أو علما صادقا؟.
لقد قال بعض العلماء: إن الأماني من التمني، وهو لَا يكون إلا كاذبا، ولقد قال تعالى: (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي ليس علمهم إلا ما يظنونه علما، وما هم بمتيقنين، وقد أكد الله تعالى قصر علمهم على الظن الذي يتجدد لهم آنَا بعد آن، فنفَى عنهم العلم وقصره على الظن، أي ما عندهم من علم إلا الظن الذي تدفع إليه أوهامهم، وعبر بالمضارع للإشارة إلى أن ظنهم يتجدد ويستمرون في أكاذيب يبتدعونها، وظنونًا يختلقونها أو يختلقها لهم أحبارهم.
* * *
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨٢)
* * *
ولا مانع أن يكون الاستثناء متصلا، ويكون المعنى أنهم لَا يعلمون من علم الكتاب إلا ما يرضي أمانيهم، ويشبع أهواءهم. ويرشح لذلك قوله تعالى من بعد: (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي إن علمهم ظن، وليس بيقين له مقدمات يقينية ينتج علما يقينيا، وإنما تنتج ظنا، وإن الظن لَا يغني من الحق شيئا، فعلمهم أوهام في أوهام، وهل تنتج الأهواء التي تنبعث من الأماني يقينا أو علما صادقا؟.
لقد قال بعض العلماء: إن الأماني من التمني، وهو لَا يكون إلا كاذبا، ولقد قال تعالى: (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي ليس علمهم إلا ما يظنونه علما، وما هم بمتيقنين، وقد أكد الله تعالى قصر علمهم على الظن الذي يتجدد لهم آنَا بعد آن، فنفَى عنهم العلم وقصره على الظن، أي ما عندهم من علم إلا الظن الذي تدفع إليه أوهامهم، وعبر بالمضارع للإشارة إلى أن ظنهم يتجدد ويستمرون في أكاذيب يبتدعونها، وظنونًا يختلقونها أو يختلقها لهم أحبارهم.
* * *
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨٢)
* * *
282
إذا كان من أهل الكتاب أميون لَا يعلمون من علم الكتاب إلا الأماني التي يشبعون بها أهواءهم، ويدخلون بها الكذب والتمويه على نفوسهم، فإن أولئك الأحبار أو العلماء يمالئون نفوسهم من الأكاذيب، ويكتبون بأيديهم ما ليس من الكتاب، ويوهمونهم أنه من الكتاب، وما هو من الكتاب، وفي ذلك رد على الذين يزعمون أن القرآن يقر كل ما جاء في كتبهم، فهل هو يقر ما يكتبونه بأيديهم، ويقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا؛ كذبوا وبهتوا، وأعظموا الفرية على كتاب الله تعالى.
ولقد أخبر سبحانه أن أولئك الذين يجلسون مجلس العلماء فيهم ينتهزون أن فيهم أميين لَا يعلمون الكتاب إلا أماني وأن علمهم ظن والظن لَا يغني من الحق شيئا، فيكتبون الكتاب بأيديهم حاذفين ما شاءوا ويزيدون عليه ما شاءوا، فقال تعالى:
ولقد أخبر سبحانه أن أولئك الذين يجلسون مجلس العلماء فيهم ينتهزون أن فيهم أميين لَا يعلمون الكتاب إلا أماني وأن علمهم ظن والظن لَا يغني من الحق شيئا، فيكتبون الكتاب بأيديهم حاذفين ما شاءوا ويزيدون عليه ما شاءوا، فقال تعالى:
283
(فَوَيْلٌ للَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ).
الفاء في قوله تعالى: (فَوَيْلٌ للَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأيْدِيهِمْ) وقعت في جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان الأمر كذلك فويل، والويل الدعوة بالهلاك وترفع عندما لَا تضاف كقوله تعالى: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِبنَ)، وتنصب إذا أضيفت فتقول: ويلك وويل نفسي على أنها بمعنى المصدر، وتستعمل " وي " منها في معنى التعجب كقوله تعالى: (وَيْكَأنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ).
والمعنى أن الهلاك نازل لَا محالة بأولئك الظالمين للحق في ذانه ولأنفسهم الذين يكتمون ما أنزل الله تبعا لأهوائهم، ويكتبون الكتاب بمحض أهوائهم، ولإثبات مايريدون إثبانه ومحو ما يريدون محوه وكتمان ما يريدون كتمانه لما قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكتَاب قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّن لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفو عَن كثِيرٍ...)، فهم بكتابة ما يكتبون قد أخفوا كثيرا، وقد بيَّنه القرآن الكريم أو بين ما وجب بيانه. وقوله تعالى: (يَكْتبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) فيه تأكيد لبيان أنهم هم مصدر الإعلام به، وأنه لَا مصدر له من الله تعالى، يضلون به الأميين منهم، ويعلنونه
الفاء في قوله تعالى: (فَوَيْلٌ للَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأيْدِيهِمْ) وقعت في جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان الأمر كذلك فويل، والويل الدعوة بالهلاك وترفع عندما لَا تضاف كقوله تعالى: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِبنَ)، وتنصب إذا أضيفت فتقول: ويلك وويل نفسي على أنها بمعنى المصدر، وتستعمل " وي " منها في معنى التعجب كقوله تعالى: (وَيْكَأنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ).
والمعنى أن الهلاك نازل لَا محالة بأولئك الظالمين للحق في ذانه ولأنفسهم الذين يكتمون ما أنزل الله تبعا لأهوائهم، ويكتبون الكتاب بمحض أهوائهم، ولإثبات مايريدون إثبانه ومحو ما يريدون محوه وكتمان ما يريدون كتمانه لما قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكتَاب قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّن لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفو عَن كثِيرٍ...)، فهم بكتابة ما يكتبون قد أخفوا كثيرا، وقد بيَّنه القرآن الكريم أو بين ما وجب بيانه. وقوله تعالى: (يَكْتبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) فيه تأكيد لبيان أنهم هم مصدر الإعلام به، وأنه لَا مصدر له من الله تعالى، يضلون به الأميين منهم، ويعلنونه
283
على أنه من عند الله تعالى، وهم الذين كتبوه وصنفوه، وقد يكون فيه بعض ما جاء عن طريق موسى والنبيين من بعده، ولكنه في جملته ليس صادقا في كل ما كتبوا، ويكون قوله تعالى: (بِأيْدِيهِمْ) بيان لأنهم كتبوه حقيقة لَا مجاز فيه، وفيه تصوير لحالهم، وهم يكتبون بأيديهم.
هذا الوجه يكون فيه قوله تعالى عنهم: (يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِند اللَّهِ) الإشارة إلى المكتوب لَا إلى التأويلات التي يتاولونها خارجين بالكلام عن مواضعه، ويكون معنى قوله تعالى: (وَمَا هُوَ مِن عندِ اللَّه...)، أي ليس ما كتبوه بأيديهم من عند الله، وهناك تأويل آخر في الإشارة في قوله: (يَقُولونَ هَذَا) الإشارة فيه ليست إلى المكتوب، ولكن إلى التأويلات التي يحرفون بها الكلام عن مواضعه، ويتجهون به إلى أوهام توهموها، وكذبوا على الحقائق الثابتة، ويكون المكتوب هو كتابهم. والمعنى على هذا: ويل لهم إذ يكتبون الكتاب بأيديهم، ومع أنهم يكتبونه بأيديهم يحرفونه عن مواضعه، ويقولون عن تحريمهم إن هذه التأويلات هي من عند الله، والحقيقة أنه وقع منهم الأمران، فهم كتبوا كتابهم محرفا زادوا فيه، ونقصوا منه، ونسوا حظا مما ذكروا به، وعبثوا بحقائقه، وتأولوا ما صدقوا من نقله منه بغير مُتَأوله.
كان منهم الأمران، وعبثوا بما أنزل الله تعالى عبثا بينا، وغيروا وبدلوا، وأولوا تأويلات باطلة. وقد علل الله تعالى الباعث لهم بأنه ثمن قليل، وهو أعراض الدنيا، بأن يكون لهم سلطان ورياسة، وأن يكون اختصاص باطل بالنبوة، وأن يمالئوا أهواء الناس، ولقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن الدنيا بحذافيرها ثمن قليل بالنسبة للحق الذي ضيعوه، والباطل الذي زيفوه.
(لِيَشْتَرُوا بِهِ ثمَنًا قَلِيلًا) وهنا نجد النص الكريم يفرض معاوضة قامت بين أحبار اليهود في أفعالهم، اشتروا بالبضاعة الثمينة الغالية التي في أيديهم بأن دفعوها في نظير ثمن ضئيل هو أعراض الدنيا، أو نقول أن اشترى هنا معناها باع أي باعوا ما في أيديهم من حقائق اؤتمنوا عليها وأخذوا ثمنا قليلا مهما حسبوه كثيرا.
هذا الوجه يكون فيه قوله تعالى عنهم: (يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِند اللَّهِ) الإشارة إلى المكتوب لَا إلى التأويلات التي يتاولونها خارجين بالكلام عن مواضعه، ويكون معنى قوله تعالى: (وَمَا هُوَ مِن عندِ اللَّه...)، أي ليس ما كتبوه بأيديهم من عند الله، وهناك تأويل آخر في الإشارة في قوله: (يَقُولونَ هَذَا) الإشارة فيه ليست إلى المكتوب، ولكن إلى التأويلات التي يحرفون بها الكلام عن مواضعه، ويتجهون به إلى أوهام توهموها، وكذبوا على الحقائق الثابتة، ويكون المكتوب هو كتابهم. والمعنى على هذا: ويل لهم إذ يكتبون الكتاب بأيديهم، ومع أنهم يكتبونه بأيديهم يحرفونه عن مواضعه، ويقولون عن تحريمهم إن هذه التأويلات هي من عند الله، والحقيقة أنه وقع منهم الأمران، فهم كتبوا كتابهم محرفا زادوا فيه، ونقصوا منه، ونسوا حظا مما ذكروا به، وعبثوا بحقائقه، وتأولوا ما صدقوا من نقله منه بغير مُتَأوله.
كان منهم الأمران، وعبثوا بما أنزل الله تعالى عبثا بينا، وغيروا وبدلوا، وأولوا تأويلات باطلة. وقد علل الله تعالى الباعث لهم بأنه ثمن قليل، وهو أعراض الدنيا، بأن يكون لهم سلطان ورياسة، وأن يكون اختصاص باطل بالنبوة، وأن يمالئوا أهواء الناس، ولقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن الدنيا بحذافيرها ثمن قليل بالنسبة للحق الذي ضيعوه، والباطل الذي زيفوه.
(لِيَشْتَرُوا بِهِ ثمَنًا قَلِيلًا) وهنا نجد النص الكريم يفرض معاوضة قامت بين أحبار اليهود في أفعالهم، اشتروا بالبضاعة الثمينة الغالية التي في أيديهم بأن دفعوها في نظير ثمن ضئيل هو أعراض الدنيا، أو نقول أن اشترى هنا معناها باع أي باعوا ما في أيديهم من حقائق اؤتمنوا عليها وأخذوا ثمنا قليلا مهما حسبوه كثيرا.
284
وقد أكد سبحانه وتعالى الهلاك النازل بهما يوم القيامة فقال تعالت كلماته: (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ). ومعناها ويل لهم أي هلاك بسبب ما كتبت أيديهم، لأنها بهذه الكتابة حرفت وبدلت وسجلت في الكتاب هراء وأباطيل، فكانت في ذاتها إثما، وهذا يرجح أن موضع إفكهم الكتابة الباطلة نمسها لَا تأويلاتهم فقط، وويل لهم من الكسب الذي كسبوه من أعراض الدنيا، لأنه سحت في ذاته، إذ إن ما دفع في سبيله كان باطلا، وهو أخذ لمال الله بالباطل، وما يكسبونه من جاه أو سلطان أو رياسة أمر باطل؛ لأنه دفع الحق عن سبيله، وإن الله تعالى لَا يبارك شيئا أخذ بغير حله، فهوكالاغتصاب لَا يطيب لنفسه، وكذلك عد سبحانه وتعالى الكتابة سببا للعقاب الشديد، والكسب الذي كسبوه بالتضليل سببا للويل، وقال تعالى: (يَكْسِبُونَ) بالمضارع للدلالة على تجدد ما يكسبون، وكذلك الويل يكون متجددا مثله، وقد بيَّن سبحانه بعض هذه التأويلات الفاسدة، والتفسيرات الكاذبة، فحكى سبحانه وتعالى عنهم فقال:
285
(وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً).
هذا القول من التأويلات الفاسدة، وهو مبني على قولهم نحن أبناء الله تعالى وأحباؤه، وأنهم لَا يعذبون، ولكن يُمَتَّعون ولا يُأَثَّمون (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) قالوا: لن تعذبنا النار إلا أياما معدودة، بل قالوا: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ)، كأنهم لَا يدخلونها حتى في هذه الأيام، بل تمسهم ريحها أو نحو ذلك مما يفتري المفترون كما تقول أنت تهديدا بالضرب أو نحو ذلك: لن تلمسنا بيدك قط إلا مسا خفيفا.
فهم نفوا نفيا مؤكدا - بـ لن - أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة تمسهم مسا، ذلك قولهم، وتلك أمانيهم ومعنى معدودة أنها عدد قليل يعد وليس عددا كبيرا تجاوز الحسبة. وهذا القول يدل على أمرين:
أولهما - بيان أنهم صنف مختار والعذاب والحساب على غيرهم، فهم الذين يحاسِبون ويعاقِبون، أما هم فهم فوق الحساب، وفوق العقاب.
هذا القول من التأويلات الفاسدة، وهو مبني على قولهم نحن أبناء الله تعالى وأحباؤه، وأنهم لَا يعذبون، ولكن يُمَتَّعون ولا يُأَثَّمون (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) قالوا: لن تعذبنا النار إلا أياما معدودة، بل قالوا: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ)، كأنهم لَا يدخلونها حتى في هذه الأيام، بل تمسهم ريحها أو نحو ذلك مما يفتري المفترون كما تقول أنت تهديدا بالضرب أو نحو ذلك: لن تلمسنا بيدك قط إلا مسا خفيفا.
فهم نفوا نفيا مؤكدا - بـ لن - أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة تمسهم مسا، ذلك قولهم، وتلك أمانيهم ومعنى معدودة أنها عدد قليل يعد وليس عددا كبيرا تجاوز الحسبة. وهذا القول يدل على أمرين:
أولهما - بيان أنهم صنف مختار والعذاب والحساب على غيرهم، فهم الذين يحاسِبون ويعاقِبون، أما هم فهم فوق الحساب، وفوق العقاب.
285
وثانيهما - الاستهانة بأوامر الله تعالى، وما يكون وراء ذلك من حساب أو عقاب.
ويبين سبحانه أن ذلك الوهم الذي يتوهمونه، ويغترون به ليس له أساس يعتمدون عليه، وأنهم لَا عهد لهم بذلك فقال سبحانه: (أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ) الاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، وتوبيخهم على فعلهم الواثقين به في ذات أنفسهم الموقنين به كأن الله عاهدهم، والمعنى أن الله تعالى لم تأخذوا منه عهدا عاهدكم عليه، وهو وحده الذي يملك العقاب ومقداره، بألا يعاقبكم إلا بهذا القدر، وهو أن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة، فالاستفهام يتضمن النفي، ويتضمن التوبيخ لهم على ما هم عليه، ويتضمن التعريض بنقضهم للعهود التي أخذت عليهم والواثيق التي وثقها وأكدها، ومنها رفع الطور عليهم، وأخذهم ما أوتوا بقوة.
ولقد بين سبحانه وتعالى أن العقاب يكون على قدر العمل، والثواب يكون على قدر العمل، فلا ينظر فيه إلى الذات، بل الجميع خلق الله تعالى، ولا يريد سبحانه إلا العمل الصالح، والامتناع عن الشر (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨). ولذا قال تعالت كلماته:
ويبين سبحانه أن ذلك الوهم الذي يتوهمونه، ويغترون به ليس له أساس يعتمدون عليه، وأنهم لَا عهد لهم بذلك فقال سبحانه: (أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ) الاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، وتوبيخهم على فعلهم الواثقين به في ذات أنفسهم الموقنين به كأن الله عاهدهم، والمعنى أن الله تعالى لم تأخذوا منه عهدا عاهدكم عليه، وهو وحده الذي يملك العقاب ومقداره، بألا يعاقبكم إلا بهذا القدر، وهو أن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة، فالاستفهام يتضمن النفي، ويتضمن التوبيخ لهم على ما هم عليه، ويتضمن التعريض بنقضهم للعهود التي أخذت عليهم والواثيق التي وثقها وأكدها، ومنها رفع الطور عليهم، وأخذهم ما أوتوا بقوة.
ولقد بين سبحانه وتعالى أن العقاب يكون على قدر العمل، والثواب يكون على قدر العمل، فلا ينظر فيه إلى الذات، بل الجميع خلق الله تعالى، ولا يريد سبحانه إلا العمل الصالح، والامتناع عن الشر (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨). ولذا قال تعالت كلماته:
286
(بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) فتضمن الإجابة على قولهم ورده، والإضراب عنه، فالمعنى: تبين كلامكم، وهو باطل مخالف لما شرعه الله سبحانه وتعالى من عقاب وثواب أنه للأعمال من غير نظر إلى الذوات، بل الجميع على سواء أمام الله سبحانه وتعالى، في الجزاء إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وذكر العقاب في الرد دون الثواب، - لأنهم اجترءوا على الله تعالى فخالفوه، وكفروا بنعمه، وعصوه ظاهرًا وباطنا فقال: (من كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتهُ).
الكسب العمل الذي يصير حالا ثابتة قائمة مستمرة، فمن عمل خطأ لَا يقال إنه كسبه، ومن عمل إثما عن جهالة وضلالة ثم تاب من قريب لَا يقال إنه كسبه، إنما
وذكر العقاب في الرد دون الثواب، - لأنهم اجترءوا على الله تعالى فخالفوه، وكفروا بنعمه، وعصوه ظاهرًا وباطنا فقال: (من كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتهُ).
الكسب العمل الذي يصير حالا ثابتة قائمة مستمرة، فمن عمل خطأ لَا يقال إنه كسبه، ومن عمل إثما عن جهالة وضلالة ثم تاب من قريب لَا يقال إنه كسبه، إنما
286
يقال إنه كسبه إذا عمل قاصدًا مستمرا، حتى يكون له مجرى في قلبه، وينكت فيه نكتا سوداء، فهذا هو الذي يقال له كسب السيئة، والسيئة فيعلة من ساء يسوء سَيْوِئة فهي في أصلها سيوئة؛ اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء بمقتضى القاعدة الصرفية، والسيئة كل فعل يكون أثره سيئا في الناس أو في الجماعة أو في النفس، فيفسد التقدير، ويكون وبالاً، فيظلم نفسه، والناس، ومن حوله.
والخطيئة فعيلة من الخطأ، ولكن هناك فرقا بينهما فالخطأ يقع من غير قصد ابتداء، ولكن لَا يتكرر، أما الخطيئة فهي الفعل المقصود الآثم المتكرر الذي يخط في النفس خطوطا، حتى يصير الذنب عادة له أو كالعادة فيصدر الشر عنه وباستمرار من غير قصد خاص إليه، وكأنه يقع غير مقصود، وفي الحال تكون النفس قد أركست بالشر إركاسا، فالخطيئة حال نفسية للنفس الآثمة التي تمرست بالإثم؛ ولذا قال تعالى: (وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطيئَتُهُ) أي أن الخطيئة استولت على النفس، وصارت كأنها قبة قد أحاطت بالنفس الآثمة من كل جوانبها.
وفى هذا إشارة إلى أحوال بني إسرائيل، وأنهم أحاطت بهم خطاياهم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى جزاء هؤلاء وهو محقق بالنسبة لبني إسرائيل (فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الإشارة إلى الذين كان منهم كسب العمل الخبيث، وأحاطت بهم خطياتهم، واستغرق الشر نفوسهم، فالإشارة إلى الذين فيهم هذه الحال، وقد حكم سبحانه وتعالى بأنهم (أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
وقد أكد خلودهم في النار بأنهم أصحابها أي الذين يلازمونها، والذين حكم عليهم بصحبتها، وأكد سبحانه وتعالى خلودهم فيها بالجملة الاسمية، وبضمير الفصل هم. وكان تأكيد خلودهم وملازمتهم بالصحبة ردا على ادعائهم أنها لن تمسهم إلا أياما معدودة، وأنهم غير مخلدين بل هم أصحابها الخالدون فيها.
وإن الرد على أولئك الذين دلاهم الشيطان بالغرور فقالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ينتهي إلى هنا إن كانوا يتدبرون ويعقلون.
والخطيئة فعيلة من الخطأ، ولكن هناك فرقا بينهما فالخطأ يقع من غير قصد ابتداء، ولكن لَا يتكرر، أما الخطيئة فهي الفعل المقصود الآثم المتكرر الذي يخط في النفس خطوطا، حتى يصير الذنب عادة له أو كالعادة فيصدر الشر عنه وباستمرار من غير قصد خاص إليه، وكأنه يقع غير مقصود، وفي الحال تكون النفس قد أركست بالشر إركاسا، فالخطيئة حال نفسية للنفس الآثمة التي تمرست بالإثم؛ ولذا قال تعالى: (وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطيئَتُهُ) أي أن الخطيئة استولت على النفس، وصارت كأنها قبة قد أحاطت بالنفس الآثمة من كل جوانبها.
وفى هذا إشارة إلى أحوال بني إسرائيل، وأنهم أحاطت بهم خطاياهم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى جزاء هؤلاء وهو محقق بالنسبة لبني إسرائيل (فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الإشارة إلى الذين كان منهم كسب العمل الخبيث، وأحاطت بهم خطياتهم، واستغرق الشر نفوسهم، فالإشارة إلى الذين فيهم هذه الحال، وقد حكم سبحانه وتعالى بأنهم (أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
وقد أكد خلودهم في النار بأنهم أصحابها أي الذين يلازمونها، والذين حكم عليهم بصحبتها، وأكد سبحانه وتعالى خلودهم فيها بالجملة الاسمية، وبضمير الفصل هم. وكان تأكيد خلودهم وملازمتهم بالصحبة ردا على ادعائهم أنها لن تمسهم إلا أياما معدودة، وأنهم غير مخلدين بل هم أصحابها الخالدون فيها.
وإن الرد على أولئك الذين دلاهم الشيطان بالغرور فقالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ينتهي إلى هنا إن كانوا يتدبرون ويعقلون.
287
ولكن سنة الله تعالى في كتابه الحكيم أن يقرن ببيان العقاب لأهله، وبيان الثواب لمن عمل الخير وداوم عليه لتكون العظة كاملة، فيها جزاء الخير وجزاء الشر، وكل بما كسب رهين.
قال تعالى:
قال تعالى:
288
(وَالَّذِينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ). وقد ذكر الإيمان في تأويل بعض الاي الكريمة التي تلوناها آنفا، ومقام العمل الصالح، وقلنا إن الإيمان والإذعان للحق بالإيمان بالله وحده، ورسوله محمد الأمين والرسل أجمعين، والملائكة والجن والغيب كله. وإن الإيمان يستكن في القلب، والعمل ينميه ويزكيه، وقلنا: إن الإيمان كالبذر الطيب الذي يلقى في الأرض لابد له من سقي ورعي وجو صالح ينمو فيه ويزكو، ولا يكون ذلك إلا بالعمل بموجب الإيمان، والإيمان من غير عمل كالبذر من غير إنتاج، وإنه يجف بل يموت إن لم يسق بالعمل، ولذلك لَا يؤكد القرآن على الإيمان وحده بل يكون معه العمل الصالح، وهو المعمل الذي يكون صالحا مصلحا للنفس وللناس، فيه استجابة لداعي الإيمان. وكثيرًا ما ذكر المعمل بوصف الصالح من غير أن يبين ما هو العمل الصالح، وذلك ليضمن كل ما فيه خير للإنسان في الآحاد، والجماعات والأقاليم، والإنسانية كلها، وذلك مع القيام بالعبادات من صلاة وصوم وحج وزكاة، وتعاون اجتماعي في الأسرة والجماعة والدولة، والإنسانية عامة.
وقد قال تعالى: (وأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). الإشارة إلى الذين آمنوا وعملوا صالحا أي أنهم متصفون بهذه الصفات، وقد أكد سبحانه وتعالى استحقاقهم للجنة وأنهم خالدون فيها بعدة مؤكدات:
أولها - الجملة الاسمية لأنها تدل على قوة الحكم، وبقائه.
وثانيها - بالملازمة بينهم وبين الجنة بأنهم أصحابها الملازمون. وأكد سبحانه وتعالى الخلود بضمير الفصل الذي يدل على القصر، والله سبحانه وتعالى يجزى الإحسان بإحسان، وجزاء سيئة سيئة مثلها.
وقد قال تعالى: (وأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). الإشارة إلى الذين آمنوا وعملوا صالحا أي أنهم متصفون بهذه الصفات، وقد أكد سبحانه وتعالى استحقاقهم للجنة وأنهم خالدون فيها بعدة مؤكدات:
أولها - الجملة الاسمية لأنها تدل على قوة الحكم، وبقائه.
وثانيها - بالملازمة بينهم وبين الجنة بأنهم أصحابها الملازمون. وأكد سبحانه وتعالى الخلود بضمير الفصل الذي يدل على القصر، والله سبحانه وتعالى يجزى الإحسان بإحسان، وجزاء سيئة سيئة مثلها.
288
اللهم اجعلنا ممن ترضى عنهم، وإن كنا لَا نرجو أن نكون أحْسَنَّا، حتى ننال جزاء الإحسان، ولكن نرجو أن تتغمدنا برحمتك الواسعة التي تسع الذين يؤمنون ويتقون.
* * *
الميثاق الإنساني على بني إسرائيل
* * *
الميثاق الإنساني على بني إسرائيل
289
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣)
* * *
يذكر الله تعالى نبيه والمؤمنين بالميثاق الذي أخذ الله تعالى عليهم، وهو ميثاق يصلح نفوسهم، ويهذب جماعتهم ويجعلهم يتآلفون فيما بينهم، ويألفهم الناس، ويأتلفون، ولكن رضوا النفور بدل الائتلاف، والمنازعة بدل الالتقاء في ظل الرحمة والمودة الجامعة، وإن ذلك الميثاق الذي يذكره الله تعالى لهم هو ميثاق كل الأنبياء.
قال. (وإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي اذكروا أيها المؤمنون الميثاق الذي أخذناه على بني إسرائيل، فـ " إذ " تدل على الوقت الماضي، فاذكروا وقت ذلك الميثاق الذي أخذناه عليهم، وذكر الوقت ذكر ما يقع فيه واضحا بينا يتصور وجوده، كأنه موجود قاتم وليس متخيلا غير واقع.
هذا ميثاق بني إسرائيل، وهو محكم يشتمل على تهذيب النفس والجماعة الإنسانية كلها، وهو ميثاق النبيين في كل العصور وقد اشتمل على أمور:
أولها: وهو لبُّها عبادة الله تعالى وحده لَا يشرك به شيئا، وقد عبر سبحانه عنه بقوله تعالى: (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) أي لَا تعبدوا غير الله، فالله وحده هو المعبود
* * *
يذكر الله تعالى نبيه والمؤمنين بالميثاق الذي أخذ الله تعالى عليهم، وهو ميثاق يصلح نفوسهم، ويهذب جماعتهم ويجعلهم يتآلفون فيما بينهم، ويألفهم الناس، ويأتلفون، ولكن رضوا النفور بدل الائتلاف، والمنازعة بدل الالتقاء في ظل الرحمة والمودة الجامعة، وإن ذلك الميثاق الذي يذكره الله تعالى لهم هو ميثاق كل الأنبياء.
قال. (وإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي اذكروا أيها المؤمنون الميثاق الذي أخذناه على بني إسرائيل، فـ " إذ " تدل على الوقت الماضي، فاذكروا وقت ذلك الميثاق الذي أخذناه عليهم، وذكر الوقت ذكر ما يقع فيه واضحا بينا يتصور وجوده، كأنه موجود قاتم وليس متخيلا غير واقع.
هذا ميثاق بني إسرائيل، وهو محكم يشتمل على تهذيب النفس والجماعة الإنسانية كلها، وهو ميثاق النبيين في كل العصور وقد اشتمل على أمور:
أولها: وهو لبُّها عبادة الله تعالى وحده لَا يشرك به شيئا، وقد عبر سبحانه عنه بقوله تعالى: (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) أي لَا تعبدوا غير الله، فالله وحده هو المعبود
289
ولا يعبد سواه، والصيغة في ظاهرها خبرية وهي طلبية بمعنى النهي عن عبادة غير الله تعالى كقوله تعالى: (لا تضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَولودٌ لهُ بِولَدِهِ...)، وكقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُروءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ...) وكقوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ...) والتعبير عن الجملة الطلبية بصيغة الجملة الخبرية فيه إشارة إلى أن الإجابة أمر فطري طبيعي، وأنه كان الطلب وكانت الإجابة، فعبر بما هو دال على الإجابة.
والتوحيد دعوة النبيين أجمعين، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُون)، وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦).
وإن الأمر الثاني - الذي ولي الأمر بالعبادة لله وحده، وهي تطهير النفوس من رجس الوثنية، والأوهام الفاسدة. الثاني - هو ما يتعلق بالأسرة لأن الأسرة قوام المجتمع يقوم عليها بناؤه، فلا يمكن أن يتكون مجتمع فاضل إلا من أسر قوية متماسكة برباط المودة، والمحبة والإحسان الذي هو غاية المحبة، وإن أولى رباط في الأسرة هو رباط الولد بأبويه، بالإحسان إليهما؛ ولذا قال سبحانه بعد الأمر بعبادة الله تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، والإحسان زيادة في المعاملة عن المعاملة بالمثل أو بالعدل، وإنه زيادة عن العدل، بل فيه المحبة والرحمة؛ ولذا يقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأمرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ...)، والإحسان أصله مصدر أحسن، وهو الإتقان والإجادة، وبلوغ أقصى الغاية في الإجادة، فالإحسان في العبادة أن تبلغ أقصى درجات التجرد لله تعالى بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والإحسان إلى الأبوين أن تبلغ أقصى درجات الوفاء لهما في البر والمكافأة، وأن تزيد في المعاملة الحسنة، عما كان يكون منهما، احتياطا للرعاية والشفقة، والإحسان إلى الناس أن تعاملهم بالمودة الظاهرة، وإفشاء السلام بينهم فخير الإسلام
والتوحيد دعوة النبيين أجمعين، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُون)، وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦).
وإن الأمر الثاني - الذي ولي الأمر بالعبادة لله وحده، وهي تطهير النفوس من رجس الوثنية، والأوهام الفاسدة. الثاني - هو ما يتعلق بالأسرة لأن الأسرة قوام المجتمع يقوم عليها بناؤه، فلا يمكن أن يتكون مجتمع فاضل إلا من أسر قوية متماسكة برباط المودة، والمحبة والإحسان الذي هو غاية المحبة، وإن أولى رباط في الأسرة هو رباط الولد بأبويه، بالإحسان إليهما؛ ولذا قال سبحانه بعد الأمر بعبادة الله تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، والإحسان زيادة في المعاملة عن المعاملة بالمثل أو بالعدل، وإنه زيادة عن العدل، بل فيه المحبة والرحمة؛ ولذا يقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأمرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ...)، والإحسان أصله مصدر أحسن، وهو الإتقان والإجادة، وبلوغ أقصى الغاية في الإجادة، فالإحسان في العبادة أن تبلغ أقصى درجات التجرد لله تعالى بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والإحسان إلى الأبوين أن تبلغ أقصى درجات الوفاء لهما في البر والمكافأة، وأن تزيد في المعاملة الحسنة، عما كان يكون منهما، احتياطا للرعاية والشفقة، والإحسان إلى الناس أن تعاملهم بالمودة الظاهرة، وإفشاء السلام بينهم فخير الإسلام
290
أن تقرأ السلام على من تعرف ومن لم تعرف، وإحسان العمل إتقانه (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا).
وإن الإحسان إلى الوالدين ابتدأ بهما لأنهما رأس الأسرة، وهما أصل تكوينها، فمنهما تتشعب، وتمتد من الأصول إلى الفروع ثم إلى الحواشي؛ ولذلك كان الإحسان واجبا لكل من يربطهم بهما رحم، وذكر الإحسان إلى ذوي القربى، فكان الميثاق الإنساني العالي الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل فقال تعالى: (وَذِي الْقرْبَى) والقربى مؤنث أقرب، والمعنى أن بعد الوالدين ذو القربى، صاحب القرابة الأقرب مترتبة الأقرب فالأقرب، وذلك يتفق مع ما روي عن النبي - ﷺ -. وقد سئل: من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: " أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك " (١) ثم الأقرب فالأقرب، فمعنى ذي القربى، القريب الأقرب ثم يتوالى الأقرب فالأقرب.
والأسرة في الإسلام ممتدة، ليست مقصورة على الأبوين أو الزوجين، بل إنها ممتدة تشمل الأقرباء أجمعين، يحسن إليهم الأقرب فالأقرب حتى يعمهم ويبرهم جميعا، ولقد قال - ﷺ -: " من أراد أن يبارك له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه " (٢)، وإن ذلك كله تقوية لبناء الأسرة على التواصل والمودة والرحمة فإن المجتمع الكامل يتكون من أسر قوية وهي لبنة البناء، ولا يتكون بناء قوي إلا من لبنات قوية.
وإن العناية بالأسرة عناية بالجماعة، وإن الوطن لَا تتربى محبته إلا في بناء الأسرة، والنزوع الجماعي، والتربية الاجتماعية هي التي توح النفس الإنسانية محبة الجماعة وحسن التبادل العادل بينها وإنما يبدأ ذلك بالأسرة، وقد أراد بعض الفلاسفة - وسارت وراءهم بعض النظم - أن يمحو الأسرة ويربى الأطفال مع غير آبائهم
________
(١) متفق عليه؛ أخرجه البخاري: كتاب الأدب (٥٥١٤) ومسلم: البر والصلة (٤٦٢١) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) عَنْ أنَس بْنِ مَالِك - رَضِي اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - يَقُولُ: " مَنْ صَرةُ أنْ يُبْسَطَ لَه فِى رِزْقه وَيُنْسَأ لَه فِى أثَرِه فًلْيَصِلْ رَحمَهُ). [متفق عليه، رَواه البخاري: كتاب البيوع (١٩٢٥) وصلم: البر والصلَةَ والآداب (٤٦٣٩)].
وإن الإحسان إلى الوالدين ابتدأ بهما لأنهما رأس الأسرة، وهما أصل تكوينها، فمنهما تتشعب، وتمتد من الأصول إلى الفروع ثم إلى الحواشي؛ ولذلك كان الإحسان واجبا لكل من يربطهم بهما رحم، وذكر الإحسان إلى ذوي القربى، فكان الميثاق الإنساني العالي الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل فقال تعالى: (وَذِي الْقرْبَى) والقربى مؤنث أقرب، والمعنى أن بعد الوالدين ذو القربى، صاحب القرابة الأقرب مترتبة الأقرب فالأقرب، وذلك يتفق مع ما روي عن النبي - ﷺ -. وقد سئل: من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: " أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك " (١) ثم الأقرب فالأقرب، فمعنى ذي القربى، القريب الأقرب ثم يتوالى الأقرب فالأقرب.
والأسرة في الإسلام ممتدة، ليست مقصورة على الأبوين أو الزوجين، بل إنها ممتدة تشمل الأقرباء أجمعين، يحسن إليهم الأقرب فالأقرب حتى يعمهم ويبرهم جميعا، ولقد قال - ﷺ -: " من أراد أن يبارك له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه " (٢)، وإن ذلك كله تقوية لبناء الأسرة على التواصل والمودة والرحمة فإن المجتمع الكامل يتكون من أسر قوية وهي لبنة البناء، ولا يتكون بناء قوي إلا من لبنات قوية.
وإن العناية بالأسرة عناية بالجماعة، وإن الوطن لَا تتربى محبته إلا في بناء الأسرة، والنزوع الجماعي، والتربية الاجتماعية هي التي توح النفس الإنسانية محبة الجماعة وحسن التبادل العادل بينها وإنما يبدأ ذلك بالأسرة، وقد أراد بعض الفلاسفة - وسارت وراءهم بعض النظم - أن يمحو الأسرة ويربى الأطفال مع غير آبائهم
________
(١) متفق عليه؛ أخرجه البخاري: كتاب الأدب (٥٥١٤) ومسلم: البر والصلة (٤٦٢١) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) عَنْ أنَس بْنِ مَالِك - رَضِي اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - يَقُولُ: " مَنْ صَرةُ أنْ يُبْسَطَ لَه فِى رِزْقه وَيُنْسَأ لَه فِى أثَرِه فًلْيَصِلْ رَحمَهُ). [متفق عليه، رَواه البخاري: كتاب البيوع (١٩٢٥) وصلم: البر والصلَةَ والآداب (٤٦٣٩)].
291
ليكونوا جميعا منتمين للجماعة.. فنمت أجسامهم، ولكن من غير عواطف إنسانية فمحوا الأسرة، والجماعة معًا.
الأمر الثالث - أنه قد اتجه الميثاق الإنساني الذي أخذ على بني إسرائيل إلى الإحسان إلى الضعفاء فقال تعالى: (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين) واليتيم هو من ققد أباه، فإن الأب هو العائل الكالئ الحامي، ومن فقده فقد انفرد في هذا الوجود، والأم وإن كانت هي الحانية العاطفة التي تغذيه بأنبل العواطف، لَا تحميه، وبالفطرة الأولى لَا تعوله؛ ولذلك لَا تعوض حماية الأب، وكلاءته.
والمسكين هو الذي أسكنته الحاجة، أو المرض المزمن، وإن كلمة المسكين بعمومها تشمل الفقير، لأن الفقير أسكنته الحاجة وأذلته، وهؤلاء جميعا الضعفاء، وإنه قد يشمل ابن السبيل أيضا، وهو الذي ينقطع عن ماله، ويكون في بلد بعيد عن بلده فهو قد أذلته الحاجة أيضا.
وفى الحقيقة إن اليتامى والمساكين بهذا العموم هم الضعاف في الجماعة، ورعاية الضعفاء وقاية لبناء الأمة من الانهيار، وإلا كانوا أشتاتا غير متراحمين يأكل بعضهم بعضا. وقدم الإحسان على اليتامى وإن كانوا أغنياء على المساكين؛ لأن اليتيم ضعيف، وإن كان كثير المال وهو ذو حاجة وإن كان غنيا، والإحسان إليه أن يقوم القائم عليه بتربيته، وألا يقهره ولا يذله، وأن يضمه إلى عياله.
فإنه إن لم يُحط بالعطف والرعاية والمحبة تربى على النفرة من الجماعة فيكون الشذَّاذ والكارهون للمجتمعات؛ ولذلك كانت النصوص الكثيرة الداعية إلي إكرام اليتيم، ولقد قال النبي - ﷺ -: " خير بيوت المسلمين بيت يكرم فيه يتيم، وشر بيوت المسملين بيت يقهر فيه يتيم " (١). فاليتامى إكرامهم فيه تقوية للأمة بإنشاء نشء على الخلق القويم.
الأمر الرابع - بعد إقامة الأسرة ومراعاة الضعفاء في هذا الميثاق الإنساني الذي أخذ على بني إسرائيل وليس خاصا بهم دعا سبحانه وتعالى إلى بناء مجتمع
________
(١) عَن أبي هًرَيْرَة عَنْ النبِي - ﷺ - قَالَْ " خَيْرُ بَيْب فِى الْمُسْلِمِينَ بَيْت فِيه يَتِيم يُحْسَنُ إِلَيْه، وشَر بَيْت فِى الْمُسْلِمِينَ بَيت فِيهِ يَتِيمٌ يُساءُ إِلَيْهِ ". [أخرجه ابن ماجه: كتاب الأدب - باب حق اليتيم (٣٦٦٩)].
الأمر الثالث - أنه قد اتجه الميثاق الإنساني الذي أخذ على بني إسرائيل إلى الإحسان إلى الضعفاء فقال تعالى: (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين) واليتيم هو من ققد أباه، فإن الأب هو العائل الكالئ الحامي، ومن فقده فقد انفرد في هذا الوجود، والأم وإن كانت هي الحانية العاطفة التي تغذيه بأنبل العواطف، لَا تحميه، وبالفطرة الأولى لَا تعوله؛ ولذلك لَا تعوض حماية الأب، وكلاءته.
والمسكين هو الذي أسكنته الحاجة، أو المرض المزمن، وإن كلمة المسكين بعمومها تشمل الفقير، لأن الفقير أسكنته الحاجة وأذلته، وهؤلاء جميعا الضعفاء، وإنه قد يشمل ابن السبيل أيضا، وهو الذي ينقطع عن ماله، ويكون في بلد بعيد عن بلده فهو قد أذلته الحاجة أيضا.
وفى الحقيقة إن اليتامى والمساكين بهذا العموم هم الضعاف في الجماعة، ورعاية الضعفاء وقاية لبناء الأمة من الانهيار، وإلا كانوا أشتاتا غير متراحمين يأكل بعضهم بعضا. وقدم الإحسان على اليتامى وإن كانوا أغنياء على المساكين؛ لأن اليتيم ضعيف، وإن كان كثير المال وهو ذو حاجة وإن كان غنيا، والإحسان إليه أن يقوم القائم عليه بتربيته، وألا يقهره ولا يذله، وأن يضمه إلى عياله.
فإنه إن لم يُحط بالعطف والرعاية والمحبة تربى على النفرة من الجماعة فيكون الشذَّاذ والكارهون للمجتمعات؛ ولذلك كانت النصوص الكثيرة الداعية إلي إكرام اليتيم، ولقد قال النبي - ﷺ -: " خير بيوت المسلمين بيت يكرم فيه يتيم، وشر بيوت المسملين بيت يقهر فيه يتيم " (١). فاليتامى إكرامهم فيه تقوية للأمة بإنشاء نشء على الخلق القويم.
الأمر الرابع - بعد إقامة الأسرة ومراعاة الضعفاء في هذا الميثاق الإنساني الذي أخذ على بني إسرائيل وليس خاصا بهم دعا سبحانه وتعالى إلى بناء مجتمع
________
(١) عَن أبي هًرَيْرَة عَنْ النبِي - ﷺ - قَالَْ " خَيْرُ بَيْب فِى الْمُسْلِمِينَ بَيْت فِيه يَتِيم يُحْسَنُ إِلَيْه، وشَر بَيْت فِى الْمُسْلِمِينَ بَيت فِيهِ يَتِيمٌ يُساءُ إِلَيْهِ ". [أخرجه ابن ماجه: كتاب الأدب - باب حق اليتيم (٣٦٦٩)].
292
إنساني يعم يعم الإقليم والجنس والناس أجمعين فقال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) وقوله تعالى: (وَقُولُوا) معطوف على لَا تعبدون إلا الله، لأنها مرادف هذا الميثاق الإنساني الذي أخذ على بني إسرائيل، وهو يحمل في نفسه موجب تنفيذه، لأنه حقيقة الدين، وهو في أعلى درجات المعاملات، فهل استجابوا وأقروا به، وقد أخذ عليهم بقوة، ورفع الجبل فوقهم ليخضعوا للحق ويذعنوا له؛ إنهم أعرضوا عنه؛ ولذا قال تعالى في حالهم بعد أخذه عليهم: (ثُمَّ تَوَلَّيتمْ إِلَّا قليلًا مّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ).
التولي الإعراض الذي تدل عليه مظاهر حسية، ومنه قوله تعالى. (أَعْرَضَ وَنأى بجانبِهِ...)، فالأصل فيه أنه إعراض يدل عليه مظهر حسي، وقوله تعالى: (وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ) معناه أنهم تولوا بأجسامهم ونأوا عنه بحسهم، والمعنى أنهم معرضون مقاطعون لمبادئه وهذا تأكيد للإعراض وأنهم تركوه جملة وتفصيلا من غير أن يقبلوا منه شيئا، وقد أكد سبحانه الإعراض بالتصريح بالإعراض مع أن التولي يتضمن معناه، وأكده بالجملة الاسمية، أي أنه مع أنه ميثاق مؤكد، ومعناه قويم ترتضيه، العقول وتطلبه - أعرضوا عنه.
والخطاب للذين كانوا في عهد محمد - ﷺ - ومن سبقوهم، لأنهم شاركوهم في ملتهم، واتبعوهم في توليهم، فكانوا صالحين لأن يخاطبوا بما خوطب به أسلافهم، وبيان حالهم وأمرهم.
وإن الله تعالى حكم عدل يحصي عمل الفاسدين، ويسجل خير الأخيار؛ ولذلك استثنى في الإعراض فقال: (إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ) فهم استجابوا لمقتضى الميثاق ولم يعرضوا وإن الحكم بالتولي ابتداء عليهم جميعا، ثم استثنى سبحانه الذين استجابوا ولكن لقلتهم كان الخطاب لهم جميعا.
وقوله تعالى: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) التعبير بـ (ثُمَّ) في موضعه من البعد بين الميثاق وما اشتمل عليه من أمور معمولة مطلوبة في حكم الشرع والعقل، ثم يكون من بعد ذلك الإعرأض الجافى الشديد منكم، إنه لأمر غريب لو كان من غيرهم.
* * *
التولي الإعراض الذي تدل عليه مظاهر حسية، ومنه قوله تعالى. (أَعْرَضَ وَنأى بجانبِهِ...)، فالأصل فيه أنه إعراض يدل عليه مظهر حسي، وقوله تعالى: (وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ) معناه أنهم تولوا بأجسامهم ونأوا عنه بحسهم، والمعنى أنهم معرضون مقاطعون لمبادئه وهذا تأكيد للإعراض وأنهم تركوه جملة وتفصيلا من غير أن يقبلوا منه شيئا، وقد أكد سبحانه الإعراض بالتصريح بالإعراض مع أن التولي يتضمن معناه، وأكده بالجملة الاسمية، أي أنه مع أنه ميثاق مؤكد، ومعناه قويم ترتضيه، العقول وتطلبه - أعرضوا عنه.
والخطاب للذين كانوا في عهد محمد - ﷺ - ومن سبقوهم، لأنهم شاركوهم في ملتهم، واتبعوهم في توليهم، فكانوا صالحين لأن يخاطبوا بما خوطب به أسلافهم، وبيان حالهم وأمرهم.
وإن الله تعالى حكم عدل يحصي عمل الفاسدين، ويسجل خير الأخيار؛ ولذلك استثنى في الإعراض فقال: (إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ) فهم استجابوا لمقتضى الميثاق ولم يعرضوا وإن الحكم بالتولي ابتداء عليهم جميعا، ثم استثنى سبحانه الذين استجابوا ولكن لقلتهم كان الخطاب لهم جميعا.
وقوله تعالى: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) التعبير بـ (ثُمَّ) في موضعه من البعد بين الميثاق وما اشتمل عليه من أمور معمولة مطلوبة في حكم الشرع والعقل، ثم يكون من بعد ذلك الإعرأض الجافى الشديد منكم، إنه لأمر غريب لو كان من غيرهم.
* * *
293
سفك دمائهم وإخراجهم وأسرهم
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)
* * *
إن اليهود قد أصابهم ما أصاب الأمم من تفكك في وحدتهم، فكانوا يتسافكون دماءهم ويمالئ بعضهم جماعات أخرى بينهم وبينهم حرب، فينضم فريق منهم إلى بعض المتقاتلين، وآخرون إلى غيرهم فيقاتل بعضهم بعضا، في ظل العدوين المتقاتلين، وقد أخذ الله تعالى عليهم العهد بمنع سفك دمائهم، وأخذ عليهم العهد بألا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم، ومع أن ذلك العهد حفظ لجميعهم وحقن لدمائهم ويفرض التعاون بينهم - خالفوه.
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)
* * *
إن اليهود قد أصابهم ما أصاب الأمم من تفكك في وحدتهم، فكانوا يتسافكون دماءهم ويمالئ بعضهم جماعات أخرى بينهم وبينهم حرب، فينضم فريق منهم إلى بعض المتقاتلين، وآخرون إلى غيرهم فيقاتل بعضهم بعضا، في ظل العدوين المتقاتلين، وقد أخذ الله تعالى عليهم العهد بمنع سفك دمائهم، وأخذ عليهم العهد بألا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم، ومع أن ذلك العهد حفظ لجميعهم وحقن لدمائهم ويفرض التعاون بينهم - خالفوه.
294
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ) كان الميثاق ألا يسفك بعضهم دماء بعض فلا يتقاتلوا ولا ينضموا إلى قوم يقاتلون أحدا
294
منهم، وعبر الله تعالى عن ذلك بقوله: (لا تَسْفكُونَ دمَاءَكُمْ) بصيغة الخبر الدالة على النهي وعبر عن التقاتل بينهم بقوله: (لا تَسْفِكُوَنَ دِمَاءَكُمْ) فنسب السفك المنهي عنه إليهم والدماء إليهم للإشارة إلى الفعل ليعود على جميعهم بسفك الدماء، وإهدار الأنفس، لأنه إذا كان القاتل والمقتول من أسرة واحدة، فقد قتلت نفسها، وسفكت دمها، وأهدرت أهلها.
ومنع سبحانه وتعالى أن يخرج بعضهم من دياره، وعبر عن ذلك المنع بقوله تعالى: (وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِن دِيَارِكُمْ) فالخبر هنا في معنى النهي عن ذلك، والتعبير عن إخراج البعض بأنه إخراج لأنفسهم بيان الاجتماع على أن يكونوا أمة واحدة متآزرة بحيث تكون إصابة عضو منها إصابة لجميعها، فإخراج بعضهم لبعض إخراج لكلهم إذ يفرق جمعهم، ولأنه يطمع فيهم أعداؤهم، فيخرجهم جميعا، فإخراج بعضهم يسهل إخراج كلهم.
وإن هذا الميثاق قد أخذه الله تعالى عليهم وأقروا به وشهدوه، ولذا قال تعالى موثقا ذلك الميثاق بقوله تعالى: (ثُمَ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ) أي أنتم الحاضرون أقررتم ما أخذ على أسلافكم من هذا الميثاق، وأنتم تشهدون مؤمنين بصدقه.
وكان الخطاب في الإقرار والشهادة للذين عاصروا النبي - ﷺ - لأنهم الذين نقضوا العهد ظاهرًا، وهم الذين سفكوا دماءهم، وهم الذين أخرجوا فريقا منهم، وإن كان الاحتمال بأن ذلك حصل من بعضهم في الماضي ليس ببعيد فقد تشابه في مخالفة الميثاق الخلف مع السلف، وهم جميعا في إثم مبين، وعدوان ظاهر.
وإذا كان ذلك الميثاق حفظا لوحدتهم ولجمعهم فقد نقضوه، وقتل بعضهم بعضا، وأخرج فريق منهم الآخر من داره، ولقد قال تعالى في ذلك:
ومنع سبحانه وتعالى أن يخرج بعضهم من دياره، وعبر عن ذلك المنع بقوله تعالى: (وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِن دِيَارِكُمْ) فالخبر هنا في معنى النهي عن ذلك، والتعبير عن إخراج البعض بأنه إخراج لأنفسهم بيان الاجتماع على أن يكونوا أمة واحدة متآزرة بحيث تكون إصابة عضو منها إصابة لجميعها، فإخراج بعضهم لبعض إخراج لكلهم إذ يفرق جمعهم، ولأنه يطمع فيهم أعداؤهم، فيخرجهم جميعا، فإخراج بعضهم يسهل إخراج كلهم.
وإن هذا الميثاق قد أخذه الله تعالى عليهم وأقروا به وشهدوه، ولذا قال تعالى موثقا ذلك الميثاق بقوله تعالى: (ثُمَ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ) أي أنتم الحاضرون أقررتم ما أخذ على أسلافكم من هذا الميثاق، وأنتم تشهدون مؤمنين بصدقه.
وكان الخطاب في الإقرار والشهادة للذين عاصروا النبي - ﷺ - لأنهم الذين نقضوا العهد ظاهرًا، وهم الذين سفكوا دماءهم، وهم الذين أخرجوا فريقا منهم، وإن كان الاحتمال بأن ذلك حصل من بعضهم في الماضي ليس ببعيد فقد تشابه في مخالفة الميثاق الخلف مع السلف، وهم جميعا في إثم مبين، وعدوان ظاهر.
وإذا كان ذلك الميثاق حفظا لوحدتهم ولجمعهم فقد نقضوه، وقتل بعضهم بعضا، وأخرج فريق منهم الآخر من داره، ولقد قال تعالى في ذلك:
295
(ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ) العطف هنا بـ ثم للبعد المعنوي بين الميثاق الذي أخذ عليهم وأقروه بألسنتهم وشهدوا عليه بقلوبهم، وبين الحال التي وجدوا فيها من أنهم قتلوا أنفسهم بأن تقاتلوا فيما بينهم سواء أكان قتالهم لأنفسهم
295
بأنفسهم، أم كانوا قد انضم فريق إلى قوم عدو لقوم آخر وتقاتل الإسرائيليون مع أنفسهم في ظل آخرين، وكان كل فريق من اليهود يعاون من يظاهره من أهل الشرك على قومه بالإثم والعدوان، وفي ذلك سفك لدمائهم.
وإن ذلك التعاون مع آخرين متعادين اقتضى أن يخرج فريق منهم من ديارهم، وذلك لأجل القتال الذي انضم فيه كل فريق من اليهود إلى فريق المشركين المتقاتلين؛ ولذا قال تعالت كلماته: (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).
روي عن ابن عباس أنه قال في تنكسير قوله تعالى: (ثُمَّ أنتمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسكُمْ) الآية: أنبأهم الله تعالى بذلك من قبل وقد حرم عليهم سفك دمائهم وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج والنضير وقريظة وهم مع الأوس فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس يظاهر كل واحد من الفريقين حليفه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما لهم وما عليهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان لا يعرفون جنة ولا نارا ولا حلالا ولا حراما، ولا بعثا ولا قياما ولا كتابًا.
وخلاصة هذه الرواية عن ابن عباس الذي سماه التابعون ترجمان القرآن: أن سفك اليهود لدمائهم كان في العصر القريب للهجرة عندما كانت الحرب مشبوبة بين الأوس والخزرج، وكانوا على شفا حفرة من النار، كما أخبر القرآن العزيز، وأن اليهود لم يقفوا محايدين كما هو واجب الجوار بل تدخلوا ليوسعوا شقة الخلاف ويؤرثوا نيران الحرب لتستمر مستعرة فكان مع الخزرج بنو قينقاع، وكانوا حلفاء لهم، ومع الأوس النضير وقريظة، فتقاتل الفريقان كل في صفِّه، وأخرج كل فريق الآخر من داره، فكان هذا نقضا للعهد الذي أقروه وصدقوه وشهدوه.
وعلى ذلك يكون الخطاب في قوله: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ (٨٥) لليهود الذين عاصروا النبي - ﷺ - والإشارة إليهم، وكانت الإشارة مع الخطاب لبيَان الصفات القائمة فيهم، فالمعنى أنتم ترون أنكم تقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم.
وإن ذلك التعاون مع آخرين متعادين اقتضى أن يخرج فريق منهم من ديارهم، وذلك لأجل القتال الذي انضم فيه كل فريق من اليهود إلى فريق المشركين المتقاتلين؛ ولذا قال تعالت كلماته: (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).
روي عن ابن عباس أنه قال في تنكسير قوله تعالى: (ثُمَّ أنتمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسكُمْ) الآية: أنبأهم الله تعالى بذلك من قبل وقد حرم عليهم سفك دمائهم وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج والنضير وقريظة وهم مع الأوس فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس يظاهر كل واحد من الفريقين حليفه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما لهم وما عليهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان لا يعرفون جنة ولا نارا ولا حلالا ولا حراما، ولا بعثا ولا قياما ولا كتابًا.
وخلاصة هذه الرواية عن ابن عباس الذي سماه التابعون ترجمان القرآن: أن سفك اليهود لدمائهم كان في العصر القريب للهجرة عندما كانت الحرب مشبوبة بين الأوس والخزرج، وكانوا على شفا حفرة من النار، كما أخبر القرآن العزيز، وأن اليهود لم يقفوا محايدين كما هو واجب الجوار بل تدخلوا ليوسعوا شقة الخلاف ويؤرثوا نيران الحرب لتستمر مستعرة فكان مع الخزرج بنو قينقاع، وكانوا حلفاء لهم، ومع الأوس النضير وقريظة، فتقاتل الفريقان كل في صفِّه، وأخرج كل فريق الآخر من داره، فكان هذا نقضا للعهد الذي أقروه وصدقوه وشهدوه.
وعلى ذلك يكون الخطاب في قوله: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ (٨٥) لليهود الذين عاصروا النبي - ﷺ - والإشارة إليهم، وكانت الإشارة مع الخطاب لبيَان الصفات القائمة فيهم، فالمعنى أنتم ترون أنكم تقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم.
296
ومن الغريب أنهم كانوا يتقاتلون غير متأثمين، ولا متحرجين من أن يقتل بعضهم بعضا، ويخرج فريق الآخر من داره ومع ذلك إذا وقع أحدهم في أسر من أي الفريقين فادوه، ولذا قال تعالى: (وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسارَى تُفَادُوهُمْ) إنهم يظاهرون على إخوانهم بالإثم والعدوان، ومع ذلك إذا جاءوكم مأسورين دفعتم فديتهم لتفكوا عانيهم، للذين كانوا سببا في أسرهم، وشَدُّوا الوَثَاق عليهم، فلو أن الفريق الذي تحاربون معه أسر أسرى من اليهود الذين يعاونون خصمه، وجاء إليكم هؤلاء الأسرى فإنكم تدفعون فديتهم لحليفكم الذي أسرهم، وهذا غريب متناقض.. أولا: لأنكم جعلتموهم مُقَاتَلين وسفكتم دماءهم وقتلتموهم فكيف تحمون حريتهم وأنخم الذين أخرجتموهم للقتال بسبب مناصرتكم لحلفائهم، ومناصرتهم لحلفائهم " ولذلك يقول تعالى تنديدا بحالهم وتناقضهم: (وَهُوَ مُحرَّمٌ عَلَيْكمْ إخرَاجُهُمْ).
ومعنى (تُفَادُوهُمْ) أي تدفعون دياتهم، لأن فدى ويفادى تدل على أحد معنيين إما أخذ الفدية ممن يدفعها أو دفعها، وتفسر هنا بمعنى دفعها؛ لأنه المناسب للمقام من حيث وقوعهم في التناقض في أوامر دينهم وميثاقهم فهم قد أخرجوا إخوانهم للقتال ومع ذلك إذا وقعوا في الأسر قدموا فديمهم اعتمادا على نص عندهم يقول: (إذا رأيت أخاك الآخر مملوكا فأخرجه من رقه) وبالتالي إذا رآه مأسورا أخرجه من أسره وإنه كان عليه ألا يكون سببا في إخراجه، وإنه محرم عليه إخراجه فلا يكون سبب الرق لذا قال تعالى: (وَهُوَ مُحرَّمٌ عَلَيْكمْ إِخْرَاجُهمْ) والحال والحكم الثابت المبين أنه محرم عليكم أن تخرجوهم، فإذا كان محرما عليكم ألا تتركوهم أسرى، فإنه من المحرم عليكم قبل ذلك ألا تخرجوهم فيكون ذلك سبب الأسر.
ولذلك قال تعالى مستنكرًا حالهم: (أَفَتؤمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) الفاء للإفصاح عن شرط مقدر، تقديره إذا كانت هذه حالكم فأنتم تؤمنون ببعضر الكتاب وتكفرون ببعض، والهمزة للاستفهام قدمت على الفاء لأنَّ الاستفهام له الصدارة دائما.
ومعنى (تُفَادُوهُمْ) أي تدفعون دياتهم، لأن فدى ويفادى تدل على أحد معنيين إما أخذ الفدية ممن يدفعها أو دفعها، وتفسر هنا بمعنى دفعها؛ لأنه المناسب للمقام من حيث وقوعهم في التناقض في أوامر دينهم وميثاقهم فهم قد أخرجوا إخوانهم للقتال ومع ذلك إذا وقعوا في الأسر قدموا فديمهم اعتمادا على نص عندهم يقول: (إذا رأيت أخاك الآخر مملوكا فأخرجه من رقه) وبالتالي إذا رآه مأسورا أخرجه من أسره وإنه كان عليه ألا يكون سببا في إخراجه، وإنه محرم عليه إخراجه فلا يكون سبب الرق لذا قال تعالى: (وَهُوَ مُحرَّمٌ عَلَيْكمْ إِخْرَاجُهمْ) والحال والحكم الثابت المبين أنه محرم عليكم أن تخرجوهم، فإذا كان محرما عليكم ألا تتركوهم أسرى، فإنه من المحرم عليكم قبل ذلك ألا تخرجوهم فيكون ذلك سبب الأسر.
ولذلك قال تعالى مستنكرًا حالهم: (أَفَتؤمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) الفاء للإفصاح عن شرط مقدر، تقديره إذا كانت هذه حالكم فأنتم تؤمنون ببعضر الكتاب وتكفرون ببعض، والهمزة للاستفهام قدمت على الفاء لأنَّ الاستفهام له الصدارة دائما.
297
والاستفهام إنكاري لإنكار الو اقع لأنهم بعملهم هذا يؤمنون ببعض الكتاب وهو تحريم البقاء على الأسْر، ويكفرون ببعضه الآخر، وهو تحريم سفك دمهم، وإخراجهم من ديارهم للقتال، فهو استفهام لإنكار الواقع، ولومهم عليه، وبيان أنه تناقض في إيمانهم ينفذون ما يكون هواهم في تنفيذه، ويجحدون بما لَا يكون لهم هوى في تنفيذه فاتخذوا إلههم هواهم.
وإن هذا يؤدي إلى هوانهم وذلهم ووصفهم بالعار الدائم؛ ولذا قال سبحانه (فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الخزي: الهوان والعار والذلة، والفاء للترتيب، فإن الأمر الذي يترتب على تسليم أنفسهم لسفك دمائهم وإخراجهم من ديارهم يترتب عليه خزيهم بتسليم أنفسهم، وعار لخيانتهم لأقوامهم، ووراء ذلك كله الذلة وهوان أمرهم بين الناس، وإن ذلك جزاء مأخوذ من العمل في ذاته، ولذلك بين القرآن الكريم أنه لَا جزاء سواه، وذلك بالنفي والإثبات بالاستثناء، أي: أن الذين يفعلون ذلك الفعل لَا جزاء لهم إلا العار والذلة والمهانة، وإذا كان ذلك هو المتعين جزاءً فهو من الفعل في ذاته؛ ولذلك كانت الإشارة إليه في قوله: (ذَلِكَ) إشارة أن الفعل ذاته هو العلة.
والحياة الدنيا هي الحياة الحاضرة، وسميت الدنيا، فهي مؤنث أدنى؛ لأنها القريبة المرئية المحسوسة، والحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية الدائمة التي تكون سعادة دائمة، أو شقوة مستمرة.
وإذا كان ذلك جزاء في الدنيا، فجزاء الآخرة أشد وأبقى؛ ولذلك قال تعالى: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَاب) ويوم القيامة هو يوم الحساب والعقاب أو الثواب، بعد البعث والنشور، وقولة تعالى: (يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَاب) يفيد بإشارة اللفظ إلى أنه مرجعه إلى عذاب سابق، فالخزي عذاب دنيوي نتيجةً لفعلهم، وهذه هي الدفعة الأولى، ويردون بعد ذلك إلى أخرى يوم القيامة فيها أشد العذاب وأنكله.
وقد بين سبحانه وتعالى أن حسابهم عند الحكيم العليم الذي لَا يخفى عليه شيء، ولا يغفل عن شيء؛ ولذا قال تعالى: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
وإن هذا يؤدي إلى هوانهم وذلهم ووصفهم بالعار الدائم؛ ولذا قال سبحانه (فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الخزي: الهوان والعار والذلة، والفاء للترتيب، فإن الأمر الذي يترتب على تسليم أنفسهم لسفك دمائهم وإخراجهم من ديارهم يترتب عليه خزيهم بتسليم أنفسهم، وعار لخيانتهم لأقوامهم، ووراء ذلك كله الذلة وهوان أمرهم بين الناس، وإن ذلك جزاء مأخوذ من العمل في ذاته، ولذلك بين القرآن الكريم أنه لَا جزاء سواه، وذلك بالنفي والإثبات بالاستثناء، أي: أن الذين يفعلون ذلك الفعل لَا جزاء لهم إلا العار والذلة والمهانة، وإذا كان ذلك هو المتعين جزاءً فهو من الفعل في ذاته؛ ولذلك كانت الإشارة إليه في قوله: (ذَلِكَ) إشارة أن الفعل ذاته هو العلة.
والحياة الدنيا هي الحياة الحاضرة، وسميت الدنيا، فهي مؤنث أدنى؛ لأنها القريبة المرئية المحسوسة، والحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية الدائمة التي تكون سعادة دائمة، أو شقوة مستمرة.
وإذا كان ذلك جزاء في الدنيا، فجزاء الآخرة أشد وأبقى؛ ولذلك قال تعالى: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَاب) ويوم القيامة هو يوم الحساب والعقاب أو الثواب، بعد البعث والنشور، وقولة تعالى: (يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَاب) يفيد بإشارة اللفظ إلى أنه مرجعه إلى عذاب سابق، فالخزي عذاب دنيوي نتيجةً لفعلهم، وهذه هي الدفعة الأولى، ويردون بعد ذلك إلى أخرى يوم القيامة فيها أشد العذاب وأنكله.
وقد بين سبحانه وتعالى أن حسابهم عند الحكيم العليم الذي لَا يخفى عليه شيء، ولا يغفل عن شيء؛ ولذا قال تعالى: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
298
نفَى الله تعالى بهذا النص السامي نفيا مؤكدا أن الله غافل عما يفعلون، فإذا كانوا هم ينسون ما يفعلون من آثام لاستمرائهم لها، واستمرارهم عليها، فالله تعالى لا ينساها، وقد أكد سبحانه نفي ذلك بالباء في قوله تعالى: (بِغَافِلٍ) وبنفي وصف الغفلة عن ذاته العلية، بأن الغفلة ليست من شئونه، وقوله تعالى: (عَمَّا تَعْمَلُونَ) إشارة إلى إحصائه سبحانه وتعالى أعمالهم حال عملها وحال تلبسهم بآثامها.
* * *
تنبيه: هذه الآيات نزلت في بني إسرائيل، والخطاب لهم ابتداء، ولكنه شامل عام في عبرته بالنسبة للأمم جميعها، وخصوصا الأمم التي تقوم على مبادئ رسالة إلهية من السماء، فإنها يجب أن تكون بناء واحدا قائما لَا تتداعي لبناته فيهوى، والنبي - ﷺ - قال في أمته: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى " (١). وأوجب الإسلام على المسلم أن يعين أخاه المسلم في شدته وكربته، فقال: " من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته " (٢)، وقال - ﷺ -: " المسلم أخو المسلم لَا يخذله ولا يُسلمه " (٣) ومع ذلك فعلنا الكثير نحن المسلمين في عصرنا، وهو امتداد لعصور قبلنا من الحصر العباسي الثاني إلى اليوم، سفكنا دماءنا بأيدينا لهوى الملوك، وفساد الحكام، فكانت الحرب بين المسلمين شديدة لُحيَّة، وصار كل فريق يرى في الآخر عدوه الذي ينتهز الفرص للقضاء عليه، وصار بعضهم يغري أعداء الإسلام من الوثنيين وغيرهم بالمسلمين، حتى وقعوا بالمسلمين وحاربوهم حرب إفناء.
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: كتاب الأدب (٥٥٥٢) ومسلم: كتاب البر والصلة (٤٦٨٥) واللفظ له، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(٢) عن عَبْدٍ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا انَ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - قَالَ: " المُسْلمُ اخُو الْمُسْلِم، لَا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِى حَاجَةِ أخِيه كَانَ اللَّهُ في حَاجَته، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسلم كُربة فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَة مِنْ كرُبَات يَوْمِ الْقيَامَة وَمَن سَتَرَ مُسْلَمَا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقَيَامَة ". [متفق عليه؛ أخرجه البخاري: كتاب المظالم والغصب (٢٢٦٢)، ومسلم: كتاب البر والصلة (٤٦٧٧)].
(٣) انظر السابق. وروى أحمد عَن ابْنِ عُمَرَ اأنَّ النَّبِي - ﷺ - كانَ يَقُولُ: " الْمُسْلِمُ اخُو الْمُسْلِم لَا يَطلِمُهُ وَلا يَخْذُلُهُ، ، وَيَقُولُ: " وَالَّذي نَفْس مُحَمَّد بيَده مَا تَوَاد اثْنَانِ فَفُرق بَيْنَهُمَا إِلا بِذَنْب يُحْدِثُهُ أحَدُهُمَا، وَكَانَ يَقُولُ: " لِلْمَرْ الْمُسْلمَ عَلَى أخيه مِنْ المًعرُوفِ سِت: يُشَمتهُ إِذَا عَطَسَ، وَيَعُودُه إِذَا مَرِضَ، وَيَنْصَحهُ إِذَا غَابَ، وَيَشْهَدهُ وَيُسَلمُ عَلَيْه إِذَا لَقَيَهُ، وَيُجيبهُ إِذَا دَعَاهُ، وَيَتْبَعُهُ إِذَا مَاتَ، وَنَهَى عَنْ هِجْرَةِ الْمُسْلم أخَاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ " [مسند المكثرين (٥١٠٣)].
* * *
تنبيه: هذه الآيات نزلت في بني إسرائيل، والخطاب لهم ابتداء، ولكنه شامل عام في عبرته بالنسبة للأمم جميعها، وخصوصا الأمم التي تقوم على مبادئ رسالة إلهية من السماء، فإنها يجب أن تكون بناء واحدا قائما لَا تتداعي لبناته فيهوى، والنبي - ﷺ - قال في أمته: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى " (١). وأوجب الإسلام على المسلم أن يعين أخاه المسلم في شدته وكربته، فقال: " من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته " (٢)، وقال - ﷺ -: " المسلم أخو المسلم لَا يخذله ولا يُسلمه " (٣) ومع ذلك فعلنا الكثير نحن المسلمين في عصرنا، وهو امتداد لعصور قبلنا من الحصر العباسي الثاني إلى اليوم، سفكنا دماءنا بأيدينا لهوى الملوك، وفساد الحكام، فكانت الحرب بين المسلمين شديدة لُحيَّة، وصار كل فريق يرى في الآخر عدوه الذي ينتهز الفرص للقضاء عليه، وصار بعضهم يغري أعداء الإسلام من الوثنيين وغيرهم بالمسلمين، حتى وقعوا بالمسلمين وحاربوهم حرب إفناء.
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: كتاب الأدب (٥٥٥٢) ومسلم: كتاب البر والصلة (٤٦٨٥) واللفظ له، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(٢) عن عَبْدٍ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا انَ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - قَالَ: " المُسْلمُ اخُو الْمُسْلِم، لَا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِى حَاجَةِ أخِيه كَانَ اللَّهُ في حَاجَته، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسلم كُربة فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَة مِنْ كرُبَات يَوْمِ الْقيَامَة وَمَن سَتَرَ مُسْلَمَا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقَيَامَة ". [متفق عليه؛ أخرجه البخاري: كتاب المظالم والغصب (٢٢٦٢)، ومسلم: كتاب البر والصلة (٤٦٧٧)].
(٣) انظر السابق. وروى أحمد عَن ابْنِ عُمَرَ اأنَّ النَّبِي - ﷺ - كانَ يَقُولُ: " الْمُسْلِمُ اخُو الْمُسْلِم لَا يَطلِمُهُ وَلا يَخْذُلُهُ، ، وَيَقُولُ: " وَالَّذي نَفْس مُحَمَّد بيَده مَا تَوَاد اثْنَانِ فَفُرق بَيْنَهُمَا إِلا بِذَنْب يُحْدِثُهُ أحَدُهُمَا، وَكَانَ يَقُولُ: " لِلْمَرْ الْمُسْلمَ عَلَى أخيه مِنْ المًعرُوفِ سِت: يُشَمتهُ إِذَا عَطَسَ، وَيَعُودُه إِذَا مَرِضَ، وَيَنْصَحهُ إِذَا غَابَ، وَيَشْهَدهُ وَيُسَلمُ عَلَيْه إِذَا لَقَيَهُ، وَيُجيبهُ إِذَا دَعَاهُ، وَيَتْبَعُهُ إِذَا مَاتَ، وَنَهَى عَنْ هِجْرَةِ الْمُسْلم أخَاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ " [مسند المكثرين (٥١٠٣)].
299
ولقد كانت الأرض الإسلامية تُلتَهم قطعة قطعة، وفي المسلمين أقوياء لَا يرون للدين حقا عليهم يوجب أن ينقذوا إخوانهم من المؤمنين، فقد كان النصارى يعذبون المسلمين حتى أفنوهم فيها، والأتراك من النظارة الذين ينظرون ولا يتحركون.
وجاء العصر الأخير، فرأينا أعداء الله وأعداء الإسلام يجندون من المسلمين من يحاربون المسلمين، ووجدنا من الذين يتمسحون باسم علماء الدين من يؤيدون محاربة المسلم للمسلم، ووجدنا في السنين الأخيرة من الحكام من يقتل المَقَاتِل العظيمة في المسلمين من رعيته، حتى يلجئهم إلى الوثنيين لينقذوهم، وتذهب جماعات إسلامية، وقتًا بعد آخر ووجدنا بيت المقدس يخربه اليهود ويستولون عليه، ووجدنا من اللوك من يؤيدونهم.. اللهم لاحول ولا قوة إلا بك وأنه ينطبق علينا قوِلك الحكيم: (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
وإن أولئك الذين يسفكون دماءهم، ويخرجون أنفسهم من ديارهم باعوا آخرتهم بدنياهم، وكانت الحياة الآخرة هي الثمن للدنيا التي اشتروها؛ ولذلك قال تعالى:
وجاء العصر الأخير، فرأينا أعداء الله وأعداء الإسلام يجندون من المسلمين من يحاربون المسلمين، ووجدنا من الذين يتمسحون باسم علماء الدين من يؤيدون محاربة المسلم للمسلم، ووجدنا في السنين الأخيرة من الحكام من يقتل المَقَاتِل العظيمة في المسلمين من رعيته، حتى يلجئهم إلى الوثنيين لينقذوهم، وتذهب جماعات إسلامية، وقتًا بعد آخر ووجدنا بيت المقدس يخربه اليهود ويستولون عليه، ووجدنا من اللوك من يؤيدونهم.. اللهم لاحول ولا قوة إلا بك وأنه ينطبق علينا قوِلك الحكيم: (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
وإن أولئك الذين يسفكون دماءهم، ويخرجون أنفسهم من ديارهم باعوا آخرتهم بدنياهم، وكانت الحياة الآخرة هي الثمن للدنيا التي اشتروها؛ ولذلك قال تعالى:
300
(أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)، الإشارة إلى الذين سفكوا دماءهم وأخرجوا أنفسهم من ديارهم، ونقضوا مواثيق الله التي جاءتهم بالأحكام التكليفية، والإشارة إلى الموصوفين بصفات تشير إلى أن هذه الصفات هي سبب الحكم الذي يقترن باسم الإشارة، أي أن هؤلاء بسبب أوصافهم قد اشتروا الحياة الدنيا بثمن هو أغلى الأثمان، وهو الآخرة، ولكننا نجد أنهم خسروا في الدنيا؛ لأنهم لحقهم الخزي والعار، وفسدت نفوسهم، حتى صارت كالقردة والخنازير، وإن ذلك حق، ولكنهم فهموا الدنيا متاعا يستمتعون به كالحيوان فاشتروا هذه الدنيا التي زعموها، وتركوا الآخرة فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ومع أنهم طلبوا الحياة، وتركوا الآخرة لم ينالوا ما طلبوه طيبا، بل أخذوه ذليلا مهينا، مصحوبا بالخزي، ولكنهم يريدون الحياة الدنيا على أية صورة كانت، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة، وإن جزاءهم في الآخرة التي تركوها وباعوها،
ومع أنهم طلبوا الحياة، وتركوا الآخرة لم ينالوا ما طلبوه طيبا، بل أخذوه ذليلا مهينا، مصحوبا بالخزي، ولكنهم يريدون الحياة الدنيا على أية صورة كانت، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة، وإن جزاءهم في الآخرة التي تركوها وباعوها،
300
قال الله تعالى فيهم: (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ) الفاء فاء الإفصاح التي تفيد ترتب ما بعدها على ما يفهم مما قبلها، أي أنه بسبب تلك المبادلة الخاسرة التي خسروا فيها الآخرة لَا يخفف الله تعالى عنهم العذاب الشديد الذي يستقبلهم؛ لأن أسباب التشديد من التقاطع والتنابذ والحسد والجحود قائمة، ولا مسوغ للتخفيف قط، (وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)، فلا ترى من نبي ينصرهم، ولا شفيع يشفع لهم لأنهم عدموا الشعفعاء، وقتلوا النبيين.
* * *
استكبارهم على الرسل
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (٨٨)
* * *
ذكر الله تعالى المواثيق التي أخذها على بني إسرائيل، وكيف نقضوا ميثاقا بعد ميثاق حتى ما يتعلق بسلامة جماعتهم، وحمايتهم لأنفسهم. بعد ذلك، ذكر استقبالهم للرسل، وكتبهم فقال تعالى:
* * *
استكبارهم على الرسل
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (٨٨)
* * *
ذكر الله تعالى المواثيق التي أخذها على بني إسرائيل، وكيف نقضوا ميثاقا بعد ميثاق حتى ما يتعلق بسلامة جماعتهم، وحمايتهم لأنفسهم. بعد ذلك، ذكر استقبالهم للرسل، وكتبهم فقال تعالى:
301
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بالرسلِ)، الكتاب الذي أنزله الله على موسى هو التوراة، وليس هو الذي يطلقون عليه اسم التوراة، أولا: لأنه يشتمل على أخبار الأنبياء من بعده داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء الذي جاءوا من بعده، فلا يمكن بالبداهة أن يكون قد نزل على موسى ما جاء بعده من أخبار نبيين جاءوا من بعده بمئات السنين، وثانيا: لأنهم حرفوا وغيروا وبدلوا ونسوا حظا كثيرا مما نقل إليهم، ولا يزالون يحرفون، ويغيرون ويبدلون، ويعبثون. وإن الكتاب الذي نزل على موسى هي الأسفار الخمسة، وقد حرفوها وغيروا [وبدَّلوا] (١)، ولا يزالون يفعلون. [آتي] الله تعالى موسى عليه السلام
_________
(١) في الأصل [وبدَّعوا] ولعله خطأ مطبعي. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).
_________
(١) في الأصل [وبدَّعوا] ولعله خطأ مطبعي. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).
301
الكتاب الصادق الذي هو حجة عليهم وليس ما بأيديهم حجة لهم لأنهم كتبوه بأيديهم ليشتروا به ثمنا قليلا (فَوَيْلٌ لهُم مِّمَّا كتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لهُم مِمَّا يَكْسِبُونَ).
وإن الله تعالى أرسل الرسل من بعد موسى، ليؤيدوا ما دعا إليه في الكتاب الذي نزل عليه؛ ولذا قال تعالى: (وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) أي جاء بعده رسل تترى، رسولا بعد رسول، فمعنى قفينا أرسلنا رسولا وراء رسول وراء رسول لأن التقفية التتابع بحيث يكون كل رسول في قفا الرسول الآخر وراءه، ومعنى هذا التتابع أن يكون الجميع على نمط واحد، وغاية واحدة، فإن الخط المستقيم المتتابع في نقطة ينتهي إِلى نقطة واحدة، وهي الوحدانية، والتكليفات الإلهية الواحدة، كما قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣).
ولقد ذكر بعد ذلك عيسى عليه السلام، وقد بعث في اليهود، أي كانت دعوته الأولى في اليهود، ومعه المعجزات الباهرة فقال تعالى: (وآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) ذكره سبحانه وتعالى في ضمن الرسل الذين تتابعوا من بعد موسى، وقفاهم الله تعالى به، رسولا بعد رسول، فهو رسول من بينهم، ولكن اختصه تعالى ببينات أي معجزات حسية باهرة قاطعة في الدلالة على رسالته، ولكنهم كفروا، وقد ذكر سبحانه وتعالى هذه البينات في آيات أخرى من القرآن، منها ما جاء في سورة آل عمران، فقد قال تعالى مبشرا مريم بولادة المسيِح عليه السلام، وهي مستغربة أن يكون من غير أب: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ
وإن الله تعالى أرسل الرسل من بعد موسى، ليؤيدوا ما دعا إليه في الكتاب الذي نزل عليه؛ ولذا قال تعالى: (وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) أي جاء بعده رسل تترى، رسولا بعد رسول، فمعنى قفينا أرسلنا رسولا وراء رسول وراء رسول لأن التقفية التتابع بحيث يكون كل رسول في قفا الرسول الآخر وراءه، ومعنى هذا التتابع أن يكون الجميع على نمط واحد، وغاية واحدة، فإن الخط المستقيم المتتابع في نقطة ينتهي إِلى نقطة واحدة، وهي الوحدانية، والتكليفات الإلهية الواحدة، كما قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣).
ولقد ذكر بعد ذلك عيسى عليه السلام، وقد بعث في اليهود، أي كانت دعوته الأولى في اليهود، ومعه المعجزات الباهرة فقال تعالى: (وآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) ذكره سبحانه وتعالى في ضمن الرسل الذين تتابعوا من بعد موسى، وقفاهم الله تعالى به، رسولا بعد رسول، فهو رسول من بينهم، ولكن اختصه تعالى ببينات أي معجزات حسية باهرة قاطعة في الدلالة على رسالته، ولكنهم كفروا، وقد ذكر سبحانه وتعالى هذه البينات في آيات أخرى من القرآن، منها ما جاء في سورة آل عمران، فقد قال تعالى مبشرا مريم بولادة المسيِح عليه السلام، وهي مستغربة أن يكون من غير أب: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ
302
الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١).
* * *
هذه بعض البينات، وذكرت بينات أخرى في سورة المائدة منها أنه بإذن الله يردُ الحياة إلى الموتى، والفاعل هو الله تعالى وأجرى الإحياء على يد عيسى عليه السلام، وأنه ينادي الموتى من قبورهم فيخرجون بإذن الله تعالى العلي القدير، وأنه نزل عليه مائدة من السماء، فكانت آية أخرى.
وفى هذا المقام لابد من ذكر أمرين:
أولهما - أن اليهود كفروا بهذه الآيات البينات، ولم يذعنوا للحق وحاولوا قتل المسيح عليه السلام، وأرادوا أن يكون في عداد النبيين الذين قتلوهم، ولكن الله تعالى حماه منهم، وادعى النصارى الذين جاءوا بعد المسيح عليه السلام أنهم قتلوه لأوهام توهموها، وأكاذيب اخترعها بولس الذي كان له عدوِّا مبينًا.
الأمر الثاني - وهو لماذا كانت هذه البينات الخارقة للعادة للمسيح من بين سائر النبيين؛ وإن كان لمحمد - ﷺ - ما هو أجل وأعظم، وجاء مثلها على يديه، ولكنه لم يتحدَّ بها، بل تحدى بالقرآن العظيم الخليقة كلها في كل أجيالها، ولا يزال يتحدى العصور إلى اليوم.
كانت معجزات عيسى أو بيناته كما عبر القرآن الكريم من هذا النوع؛ لأن اليهود ما كانوا يؤمنون إلا بالمادة ولا يعترفون بالروح في كتابتهم، ولا في أنفسهم، ولا في دراساتهم الدينية في العصر الذي بعث الله تعالى عيسى عليه السلام فيه ولا العصر الذي قارنه وسبقه، فكان لابد من أمر روحي يقرع حسهم وحالهم المادي فكان خَلْق عيسى عليه السلام، وكان أمرًا خارقا للعادة مبطلا سلطان المادة، وكانت المعجزات كلها من الناحية الروحية فهو يخبرهم بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم، وهو يبرئ الأكمه والأبرص وهو ينفخ في الطين فيكون طيرا، وهو يحي الموتى، وهو يخرج الموتى من قبورهم بإذن الله تعالى، والله تعالى ينزل المائدة فيأكلون
* * *
هذه بعض البينات، وذكرت بينات أخرى في سورة المائدة منها أنه بإذن الله يردُ الحياة إلى الموتى، والفاعل هو الله تعالى وأجرى الإحياء على يد عيسى عليه السلام، وأنه ينادي الموتى من قبورهم فيخرجون بإذن الله تعالى العلي القدير، وأنه نزل عليه مائدة من السماء، فكانت آية أخرى.
وفى هذا المقام لابد من ذكر أمرين:
أولهما - أن اليهود كفروا بهذه الآيات البينات، ولم يذعنوا للحق وحاولوا قتل المسيح عليه السلام، وأرادوا أن يكون في عداد النبيين الذين قتلوهم، ولكن الله تعالى حماه منهم، وادعى النصارى الذين جاءوا بعد المسيح عليه السلام أنهم قتلوه لأوهام توهموها، وأكاذيب اخترعها بولس الذي كان له عدوِّا مبينًا.
الأمر الثاني - وهو لماذا كانت هذه البينات الخارقة للعادة للمسيح من بين سائر النبيين؛ وإن كان لمحمد - ﷺ - ما هو أجل وأعظم، وجاء مثلها على يديه، ولكنه لم يتحدَّ بها، بل تحدى بالقرآن العظيم الخليقة كلها في كل أجيالها، ولا يزال يتحدى العصور إلى اليوم.
كانت معجزات عيسى أو بيناته كما عبر القرآن الكريم من هذا النوع؛ لأن اليهود ما كانوا يؤمنون إلا بالمادة ولا يعترفون بالروح في كتابتهم، ولا في أنفسهم، ولا في دراساتهم الدينية في العصر الذي بعث الله تعالى عيسى عليه السلام فيه ولا العصر الذي قارنه وسبقه، فكان لابد من أمر روحي يقرع حسهم وحالهم المادي فكان خَلْق عيسى عليه السلام، وكان أمرًا خارقا للعادة مبطلا سلطان المادة، وكانت المعجزات كلها من الناحية الروحية فهو يخبرهم بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم، وهو يبرئ الأكمه والأبرص وهو ينفخ في الطين فيكون طيرا، وهو يحي الموتى، وهو يخرج الموتى من قبورهم بإذن الله تعالى، والله تعالى ينزل المائدة فيأكلون
303
منها، كما كان ينزل المن والسلوى على بني إسرائيل عند خروجهم من مصر، وهم يعيشون في سيناء.
هذا بالنسبة لبني إسرائيل خاصة، أما بالنسبة للعقل البشرى عامة الذي عاصر المسيح عليه السلام، وكان في القرون التي قبلها، فهو أنه عصر الفلسفة الأيونية التي تولدت منها الفلسفة اليونانية، وقد كان هذا العصر تسوده فلسفة الأسباب والمسببات فلكل شيء سبب عادى، وكل سبب هو سبب لشيء وأتبع سببا، فالوجود كله يؤثر بعضه في بعضه، فالولد يكون من أب وأم، يكَوَّن من أصلاب الآباء وبطون الأمهات، والأبرص والأكمه لَا يشفيان، ولا يمكن أن يعود الميت حيا، ولا أن يخرج الأموات من قبورهم، وهكذا فكان لابد من قوارع تبين أن الأسباب والمسببات من الله، الله تعالى أبدعها بديع السماوات والأرض، وهو يغيرها، وهو الفعال لَا يريد.
لقد تطاولوا حتى قالوا: إن الوجود منشأ من موجده بنظام الأسباب والمسببات، فهو وجد منه وجود المعلول من علته، فهو ليس مختارًا حتى في وجوده، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، فهو القادر المختار المريد العليم السميع البصير، ليس كمثله شيء وهو فعال لما يريد.
كانت معجزات عيسى عليه السلام قاطعة في إبطال الأسباب العادية والمسببات ولوازمها، فتعالى الله، وتقدست ذاته وتنزهت صفاته.
وما يدعى من أن عصر عيسى عليه السلام كان عصر علم الطب لَا يؤيده التاريخ، بل كان اليهود الذين بعث فيهم عيسى وخاطبهم برسالته ومعجزاته كانوا أجهل الناس بالطب كما حكى عنهم الفيلسوف المسيحي رينان في كتابه.
أيد الله تعالى المسيح عليه السلام بالبينات الباهرة، ولكن بني إسرائيل كفروا بها، وأيده عليه السلام بروح القدس، فقال تعالى: (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وروح القدس هو جبريل رسول الله تعالى إلى رسله، كما قال تعالى: (وَمَا كانَ لِبشَرٍ أن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ من وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رسولًا...)، فالرسول
هذا بالنسبة لبني إسرائيل خاصة، أما بالنسبة للعقل البشرى عامة الذي عاصر المسيح عليه السلام، وكان في القرون التي قبلها، فهو أنه عصر الفلسفة الأيونية التي تولدت منها الفلسفة اليونانية، وقد كان هذا العصر تسوده فلسفة الأسباب والمسببات فلكل شيء سبب عادى، وكل سبب هو سبب لشيء وأتبع سببا، فالوجود كله يؤثر بعضه في بعضه، فالولد يكون من أب وأم، يكَوَّن من أصلاب الآباء وبطون الأمهات، والأبرص والأكمه لَا يشفيان، ولا يمكن أن يعود الميت حيا، ولا أن يخرج الأموات من قبورهم، وهكذا فكان لابد من قوارع تبين أن الأسباب والمسببات من الله، الله تعالى أبدعها بديع السماوات والأرض، وهو يغيرها، وهو الفعال لَا يريد.
لقد تطاولوا حتى قالوا: إن الوجود منشأ من موجده بنظام الأسباب والمسببات، فهو وجد منه وجود المعلول من علته، فهو ليس مختارًا حتى في وجوده، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، فهو القادر المختار المريد العليم السميع البصير، ليس كمثله شيء وهو فعال لما يريد.
كانت معجزات عيسى عليه السلام قاطعة في إبطال الأسباب العادية والمسببات ولوازمها، فتعالى الله، وتقدست ذاته وتنزهت صفاته.
وما يدعى من أن عصر عيسى عليه السلام كان عصر علم الطب لَا يؤيده التاريخ، بل كان اليهود الذين بعث فيهم عيسى وخاطبهم برسالته ومعجزاته كانوا أجهل الناس بالطب كما حكى عنهم الفيلسوف المسيحي رينان في كتابه.
أيد الله تعالى المسيح عليه السلام بالبينات الباهرة، ولكن بني إسرائيل كفروا بها، وأيده عليه السلام بروح القدس، فقال تعالى: (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وروح القدس هو جبريل رسول الله تعالى إلى رسله، كما قال تعالى: (وَمَا كانَ لِبشَرٍ أن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ من وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رسولًا...)، فالرسول
304
الذي يرسله الله تعالى إلى رسله هو الملك جبريل عليه السلام، وقال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه:
وقال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ)، وروح القدس من إضافة الموصوف إلى الوصف، أي الروح القدس أي الطاهر وقد وصف بالأمين، كما ترى في الآية التي تلونا، وليس إلها، ولا ثالث ثلاثة كما قال الذين لَا يؤمنون إلا بالأوهام، وهم النصارى الذين يتبعون بولس عدو المسيح، ولا يتبعون المسيح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
كفر بنو إسرائيل بالمسيح عليه السلام، وقد أتى بهذه البينات القاهرة، ولكنهم كفروا استكبارا عن اتباعه عليه السلام، " ولأن ما جاء به يخالف أهواءهم فهم يريدون الرسول داعيا إلى ما تهوى أنفسهم، والكفر ملازم لكل من جعل إلهه هواه، فهو يدين لكل ما يتبع أهواءهم، ولا يدينون دين الحق الذي يقوم الدليل على صحته، وأنه من عند الله؛ ولذلك قال الله تعالى في بني إسرائيل: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ).
والهوى هو الميل إلى الشيء بالانحراف، ويسمى الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى الباطل من كل شيء فهو يهوي إلى الخلق الفاسد، وإلى الضلال، ومن بعد ذلك يهوي به إلى النار.
وإنهم يرفضون طاعتهم للحق إطاعة لهواهم ولكنهم يسترون ذلك بالاستكبار، واستصغار الحق ومن يدعو إليه مستعلين عليه، كأنهم هم وحدهم، حملة الرسالة الإلهية ولا يحملها سواهم، لأنهم أبناء الله وأحباؤه، ولذلك كانوا مستمرين في غوايتهم.
قوله تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ) الفاء لترتيب ما بعدها من حكم على ما كان قبلها من كفر متوالٍ مستمر، والهمزة للاستفهام وهو لإنكار الواقع الذي هم فيه،
وجبريل رسول الله فينا | وروح القدس ليس به خفاء |
كفر بنو إسرائيل بالمسيح عليه السلام، وقد أتى بهذه البينات القاهرة، ولكنهم كفروا استكبارا عن اتباعه عليه السلام، " ولأن ما جاء به يخالف أهواءهم فهم يريدون الرسول داعيا إلى ما تهوى أنفسهم، والكفر ملازم لكل من جعل إلهه هواه، فهو يدين لكل ما يتبع أهواءهم، ولا يدينون دين الحق الذي يقوم الدليل على صحته، وأنه من عند الله؛ ولذلك قال الله تعالى في بني إسرائيل: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ).
والهوى هو الميل إلى الشيء بالانحراف، ويسمى الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى الباطل من كل شيء فهو يهوي إلى الخلق الفاسد، وإلى الضلال، ومن بعد ذلك يهوي به إلى النار.
وإنهم يرفضون طاعتهم للحق إطاعة لهواهم ولكنهم يسترون ذلك بالاستكبار، واستصغار الحق ومن يدعو إليه مستعلين عليه، كأنهم هم وحدهم، حملة الرسالة الإلهية ولا يحملها سواهم، لأنهم أبناء الله وأحباؤه، ولذلك كانوا مستمرين في غوايتهم.
قوله تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ) الفاء لترتيب ما بعدها من حكم على ما كان قبلها من كفر متوالٍ مستمر، والهمزة للاستفهام وهو لإنكار الواقع الذي هم فيه،
305
وكلما شرطية تدل على تكرار الفعل وهو الجواب إذا تكرر الشرط، والمعنى يتكرر منكم الاستكبار كلما جاء نبي من الأنبياء بما لَا تهوى ولا تحب أنفسكم، وإن ذلك توبيخ لهم لحاضرهم وماضيهم على سواء، لأنهم في الباطل أمة واحدة، يتبع خلفهم سلفهم، ويدين آخرهم بما يدين به أولهم، فهم جميعا يستكبرون عن الحق، وحالهم مع النبي - ﷺ - هو حال أسلافهم مع أنبيائهم، فهم استكبروا عن إجابة النبي - ﷺ - لأنه ليس من بني إسرائيل ولأنه لم يجئ بما تهوى نفوسهم.
وإنهم إذ يستكبرون يرتبون من ماضيهم على الاستكبار إما التكذيب المجرد، كما كانوا يفعلون مع الأنبياء، وكما فعلوا مع عيسى عليه السلام، إذ حاولوا قتله، فأنجاه الله تعالى منهم، وما قتلوه يقينا بل رفعه الله تعالى إليه، وإما التكذيب المقرون بالاعتداء الآثم؛ ولذا قال تعالى فيما ترتب على الاستنكار: (فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتلُونَ).
فالفاء للترتيب، أي ترتب على الاستكبار الآثم أن كذبتم، وأن زدتم على التكذيب القتل، كما فعلتم مع يحيى وزكريا عليهما السلام، وكما حاولتم أن تفعلوا مع عيسى فرد الله تعالى كيدكم في نحوركم.
وقد عللوا تكذيبهم للأنبياء الذي دفع إليه استكبارهم بقولهم:
وإنهم إذ يستكبرون يرتبون من ماضيهم على الاستكبار إما التكذيب المجرد، كما كانوا يفعلون مع الأنبياء، وكما فعلوا مع عيسى عليه السلام، إذ حاولوا قتله، فأنجاه الله تعالى منهم، وما قتلوه يقينا بل رفعه الله تعالى إليه، وإما التكذيب المقرون بالاعتداء الآثم؛ ولذا قال تعالى فيما ترتب على الاستنكار: (فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتلُونَ).
فالفاء للترتيب، أي ترتب على الاستكبار الآثم أن كذبتم، وأن زدتم على التكذيب القتل، كما فعلتم مع يحيى وزكريا عليهما السلام، وكما حاولتم أن تفعلوا مع عيسى فرد الله تعالى كيدكم في نحوركم.
وقد عللوا تكذيبهم للأنبياء الذي دفع إليه استكبارهم بقولهم:
306
(وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ) وغلف جمع أغلف وهو ما عليه غلاف أي غطاء يمنع وصول ما يدعو إليه الرسول إلى قلوبهم، وهو كقوله تعالى حكاية عن أمثالهم: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ...)، وذلك لأن الهوى إذا سيطر سد مسامع الإدراك الصحيح فيكون لهم قلوب لَا يفقهون بها، فهم لَا يدركون، وهم إذ يحكمون على أنفسهم ذلك الحكم، فهو صادق فعلى قلوبهم غلاف من الهوى سد معرض عن الحق، وهم يقولون ذلك القول مصرِّين على التكذيب؛ ولذا قال تعالى: (بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ) أي طردهم سبحانه وتعالى من رحمته، وهو حكم تقريري، مثبت لغلف قلوبهم، والإضراب في قوله تعالى: (بَل لَّعَنَهُمُ) إضراب عن قبول اعتذارهم، ورده عليهم بأن هذا طرد لهم من رحمة الهداية إلى كفر الغواية.
306
ويفسر ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما معنى قولهم في قلوبنا غلف " إن قلوبنا ممتلئة علما لَا تحتاج إلى علم جديد يأتي به الرسول محمد أو غيره، وقرأ ابن عباس غُلُف جمع غلاف، والمعنى أن قلوبهم امتلأت علما حتى الكظة ووضع عليها غلاف محكم يمنع أن يخرج العلم، ويمنع أن يدخل إليه غيره، وهو تعبير تصويري ويتفق معه وصف استكبارهم، ويكون معنى: (بَل لَّعَنَهُم اللَّهُ) لعناهم، وطردناهم، فالإضراب في " بل " رد لادعاء العلم بالنبوات، بل هو غرور راكز في نفوسهم منعهم من إدراك الحقائق الدينية، والرسالات الإلهية التي انتهتا برسالة خاتم النبيين محمد - ﷺ - (١).
وإن ذلك متفق مع قوله تعالى في سورة النساء: (فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِم فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا).
وقد رتب الله تعالى على تغليف قلوبهم ووضعهم الغطاء المانع من دخول الحق إليها، فقال تعالى: (فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي أنه ترتب على تغليف قلوبهم عن الحق ألا يؤمنوا به، و " ما " في النص السامي الكريم للدلالة على القلة الشديدة، والمعنى فقليلا أي قلة يؤمنون، والعلة واضح أنها في العدد لَا في الإيمان، فالإيمان لَا يتجزأ إلى قليل أو كثير، فهو كامل دائما، أو هو الإذعان للحق بعد تصديقه، وذلك لَا يكون إلا كاملا، فالقلة والكثرة في عدد المؤمنين لَا في مقدار إيمانهم، فالمعنى بسبب تغليف قلوبهم لَا يؤمن إلا عدد قليل وقوله تعالى: (فَقَلِيلًا مَّأ يؤمِنونَ) إن قليلا وصف لمصدر محذوف تقديره: إيمانا قليلا أي (قلة يؤمنون) والقلة كما أشرنا ليست في أصل الإيمان، بل فيمن اتصفوا بالإيمان، لأنهم يكونون عددا قليلا، ومصداق ذلك قوله تعالى في أهل
________
(١) عَنْ أبِى هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - قَالَ: " إِنَ مَثَلِي وَمَثَلَ الأنْبِيَاءِ مِنْ قبِلي كَمَثَلِ رَجُل بنى بَيْتًا، فَأحْسَنَهُ وَأجْمَلَهُ إلا مَوْضِعَ لَبنَة مِنْ زَاويَة، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ به وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأنَا اللبِنَةُ وَأنَا خاتِمُ النَّبِيينً) [متفق عليه؛ أخرجه البخَاري: كتاب المناقب (٣٢٧١) ومسلم: كتاب الفضائل (٤٢٣٩) وغيرهما].
وإن ذلك متفق مع قوله تعالى في سورة النساء: (فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِم فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا).
وقد رتب الله تعالى على تغليف قلوبهم ووضعهم الغطاء المانع من دخول الحق إليها، فقال تعالى: (فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي أنه ترتب على تغليف قلوبهم عن الحق ألا يؤمنوا به، و " ما " في النص السامي الكريم للدلالة على القلة الشديدة، والمعنى فقليلا أي قلة يؤمنون، والعلة واضح أنها في العدد لَا في الإيمان، فالإيمان لَا يتجزأ إلى قليل أو كثير، فهو كامل دائما، أو هو الإذعان للحق بعد تصديقه، وذلك لَا يكون إلا كاملا، فالقلة والكثرة في عدد المؤمنين لَا في مقدار إيمانهم، فالمعنى بسبب تغليف قلوبهم لَا يؤمن إلا عدد قليل وقوله تعالى: (فَقَلِيلًا مَّأ يؤمِنونَ) إن قليلا وصف لمصدر محذوف تقديره: إيمانا قليلا أي (قلة يؤمنون) والقلة كما أشرنا ليست في أصل الإيمان، بل فيمن اتصفوا بالإيمان، لأنهم يكونون عددا قليلا، ومصداق ذلك قوله تعالى في أهل
________
(١) عَنْ أبِى هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - قَالَ: " إِنَ مَثَلِي وَمَثَلَ الأنْبِيَاءِ مِنْ قبِلي كَمَثَلِ رَجُل بنى بَيْتًا، فَأحْسَنَهُ وَأجْمَلَهُ إلا مَوْضِعَ لَبنَة مِنْ زَاويَة، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ به وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأنَا اللبِنَةُ وَأنَا خاتِمُ النَّبِيينً) [متفق عليه؛ أخرجه البخَاري: كتاب المناقب (٣٢٧١) ومسلم: كتاب الفضائل (٤٢٣٩) وغيرهما].
307
الكتاب: (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ)، وقوله تعالى في أهل الكتاب السابقين على رسالة محمد - ﷺ -: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥).
* * *
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣)
* * *
ذكرهم الله تعالى بأعمال سلفهم مع الأنبياء بصورة عامة، ثم بدأ سبحانه وتعالى أعمالهم مع النبي - ﷺ - بصفة خاصة، وهي في ذاتها أشد كفرا مما كان من أسلافهم مع الأنبياء السابقين، ولذا كان الخطاب متصلا بخطاب أسلافهم، فأسلاف أخذ عليهم الميثاق لايعبدون إلا الله، وأسلاف أخذ عليهم الميثاق ألا يسفكوا دماءهم وألا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، خوطب أسلافهم بذلك، وكان الخطاب موجها
* * *
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣)
* * *
ذكرهم الله تعالى بأعمال سلفهم مع الأنبياء بصورة عامة، ثم بدأ سبحانه وتعالى أعمالهم مع النبي - ﷺ - بصفة خاصة، وهي في ذاتها أشد كفرا مما كان من أسلافهم مع الأنبياء السابقين، ولذا كان الخطاب متصلا بخطاب أسلافهم، فأسلاف أخذ عليهم الميثاق لايعبدون إلا الله، وأسلاف أخذ عليهم الميثاق ألا يسفكوا دماءهم وألا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، خوطب أسلافهم بذلك، وكان الخطاب موجها
308
لهم، والميثاق في رقابهم ولذلك ندد بقتلهم أنفسهم، وإخراجهم فريقا منهم من ديارهم.
قال تعالى:
قال تعالى:
309
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ منْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لمَا مَعَهُمْ) أخبر سبحانه وتعالى أنهم جاءهم كتاب، وهو قد جاء مع رسول من بني إسماعيل عليه السلام بهذا الكتاب، فذكر الكتاب، وهو يقتضي أن يكون مع رسول، فأعلم بالكتاب لأن الأمر أنه كتاب يشتمل على المواثيق مثل المواثيق التي أخذت عليهم، ونقضوها، فهو ميثاق جديد للمواثيق التي جاءتهم من قبل، ولم يذكر اسم الرسول، لأن الاعتبار لهذا الكتاب الذي وصفه الله تعالى بوصفين أنه من عند الله تعالى، وما يكون من عند الله جدير بأن يتقبلوه بقبول حسن، وأن يأخذوه بمأخذ الطاعة لأوامره ونواهيه، والوصف الثاني أنه مصدق لما معهم فهو مصدق لما جاء في التوراة من وصف للنبي - ﷺ -، ومصدق للمواثيق التي أخذت عليهم من ألا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا، وأن يحسنوا إلى الأبوين وذوي القربى واليتامى والمساكين، وابن السبيل، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وأن يقولوا للناس حسنا من القول، ويترتب على ذلك المعاملة الطيبة، وإن هذا النبي الذي جاء معه الكتاب الذي أنزله الله تعالى، وهو مصدق لما معهم من أوامرٍ ونواهٍ ومواثيق أخذت عليهم بقوة - قد كانوا يعلمون بمجيئه ويتوقعونه.
ومعنى تصديق الكتاب لما معهم أنه تصديق لما معهم من كتاب كانوا يكتبونه بأيديهم، ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، حتى يجيء بعض البهتانيين الكاذبين من دعاة نصرانية بولس، فيقولون إن القرآن صدق ما بأيديهم من محرف التوراة المحرفة والمنحرفة والإنجيل المحرف، إنما صدق القرآن الأوامر الأصلية مما اشتمل المواثيق التي أخذت عليهم بقوة، ولم يصدق الذي حرفوه ولا المنحرف عن الحق والخلق المستقيم، كالذي اشتملت من أن نبي الله داود زنى بحليلة جاره، وأرسله إلى الميدان ليخلو له وجه عشيقته، ذلك إفك بين لَا يليق بأخلاق نبي جعله الله تعالى خليفته في الأرض ولا يليق بذي خلق كريم، فهل هذا ما صدق به
ومعنى تصديق الكتاب لما معهم أنه تصديق لما معهم من كتاب كانوا يكتبونه بأيديهم، ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، حتى يجيء بعض البهتانيين الكاذبين من دعاة نصرانية بولس، فيقولون إن القرآن صدق ما بأيديهم من محرف التوراة المحرفة والمنحرفة والإنجيل المحرف، إنما صدق القرآن الأوامر الأصلية مما اشتمل المواثيق التي أخذت عليهم بقوة، ولم يصدق الذي حرفوه ولا المنحرف عن الحق والخلق المستقيم، كالذي اشتملت من أن نبي الله داود زنى بحليلة جاره، وأرسله إلى الميدان ليخلو له وجه عشيقته، ذلك إفك بين لَا يليق بأخلاق نبي جعله الله تعالى خليفته في الأرض ولا يليق بذي خلق كريم، فهل هذا ما صدق به
309
الكتاب ما معهم، ذلك هو الضلال البعيد، ولن يكون في كتاب منزل من عند الله، ولا يدّعيه إلا الذين هوت نفوسهم إلى مثل هذا الحضيض الأوهد من الأخلاق.
وإن اليهود الذين كانوا في عصر النبي - ﷺ - كانوا يعلنون أنه سيكون نبي، وأنهم يتوقعون أن لَا يكون منهم كما ذكر من قبل؛ ولذلك قال الله تعالى: (وَكانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) السين والتاء للطلب أي يطلبون الفتح، والفتح هو النصر كما في قوله تعالى: (فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ من عِندِهِ... )، وأطلق الفتح على النصر العادل، لأن النصر يفتح الطريق أمام الحق، وقد بشر الله تعالى بالنصر في قوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٢) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (٣).
كان اليهود إذا كانوا في حرب مع المشركين ممن يجاورونهم في المدينة يطلبون النصر بالنبي الذي حان حينه وحل، أوانه ويحسبون أنه سينصرهم على المشركين؛ لأنه سيجيء بمحو عبادة الأوثان وتحطيمها.
روى محمد بن إسحاق بسنده عن قتادة الأنصاري عن أشياخ منهم: قال: فينا والله وفيهم، (يعني في الأنصار واليهود الذين كانوا جيرانهم) نزلت هذه الآية: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ منْ عِندِ اللَّهِ مُصَدّقٌ لمَا مَعَهُمْ وَكانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) كنا قد علوناهم قهرا دهرا في الجاهلية، ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب، وهم يقولون: إن نبيا سيبعث الآن نتبعه قد أظل زمانه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله رسوله، وكان من قريش آمنا به واتبعناه وكفروا به.
ولم يكن ذلك الاستفتاح بين اليهود من بني النضير وجيرانهم في المدينة، بل كان بين اليهود، وغيرهم في داخل الجزيرة، يروى ابن عباس رضي الله عنهما أنه كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فلما التقوا هُزِمَتْ يهود خيبر فدعت بهذا
وإن اليهود الذين كانوا في عصر النبي - ﷺ - كانوا يعلنون أنه سيكون نبي، وأنهم يتوقعون أن لَا يكون منهم كما ذكر من قبل؛ ولذلك قال الله تعالى: (وَكانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) السين والتاء للطلب أي يطلبون الفتح، والفتح هو النصر كما في قوله تعالى: (فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ من عِندِهِ... )، وأطلق الفتح على النصر العادل، لأن النصر يفتح الطريق أمام الحق، وقد بشر الله تعالى بالنصر في قوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٢) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (٣).
كان اليهود إذا كانوا في حرب مع المشركين ممن يجاورونهم في المدينة يطلبون النصر بالنبي الذي حان حينه وحل، أوانه ويحسبون أنه سينصرهم على المشركين؛ لأنه سيجيء بمحو عبادة الأوثان وتحطيمها.
روى محمد بن إسحاق بسنده عن قتادة الأنصاري عن أشياخ منهم: قال: فينا والله وفيهم، (يعني في الأنصار واليهود الذين كانوا جيرانهم) نزلت هذه الآية: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ منْ عِندِ اللَّهِ مُصَدّقٌ لمَا مَعَهُمْ وَكانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) كنا قد علوناهم قهرا دهرا في الجاهلية، ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب، وهم يقولون: إن نبيا سيبعث الآن نتبعه قد أظل زمانه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله رسوله، وكان من قريش آمنا به واتبعناه وكفروا به.
ولم يكن ذلك الاستفتاح بين اليهود من بني النضير وجيرانهم في المدينة، بل كان بين اليهود، وغيرهم في داخل الجزيرة، يروى ابن عباس رضي الله عنهما أنه كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فلما التقوا هُزِمَتْ يهود خيبر فدعت بهذا
310
الدعاء. وقالوا: إنا نسألك بحق النبي الأُميّ الذي وعدتنا أن تخرجه إلا تنصرنا عليهم " فكان إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غطفان.
كان معروفا عند اليهود ذلك النبي محمد - ﷺ -، يستفتحون به ويدعون الله بحقه أن ينصرهم، ولكنهم كسائر أسلافهم يتبعون أهواءهم، فلما جاء من غير قبيلهم أنكروا معرفتهم، وادعوا أنه لَا ينطبق عليه أوصاف من كان يستفتحون به، وهم كما قال الله تعالى: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهمْ...).
ولذا قال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَهم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)، الفاء للترتيب أي أنهم مع هذا الاستفتاح ترتب نقيضه وهو أنهم لما جاءهم الذي عرفوه جحدوه وكفروا به، فهم رتبوا على الشيء نقيضه وبدل أن يذعنوا للحق الذي عرفوه أنكروه وكفروا به، وهكذا شأنهم هم وأسلافهم دائما يعرفون الحق ويكفرون به، عرفوا باطل فرعون ومع ذلك اتخذوا العجل.
عبر قوله تعالى عن إدراكهم للنبي - ﷺ - وعلمهم به بأنهم عرفوه، والمعرفة هي العلم الجازم المطابق لبواقع عن دليل، ومع ذلك كفروا به، فكانوا مطرودين عن رحمة الله، والحق الذي جاء به النبيون، ولذا قال تعالى: (فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) الفاء للإفصاح، إذ تفصح عن شرط مقدر مؤداه إذا كانوا قد كفروا بما عرفوا واستيقنوا فلعنة الله تعالى عليهم، وأظهر في موضع الإضمار للتصريح بأنهم صاروا في عداد الكافرين، وخرجوا عن دائرة المؤمنين الذين يؤمنون بأي شيء في كتابهم فهم قد كفروا بكتابهم وبما عندهم واللعنة هي الطرد، ووراء الطرد المذلة، وإن كفرهم هو السبب في طردهم وذلتهم.
كان معروفا عند اليهود ذلك النبي محمد - ﷺ -، يستفتحون به ويدعون الله بحقه أن ينصرهم، ولكنهم كسائر أسلافهم يتبعون أهواءهم، فلما جاء من غير قبيلهم أنكروا معرفتهم، وادعوا أنه لَا ينطبق عليه أوصاف من كان يستفتحون به، وهم كما قال الله تعالى: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهمْ...).
ولذا قال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَهم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)، الفاء للترتيب أي أنهم مع هذا الاستفتاح ترتب نقيضه وهو أنهم لما جاءهم الذي عرفوه جحدوه وكفروا به، فهم رتبوا على الشيء نقيضه وبدل أن يذعنوا للحق الذي عرفوه أنكروه وكفروا به، وهكذا شأنهم هم وأسلافهم دائما يعرفون الحق ويكفرون به، عرفوا باطل فرعون ومع ذلك اتخذوا العجل.
عبر قوله تعالى عن إدراكهم للنبي - ﷺ - وعلمهم به بأنهم عرفوه، والمعرفة هي العلم الجازم المطابق لبواقع عن دليل، ومع ذلك كفروا به، فكانوا مطرودين عن رحمة الله، والحق الذي جاء به النبيون، ولذا قال تعالى: (فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) الفاء للإفصاح، إذ تفصح عن شرط مقدر مؤداه إذا كانوا قد كفروا بما عرفوا واستيقنوا فلعنة الله تعالى عليهم، وأظهر في موضع الإضمار للتصريح بأنهم صاروا في عداد الكافرين، وخرجوا عن دائرة المؤمنين الذين يؤمنون بأي شيء في كتابهم فهم قد كفروا بكتابهم وبما عندهم واللعنة هي الطرد، ووراء الطرد المذلة، وإن كفرهم هو السبب في طردهم وذلتهم.
311
(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن ينَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضلهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) بئس من أفعال الذم كنعم من أفعال المدح، ويكون معها تمييز ثم يعقبه المخصوص بالذم أو المدح كأن تقول: نعم محمد رجلا، فـ " رجلا " تمييز
311
ومحمد المخصوص بالمدح أو الذي يُمدح وقد تكون (ما) هي التمييز فتكون نكرة تامة بمعنى شيء مذموم.
ف " ما " - هنا على ما يخرجه النحاة نكرة موصوفة بالذم - لما اشتووا به أنفسهم - ويكون المعنى بئس شيئا مذموما، والمخصوص بالذم هو أن يكفروا بما أنزل الله بغيًا.. إلى آخره. فاشتروا هنا بمعنى باعوا، أي أنه بئس هذا الفعل الذي باعوا أنفسهم أن يكفروا بما أنزل بغيا ظلما وحسدا وحقدا.
هذا ما يقوله النحويون في " ما " ونحن لَا نرى مانعا من أن تكون اسمًا موصولاً بمعنى الذي، فيكون المعنى بئس الذي باعوا به أنفسهم فقد باعوها بأمر حقير مضرته شديدة وهو أن يكفروا بما أنزل الله تعالى من قرآن كريم هاد إلى الرشاد وإلى سواء السبيل، وقوله: بغيا مفعول لأجله أي لأجل ما في نفوسهم من حسد أدى إلى ظلم شديد، والبغي في أصله طلب الشيء بشدة، إرضاءً لهوى، وأن ذلك يؤدي إلى أن يطلب الشيء بغير حله، وإلى الظلم؛ ولذلك أطلق البغي على الظلم الذي يبتغي ويطلب في حرص ولذا يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
وإن ذلك البغي الناتج عن الهوى والحسد هو أنهم يكرهون أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ومعنى النص الكريم (أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) لأجل البغي المستكن في نفوسهم، وهو كراهية أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده.
فهم ارتكبوا إثمين كبيرين بذلك:
أولهما - الكفر بما أنزل الله تعالى وذلك إثم في ذاته، وهو كفر مبين؛ لأن من ينكر ما أنزل الله تعالى، وقد قامت بيناته، وعرفوه من قبل في كتبهم فقد كفر كفرانًا مبينًا.
وثانيهما - أن الباعث إثم عظيم واغترار، بأنهم المختارون وحدهم لرسالة الله - فمعنى (مِن فَضْلِهِ) أي من رسالة ربه، فهي من فضل الله، والله ذو الفضل العظيم، يختص برحمته من يشاء والله أعلم حيث يجعل رسالته.
ف " ما " - هنا على ما يخرجه النحاة نكرة موصوفة بالذم - لما اشتووا به أنفسهم - ويكون المعنى بئس شيئا مذموما، والمخصوص بالذم هو أن يكفروا بما أنزل الله بغيًا.. إلى آخره. فاشتروا هنا بمعنى باعوا، أي أنه بئس هذا الفعل الذي باعوا أنفسهم أن يكفروا بما أنزل بغيا ظلما وحسدا وحقدا.
هذا ما يقوله النحويون في " ما " ونحن لَا نرى مانعا من أن تكون اسمًا موصولاً بمعنى الذي، فيكون المعنى بئس الذي باعوا به أنفسهم فقد باعوها بأمر حقير مضرته شديدة وهو أن يكفروا بما أنزل الله تعالى من قرآن كريم هاد إلى الرشاد وإلى سواء السبيل، وقوله: بغيا مفعول لأجله أي لأجل ما في نفوسهم من حسد أدى إلى ظلم شديد، والبغي في أصله طلب الشيء بشدة، إرضاءً لهوى، وأن ذلك يؤدي إلى أن يطلب الشيء بغير حله، وإلى الظلم؛ ولذلك أطلق البغي على الظلم الذي يبتغي ويطلب في حرص ولذا يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
وإن ذلك البغي الناتج عن الهوى والحسد هو أنهم يكرهون أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ومعنى النص الكريم (أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) لأجل البغي المستكن في نفوسهم، وهو كراهية أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده.
فهم ارتكبوا إثمين كبيرين بذلك:
أولهما - الكفر بما أنزل الله تعالى وذلك إثم في ذاته، وهو كفر مبين؛ لأن من ينكر ما أنزل الله تعالى، وقد قامت بيناته، وعرفوه من قبل في كتبهم فقد كفر كفرانًا مبينًا.
وثانيهما - أن الباعث إثم عظيم واغترار، بأنهم المختارون وحدهم لرسالة الله - فمعنى (مِن فَضْلِهِ) أي من رسالة ربه، فهي من فضل الله، والله ذو الفضل العظيم، يختص برحمته من يشاء والله أعلم حيث يجعل رسالته.
312
إن اليهود يحسدون محمدا - ﷺ - لأنه جاء من ولد إسماعيل لَا من ولد إسحاق، يريدون أن يكون خاتم النبيين من ولد إسحاق، فهم يكفرون بما أنزل الله تعالى لأنهم يكرهون أن ينزل الله رسالته على من يشاء من عباده، فهم يريدون أن تكون إرادة الله تعالى على هواهم في إرسال الرسل، وقد بين الله تعالى أن ذلك أدى إلى غضبه عليهم، وبعدهم عن رحمته؛ ولذا قال تعالى: (فَبَاءُو بِغضبٍ عَلَى غَضَبٍ) أي فرجعوا وكانت النتيجة لهذا البغي والحسد، أن نزل بهم غضب، والمراد أنهم باءوا بغضب متزايد متكاثر شديد لتزايد أسبابه، وتعدد دواعيه، وبواعثه.
ويقول فخر الدين الرازي: " إن غضب الله تعالى يتزايد ويكثر فلا يكون غضبه على من كفر بخصلة واحدة كغضبه على من كفر بخصال متعددة ".
وقد كفر اليهود الذين خاطبهم النبي - ﷺ - مرتين كما أشرنا، إحداهما - بكفرهم بما أنزل الله تعالى، وقد عرفوه من قبل، وكانوا يعرفون النبي - ﷺ - كما يعرفون أبناءهم، والثانية - أنهم يريدون أن يكون أمر الله تعالى في رسله على هواهم.
ولذلك قال تعالى: (فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضبٍ) والغضب يكون حالا تليق بذات الله تعالى يتجلى في عدم رضاه وإنزاله العذاب بمن يغضب عليه وطرده من رحمته ولعنه، وكل ما يذكر الله تعالى من صفات وأحوال يتشابه أسماؤه مع ما يتصف به من صفات وما تكون عليه من أحوال لَا يكون مشابهًا لنا، بل يكون أمرا يليق بالذات العلية: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهوَ السَّمِيع الْبَصِير)، تعالى الله عن مشابهة الحوادث.
ولقد ذكر سبحانه وتعالى ما ينزله بهم سبحانه من عذاب فقال تعالى:
(وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) أى عذاب يوقعهم في الذل والمهانة، وذكر سبحانه وتعالى العذاب لهم بأنه مهين مذل موقع في المهانة؛ لأنه عقاب لاستعلائهم الكاذب، وغرورهم حتى حسبوا أن الله تعالى يتصرف كما يهوون، وكما يبتغون، والله تعالى القاهر فوق عباده وهو الحكيم العليم.
ويقول فخر الدين الرازي: " إن غضب الله تعالى يتزايد ويكثر فلا يكون غضبه على من كفر بخصلة واحدة كغضبه على من كفر بخصال متعددة ".
وقد كفر اليهود الذين خاطبهم النبي - ﷺ - مرتين كما أشرنا، إحداهما - بكفرهم بما أنزل الله تعالى، وقد عرفوه من قبل، وكانوا يعرفون النبي - ﷺ - كما يعرفون أبناءهم، والثانية - أنهم يريدون أن يكون أمر الله تعالى في رسله على هواهم.
ولذلك قال تعالى: (فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضبٍ) والغضب يكون حالا تليق بذات الله تعالى يتجلى في عدم رضاه وإنزاله العذاب بمن يغضب عليه وطرده من رحمته ولعنه، وكل ما يذكر الله تعالى من صفات وأحوال يتشابه أسماؤه مع ما يتصف به من صفات وما تكون عليه من أحوال لَا يكون مشابهًا لنا، بل يكون أمرا يليق بالذات العلية: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهوَ السَّمِيع الْبَصِير)، تعالى الله عن مشابهة الحوادث.
ولقد ذكر سبحانه وتعالى ما ينزله بهم سبحانه من عذاب فقال تعالى:
(وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) أى عذاب يوقعهم في الذل والمهانة، وذكر سبحانه وتعالى العذاب لهم بأنه مهين مذل موقع في المهانة؛ لأنه عقاب لاستعلائهم الكاذب، وغرورهم حتى حسبوا أن الله تعالى يتصرف كما يهوون، وكما يبتغون، والله تعالى القاهر فوق عباده وهو الحكيم العليم.
313
وإن الله يذل دائما كل من يتطاول، ويتسامى بغرور، روى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - قال: " اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك لا ملك إلا الله " (١)، ونحن نقول مقتدين بالنبي - ﷺ -، متبعين له: اشتد غضب الله على كل عتل جبار أذل البلاد، وأفسد العباد، وأنه القادر الذي ليس فوقه أحد.
وإن اليهود سيرا على غلوائهم وزعمهم الفاسد أنه لَا نبي إلا من بينهم. إنهم يبغون حسدا لغيرهم إذا قيل آمنوا بما أنزل الله قالوا لَا نؤمن إلا بما أنزل علينا، ولذلك قال تعالى فيهم:
________
(١) أخرجه بهذا اللفظ أحمد في مسنده (٩٩٨٧) عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه - ﷺ -: " اشْتَدَّ غضَبُ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَجُل قَتَلَهُ نَبيُّهُ - وَقَالَ رَوْحٌ: قَتَلَهُ رَسًولً اللَّهِ وَاشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهَ عَلَى رَجُل تَسَمَّى بِمَلِكِ الأملاكِ؛ لَا مُلْكَ إِلا لِلَّه عًَز جَلَّ ".
وهو متفق عليه رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: " اخْنَعُ اسْم عِنْدَ اللَّهِ وَقَالَ سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَة اخنَعُ الأسْمَاءِ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسمَّى بِمَلِكِ الأمْلاك ". قَالَ سًفْيَانُ: يَقُول غَيْرُهُ: تَفْسيرُهُ شَاهَانْ شَاهْ. وهذا لفظ البخاري: الأدب (٥٧٣٨)، وبنحوه عند مسلم: الآداب (٣٩٩٣).
وإن اليهود سيرا على غلوائهم وزعمهم الفاسد أنه لَا نبي إلا من بينهم. إنهم يبغون حسدا لغيرهم إذا قيل آمنوا بما أنزل الله قالوا لَا نؤمن إلا بما أنزل علينا، ولذلك قال تعالى فيهم:
________
(١) أخرجه بهذا اللفظ أحمد في مسنده (٩٩٨٧) عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه - ﷺ -: " اشْتَدَّ غضَبُ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَجُل قَتَلَهُ نَبيُّهُ - وَقَالَ رَوْحٌ: قَتَلَهُ رَسًولً اللَّهِ وَاشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهَ عَلَى رَجُل تَسَمَّى بِمَلِكِ الأملاكِ؛ لَا مُلْكَ إِلا لِلَّه عًَز جَلَّ ".
وهو متفق عليه رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: " اخْنَعُ اسْم عِنْدَ اللَّهِ وَقَالَ سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَة اخنَعُ الأسْمَاءِ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسمَّى بِمَلِكِ الأمْلاك ". قَالَ سًفْيَانُ: يَقُول غَيْرُهُ: تَفْسيرُهُ شَاهَانْ شَاهْ. وهذا لفظ البخاري: الأدب (٥٧٣٨)، وبنحوه عند مسلم: الآداب (٣٩٩٣).
314
(وَإِذَا قيلَ لَهُمْ آمنوا بمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نؤْمِنُ بمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ).
كان الكلام للغيبة، ولم يكن بالخطاب لأنه للحاضرين من بني إسرائيل إذ هم الذين يعتذرون ذلك الاعتذار وبه يجحدون ذلك الجحود، وكان الكلام بالغيبة فيه تنديد بهم وبأسلافهم من قبل، وقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ) بالبناء للمجهول لكثرة القائلين، فكتبهم تقول لهم ذلك، وهم أنفسهم كانوا يقولون ذلك، إذا كانوا يستفتحون على الذين كفروا بالنبي الأُميّ - ﷺ -، والنبي - ﷺ - والمؤمنون يدعونهم، وحلفاؤهم من المؤمنين كانوا يدعونهم، فكثر القائلون، وإن البناء للمجهول له معنى آخر، وهو تركيز القول على ما يكون من ردهم للداعي فهذا موضع اللام، فلا لوم على من قال، فلا حاجة إلى ذكره، إنما اللوم كله في ردهم.
القائل يدعوهم إلى الإيمان بما أنزل فيقول آمنوا بما أنزل الله تعالى، فالله هو الذي أنزله وهو جدير بالإيمان به، لأنه من عند الله والكفر به كفر بالله تعالى.
كان الكلام للغيبة، ولم يكن بالخطاب لأنه للحاضرين من بني إسرائيل إذ هم الذين يعتذرون ذلك الاعتذار وبه يجحدون ذلك الجحود، وكان الكلام بالغيبة فيه تنديد بهم وبأسلافهم من قبل، وقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ) بالبناء للمجهول لكثرة القائلين، فكتبهم تقول لهم ذلك، وهم أنفسهم كانوا يقولون ذلك، إذا كانوا يستفتحون على الذين كفروا بالنبي الأُميّ - ﷺ -، والنبي - ﷺ - والمؤمنون يدعونهم، وحلفاؤهم من المؤمنين كانوا يدعونهم، فكثر القائلون، وإن البناء للمجهول له معنى آخر، وهو تركيز القول على ما يكون من ردهم للداعي فهذا موضع اللام، فلا لوم على من قال، فلا حاجة إلى ذكره، إنما اللوم كله في ردهم.
القائل يدعوهم إلى الإيمان بما أنزل فيقول آمنوا بما أنزل الله تعالى، فالله هو الذي أنزله وهو جدير بالإيمان به، لأنه من عند الله والكفر به كفر بالله تعالى.
314
وردهم نؤمن بما أنزل علينا، أي لَا نرى الإيمان إلا بما أنزل علينا نحن مع أن المنزل واحد، وهو الله تعالى ولكنهم يغالون في اتباع هواهم وشهواتهم، فيزعمون أنه لَا أنبياء إلا فيهم وإنهم يكفرون بما وراءه، أي بكل ما جاء بعده، فوراء يبين ما جاء خَلْفَهم وبعدهم كما كفروا من قبل بعيسى عليه السلام.
ويبين الله تعالى أن ما أنزل من القرآن هو الحق وهو مصدق لما معهم، فقد وصفه سبحانه وتعالى بوصفين أحدهما ذاتي وهو الحق أي أنه ثابت في ذاته ما أتى إلا بأمور ثابتة يقرها العقل، وتقرها الفطرة، وتدل عليها البينات وهو ذاته معجز، مثبت وجوده بنفسه، لَا يحتاج إلى بينات وراءه، والثاني إضافي وهو أنه مصدق لما تضمنته المواثيق التي أخذت عليهم، وهذا الوصف يرد زعمهم الفاسد، بإثبات عدم المغايرة بين ما جاءهم به النبي - ﷺ - وما نزل، وبين ما عندهم؛ فالأصل واحد وأن تفريقهم بين ما أنزل الله من قرآن، وما أنزل عليهم تفرقة بين شيئين غير متغايرين إن كانوا يؤمنون حقا بالحق من كتبهم.
ولكنهم قوم لَا يؤمنون بشيء لَا بما عندهم، ولا بما أنزل الله من قرآن كريم، ولذا قال تعالى مثبتا كفرهم بكل شيء، بالوقائع التي كانت من أسلافهِم، وارتضوها هم، فقال تعالى: (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كنتُم مُّؤْمِنِين). والمعنى: قل لهم يا نبي الله، إن كنتم تزعمون أنكم آمنتم بما عندكم، فلم تقتلون أنبياء الله؛ أي الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى إليكم، وذكر الأنبياء مضافين إلى الله تعالى لإثبات جحودهم المطلق، وأنهم يعاندون أوامر الله تعالى سواء أكان من بعثه من ولد إسحاق أم كان من ولد إسماعيل، فقد قتلوا زكريا ويحيى، وهما من ولد إسحاق، وإنه إذا كان عندهم بقية من إيمان فما كان يسوغ قتل أنبياء الله، ولذلك قال تعالى في ختام الآية الكريمة: (إِن كنتم مُّؤْمِنِينَ) أي أن ما كان منهم في ماضيهم وأمرهُ حاضرهم يتنافى مع صفات المؤمنين وذلك تنديد بهم، وبيان أنهم لم يؤمنوا بالكتاب الذي جاء مصدقا لما معهم، ولا يؤمنون بما عندهم.
* * *
ويبين الله تعالى أن ما أنزل من القرآن هو الحق وهو مصدق لما معهم، فقد وصفه سبحانه وتعالى بوصفين أحدهما ذاتي وهو الحق أي أنه ثابت في ذاته ما أتى إلا بأمور ثابتة يقرها العقل، وتقرها الفطرة، وتدل عليها البينات وهو ذاته معجز، مثبت وجوده بنفسه، لَا يحتاج إلى بينات وراءه، والثاني إضافي وهو أنه مصدق لما تضمنته المواثيق التي أخذت عليهم، وهذا الوصف يرد زعمهم الفاسد، بإثبات عدم المغايرة بين ما جاءهم به النبي - ﷺ - وما نزل، وبين ما عندهم؛ فالأصل واحد وأن تفريقهم بين ما أنزل الله من قرآن، وما أنزل عليهم تفرقة بين شيئين غير متغايرين إن كانوا يؤمنون حقا بالحق من كتبهم.
ولكنهم قوم لَا يؤمنون بشيء لَا بما عندهم، ولا بما أنزل الله من قرآن كريم، ولذا قال تعالى مثبتا كفرهم بكل شيء، بالوقائع التي كانت من أسلافهِم، وارتضوها هم، فقال تعالى: (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كنتُم مُّؤْمِنِين). والمعنى: قل لهم يا نبي الله، إن كنتم تزعمون أنكم آمنتم بما عندكم، فلم تقتلون أنبياء الله؛ أي الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى إليكم، وذكر الأنبياء مضافين إلى الله تعالى لإثبات جحودهم المطلق، وأنهم يعاندون أوامر الله تعالى سواء أكان من بعثه من ولد إسحاق أم كان من ولد إسماعيل، فقد قتلوا زكريا ويحيى، وهما من ولد إسحاق، وإنه إذا كان عندهم بقية من إيمان فما كان يسوغ قتل أنبياء الله، ولذلك قال تعالى في ختام الآية الكريمة: (إِن كنتم مُّؤْمِنِينَ) أي أن ما كان منهم في ماضيهم وأمرهُ حاضرهم يتنافى مع صفات المؤمنين وذلك تنديد بهم، وبيان أنهم لم يؤمنوا بالكتاب الذي جاء مصدقا لما معهم، ولا يؤمنون بما عندهم.
* * *
315
(وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣)
* * *
تبين في الآيات السابقة أن بني إسرائيل كفروا بمحمد - ﷺ -، وقد كانوا يستفتحون به على المشركين وأنهم قرروا في ذاتهم ألا يؤمنوا إلا بما أنزل عليهم، فلا يؤمنون بالقرآن وإن جاء مصدقا لما معهم، وذلك الكفر أكبر العناد، وفي هذه الآيات الكريمات يبين الله تعالى أن العناد فيهم منذ أرسل موسى إليهم، لقد أتى لهم ببينات حسية قاطعة في الدلالة على أن موسى أرسله الله تعالى لإنقاذهم.
ولقد أوتي عيسى بينات كثيرة وكفروا به وحاولوا قتله، ولم يمكنهم الله تعالى منه، فما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم، وموسى عليه السلام أتى لهم بمعجزات حسية بلغت تسعا، فقد قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ...)، ومنها العصا التي أبطلت سحر الساحرين، والتي ضرب بها البحر، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، والتي ضرب بها الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، قد علم كل أناس مشربهم، ومنها ما ظهر بين أيديهم مما جرى لفرعون وقومه، وقد قال الله تعالى في سورة الأعراف: (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ
* * *
تبين في الآيات السابقة أن بني إسرائيل كفروا بمحمد - ﷺ -، وقد كانوا يستفتحون به على المشركين وأنهم قرروا في ذاتهم ألا يؤمنوا إلا بما أنزل عليهم، فلا يؤمنون بالقرآن وإن جاء مصدقا لما معهم، وذلك الكفر أكبر العناد، وفي هذه الآيات الكريمات يبين الله تعالى أن العناد فيهم منذ أرسل موسى إليهم، لقد أتى لهم ببينات حسية قاطعة في الدلالة على أن موسى أرسله الله تعالى لإنقاذهم.
ولقد أوتي عيسى بينات كثيرة وكفروا به وحاولوا قتله، ولم يمكنهم الله تعالى منه، فما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم، وموسى عليه السلام أتى لهم بمعجزات حسية بلغت تسعا، فقد قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ...)، ومنها العصا التي أبطلت سحر الساحرين، والتي ضرب بها البحر، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، والتي ضرب بها الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، قد علم كل أناس مشربهم، ومنها ما ظهر بين أيديهم مما جرى لفرعون وقومه، وقد قال الله تعالى في سورة الأعراف: (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ
316
كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥). ولما خرجوا إلى سيناء ظللتهم السحاب من هَجِيرها، وأمدهم الله تعالى بالمن والسلوى.
جاءهم موسى عليه الصلاة والسلام بالبينات القاهرة الظاهرة المحسوسات، ومع وضوحها وظهورها (اتَّخَذْتُمُ) أي اتخذوه معبودا وهو مصنوع بين أيديهم وتحت أبصارهم، ولذا قال تعالى:
جاءهم موسى عليه الصلاة والسلام بالبينات القاهرة الظاهرة المحسوسات، ومع وضوحها وظهورها (اتَّخَذْتُمُ) أي اتخذوه معبودا وهو مصنوع بين أيديهم وتحت أبصارهم، ولذا قال تعالى:
317
(وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ) وقد أشرنا إلى بعضها أو جلها، ثم قال تعالى مخاطبا الذين عاصروا النبي - ﷺ -، لأنهم في تفكيرهم وجحودهم وعنادهم امتداد للسابقين يحذون حذوهم، وما يعملونه صورة مما عملوا والباعث واحد، (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ)، والعطف بثم للمفارقة الواجبة بين ما تقتضيه الآيات الحسية الظاهرة من إيمان واتخاذهم العجل معبودا، وهو لَا يضر ولا ينفع، ولا عذر ولا مبرر إلا أن يكون التقليد لفرعون وآله وقومه الذين عبدوا العجل وكانوا يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم لأهوائهم وشهواتهم.
وقد قال تعالى: (وَأَنتُمْ ظَالِمونَ) ولم يقل سبحانه وتعالى: وأنتم كافرون؛ لأنه كفر يتضمن أشد الظلم وأفحشه، فقد ظلموا أنفسهم بأن أُعطوا قوة الحق، فأبوا إلا أن يستضعفوا ويذلوا لمن أذلوهم، وظلموا الحق وظلموا من أجرى الله تعالى على يده إنقاذهم فهو كفر يتضمن ظلما، وكما قال تعالى في آية أخرى: (وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
هذه حالهم مع موسى الذي دفعه الله تعالى لإنقاذهم مع ما جاءهم من البينات، فكيف يمكن أن ينتزع الضلال من قلوبهم بالقرآن الكريم يا محمد، فلا تأس على القوم الفاسقين.
وقد قال تعالى: (وَأَنتُمْ ظَالِمونَ) ولم يقل سبحانه وتعالى: وأنتم كافرون؛ لأنه كفر يتضمن أشد الظلم وأفحشه، فقد ظلموا أنفسهم بأن أُعطوا قوة الحق، فأبوا إلا أن يستضعفوا ويذلوا لمن أذلوهم، وظلموا الحق وظلموا من أجرى الله تعالى على يده إنقاذهم فهو كفر يتضمن ظلما، وكما قال تعالى في آية أخرى: (وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
هذه حالهم مع موسى الذي دفعه الله تعالى لإنقاذهم مع ما جاءهم من البينات، فكيف يمكن أن ينتزع الضلال من قلوبهم بالقرآن الكريم يا محمد، فلا تأس على القوم الفاسقين.
317
إن اليهود لَا يؤمنون بشيء مهما تكن قوة أدلته ومهما تكن قوة الدعوة إليه. لقد رأينا الآيات الكثيرة التي ذكر الله تعالى أنها بلغت تسعًا، وكلها حسي قاهر، وفيه نعمة النجاة والرعاية الكاملة حتى ظنوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، ثم بين بعد ذلك قوة الدعوة إلى الحق فقال تعالى:
318
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) دعوة إلى الحق الذي قامت أدلته بميثاق أخذه الله تعالى، وأخذه وقد رفع الجبل فوقهم كأنه ظلة أظلتهم وطالبهم الله تعالى على لسان كليمه أن يأخذوه بقوة أي بجد، ولا ينحرفوا عنه، وأن يسمعوا إليه، ولا يخالفوه.
اجتمع لهدايتهم قوتان قوة الدليل في الآيات التسع، وقوة الدعوة في الميثاق الذي أخذ عليهم في حال رفع الجبل فوقهم ودعوتهم إلى سماع الحق، فهل أجابوا؟.
(قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) هذا ما جاء به القرآن نصا في إجابتهم. وإن ما حكى الله تعالى عنهم من أنهم قالوا: (سَمِعْنَا) تفسر على ظاهرها فإنه كان النداء قويا والجبل مرتفع عليهم، (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّة) أي ما شرعناه لكم من شرائع بجد وعزم، (وَاسْمَعُوا) فإنه لابد أن يكون الجواب (سَمِعْنَا)، أما ما حكاه سبحانه من أنهم قالوا: (وَعَصَيْنَا) فيصح أن تخرج على أنهم قالوها بألسنتهم، وذلك بعيد يتنافى مع قوة الميثاق وتأكده ومع طلب الأخذ بقوة أي بجد وعزم على التنفيذ، ولذا نستبعد ذلك الاحتمال لقيام القرائن ضده، وما نحسب أنهم وصلوا إلى هذه الحال أن ينكثوا بالعهد وقت توثيقه وأن يجاهروا بعصيانه، والعهد بينهم وبين المنقذ لهم، والعهد قريب، ولذلك قرر المفسرون أن كلمة عصينا مجاز عن أفعالهم، أي أن عصيانهم كان بلسان الفعال لَا بلسان المقال، فهم قالوا سمعنا بالقول وقالوا عصينا بأفعالهم.
اجتمع لهدايتهم قوتان قوة الدليل في الآيات التسع، وقوة الدعوة في الميثاق الذي أخذ عليهم في حال رفع الجبل فوقهم ودعوتهم إلى سماع الحق، فهل أجابوا؟.
(قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) هذا ما جاء به القرآن نصا في إجابتهم. وإن ما حكى الله تعالى عنهم من أنهم قالوا: (سَمِعْنَا) تفسر على ظاهرها فإنه كان النداء قويا والجبل مرتفع عليهم، (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّة) أي ما شرعناه لكم من شرائع بجد وعزم، (وَاسْمَعُوا) فإنه لابد أن يكون الجواب (سَمِعْنَا)، أما ما حكاه سبحانه من أنهم قالوا: (وَعَصَيْنَا) فيصح أن تخرج على أنهم قالوها بألسنتهم، وذلك بعيد يتنافى مع قوة الميثاق وتأكده ومع طلب الأخذ بقوة أي بجد وعزم على التنفيذ، ولذا نستبعد ذلك الاحتمال لقيام القرائن ضده، وما نحسب أنهم وصلوا إلى هذه الحال أن ينكثوا بالعهد وقت توثيقه وأن يجاهروا بعصيانه، والعهد بينهم وبين المنقذ لهم، والعهد قريب، ولذلك قرر المفسرون أن كلمة عصينا مجاز عن أفعالهم، أي أن عصيانهم كان بلسان الفعال لَا بلسان المقال، فهم قالوا سمعنا بالقول وقالوا عصينا بأفعالهم.
318
ويصح أن نقول: إن عصينا القلبية كانت مقارنة لـ سمعنا، أي أنهم قالوا سمعنا، وقلوبهم جافية معرضة كأنها تنطق بحالهم، وهو عصينا فكأنهم سمعوا، وهم على نية العصيان فقلوبهم جافية عن الاتعاظ بما يسمعون.
ولقد كان أوضح المظاهر التي دلت على عصيانهم، وأنهم سمعوا وعصوا هو عبادتهم العجل، أو بالتعبير القرآني المنزه الحكيم اتخاذهم، ولذلك ذكره بعد تسجيل العصيان فقال: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ). بعض علماء اللغة يقولون إن المعنى على حذف مضاف تقديره حب العجل، وذلك مجاز مشهور يسمى مجاز الحذف، فذكر القلوب، والقلوب لَا تشرب العجول قالوا إنه مجاز بالحذف، والقلوب تنكت فيها المفاسد، روي عن النبي - ﷺ - أنه قال: " تعرض الفتن على القلوب عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء ".
وبعض المتفقهين في اللغة قالوا: لَا حاجة إلى تقدير محذوف؛ لأن أشرب متعلق بالعجل مباشرة، لأن تعلق الإشراب به ليس مقصورا على المحبة، بل إنه يتجاوزها إلى العبادة، وإلى أنه تكون صورته في قلوبهم لَا تفترق عنها، ويكون من قبيل أشرب الثوب الصبغة، أي خالطت أجزاءه، وتغلغلت فيه، فالعجل تغلغل في قلوبهم فألفوه وصار جزءا من تفكيرهم، كما صارت الصبغة جزءا من الثوب، لا تنفصل عنه، وهذا نوع من الاستعارة، فاستعيرت كلمة الإشراب لتغلغل ذكره في قلوبهم كأنه حل حلول الشراب فيها.
وكلمة في قلوبهم قرينة الاستعارة، وأشرب للبناء للمجهول لكثرة الأسباب الباطلة التي أشربته قلوبهم، فالشيطان زينه لهم، وسول لهم عبادته، وعشرتهم للمصريين الذين كانوا يقدسونه، والعشرة المستمرة لهم مع مظالمهم، وضلال نفوسهم كل هذا سهَّل سرَيان عبادة العجل إليهم؛ ولذلك قال بكفرهم، أي بسبب كفرهم المستكن في نفوسهم، ولقد حكم الله تعالى عليهم بقولهم: (قُلْ بِئْسَمَا
ولقد كان أوضح المظاهر التي دلت على عصيانهم، وأنهم سمعوا وعصوا هو عبادتهم العجل، أو بالتعبير القرآني المنزه الحكيم اتخاذهم، ولذلك ذكره بعد تسجيل العصيان فقال: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ). بعض علماء اللغة يقولون إن المعنى على حذف مضاف تقديره حب العجل، وذلك مجاز مشهور يسمى مجاز الحذف، فذكر القلوب، والقلوب لَا تشرب العجول قالوا إنه مجاز بالحذف، والقلوب تنكت فيها المفاسد، روي عن النبي - ﷺ - أنه قال: " تعرض الفتن على القلوب عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء ".
وبعض المتفقهين في اللغة قالوا: لَا حاجة إلى تقدير محذوف؛ لأن أشرب متعلق بالعجل مباشرة، لأن تعلق الإشراب به ليس مقصورا على المحبة، بل إنه يتجاوزها إلى العبادة، وإلى أنه تكون صورته في قلوبهم لَا تفترق عنها، ويكون من قبيل أشرب الثوب الصبغة، أي خالطت أجزاءه، وتغلغلت فيه، فالعجل تغلغل في قلوبهم فألفوه وصار جزءا من تفكيرهم، كما صارت الصبغة جزءا من الثوب، لا تنفصل عنه، وهذا نوع من الاستعارة، فاستعيرت كلمة الإشراب لتغلغل ذكره في قلوبهم كأنه حل حلول الشراب فيها.
وكلمة في قلوبهم قرينة الاستعارة، وأشرب للبناء للمجهول لكثرة الأسباب الباطلة التي أشربته قلوبهم، فالشيطان زينه لهم، وسول لهم عبادته، وعشرتهم للمصريين الذين كانوا يقدسونه، والعشرة المستمرة لهم مع مظالمهم، وضلال نفوسهم كل هذا سهَّل سرَيان عبادة العجل إليهم؛ ولذلك قال بكفرهم، أي بسبب كفرهم المستكن في نفوسهم، ولقد حكم الله تعالى عليهم بقولهم: (قُلْ بِئْسَمَا
319
يَأمركُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الأمر للنبي - ﷺ - لأنهم هم الذين واجهوه النبي - ﷺ - بقولهم: (قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا...)، وهذا القرآن الكريم بين ما يدل على أنهم لَا يؤمنون بشيء حتى تركوا مايدعوهم إليه النبي - ﷺ - إلى الإيمان بما عندهم، وهذه صورة من الإيمان بما عندهم (بِئْسَمَا) دالة على ذم ما يأمرهم به إيمانهم الباطل، وهذا تهكم شديد على حالهم وعلى ما يتصورونه إيمانا بما عندك، كقوله تعالى حكاية عن قول قوم شعيب له: (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا...)، وقوله تعالى: (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) أي إن كنتم في الماضي والحاضر مؤمنين، وبيان أن إيمانهم موضع شك بل لَا إيمان.
* * *
* * *
320
(قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٩٦)
* * *
كان السبب في غرورهم، واستعلائهم الفاسد أنهم بتوالي نعم الله تعالى عليهم حسبوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، ولذلك قالوا: (لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامَا مَّعْدودَةَ...)، وقد تلونا ذلك من قبل.
وقد دلاهم الشيطان بغرور فكانوا يحسبون ذلك، ويدعون في ظاهر قولهم أنهم يؤمنون، ويواجهون النبي - ﷺ - بكفرهم به، فأمر الله تعالى نبيه الذي يواجهونه بذلك الكفر أن يتحداهم ليكشف أمرهم بأن يتمنوا الموت فقال تعالى:
* * *
كان السبب في غرورهم، واستعلائهم الفاسد أنهم بتوالي نعم الله تعالى عليهم حسبوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، ولذلك قالوا: (لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامَا مَّعْدودَةَ...)، وقد تلونا ذلك من قبل.
وقد دلاهم الشيطان بغرور فكانوا يحسبون ذلك، ويدعون في ظاهر قولهم أنهم يؤمنون، ويواجهون النبي - ﷺ - بكفرهم به، فأمر الله تعالى نبيه الذي يواجهونه بذلك الكفر أن يتحداهم ليكشف أمرهم بأن يتمنوا الموت فقال تعالى:
321
(قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) الخطاب للنبي - ﷺ - إن كانت الدار الآخرة التي تكون عند الله علام الغيوب ولا سلطان لأحد سواه، خالصة لكم من دون الناس، أي أنكم في منزلة والناس دونكم، ولا تكون إلا لكم؛ لأن غيركم من الناس - سواء كانوا أتباع محمد أم لَا - هم دونكم لا يبلغون منزلتكم بل أنتم وحدكم الذين تنالونها.
إن كانت هذه الحياة الآخرة لكم خالصة فتمنوا الموت الذي هو الطريق إليها إن كنتم صادقين في زعمكم؛ لأن من آمن بأنه المختص بنعمة تمنى الوصول، أن يسرع في الذهاب إليها، وإنها جنات ونعيم مقيم، فتمنوا الموت الذي هو الطريق الوحيد إليها، إن كنتم مؤمنين إيمان صدق وإذعان بما تدعون.
إن كانت هذه الحياة الآخرة لكم خالصة فتمنوا الموت الذي هو الطريق إليها إن كنتم صادقين في زعمكم؛ لأن من آمن بأنه المختص بنعمة تمنى الوصول، أن يسرع في الذهاب إليها، وإنها جنات ونعيم مقيم، فتمنوا الموت الذي هو الطريق الوحيد إليها، إن كنتم مؤمنين إيمان صدق وإذعان بما تدعون.
321
وهنا إشارة بيانية يحسن التنبيه إليها:
الأولى: في كلمة (لَكُمُ) فيها اللام المفيدة للملكية أو الاختصاص، وقد ابتدأ بها بيانا لزعمهم، ولذلك جاء بعدها خالصة لكم من دون الناس.
الثانية: الإشارة إلى أن الدار الآخرة هي عند الله تعالى مالك يوم الدين، وهو الذي تدعون أنكم أبناؤه وأحباؤه ومع ذلك تكفرون به وتتخذون العجل تشركون وتعبدونه.
الثالثة: الإشارة إلى أنهم ليسوا صادقين، بل هم كاذبون؛ ولذلك كانت أداة التعليق هي إن في قوله: (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) ولهذا نفَى الله سبحانه أن يتمنوه.
* * *
تنبيه: يلاحظ أن الله تعالى أمر نبيه بأن يتولى الرد عليهم في قوله تعالى: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيَا...)، وقوله تعالى: (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِه إِيمَانُكُمْ...)، وفي قوله تعالى: (قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللًّهِ).
لم يتول الله تعالى الرد والجدل معهم وأمر النبي - ﷺ - أن يتولى الجدل معهم فما الحكمة في ذلك؟ ونقول ما تصل إليه مداركنا - والله هو الحكيم العليم - إن مجادلتهم التي فيها التحدي كانت مع النبي - ﷺ - فناسب أن يتولى بأمر الله تعالى الرد هو عليه الصلاة والسلام؛ ولأن مقام الله تعالى أعلى من أن ينزل لمجادلة الكافرين الظالمين لأنفسهم.
ولقد قال سبحانه وتعالى حاكما على حالهم بأنهم في ذات أنفسهم وفي مداركهم يعلمون مآثمهم، ويعلمون كذبهم؛ ولذلك ليست الجنة لهم، ولذا لا يتمنون الموت، فقال تعالى:
الأولى: في كلمة (لَكُمُ) فيها اللام المفيدة للملكية أو الاختصاص، وقد ابتدأ بها بيانا لزعمهم، ولذلك جاء بعدها خالصة لكم من دون الناس.
الثانية: الإشارة إلى أن الدار الآخرة هي عند الله تعالى مالك يوم الدين، وهو الذي تدعون أنكم أبناؤه وأحباؤه ومع ذلك تكفرون به وتتخذون العجل تشركون وتعبدونه.
الثالثة: الإشارة إلى أنهم ليسوا صادقين، بل هم كاذبون؛ ولذلك كانت أداة التعليق هي إن في قوله: (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) ولهذا نفَى الله سبحانه أن يتمنوه.
* * *
تنبيه: يلاحظ أن الله تعالى أمر نبيه بأن يتولى الرد عليهم في قوله تعالى: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيَا...)، وقوله تعالى: (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِه إِيمَانُكُمْ...)، وفي قوله تعالى: (قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللًّهِ).
لم يتول الله تعالى الرد والجدل معهم وأمر النبي - ﷺ - أن يتولى الجدل معهم فما الحكمة في ذلك؟ ونقول ما تصل إليه مداركنا - والله هو الحكيم العليم - إن مجادلتهم التي فيها التحدي كانت مع النبي - ﷺ - فناسب أن يتولى بأمر الله تعالى الرد هو عليه الصلاة والسلام؛ ولأن مقام الله تعالى أعلى من أن ينزل لمجادلة الكافرين الظالمين لأنفسهم.
ولقد قال سبحانه وتعالى حاكما على حالهم بأنهم في ذات أنفسهم وفي مداركهم يعلمون مآثمهم، ويعلمون كذبهم؛ ولذلك ليست الجنة لهم، ولذا لا يتمنون الموت، فقال تعالى:
322
(وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدَا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) نفَى الله سبحانه وتعالى عنهم ذلك التمني نفيا مؤبدا، وأكد ذلك النفي بـ " لن " الدالة على النفي المؤبد، وبقوله سبحانه وتعالى: (أَبَدًا) وبذكر السبب ألا وهو ما قدمت أيديهم، ومعنى ذلك أنهم كاذبون في ادعاءهِم أنهم ابناء الله وأحباؤه، وأنهم كاذبون في قولهم: (لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةَ...).
322
وإنهم يعلمون ما قدموا من كفر، وما قدمه أسلافهم، ولم ينكروه عليهم من اتخاذ العجل، ومن كفر بالنعم التي أنعم الله عليهم وكفروا بها.
وقوله: (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) الباء للسببية، والمراد ما قدموه هم بأنفسهم، من كفر قلوبهم، وجحودهم بآيات الله تعالى، واعتدائهم في يوم السبت، وتأييدهم لأسلافهم في ذلك، ومن كفرهم بألا يجاب الذي جاء مصدقا لما معهم، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا به، ولكن لماذا عبر بأيديهم، دون أنفسهم؛ ونقول: أولا - يجوز ذلك تعبيرا عن الكل باسم الجزء، وإن ذلك الجزء أظهر الأجزاء في العمل، فهو الذي به البطش والاعتداء، وارتكاب المآثم الجماعية.
وثانيا - فيه إشارة إلى الناحية الحسية فيهم، فهم أيد باطشة آثمة، وليس لهم قلوب مدركة عالمة.
ولقد سجل الله تعالى عليهم الظلم، فقال تعالى: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وقد صدر الله سبحانه وتعالى الحكم بلفظ الجلالة تربية للمهابة، ولبيان أنهم مأخوذون والله القادر القاهر هو الذي يأخذهم بظلمهم، وبين عظيم علمه، ودقة علمه، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأظهر في موضع الإضمار فلم يقل سبحانه وتعالى عليم بهم وبما قدمت أيديهم بل قال: (عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)، ليسجل عليهم وصف ظلمهم، وأنهم معاقبون بهذا الظلم الذي هو كالسجيَّة لهم.
ولقد قال الله تعالى في هذا المعنى، وهو طلب تمنى الموت، وامتناعهم في سورة الجمعة: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٦) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧)، والفرق بين النصين، وإن كان كلاهما في مرتبة من البيان يعجز عنه البشر، في أمرين:
الأمر الأول - أن الشرط في الآية الكريمة التي [نتصدى] لتعرف معناها شرط كبير، وهو أن تكون لهم الدار الآخرة من دون الناس، فالشرط يتضمن الخلوص لهم وقصرها، ولن يتمنوا ذلك فكان النفي بـ لن، والشرط خال من معنى زعمهم.
وقوله: (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) الباء للسببية، والمراد ما قدموه هم بأنفسهم، من كفر قلوبهم، وجحودهم بآيات الله تعالى، واعتدائهم في يوم السبت، وتأييدهم لأسلافهم في ذلك، ومن كفرهم بألا يجاب الذي جاء مصدقا لما معهم، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا به، ولكن لماذا عبر بأيديهم، دون أنفسهم؛ ونقول: أولا - يجوز ذلك تعبيرا عن الكل باسم الجزء، وإن ذلك الجزء أظهر الأجزاء في العمل، فهو الذي به البطش والاعتداء، وارتكاب المآثم الجماعية.
وثانيا - فيه إشارة إلى الناحية الحسية فيهم، فهم أيد باطشة آثمة، وليس لهم قلوب مدركة عالمة.
ولقد سجل الله تعالى عليهم الظلم، فقال تعالى: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وقد صدر الله سبحانه وتعالى الحكم بلفظ الجلالة تربية للمهابة، ولبيان أنهم مأخوذون والله القادر القاهر هو الذي يأخذهم بظلمهم، وبين عظيم علمه، ودقة علمه، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأظهر في موضع الإضمار فلم يقل سبحانه وتعالى عليم بهم وبما قدمت أيديهم بل قال: (عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)، ليسجل عليهم وصف ظلمهم، وأنهم معاقبون بهذا الظلم الذي هو كالسجيَّة لهم.
ولقد قال الله تعالى في هذا المعنى، وهو طلب تمنى الموت، وامتناعهم في سورة الجمعة: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٦) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧)، والفرق بين النصين، وإن كان كلاهما في مرتبة من البيان يعجز عنه البشر، في أمرين:
الأمر الأول - أن الشرط في الآية الكريمة التي [نتصدى] لتعرف معناها شرط كبير، وهو أن تكون لهم الدار الآخرة من دون الناس، فالشرط يتضمن الخلوص لهم وقصرها، ولن يتمنوا ذلك فكان النفي بـ لن، والشرط خال من معنى زعمهم.
323
الثاني - أن الآية الثانية كان " الشرط الزعم بأنهم من أولياء الله من دون الناس، فكان النفي بـ " لا "، وهو دونه " فكان النفي بـ " لا " لَا بـ " لن " على مقدار الشرط، وكذلك يصرف الله الآيات في كتابه الحكيم.
وبعد ذلك التحدي من النبي - ﷺ - بأمر ربه، كان الوصف الحقيقي لبني إسرائيل بالنسبة للموت والحياة الآخرة، وأنهم لايؤمنون بالآخرة، ولا يؤمنون بأن لهم جزاء محمودا، وأنه يرتقبهم خير؛ ولذا تمسكوا بالحياة الدنيا، لأن العصاة يظنون أنها الحياة وحدها، ولا يرجون خيرًا لأنفسهم المادية في لقاء الله تعالى، فقال تعالت كلماته:
وبعد ذلك التحدي من النبي - ﷺ - بأمر ربه، كان الوصف الحقيقي لبني إسرائيل بالنسبة للموت والحياة الآخرة، وأنهم لايؤمنون بالآخرة، ولا يؤمنون بأن لهم جزاء محمودا، وأنه يرتقبهم خير؛ ولذا تمسكوا بالحياة الدنيا، لأن العصاة يظنون أنها الحياة وحدها، ولا يرجون خيرًا لأنفسهم المادية في لقاء الله تعالى، فقال تعالت كلماته:
324
(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا).
وقد أكد الله سبحانه وتعالى الحكم بأنهم أحرص الناس على حياة بالقسم المؤكد باللام ونون التوكيد الثقيلة، ونكر سبحانه وتعالى " حياة " في قوله تعالى: (عَلَى حَيَاةٍ) لتعميم معاني الحياة، فهم يحرصون على حياة أيا كانت صورتها، سواء كانت حياة ذل أم كانت حياة عز، وسواء كانت حياة استعباد أم كانت حياة حرية، وسواء أكانت تحكمها الفضيلة أم كانت تحكمها الرذيلة، إنهم يحرصون على الحياة ذاتها من غير نظر إلى وصفها سواء أكانت مقيتة في ذاتها، أم كانت بكرامة من غير مهانة. وإن هذا يدل على كمال الحرص.
قال تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي منهم من هم أحرص على حياة أيا كانت من الناس جميعا، ومن الذين أشركوا، وهم الوثنيون، وخُصوا بالذكر، لأنهم لَا يؤمنون بالبعث، وأولئك اليهود أهل كتاب ويؤمنون به في الجملة، ولكنهم مذنبون تحيط بهم خطاياهم من كل ناحية.
وهم أحرص من المشركين على الحياة؛ لأنهم يريدون الحياة على أية صفة عزيزة كريمة أو ذليلة، أما المشركون من العرب فإنهم لَا يريدونها إلا عزيزة لَا ذلة فيها، وشاعرهم الجاهلي يقول:
وقد أكد الله سبحانه وتعالى الحكم بأنهم أحرص الناس على حياة بالقسم المؤكد باللام ونون التوكيد الثقيلة، ونكر سبحانه وتعالى " حياة " في قوله تعالى: (عَلَى حَيَاةٍ) لتعميم معاني الحياة، فهم يحرصون على حياة أيا كانت صورتها، سواء كانت حياة ذل أم كانت حياة عز، وسواء كانت حياة استعباد أم كانت حياة حرية، وسواء أكانت تحكمها الفضيلة أم كانت تحكمها الرذيلة، إنهم يحرصون على الحياة ذاتها من غير نظر إلى وصفها سواء أكانت مقيتة في ذاتها، أم كانت بكرامة من غير مهانة. وإن هذا يدل على كمال الحرص.
قال تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي منهم من هم أحرص على حياة أيا كانت من الناس جميعا، ومن الذين أشركوا، وهم الوثنيون، وخُصوا بالذكر، لأنهم لَا يؤمنون بالبعث، وأولئك اليهود أهل كتاب ويؤمنون به في الجملة، ولكنهم مذنبون تحيط بهم خطاياهم من كل ناحية.
وهم أحرص من المشركين على الحياة؛ لأنهم يريدون الحياة على أية صفة عزيزة كريمة أو ذليلة، أما المشركون من العرب فإنهم لَا يريدونها إلا عزيزة لَا ذلة فيها، وشاعرهم الجاهلي يقول:
لا تسقنى ماء الحياة بذلة | بل فاسقني بالعز كأس الحنظل |
ماء الحياة بذلة كجهنم | وجهنم بالعز أطيب منزل |
وَسْنان أقْصَدَهُ النُعَاسُ فَرَنَّقَتْ | فِي عَيْنِهِ سِنَةٌ ولَيْسَ بِنَائِم |
ولكن عدل عن ذلك، بنفي السِّنة ثم نَفى النوم لمعنى بلاغي، ذلك أن الترتيب الطبيعي لهذه الحقائق في الوجود أن السِّنة تسبق النوم، وإن ذلك الترتيب الطبيعي يعطي للقارئ صورة حية للتالي لكتاب الله تعالى، إذ يتصور الذين يعرض لهم النوم كيف يبتدئ بالسنة ثم النعاس ثم النوم، وإذا تصور ذلك المنظر الطبيعي تصور معه الضعف الإنساني أمام سلطان النوم بمقدماته، وإذا تصور ذلك تبينت له استحالة
934
ذلك على الله سبحانه وتعالى القوي القادر القاهر لكل شيء، فكان ذلك الترتيب الطبيعي فيه إشارة إلى دليل مانع من أن يوصف المولى العلي القدير بهما.
وفى التعبير بقوله سبحانه: (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) إشارة أخرى إلى استحالة قيامهما بالذات العلية فقوله: (لا تَأْخُذُهُ) فيها دلالة على القوة القاهرة للنوم، وأنها تأخذ الحيَّ أخذًا، وتقهره قهرًا، وذلك مستحيل أن يكون للقاهر فوق عباده.
والنوم معروف، وهو حقيقة ترى، كما يرى الضوء، وكما تحس الحرارة، ولكن ما سببه؛ وقد اتفق المتقدمون والمتأخرون على أن سببه التعب الجسمي، وإن كانت عباراتهم مختلفة في تأثير التعب على الجسم حتى يكون منه النوم، فيقول البيضاوي في تفسيره: " النوم حال يعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة، بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا ".
وقال علماء العصر: (إن النوم وقوف سلطان المخ على الأعضاء بسبب ما تولده الحركة من السموم الغازية المؤثرة في العصب). وقيل بسبب ما تفرزه الحويصلات العصبية من الماء الكثير وقت العمل، فكثرة هذا الماء تضعف قوة تأثير المخ في العضلات، فيحدث الفتور، فيكون النوم، ويستمر ذلك إلى أن يتبخر ذلك الماء، وعند ذلك تتنبه الأعصاب ويرجع إليها تأثرها وإدراكها ".
(لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) في هذه الجملة السامية إثبات كمال سلطانه سبحانه، وتمام سيطرته على الكون؛ لأنه ملكه، ولا مالك فيه غيره. وذكر السماوات بالجمع، للإشارة إلى ملكية كل دقائقها، وكل نواميسها وسننها، فهو الذي يغير فيها ويبدل، وهو الذي أوجدها على ذلك النسق البديع المحكم الذي ربط أجزاءها بأواصر قوية. وكان إفراد الأرض مع جمع السماوات للإشارة إلى وحدتها في الجملة بالنسبة لعالم السماوات، وإن كانت الأرض طبقات؛ وللإشارة إلى أن ما في الأرض ليس إلا مظهرًا من حركات السماء، وأن الأرض شيء صغير بجوار السماوات وما فيها.
وفى التعبير بقوله سبحانه: (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) إشارة أخرى إلى استحالة قيامهما بالذات العلية فقوله: (لا تَأْخُذُهُ) فيها دلالة على القوة القاهرة للنوم، وأنها تأخذ الحيَّ أخذًا، وتقهره قهرًا، وذلك مستحيل أن يكون للقاهر فوق عباده.
والنوم معروف، وهو حقيقة ترى، كما يرى الضوء، وكما تحس الحرارة، ولكن ما سببه؛ وقد اتفق المتقدمون والمتأخرون على أن سببه التعب الجسمي، وإن كانت عباراتهم مختلفة في تأثير التعب على الجسم حتى يكون منه النوم، فيقول البيضاوي في تفسيره: " النوم حال يعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة، بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا ".
وقال علماء العصر: (إن النوم وقوف سلطان المخ على الأعضاء بسبب ما تولده الحركة من السموم الغازية المؤثرة في العصب). وقيل بسبب ما تفرزه الحويصلات العصبية من الماء الكثير وقت العمل، فكثرة هذا الماء تضعف قوة تأثير المخ في العضلات، فيحدث الفتور، فيكون النوم، ويستمر ذلك إلى أن يتبخر ذلك الماء، وعند ذلك تتنبه الأعصاب ويرجع إليها تأثرها وإدراكها ".
(لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) في هذه الجملة السامية إثبات كمال سلطانه سبحانه، وتمام سيطرته على الكون؛ لأنه ملكه، ولا مالك فيه غيره. وذكر السماوات بالجمع، للإشارة إلى ملكية كل دقائقها، وكل نواميسها وسننها، فهو الذي يغير فيها ويبدل، وهو الذي أوجدها على ذلك النسق البديع المحكم الذي ربط أجزاءها بأواصر قوية. وكان إفراد الأرض مع جمع السماوات للإشارة إلى وحدتها في الجملة بالنسبة لعالم السماوات، وإن كانت الأرض طبقات؛ وللإشارة إلى أن ما في الأرض ليس إلا مظهرًا من حركات السماء، وأن الأرض شيء صغير بجوار السماوات وما فيها.
935
والجملة السامية تفيد الملكية المطلقة لرب العالمين، فيملك ما فيها من حي وجماد، ومن ناطقين وغير ناطقين، والجميع في قبضة العليم الخبير.
وتقديم الجار والمجرور وهو " له " لإفادة القصر، أي ملك السماوات والأرض له سبحانه، فليس لأحد سواه، فهو المنفرد بالسلطان فيها، والملكية لها؛ فهذا القصر يدل على الوحدانية في الخلق والتكوين، كما يدل قوله تعالى: (لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ...) على الوحدانية في العبادة.
(مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) الاستفهام في هذه الآية إنكاري: لمعنى النفي، أي لَا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، وسيق النفي بطريق الاستفهام للإشارة إلى استحالة ذلك كأنه قد سئل وبحث عن نظير تكون له قدرة الخالق الباري حتى يكون شفيعًا عنده قريبًا منه يؤثر في إرادته، فلم يوجد، لأن ذلك مستحيل استحالة مطلقة.
والشفيع يكون: لمعنى النصير للمشفوع لأجله، المعاضد له، ويكون في مرتبة المشفوع عنده أو قريبًا منه؛ لأنه يؤثر في إرادته، ويحوله من نظر إلى نظر، وله معه أو عنده سلطان أو شركة في أمره؛ وإن ذلك مستحيل على الله سبحانه وتعالى، فلا نظير له سبحانه؛ إنه القادر فعال لما يريد، فلا إرادة لأحد بجوار إرادته سبحانه، إنما الإرادة له وحده؛ ولذلك كان أكثر العلماء على أن هذه الجملة السامية سيقت لبيان عموم سلطانه، وأنه قد انفرد بالتدبير، فلا إرادة لأحد في سلطانه غير إرادته.
ولقد قال البيضاوي، وهو من أئمة أهل السنة، في تفسير قوله تعالى: (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) " بيان لكبرياء شأنه، وأنه لَا أحد يساويه أو يدانيه، يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة واستكانة، فضلا عن أن يعاوقه عنادًا أو مناصبة أي مخاصمة ".
وإنه من كمال سلطانه وشمول إرادته أنه لَا إرادة لأحد إلا مشتقة من إرادته؛ ولذا كان الاستثناء في قوله تعالى: (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي أنه لَا يكون لأحد إرادة إلا إذا كانت مستمدة من إذنه؛ فهو المسيطر على كل شيء، يعطي من يشاء ويمنع من
وتقديم الجار والمجرور وهو " له " لإفادة القصر، أي ملك السماوات والأرض له سبحانه، فليس لأحد سواه، فهو المنفرد بالسلطان فيها، والملكية لها؛ فهذا القصر يدل على الوحدانية في الخلق والتكوين، كما يدل قوله تعالى: (لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ...) على الوحدانية في العبادة.
(مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) الاستفهام في هذه الآية إنكاري: لمعنى النفي، أي لَا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، وسيق النفي بطريق الاستفهام للإشارة إلى استحالة ذلك كأنه قد سئل وبحث عن نظير تكون له قدرة الخالق الباري حتى يكون شفيعًا عنده قريبًا منه يؤثر في إرادته، فلم يوجد، لأن ذلك مستحيل استحالة مطلقة.
والشفيع يكون: لمعنى النصير للمشفوع لأجله، المعاضد له، ويكون في مرتبة المشفوع عنده أو قريبًا منه؛ لأنه يؤثر في إرادته، ويحوله من نظر إلى نظر، وله معه أو عنده سلطان أو شركة في أمره؛ وإن ذلك مستحيل على الله سبحانه وتعالى، فلا نظير له سبحانه؛ إنه القادر فعال لما يريد، فلا إرادة لأحد بجوار إرادته سبحانه، إنما الإرادة له وحده؛ ولذلك كان أكثر العلماء على أن هذه الجملة السامية سيقت لبيان عموم سلطانه، وأنه قد انفرد بالتدبير، فلا إرادة لأحد في سلطانه غير إرادته.
ولقد قال البيضاوي، وهو من أئمة أهل السنة، في تفسير قوله تعالى: (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) " بيان لكبرياء شأنه، وأنه لَا أحد يساويه أو يدانيه، يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة واستكانة، فضلا عن أن يعاوقه عنادًا أو مناصبة أي مخاصمة ".
وإنه من كمال سلطانه وشمول إرادته أنه لَا إرادة لأحد إلا مشتقة من إرادته؛ ولذا كان الاستثناء في قوله تعالى: (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي أنه لَا يكون لأحد إرادة إلا إذا كانت مستمدة من إذنه؛ فهو المسيطر على كل شيء، يعطي من يشاء ويمنع من
936
يشاء، ويأذن لمن يشاء، ويعطي لمن يشاء إرادة في سلطان إرادته، هو المنفرد بالأمر والتدبير.
وأصل كلمة الشفاعة من الشفع بمعنى الضم، ولقد وضحها الأصفهاني في غريب القرآن، فقال:
" الشفع ضم الشيء إلى مثله.. والشفاعة الانضمام إلى آخر مناصرًا له وسائلا عنه؛ وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو أدنى، ومنه الشفاعة في القيامة؛ قال تعالى: (لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا)، وقال تعالى: (لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن...) ".
وترى أن هذه الآية الكريمة على تخريج كثير من المفسرين لَا صلة لها بالشفاعة يوم القيامة، التي هي موضع خلاف فينفيها المعتزلة، ويؤولون الآية الواردة بها بأنها معلقة على الإذن، ولم يثبت تحقق ذلك الإذن بدليل قطعي، وما ورد من الأحاديث المثبتة للشفاعة المفصلة لما يجري فيها يوم القيامة من شفاعة النبي - ﷺ -، إنما هي أحاديث آحاد، وأحاديث الآحاد لَا تثبت بها العقائد، والإيمان بالشفاعة يوم القيامة لَا يسوغ أن يثبت إلا بدليل قطعي لَا شبهة فيه.
والجمهور على إثبات شفاعة النبي - ﷺ - بإذن ربه، تكريمًا له عليه الصلاة والسلام، ورحمة بالناس، وعفوًا من الله العلي القدير، والأحاديث الواردة في هذا الباب صحيحة كثيرة، قد أثبتت في الصحاح من كتب السنة، فلا يصح أن ينكرها أحد، وإن لم تبلغ في قوة الاستدلال بها مبلغ الدليل القطعي الذي لَا شبهة فيه، ولا يدخله الاحتمال قط.
ولقد قرر الزمخشري وهو من المعتزلة أن هذه الجملة السامية لَا تثبتها، وقال في ذلك: (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) بيان لملكوته وكبريائه، وأن أحدًا لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام، كقوله تعالى: (لا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن...).
وأصل كلمة الشفاعة من الشفع بمعنى الضم، ولقد وضحها الأصفهاني في غريب القرآن، فقال:
" الشفع ضم الشيء إلى مثله.. والشفاعة الانضمام إلى آخر مناصرًا له وسائلا عنه؛ وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو أدنى، ومنه الشفاعة في القيامة؛ قال تعالى: (لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا)، وقال تعالى: (لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن...) ".
وترى أن هذه الآية الكريمة على تخريج كثير من المفسرين لَا صلة لها بالشفاعة يوم القيامة، التي هي موضع خلاف فينفيها المعتزلة، ويؤولون الآية الواردة بها بأنها معلقة على الإذن، ولم يثبت تحقق ذلك الإذن بدليل قطعي، وما ورد من الأحاديث المثبتة للشفاعة المفصلة لما يجري فيها يوم القيامة من شفاعة النبي - ﷺ -، إنما هي أحاديث آحاد، وأحاديث الآحاد لَا تثبت بها العقائد، والإيمان بالشفاعة يوم القيامة لَا يسوغ أن يثبت إلا بدليل قطعي لَا شبهة فيه.
والجمهور على إثبات شفاعة النبي - ﷺ - بإذن ربه، تكريمًا له عليه الصلاة والسلام، ورحمة بالناس، وعفوًا من الله العلي القدير، والأحاديث الواردة في هذا الباب صحيحة كثيرة، قد أثبتت في الصحاح من كتب السنة، فلا يصح أن ينكرها أحد، وإن لم تبلغ في قوة الاستدلال بها مبلغ الدليل القطعي الذي لَا شبهة فيه، ولا يدخله الاحتمال قط.
ولقد قرر الزمخشري وهو من المعتزلة أن هذه الجملة السامية لَا تثبتها، وقال في ذلك: (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) بيان لملكوته وكبريائه، وأن أحدًا لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام، كقوله تعالى: (لا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن...).
937
(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) هذه الجملة تأكيد لنفي الشفاعة وتأكيد لكمال سلطان الله سبحانه وتعالى في هذا الوجود. والضمير في أيديهم وخلفهم يعود إلى ما في السماوات وما في الأرض؛ وعبر بضمير الذكور العقلاء تغليبًا لجانب العقلاء في السماوات والأرض من ملائكة أطهار وأناسي سواء أكانوا أشرارًا أم كانوا أبرارًا؛ وما بين أيديهم هو ما يعلمونه من شئون سابقة أو حاضرة، وما وقع منهم مما يوجب الحساب والجزاء من ثواب أو عقاب. وعبر عن هذا بما بين أيديهم؛ لأنه حاضر يستطيعون أن يعرفوه؛ ولا عجب في أن يعرف الإنسان ما وقع في الماضي؛ فهو من حيث التمكن من معرفته كالشيء الذي يكون بين يدي الإنسان من حيث إنه يكون محضرا مهيئًا، وكذلك يكون مما بين يدي الإنسان المحسوسات والمعلومات التجربية التي يمكن الإنسان بعقله أن يدركها. وأما ما خلفهم فهو ما يكون علمه مغيبا عنهم، إما لأنه في ذاته خفي لَا يدرك كنهه، ولا تعلم حقيقته؛ وليس في طاقة العقل البشرى - من غير استعانة بالنقل - معرفته؛ وإما لأنه أمور ستقع في المستقبل قد غيب عن البشر العلم بها، ومنه ما يكون يوم القيامة، أو اختص بها عالم الغيب في السماوات وفي الأرض، وعبر عن ذلك النوع من العلم بأنه (خَلْفَهُمْ) لأنه يخلفهم في زمانه، ولأنه مستقبل وليس من مستدبر الماضي.
وإن العلم بالماضي والحاضر والمستقبل - وما وقع وما لَا يقع ينفي الشفاعة بمعنى أن يستنزل الشفيع المشفوع عنده عما اعتزم وأراد؛ لأن ذلك يقتضي ألا يكون عالما بما مضى أو بما يكون، إذ الشفيع ينبه المشفوع عنده بما غاب عنه من أمر، وذلك لَا يليق في حق العليم الخبير، وهو ينافي علمه بالماضي والقابل وما يقع في الحس، وما يكون في الغيب؛ ولذلك أجمع علماء المسلمين على نفي الشفاعة بهذا المعنى، إذ الشفاعة التي قررها جمهور أهل السنة هي الشفاعة لمن ارتضى، والتي قدر الله سبحانه وتعالى إجابتها تكريمًا للشافع، ورحمة بالمشفوع لأجله.
(وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) هذه الجملة السامية بيان لنقصان علم المخلوق بجوار علم الخالق، والعلم المراد به المعلوم، أي لَا يحيطون بشيء من
وإن العلم بالماضي والحاضر والمستقبل - وما وقع وما لَا يقع ينفي الشفاعة بمعنى أن يستنزل الشفيع المشفوع عنده عما اعتزم وأراد؛ لأن ذلك يقتضي ألا يكون عالما بما مضى أو بما يكون، إذ الشفيع ينبه المشفوع عنده بما غاب عنه من أمر، وذلك لَا يليق في حق العليم الخبير، وهو ينافي علمه بالماضي والقابل وما يقع في الحس، وما يكون في الغيب؛ ولذلك أجمع علماء المسلمين على نفي الشفاعة بهذا المعنى، إذ الشفاعة التي قررها جمهور أهل السنة هي الشفاعة لمن ارتضى، والتي قدر الله سبحانه وتعالى إجابتها تكريمًا للشافع، ورحمة بالمشفوع لأجله.
(وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) هذه الجملة السامية بيان لنقصان علم المخلوق بجوار علم الخالق، والعلم المراد به المعلوم، أي لَا يحيطون بشيء من
938
المعلومات التي يعلمها الله سبحانه وتعالى. والإحاطة معناها هي العلم الكامل بالأمر فيدركه العقل إدراكا ويستولي عليه استيلاء، كما تحيط الدائرة بكل أقطارها وما في داخلها. وهذه الجملة السامية تدل على نقص العلم البشرى من ناحيتين: أولاهما: أن أحدًا من البشر لَا يستطيع أن يعلم كل شيء، بل إن ما يجهل أضعاف كثيرة مما يعلم، كما قال تعالى: (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).
الثانية: أن الجزء الذي يعلمه البشر من الأشياء علمه فيه ناقص كل النقص، وهذا ما قرره سبحانه في قوله تعالى: (وَلا يحِيطونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ) أي أنهم لا يعلمون شيئًا واحدًا علم إحاطة واستغراق لكل ما يشتمل عليه، وعلم الإحاطة هو العلم الكامل. ولقد فسره الأصفهاني بقوله " الإحاطة بالشيء علمًا هي أن تعلم وجوده، وجنسه، وكيفيته، وغرضه المقصود به وبإيجاده وما يكون به ومنه، وذلك ليس إلا لله تعالى ".
وعلم الإنسان لَا يكون إلا بالقدر الذي يشاؤه الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان الاستثناء في قوله سبحانه: (إِلَّا بِمَا شَاءَ) إذ إنه إذا كان علم الإحاطة الكامل لشيء لَا يمكن أن يكون إلا لله العليم الخبير، فالله سبحانه يعطي البشر من العلم ببعض الأشياء بالقدر الذي يريده سبحانه ويقدره، وقد خلق البشر على استعداد له.
(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) الكرسي في تعارف الناس ما يقعد عليه، وهو منسوب إلى الكرس بمعنى المجتمع، ومنه الكُرَّاسَة للمتَجمِّع من الأوراق ويقال كَرِس الرجل كثر علمه.
والعلماء في تفسير معنى الكرسي هنا على وجهين:
أحدهما: أن لله سبحانه وتعالى كرسيا وعلينا أن نؤمن بوجوده وإن كنا لا ندرك كنهه ولا نعرف حقيقته، إذ ليس ذلك في مقدور العقل البشرى، ومن هؤلاء العلماء من قال: إن الكرسي هو العرش، وقد قبله الزمخشري احتمالا للآية؛
الثانية: أن الجزء الذي يعلمه البشر من الأشياء علمه فيه ناقص كل النقص، وهذا ما قرره سبحانه في قوله تعالى: (وَلا يحِيطونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ) أي أنهم لا يعلمون شيئًا واحدًا علم إحاطة واستغراق لكل ما يشتمل عليه، وعلم الإحاطة هو العلم الكامل. ولقد فسره الأصفهاني بقوله " الإحاطة بالشيء علمًا هي أن تعلم وجوده، وجنسه، وكيفيته، وغرضه المقصود به وبإيجاده وما يكون به ومنه، وذلك ليس إلا لله تعالى ".
وعلم الإنسان لَا يكون إلا بالقدر الذي يشاؤه الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان الاستثناء في قوله سبحانه: (إِلَّا بِمَا شَاءَ) إذ إنه إذا كان علم الإحاطة الكامل لشيء لَا يمكن أن يكون إلا لله العليم الخبير، فالله سبحانه يعطي البشر من العلم ببعض الأشياء بالقدر الذي يريده سبحانه ويقدره، وقد خلق البشر على استعداد له.
(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) الكرسي في تعارف الناس ما يقعد عليه، وهو منسوب إلى الكرس بمعنى المجتمع، ومنه الكُرَّاسَة للمتَجمِّع من الأوراق ويقال كَرِس الرجل كثر علمه.
والعلماء في تفسير معنى الكرسي هنا على وجهين:
أحدهما: أن لله سبحانه وتعالى كرسيا وعلينا أن نؤمن بوجوده وإن كنا لا ندرك كنهه ولا نعرف حقيقته، إذ ليس ذلك في مقدور العقل البشرى، ومن هؤلاء العلماء من قال: إن الكرسي هو العرش، وقد قبله الزمخشري احتمالا للآية؛
939
وروى في ذلك قول الحسن البصري: " الكرسي هو العرش " وقد اختار ذلك الوجه جمهور المفسرين.
الوجه الثاني: أن الكرسي في الآية كناية عن عظم السلطان ونفوذ القدرة وشمول الإرادة، فهو كقول بعض الناس: شمل كرسي الملك الفلاني ربع أقطار الأرض والمراد نفوذ سلطانه، وعظم دولته.
أو يكون الكرسي كناية عن عظم العلم وشموله واتساعه. وتفسيره بعظم السلطان يتناسب مع قوله تعالى بعد ذلك: (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا) وتفسيره بمعنى شمول العلم يتناسب مع قوله سبحانه قبل ذلك: (وَلا يحِيطُونَ بشَيْءٍ مِّنْ علْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) ولذلك يصح أن نقول إن قوله تعالى: (وسِعَ كُرْسِيُّه السًّمَوَاتِ وَالأرْضَ) كناية عن عظيم قدرته ونفوذ إرادته، وواسع علمه، وكمال إحاطته.
وإن ذلك الوجه قد ورد عن السلف، كما ورد الوجه الأول عن السلف؛ فقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: " كرسيه علمه " وروى مثل ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقد اختار ذلك المفسر السلفي ابن جرير الطبري.
وقد لخص الآراء ووجهها توجيها جيدًا الزمخشري في تفسيره، فقال: " وفى قوله وسع كرسيه أربعة أوجه:
أحدها: أن كرسيه لم يضق عن السماوات والأرض لبسطته وسعته، وما هو إلا تصوير لعظمته، ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد كقوله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ...). من غير تصور قبضة وطي ويمين، وإنما هو تصوير لعظمة شأنه وتمثيل حسي.
والثاني: وسع علمه، وسمي العلم كرسيًا تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم.
والثالث: وسع ملكه، تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك.
الوجه الثاني: أن الكرسي في الآية كناية عن عظم السلطان ونفوذ القدرة وشمول الإرادة، فهو كقول بعض الناس: شمل كرسي الملك الفلاني ربع أقطار الأرض والمراد نفوذ سلطانه، وعظم دولته.
أو يكون الكرسي كناية عن عظم العلم وشموله واتساعه. وتفسيره بعظم السلطان يتناسب مع قوله تعالى بعد ذلك: (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا) وتفسيره بمعنى شمول العلم يتناسب مع قوله سبحانه قبل ذلك: (وَلا يحِيطُونَ بشَيْءٍ مِّنْ علْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) ولذلك يصح أن نقول إن قوله تعالى: (وسِعَ كُرْسِيُّه السًّمَوَاتِ وَالأرْضَ) كناية عن عظيم قدرته ونفوذ إرادته، وواسع علمه، وكمال إحاطته.
وإن ذلك الوجه قد ورد عن السلف، كما ورد الوجه الأول عن السلف؛ فقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: " كرسيه علمه " وروى مثل ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقد اختار ذلك المفسر السلفي ابن جرير الطبري.
وقد لخص الآراء ووجهها توجيها جيدًا الزمخشري في تفسيره، فقال: " وفى قوله وسع كرسيه أربعة أوجه:
أحدها: أن كرسيه لم يضق عن السماوات والأرض لبسطته وسعته، وما هو إلا تصوير لعظمته، ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد كقوله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ...). من غير تصور قبضة وطي ويمين، وإنما هو تصوير لعظمة شأنه وتمثيل حسي.
والثاني: وسع علمه، وسمي العلم كرسيًا تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم.
والثالث: وسع ملكه، تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك.
940
والرابع: أنه خلق كرسيًا هو بين يدي العرش، دونه السماوات والأرض، وهو إلى العرش كأصغر شيء. وعن الحسن (الكرسي هو العرش).
وعندي أن أجود هذه الوجوه هو أن يكون كناية عن سعة الملك وسعة العلم، وهو المناسب لنسق الآية الكريمة، وهو تفسير ترجمان القرآن عبد الله بن عباس.
(وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا) هذا وصف يدل على كمال قدرته، وعظيم حياطة خلقه، ومعنى (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا) لَا يثقله ولا يتعبه حفظ السماوات والأرض وكلاءتهما، لأن ذاته العلية منزهة عن التعب، إذ هو من صفات الأجسام الحيوانية، والله سبحانه وتعالى منزه عن مشابهة الحوادث.
وأصل آدَ من الأود بمعنى العوج، فآده يؤده بمعنى عوجه بثقله وعبئه. وإن ذلك النص الكريم يدل على أن كل شيء في الكون في حفظ الله وحياطته؛ فالسماء بأفلاكها وطبقاتها وكواكبها، وكل ما فيها يسير على نظام محكم محفوظ بعناية بديع السماوات والأرض، والأرض وما عليها ومن عليها، وما فيها ظاهرًا وباطنًا، كل ذلك في حفظ الله خاضع لقوانينه التي سنها في خلقه، ولا شيء يكون فيها أو منها إلا بإرادته سبحانه (وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ في عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبيرُ الْمُتَعَالِ).
(وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) هذان هما الوصفان الشاملان لكل الأوصاف السابقة؛ فالله سبحانه هو العلي: علا بصفاته وذاته عن مشابهة المخلوقات، وعلا أيضا على خلقه بمعنى سيطر عليهم، وسيرهم، فالعلو يشمل معنيين:
أولهما: علو المنزلة والقدر، وذلك متحقق بتنزهه سبحانه عن مشابهة المخلوقين وأنه فوق كل موجود.
وثانيهما: علو السلطان؛ والقدرة - والقهر - ومن هذا الباب لغة (لا معنى لأنه يناسب المقام هنا) قوله تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا...). والله سبحانه غالب على كل شيء، قاهر كل شيء، وهو فوق عباده. هذا هو الوصف الأول. أما الوصف الثاني فهو عظم الذات العلية وصفاتها،
وعندي أن أجود هذه الوجوه هو أن يكون كناية عن سعة الملك وسعة العلم، وهو المناسب لنسق الآية الكريمة، وهو تفسير ترجمان القرآن عبد الله بن عباس.
(وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا) هذا وصف يدل على كمال قدرته، وعظيم حياطة خلقه، ومعنى (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا) لَا يثقله ولا يتعبه حفظ السماوات والأرض وكلاءتهما، لأن ذاته العلية منزهة عن التعب، إذ هو من صفات الأجسام الحيوانية، والله سبحانه وتعالى منزه عن مشابهة الحوادث.
وأصل آدَ من الأود بمعنى العوج، فآده يؤده بمعنى عوجه بثقله وعبئه. وإن ذلك النص الكريم يدل على أن كل شيء في الكون في حفظ الله وحياطته؛ فالسماء بأفلاكها وطبقاتها وكواكبها، وكل ما فيها يسير على نظام محكم محفوظ بعناية بديع السماوات والأرض، والأرض وما عليها ومن عليها، وما فيها ظاهرًا وباطنًا، كل ذلك في حفظ الله خاضع لقوانينه التي سنها في خلقه، ولا شيء يكون فيها أو منها إلا بإرادته سبحانه (وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ في عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبيرُ الْمُتَعَالِ).
(وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) هذان هما الوصفان الشاملان لكل الأوصاف السابقة؛ فالله سبحانه هو العلي: علا بصفاته وذاته عن مشابهة المخلوقات، وعلا أيضا على خلقه بمعنى سيطر عليهم، وسيرهم، فالعلو يشمل معنيين:
أولهما: علو المنزلة والقدر، وذلك متحقق بتنزهه سبحانه عن مشابهة المخلوقين وأنه فوق كل موجود.
وثانيهما: علو السلطان؛ والقدرة - والقهر - ومن هذا الباب لغة (لا معنى لأنه يناسب المقام هنا) قوله تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا...). والله سبحانه غالب على كل شيء، قاهر كل شيء، وهو فوق عباده. هذا هو الوصف الأول. أما الوصف الثاني فهو عظم الذات العلية وصفاتها،
941
فذاته العلية جلت عن المشابهة، وهو الخالق القاهر القادر، وهو وحده الإله المعبود بحق، وهو الذي يسبح كل شيء في الوجود بحمده، فهو العظيم وحده، والمعبود حقا وحده، المعظم وحده. وإذا كانت غواشي الحياة قد أضلت الأكثرين فلم يدروا عظمته في الفانية، فستتجلى لهم عظمة ذي الجلال في الباقية، وهم من خشيته مشفقون (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (١٠٩) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (١١٢).
أما بعد، فهذه آية الكرسي، أعظم آية في كتاب الله، كما ورد في بعض الآثار المثبتة في الصحاح؛ وإنها لتدل على وحدانية الله تعالى بكل شعبها؛ ذلك بأن الوحدانية لها شعب ثلاث: وحدانية الألوهية، وقد دلت عليها بقوله تعالى: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هوَ) ووحدانية الخلق والتكوين فلا خالق مع الله تعالى، ولا إرادة تمنع إرادته، وقد دل على ذلك بأكثر ما في الآية الكريمة كقوله سبحانه: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وقوله تعالى: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) والشعبة الثالثة وحدانية الذات والصفات، بمعنى أنه لَا يشبهه شيء أو أحد من خلقه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ...)، وقد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله تعالى: (لا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) وبقوله تعالى: (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) تعالى الله رب العالمين علوا كبيرًا؛ تولانا سبحانه بعنايته وتوفيقه وهدايته.
* * *
أما بعد، فهذه آية الكرسي، أعظم آية في كتاب الله، كما ورد في بعض الآثار المثبتة في الصحاح؛ وإنها لتدل على وحدانية الله تعالى بكل شعبها؛ ذلك بأن الوحدانية لها شعب ثلاث: وحدانية الألوهية، وقد دلت عليها بقوله تعالى: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هوَ) ووحدانية الخلق والتكوين فلا خالق مع الله تعالى، ولا إرادة تمنع إرادته، وقد دل على ذلك بأكثر ما في الآية الكريمة كقوله سبحانه: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وقوله تعالى: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) والشعبة الثالثة وحدانية الذات والصفات، بمعنى أنه لَا يشبهه شيء أو أحد من خلقه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ...)، وقد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله تعالى: (لا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) وبقوله تعالى: (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) تعالى الله رب العالمين علوا كبيرًا؛ تولانا سبحانه بعنايته وتوفيقه وهدايته.
* * *
942
(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥٧)
* * *
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى أمرين:
أحدهما: المغالبة بين أهل الحق وأهل الباطل، وأن تلك مشيئته الأبدية الأزلية منذ خلق بني آدم على ذلك التكوين الذي يضم فيه كل آدمي بين جنبيه نزوع الخير ونزوغ الشر، ومنذ قال لآدم وحواء وإبليس: (... اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ).
الأمر الثاني: هو ما يجري حوله الخلاف بين أهل الحق الذين يستمسكون بالهدى والنور، وأهل الباطل الذين يستمسكون بالضلالة؛ وذلك الأمر هو وحدانية الله سبحانه وتعالى في الألوهية، وفي الخلق والتكوين، وفي المشيئة والإرادة وفي الذات والصفات: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). وإن هذا أمر تقره بداهة العقول، ولا مجال فيه للريب فما كان ينبغي القتال حوله، ولكن من ضل وغوى أيجوز إكراهه على الدخول في ذلك النور بحكم تلك المغالبة بين الحق والباطل القررة في هذا الوجود؟ أجاب الله سبحانه وتعالى عن ذلك السؤال الذي يتردد في قلب كل من يؤمن بالحق، إذ يكون واقفًا أمام حق نير واضح مستبين، ولجاجة في باطل مظلم، وقد تكون الهداية أن يقضى على تلك اللجاجة الآثمة.
* * *
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى أمرين:
أحدهما: المغالبة بين أهل الحق وأهل الباطل، وأن تلك مشيئته الأبدية الأزلية منذ خلق بني آدم على ذلك التكوين الذي يضم فيه كل آدمي بين جنبيه نزوع الخير ونزوغ الشر، ومنذ قال لآدم وحواء وإبليس: (... اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ).
الأمر الثاني: هو ما يجري حوله الخلاف بين أهل الحق الذين يستمسكون بالهدى والنور، وأهل الباطل الذين يستمسكون بالضلالة؛ وذلك الأمر هو وحدانية الله سبحانه وتعالى في الألوهية، وفي الخلق والتكوين، وفي المشيئة والإرادة وفي الذات والصفات: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). وإن هذا أمر تقره بداهة العقول، ولا مجال فيه للريب فما كان ينبغي القتال حوله، ولكن من ضل وغوى أيجوز إكراهه على الدخول في ذلك النور بحكم تلك المغالبة بين الحق والباطل القررة في هذا الوجود؟ أجاب الله سبحانه وتعالى عن ذلك السؤال الذي يتردد في قلب كل من يؤمن بالحق، إذ يكون واقفًا أمام حق نير واضح مستبين، ولجاجة في باطل مظلم، وقد تكون الهداية أن يقضى على تلك اللجاجة الآثمة.
943
وقد كان جواب الله العلي القدير، كلامًا محكمًا لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو قول الحق:
944
(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي) نفت الجملة الأولى من هاتين الجملتين الساميتين الإكراه في الدين، وبينت الجملة الثانية علة هذا النفي، وكيف تدرك الأديان، ومهمة الداعي إليها؛ فأما النفي الذي قررته الجملة الأولى فهو يتضمن أمرين:
أحدهما: تقرير حقيقة مقررة ثابتة، وهو أن الإكراه في الدين لَا يتأتي؛ لأن التدين إدراك فكري، وإذعان قلبي، واتجاه بالنفس والجوارح بإرادة مختارة حرة إلى الله سبحانه وتعالى، وتلك معان لَا يتصور فيها الإكراه؛ إذ الإكراه حمل الشخص على ما يكره بقوة ملجئة حاملة، مفسدة للإرادة الحرة، ومزيلة للاختيار الكامل، فلا يكون إيمان ولا تدين، إذ لَا يكون إذعان قلبي، ولا اتجاه حر مختار بالنفس والجوارح إلى الله رب العالمين.
الأمر الثاني: الذي تضمنه نفي الإكراه هو النهي عن وقوعه، فلا يسوغ للداعي إلى الحق أن يكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؛ لأن الإكراه والتدين نقيضان لا يجتمعان، ولا يمكن أن يكون أحدهما ثمرة للآخر، ونتيجة له؛ لأنه كلما حمل الإنسان على أمر بقوة قاهرة غالبة ازداد كرهًا له ونفورًا منه.
فالنفي عن الإكراه إذن تضمن نفي تصوره في شئون الدين، ونفي المطالبة به، أو بالأحرى نهي الداعي إلى الحق عن سلوك سبيله؛ لأنه ليس سبيل المؤمنين، وليس من الموعظة الحسنة في شيء: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمن ضَلَّ عَن سَبِيلِه وَهُوَ أَعْلَمُ بالْمُهْتَدينَ).
هذه معاني الجملة الأولى السامية، أما الثانية وهي: (قَد تَّبَيَّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)، فمعناها قد تبين وجه الحق ولاح نوره، وتبين الغي، وهو الضلال والبعد عن محجة الحق، وطمس معالمه، وهذه الجملة السامية تفيد أمرين كسابقتها:
أحدهما: تقرير حقيقة مقررة ثابتة، وهو أن الإكراه في الدين لَا يتأتي؛ لأن التدين إدراك فكري، وإذعان قلبي، واتجاه بالنفس والجوارح بإرادة مختارة حرة إلى الله سبحانه وتعالى، وتلك معان لَا يتصور فيها الإكراه؛ إذ الإكراه حمل الشخص على ما يكره بقوة ملجئة حاملة، مفسدة للإرادة الحرة، ومزيلة للاختيار الكامل، فلا يكون إيمان ولا تدين، إذ لَا يكون إذعان قلبي، ولا اتجاه حر مختار بالنفس والجوارح إلى الله رب العالمين.
الأمر الثاني: الذي تضمنه نفي الإكراه هو النهي عن وقوعه، فلا يسوغ للداعي إلى الحق أن يكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؛ لأن الإكراه والتدين نقيضان لا يجتمعان، ولا يمكن أن يكون أحدهما ثمرة للآخر، ونتيجة له؛ لأنه كلما حمل الإنسان على أمر بقوة قاهرة غالبة ازداد كرهًا له ونفورًا منه.
فالنفي عن الإكراه إذن تضمن نفي تصوره في شئون الدين، ونفي المطالبة به، أو بالأحرى نهي الداعي إلى الحق عن سلوك سبيله؛ لأنه ليس سبيل المؤمنين، وليس من الموعظة الحسنة في شيء: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمن ضَلَّ عَن سَبِيلِه وَهُوَ أَعْلَمُ بالْمُهْتَدينَ).
هذه معاني الجملة الأولى السامية، أما الثانية وهي: (قَد تَّبَيَّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)، فمعناها قد تبين وجه الحق ولاح نوره، وتبين الغي، وهو الضلال والبعد عن محجة الحق، وطمس معالمه، وهذه الجملة السامية تفيد أمرين كسابقتها:
944
أحدهما: أن طريق التدين هو بيان الرشد، وبيان الصواب، وبيان الضلال في وسط النور؛ فمن رأى الحق بينًا فقد أدرك السبيل، وعليه أن يسير فيها، وليس لأحد أن يحمله حملا؛ لأنه لَا سبب للتدين إلا المعرفة، بإدراك الحق وغايته، ومعرفة الباطل ونهايته. وذلك المعنى في مرتبة التعليل للنهي عن الإكراه ونفيه، لأنه إذا عرف الحق معرفة مثبتة له بالأدلة القاطعة، وعرف الباطل معرفة مبينة وجه الضلال فيه، فقد توافر سبب التدين، ومن كفر بعد ذلك فعن بينة كفر، ولا سبيل لهدايته، وليتحمل مغبة كفره بعد هذه البينات الواضحة الكاشفة.
الأمر الثاني: الذي يدل عليه قوله تعالى: (قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي)، هو بيان أقصى قدر من التكليف للداعي إلى الحق من الرسل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فليس على الداعي إلى الحق إلا تكليف واحد، وهو بيان الرشد من الغي، فهو لم يكلف حمل الناس على الهدى، إنما هو مكلف أن يبين الهدى من الضلال، والهداية بعد ذلك من الله سبحانه وتعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ...).
وإذا كان الرشد قد تبين من الغي وتميز، ولم يعد مختلطا به، بل خلص منه، وخرج نيرًا واضحًا. كما يخرج أشور من الظلمة عند انبثاق فجر الحقيقة، وظهوره ساطعًا منيرًا هاديًا، إذا كان الأمر كذلك فعلى كل طالب للتدين أن يسلك سبيل الحق، ومن بقي مترديًا في الباطل، فعليه إثم بقائه، وما عليك من أمره شيء، ولذا قال سبحانه: (فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوت وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا) الطاغوت أصله مأخوذ من الطغيان، ويؤدي معنى الطغيان، وإن اختلف علماء اللغة في أصل اشتقاقه، وفي وزنه الصرفي.
والطاغوت يطلق في القرآن على كل ما يطغى على النفس فيسيطر عليها، أو على العقل فيضله، أو على الأمة فيتحكم فيها ظلمًا، أو على الجماعة فينشر فيها أهواء مردية، وآراء فاسدة؛ ولذلك يطلق الطاغوت على الكاهن، والشيطان، وكل رأس للضلال. وقد جاء في تفسير القرطبي: قد يكون واحدًا؛ قال الله تعالى:
الأمر الثاني: الذي يدل عليه قوله تعالى: (قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي)، هو بيان أقصى قدر من التكليف للداعي إلى الحق من الرسل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فليس على الداعي إلى الحق إلا تكليف واحد، وهو بيان الرشد من الغي، فهو لم يكلف حمل الناس على الهدى، إنما هو مكلف أن يبين الهدى من الضلال، والهداية بعد ذلك من الله سبحانه وتعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ...).
وإذا كان الرشد قد تبين من الغي وتميز، ولم يعد مختلطا به، بل خلص منه، وخرج نيرًا واضحًا. كما يخرج أشور من الظلمة عند انبثاق فجر الحقيقة، وظهوره ساطعًا منيرًا هاديًا، إذا كان الأمر كذلك فعلى كل طالب للتدين أن يسلك سبيل الحق، ومن بقي مترديًا في الباطل، فعليه إثم بقائه، وما عليك من أمره شيء، ولذا قال سبحانه: (فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوت وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا) الطاغوت أصله مأخوذ من الطغيان، ويؤدي معنى الطغيان، وإن اختلف علماء اللغة في أصل اشتقاقه، وفي وزنه الصرفي.
والطاغوت يطلق في القرآن على كل ما يطغى على النفس فيسيطر عليها، أو على العقل فيضله، أو على الأمة فيتحكم فيها ظلمًا، أو على الجماعة فينشر فيها أهواء مردية، وآراء فاسدة؛ ولذلك يطلق الطاغوت على الكاهن، والشيطان، وكل رأس للضلال. وقد جاء في تفسير القرطبي: قد يكون واحدًا؛ قال الله تعالى:
945
(يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)، وقد يكون جمعًا، قال الله تعالى: (أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغُوتُ...).
وما المراد بالطاغوت هنا؛ الظاهر أن الطاغوت هو كل طغيان يطغى على النفس أو العقل أو الجماعة، فيتسلط عليه، ويمنعهم من اتباع الحق من زعماء يقودونها إلى الضلال، أو ملوك يسوقونها إلى الباطل سوقا؛ ولعل أظهر معاني الطاغوت أن يفسر بالملوك المتحكمين والكبراء المتجبرين الذين يفتنون الناس عن دين الحق، ويكرهونهم على اعتناق الباطل. وقد سوغ لنا استظهار ذلك ما جاء من نفي الإكراه في الدين سابقًا لهذه الجملة السامية، وما سيق بعد ذلك من قصة ملك متجبر يريد أن يتحكم في عقائد الناس وأهوائهم، فإن ذلك يومئ لنا أن نفهم من كلمة الطاغوت بأنه الحاكم المتجبر، أو الكبير المسيطر، أو الملك القاهر بالباطل، ويكون المعنى: فمن يكفر بالطاغوت، أي يزيل سلطان المتجبرين عن نفسه، ويمنع تحكم المسيطرين على قلبه، ويحرر عقله من أوهام الطغيان، ويؤمن بالله، فقد استمسك بالعروة الوثقى. أي اعتمد على جانب قوي، وعماد على لَا يهن من اعتمد عليه، ولا يسقط من ركن إليه، وفي ذلك إشارة إلى أمرين:
أحدهما: أن لَا يحجب النفوس عن الإيمان بالله إلا طغيان المتجبرين عليها، وسيطرة أوهام الكبراء، فمن تحرر من ربقة الطاغوت تتكشف له الحقيقة العالية فيؤمن بها، ويدركها، ويعتصم بالله سبحانه وتعالى.
ثانيهما: إرشاد ضعفاء النفوس ومن أصاب الخور عزائمهم وأماتت الأوهام ثقتهم بأنفسهم أنهم إن رفضوا سلطان الطغاة، وحاجزوا بينهم وبين قلوبهم، فقد أمِنُوا، ولن يصيبهم ضير إن آمنوا؛ لأنهم آووا إلى ركن شديد، وإلى معتصم حصين، فلن تضيرهم مخالفة الملوك وغيرهم؛ لأن سلطانهم وهمي، وسلطان الله حقيقي، وقوتهم فانية، وقوة الله أزلية باقية، فمن آمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لَا انفصام لها.
وما المراد بالطاغوت هنا؛ الظاهر أن الطاغوت هو كل طغيان يطغى على النفس أو العقل أو الجماعة، فيتسلط عليه، ويمنعهم من اتباع الحق من زعماء يقودونها إلى الضلال، أو ملوك يسوقونها إلى الباطل سوقا؛ ولعل أظهر معاني الطاغوت أن يفسر بالملوك المتحكمين والكبراء المتجبرين الذين يفتنون الناس عن دين الحق، ويكرهونهم على اعتناق الباطل. وقد سوغ لنا استظهار ذلك ما جاء من نفي الإكراه في الدين سابقًا لهذه الجملة السامية، وما سيق بعد ذلك من قصة ملك متجبر يريد أن يتحكم في عقائد الناس وأهوائهم، فإن ذلك يومئ لنا أن نفهم من كلمة الطاغوت بأنه الحاكم المتجبر، أو الكبير المسيطر، أو الملك القاهر بالباطل، ويكون المعنى: فمن يكفر بالطاغوت، أي يزيل سلطان المتجبرين عن نفسه، ويمنع تحكم المسيطرين على قلبه، ويحرر عقله من أوهام الطغيان، ويؤمن بالله، فقد استمسك بالعروة الوثقى. أي اعتمد على جانب قوي، وعماد على لَا يهن من اعتمد عليه، ولا يسقط من ركن إليه، وفي ذلك إشارة إلى أمرين:
أحدهما: أن لَا يحجب النفوس عن الإيمان بالله إلا طغيان المتجبرين عليها، وسيطرة أوهام الكبراء، فمن تحرر من ربقة الطاغوت تتكشف له الحقيقة العالية فيؤمن بها، ويدركها، ويعتصم بالله سبحانه وتعالى.
ثانيهما: إرشاد ضعفاء النفوس ومن أصاب الخور عزائمهم وأماتت الأوهام ثقتهم بأنفسهم أنهم إن رفضوا سلطان الطغاة، وحاجزوا بينهم وبين قلوبهم، فقد أمِنُوا، ولن يصيبهم ضير إن آمنوا؛ لأنهم آووا إلى ركن شديد، وإلى معتصم حصين، فلن تضيرهم مخالفة الملوك وغيرهم؛ لأن سلطانهم وهمي، وسلطان الله حقيقي، وقوتهم فانية، وقوة الله أزلية باقية، فمن آمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لَا انفصام لها.
946
والعروة في أصل معناها اللغوي تطلق على ما يتعلق بالشيء من عراه أي ناحيته، فالعروة من الدلو والكوز المقبض، ومن الثوب مدخل الزر؛ وتطلق العروة أيضا على الشجر الملتف الذي تأكل منه الدواب حيث لَا كلأ ولا نبات.
والوثقى مؤنث الأوثق، وهو الشيء المحكم الموثق، وتطلق كلمة الموثق أيضا على الشجر الذي يتجه إليه الناس عندما ينقطع الكلأ. والانفصام الانكسار، وهو مطاوع فصم بمعنى كسر؛ وإنما تكون المطاوعة حيث يحتاج الفصم إلى معالجة، أي أن الشيء المفصوم يكون قويا، بحيث يعالج الشخص كسره حتى ينكسر بعد طول المحاولة وعلى ذلك فالعروة الوثقى في الآية إما أن تخرج على أنها الحبل الموثق الشديد الأسر الذي يربط بين شيئين، ويكون المعنى: من آمن بالله وكفر بالطاغوت فقد استمسك، أي أمسك بقوة وشدة طالبًا العصمة بحبل موصول موثق قوى لا انفصام له. وقد تخرج العروة على أنها الشجر الذي لَا يوجد سواه للمرعى والغذاء، فيكون من كفر بالطاغوت وآمن بالله فقد اتجه وأخذ الجانب المفيد المربى المغذى وترك الجدب الذي لَا يجدي. وقد مال الزمخشري إلى التخريج الأول، وهو عندي أوضح وأشهر.
والاستمساك كما أشرنا هو الإمساك المطلوب المستقر؛ لأن السين والتاء تدل على الطلب، والطلب هنا يفسر بأنه هجر الطاغوت طلبًا للاعتصام بهذا الجانب القوي الذي لايضل من طلبه، ويصل إليه من اعتمد عليه ولم يطلب سواه. وقد ذكر الزمخشري في تفسيره أن هذا التعبير الكريم كله (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا) فيه تمثيل وتصوير للمعاني السامية بالأشياء المحسوسة فقال: (هذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوره السامع كأنما ينظر إليه بعينه، فيحكم اعتقاده والتيقن به).
هذه هداية الله سبحانه وتعالى، لَا يكره أحد عليها، ولكن يدعى الناس إليها بالبينات الواضحة التي يتميز بها الخير من الشر، والحق من الباطل، والنور من
والوثقى مؤنث الأوثق، وهو الشيء المحكم الموثق، وتطلق كلمة الموثق أيضا على الشجر الذي يتجه إليه الناس عندما ينقطع الكلأ. والانفصام الانكسار، وهو مطاوع فصم بمعنى كسر؛ وإنما تكون المطاوعة حيث يحتاج الفصم إلى معالجة، أي أن الشيء المفصوم يكون قويا، بحيث يعالج الشخص كسره حتى ينكسر بعد طول المحاولة وعلى ذلك فالعروة الوثقى في الآية إما أن تخرج على أنها الحبل الموثق الشديد الأسر الذي يربط بين شيئين، ويكون المعنى: من آمن بالله وكفر بالطاغوت فقد استمسك، أي أمسك بقوة وشدة طالبًا العصمة بحبل موصول موثق قوى لا انفصام له. وقد تخرج العروة على أنها الشجر الذي لَا يوجد سواه للمرعى والغذاء، فيكون من كفر بالطاغوت وآمن بالله فقد اتجه وأخذ الجانب المفيد المربى المغذى وترك الجدب الذي لَا يجدي. وقد مال الزمخشري إلى التخريج الأول، وهو عندي أوضح وأشهر.
والاستمساك كما أشرنا هو الإمساك المطلوب المستقر؛ لأن السين والتاء تدل على الطلب، والطلب هنا يفسر بأنه هجر الطاغوت طلبًا للاعتصام بهذا الجانب القوي الذي لايضل من طلبه، ويصل إليه من اعتمد عليه ولم يطلب سواه. وقد ذكر الزمخشري في تفسيره أن هذا التعبير الكريم كله (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا) فيه تمثيل وتصوير للمعاني السامية بالأشياء المحسوسة فقال: (هذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوره السامع كأنما ينظر إليه بعينه، فيحكم اعتقاده والتيقن به).
هذه هداية الله سبحانه وتعالى، لَا يكره أحد عليها، ولكن يدعى الناس إليها بالبينات الواضحة التي يتميز بها الخير من الشر، والحق من الباطل، والنور من
947
الظلام، وبعد ذلك " يكون الأمر لله تعالي، ولقد ذيل سبحانه الآية بقوله تعالي (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وفي هذا إشارة إلى أمرين جليلين:
أولهما: رقابة الله سبحانه وتعالى في الدنيا رقابة العليم الخبير، فهو يعلم علم من يسمع همسات القلوب، وخلجات الأنفس، وهو وحده المتصف بالعلم المطلق الذي لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا في الأنفس؛ وإذا كان المؤمن يحس برقابة الله تعالى المطلقة فإنه يتجافى عن المعاصي، ويبتعد عنها استحياء من الله، فقوة الإحساس بعلم الله ترهف وجدان المؤمن وهذا مقام الإحسان كما في الحديث الشريف " اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (١).
الأمر الثاني: التنبيه إلى ما يترتب على العلم من الرضوان والثواب المقيم الدائم لمن أطاع الله وطلب رضاه، والعذاب الأليم وغضب الله لمن عصاه سبحانه.
هذه الآية الكريمة واضحة كما قررنا في حقيقتين ثابتتين:
إحداهما: أن التدين لَا يكون مع الإكراه، لأن الإكراه ينافي الاختيار الحر، والتدين طلب الحق والأخذ به في حرية واختيار لَا تشوبهما شائبة.
الحقيقة الثانية: أن الله سبحانه وتعالى ينهى عن الإكراه في الدين، وحمل الناس عليه بقوة السيف حتى لَا يكثر النفاق والمنافقون. وكثرة المنافقين، وإن كثر عدد المسلمين في الظاهر، تفسد جماعتهم في الحقيقة والواقع.
ولكن مع هذا الحق السائغ، والنور المبين، وجدنا الكثيرين يدَّعون أن هذه الآية منسوخة، وادعوا أن الذي نسخها قوله تعالى في آيات كثيرة من آيات الجهاد ما يدل على القتال، حتى يكون الإسلام مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ
________
(١) جزء من حديث جبريل الشهير، متفق عليه؛ من رواية البخاري (٤٨)، ومسلم (١٠): كتاب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه.
أولهما: رقابة الله سبحانه وتعالى في الدنيا رقابة العليم الخبير، فهو يعلم علم من يسمع همسات القلوب، وخلجات الأنفس، وهو وحده المتصف بالعلم المطلق الذي لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا في الأنفس؛ وإذا كان المؤمن يحس برقابة الله تعالى المطلقة فإنه يتجافى عن المعاصي، ويبتعد عنها استحياء من الله، فقوة الإحساس بعلم الله ترهف وجدان المؤمن وهذا مقام الإحسان كما في الحديث الشريف " اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (١).
الأمر الثاني: التنبيه إلى ما يترتب على العلم من الرضوان والثواب المقيم الدائم لمن أطاع الله وطلب رضاه، والعذاب الأليم وغضب الله لمن عصاه سبحانه.
هذه الآية الكريمة واضحة كما قررنا في حقيقتين ثابتتين:
إحداهما: أن التدين لَا يكون مع الإكراه، لأن الإكراه ينافي الاختيار الحر، والتدين طلب الحق والأخذ به في حرية واختيار لَا تشوبهما شائبة.
الحقيقة الثانية: أن الله سبحانه وتعالى ينهى عن الإكراه في الدين، وحمل الناس عليه بقوة السيف حتى لَا يكثر النفاق والمنافقون. وكثرة المنافقين، وإن كثر عدد المسلمين في الظاهر، تفسد جماعتهم في الحقيقة والواقع.
ولكن مع هذا الحق السائغ، والنور المبين، وجدنا الكثيرين يدَّعون أن هذه الآية منسوخة، وادعوا أن الذي نسخها قوله تعالى في آيات كثيرة من آيات الجهاد ما يدل على القتال، حتى يكون الإسلام مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ
________
(١) جزء من حديث جبريل الشهير، متفق عليه؛ من رواية البخاري (٤٨)، ومسلم (١٠): كتاب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه.
948
وَالْمُنَافقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ...)، ومثل قوله تعالى: (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بًأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ... )، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣).
ففي هذه الآية تصريح بالقتال والغلظة مع الكفار، وفي بعضها جعلت غاية القتال أن يسلموا، ولقد ورد أن النبي - ﷺ - قال لرجل: " أسلم " قال إني أجدني كارهًا، فقال - ﷺ -: " وإن كنت كارها " (١).
والحق أن حكم هذه الآية (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ماض إلى يوم القيامة؛ لأنها تؤيد حقيقة ثابتة، وتزكيها آيات أخرى، وأحاديث للنبي - ﷺ -، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِينَ).
وإن الباعث على القتال كما تصرح آيات القتال هو دفع الاعتداء، فقد قال تعالى: (أُذنَ للَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)، وقال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ولا تَعْتَدُوا...)، وجعل سبحانه وتعالى نهاية القتال أن تنتهي الفتنة في الدين، والإكراه عليه، فقد قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)، وهكذا فليس القتال في الإسلام للإكراه على الدين لأن الدين اختيار ورضا، ولا اختيار أو رضا مع الإكراه، والآيات الواردة بالأمر بالجهاد كلها محمولة على حال الاعتداء، أو التحفز للاعتداء، فلا يسوغ لمؤمن أن ينتظر حتى يغزى؛ فإنه ما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا.
وحياة النبي - ﷺ - في مكة والمدينة تنبئ عن منع الإكراه في الدين، فقد كان - ﷺ - في مكة هو ومن معه من المؤمنين في اضطهاد ومحاولة لفتن الضعفاء منهم عن دينهم، وحملهم على تغيير اعتقادهم وأنزلوا بهم من الأذى والعذاب ما لَا تحتمله النفس البشرية حتى اضطر بعضهم إلى النطق بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان؛
________
(١) رواه أحمد في مسنده (١١٦١٨).
ففي هذه الآية تصريح بالقتال والغلظة مع الكفار، وفي بعضها جعلت غاية القتال أن يسلموا، ولقد ورد أن النبي - ﷺ - قال لرجل: " أسلم " قال إني أجدني كارهًا، فقال - ﷺ -: " وإن كنت كارها " (١).
والحق أن حكم هذه الآية (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ماض إلى يوم القيامة؛ لأنها تؤيد حقيقة ثابتة، وتزكيها آيات أخرى، وأحاديث للنبي - ﷺ -، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِينَ).
وإن الباعث على القتال كما تصرح آيات القتال هو دفع الاعتداء، فقد قال تعالى: (أُذنَ للَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)، وقال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ولا تَعْتَدُوا...)، وجعل سبحانه وتعالى نهاية القتال أن تنتهي الفتنة في الدين، والإكراه عليه، فقد قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)، وهكذا فليس القتال في الإسلام للإكراه على الدين لأن الدين اختيار ورضا، ولا اختيار أو رضا مع الإكراه، والآيات الواردة بالأمر بالجهاد كلها محمولة على حال الاعتداء، أو التحفز للاعتداء، فلا يسوغ لمؤمن أن ينتظر حتى يغزى؛ فإنه ما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا.
وحياة النبي - ﷺ - في مكة والمدينة تنبئ عن منع الإكراه في الدين، فقد كان - ﷺ - في مكة هو ومن معه من المؤمنين في اضطهاد ومحاولة لفتن الضعفاء منهم عن دينهم، وحملهم على تغيير اعتقادهم وأنزلوا بهم من الأذى والعذاب ما لَا تحتمله النفس البشرية حتى اضطر بعضهم إلى النطق بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان؛
________
(١) رواه أحمد في مسنده (١١٦١٨).
949
ولما انتقل إلى المدينة لم يحارب أحدًا إلا بعد أن شنوا عليه الغارة، أو استعدوا لها، وألبوا عليه، وكان على ذلك إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى.
وإن حديث النبي - ﷺ - الذي قال فيه لرجل: " أسلم وإن كنت كارها " لَا يدل على جواز الإكراه في الدين؛ لأن النبي - ﷺ - ما أكرهه بالسيف أو بالأذى على أن يسلم، بل إن الرجل بدت له البينات الواضحات، والحجج النيرات، ومع ذلك كان مأخوذًا بما ألف، كارهًا بعاطفته لأن يغير ما كان عليه آباؤه؛ فالنبي - ﷺ - يوصيه بأن يتغلب على إحساسه ويتبع البرهان والدليل؛ وكثير من الناس يبدو له وجه الحق واضحًا، وتلوح له بيناته باهرة، ومع ذلك يكره السير في هذا النور، اتباعًا لما كان معروفًا، وسيرًا وراء ما كان مألوفًا؛ فمثل هذا عليه أن يتبع الحق ولو كان كارهًا، وأن يستولي على نفسه فيحملها على اتباع الحق ولو كرهته؛ والطاعات قد تثقل على النفوس، ولكن يجب اتباعها؛ ولذا قال - ﷺ - " حفت الجنة بالمكاره " (١) فحديث النبي - ﷺ - لهذا الرجل من هذا الباب.
بعد هذا البيان نكرر ما قررنا وهو أن هذه الآية محكمة غير منسوخة، وخصوصًا أن ادعاء النسخ لَا دليل عليه، وإن النسخ لَا يصار إليه إلا إذا لم يمكن التوفيق بين الآيتين، فلو أمكن التوفيق ولو بتخصيص إحدى الآيتين لوجب السير إلى التخصيص دون النسخ؛ وإن التوفيق هنا ممكن بين آيات القتال وهذه الآية، بل إن شئت الحق فقل إنه لَا تعارض حتى تكون محاولة التوفيق، فما كان القتال لحمل الناس على الإسلام، بل كان القتال لدفع الاعتداء أولاً، ولكي يخلو الوجه للدعوة الإسلامية ثانيًا، ولتكون كلمة الحق هي العليا ثالثًا، والناس في كل الأحوال أحرار فيما يعتقدون وما يؤمنون به (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ...).
ولقد روي في سبب نزول هذه الآية: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) أن رجلا من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: الرقاق (٦٠٠٦)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها (٥٠٤٩).
وإن حديث النبي - ﷺ - الذي قال فيه لرجل: " أسلم وإن كنت كارها " لَا يدل على جواز الإكراه في الدين؛ لأن النبي - ﷺ - ما أكرهه بالسيف أو بالأذى على أن يسلم، بل إن الرجل بدت له البينات الواضحات، والحجج النيرات، ومع ذلك كان مأخوذًا بما ألف، كارهًا بعاطفته لأن يغير ما كان عليه آباؤه؛ فالنبي - ﷺ - يوصيه بأن يتغلب على إحساسه ويتبع البرهان والدليل؛ وكثير من الناس يبدو له وجه الحق واضحًا، وتلوح له بيناته باهرة، ومع ذلك يكره السير في هذا النور، اتباعًا لما كان معروفًا، وسيرًا وراء ما كان مألوفًا؛ فمثل هذا عليه أن يتبع الحق ولو كان كارهًا، وأن يستولي على نفسه فيحملها على اتباع الحق ولو كرهته؛ والطاعات قد تثقل على النفوس، ولكن يجب اتباعها؛ ولذا قال - ﷺ - " حفت الجنة بالمكاره " (١) فحديث النبي - ﷺ - لهذا الرجل من هذا الباب.
بعد هذا البيان نكرر ما قررنا وهو أن هذه الآية محكمة غير منسوخة، وخصوصًا أن ادعاء النسخ لَا دليل عليه، وإن النسخ لَا يصار إليه إلا إذا لم يمكن التوفيق بين الآيتين، فلو أمكن التوفيق ولو بتخصيص إحدى الآيتين لوجب السير إلى التخصيص دون النسخ؛ وإن التوفيق هنا ممكن بين آيات القتال وهذه الآية، بل إن شئت الحق فقل إنه لَا تعارض حتى تكون محاولة التوفيق، فما كان القتال لحمل الناس على الإسلام، بل كان القتال لدفع الاعتداء أولاً، ولكي يخلو الوجه للدعوة الإسلامية ثانيًا، ولتكون كلمة الحق هي العليا ثالثًا، والناس في كل الأحوال أحرار فيما يعتقدون وما يؤمنون به (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ...).
ولقد روي في سبب نزول هذه الآية: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) أن رجلا من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: الرقاق (٦٠٠٦)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها (٥٠٤٩).
950
مسلما، فقال للنبي - ﷺ -: ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فنزلت هذه الآية. وفي رواية أخرى أنه حاول إكراههما فاختصموا إلى النبي - ﷺ -، فقال الأنصاري: يا رسول الله يدخل بعضي النار وأنا أنظر إليه! فنزل قوله تعالى: (لا إِكرَاهَ فِي الدِّينِ) (١).
وقد كان المسلمون يسيرون على هذا المبدأ وهو (لا إِكرَاهَ فِي الدِّينِ) ويروى في ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لعجوز نصرانية: أسلمي تسلمي، إن الله بعث محمدًا بالحق، فقالت: أنا عجوز كبيرة والموت إليَّ قريب. فقال عمر رضي الله عنه: اللهم اشهد، وتلا (لا إِكرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَي).
* * *
________
(١) رواه ابن جرير الطبري (٤٥٣٩) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروى أبو داود: الجهاد - الأسير يكره على الإسلام (٢٣٠٧).
وقد كان المسلمون يسيرون على هذا المبدأ وهو (لا إِكرَاهَ فِي الدِّينِ) ويروى في ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لعجوز نصرانية: أسلمي تسلمي، إن الله بعث محمدًا بالحق، فقالت: أنا عجوز كبيرة والموت إليَّ قريب. فقال عمر رضي الله عنه: اللهم اشهد، وتلا (لا إِكرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَي).
* * *
________
(١) رواه ابن جرير الطبري (٤٥٣٩) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروى أبو داود: الجهاد - الأسير يكره على الإسلام (٢٣٠٧).
951
(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ... (٢٥٧)
لقد ذكرنا في الآية السابقة أن الطريق للإيمان هو الكفر بالطغيان، بالامتناع عن إجابة كل دعاة الشر من كبراء متجبرين، وحكام مسيطرين بأوهام باطلة، وهكذا، وأن من كفر بالطاغوت فقد آوى إلى ركن شديد، إذ لجأ إلى الله العلي القدير، ومن بقي تحت سلطان الطاغوت من ملوك عاتين، ورؤساء ضالين، فقد آوى إلى ما لَا يعتمد عليه؛ لأنه ركن هاو يهوي بصاحبه في نار جهنم.
والولي فعيل بمعنى فاعل من الولاية. ولقد قال الراغب الأصفهاني: الولاية بالكسر النصرة، والولاية بالفتح تولي الأمر. وقيل الوِلاية والوَلاية واحدة، نحو الدِّلالة والدَّلالة؛ والولي والمولى يستعملان في ذلك، كل واحد منهما في معنى الفاعل " والولاية كما تطلق بمعنى السلطان تطلق بمعنى المحبة والولاء، كما في قوله تعالى: (هُنَالِكَ الْوَلايَة لِلَّهِ الْحَقِّ...).
والولي في الآية الكريمة: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) يكون بمعنى ناصرهم؛ وقد ذكرنا أن الولاية تكون بمعنى النصرة، وبمعنى المسيطر على نفوسهم وحده الموجه الهادي، إذ قد سلمت نفوس المؤمنين من نزغات الشيطان.
لقد ذكرنا في الآية السابقة أن الطريق للإيمان هو الكفر بالطغيان، بالامتناع عن إجابة كل دعاة الشر من كبراء متجبرين، وحكام مسيطرين بأوهام باطلة، وهكذا، وأن من كفر بالطاغوت فقد آوى إلى ركن شديد، إذ لجأ إلى الله العلي القدير، ومن بقي تحت سلطان الطاغوت من ملوك عاتين، ورؤساء ضالين، فقد آوى إلى ما لَا يعتمد عليه؛ لأنه ركن هاو يهوي بصاحبه في نار جهنم.
والولي فعيل بمعنى فاعل من الولاية. ولقد قال الراغب الأصفهاني: الولاية بالكسر النصرة، والولاية بالفتح تولي الأمر. وقيل الوِلاية والوَلاية واحدة، نحو الدِّلالة والدَّلالة؛ والولي والمولى يستعملان في ذلك، كل واحد منهما في معنى الفاعل " والولاية كما تطلق بمعنى السلطان تطلق بمعنى المحبة والولاء، كما في قوله تعالى: (هُنَالِكَ الْوَلايَة لِلَّهِ الْحَقِّ...).
والولي في الآية الكريمة: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) يكون بمعنى ناصرهم؛ وقد ذكرنا أن الولاية تكون بمعنى النصرة، وبمعنى المسيطر على نفوسهم وحده الموجه الهادي، إذ قد سلمت نفوس المؤمنين من نزغات الشيطان.
951
والظلمات جمع ظلمة، والمراد بها هنا الضلالة؛ ففي الكلام مجاز؛ لأن المفاسد التي ينشرها الطغيان تظلم بها النفس وتكون في حيرة، وتنقطع عن سبيل الهداية؛ والنور هو الهدى؛ لأن الهدى يكشف عن ينابيع الحق والخير في النفس، وهو سلوك الطريق الموصل إلى ما يسعد الإنسان في الفانية والباقية فهو كالمصباح للمؤمن به يهتدي، وبه يصل إلى الغاية. والمعنى للجملة السامية: الله سبحانه جل جلاله الذي ليس فوقه شيء وهو القاهر فوق كل شيء هو ولي الذين آمنوا أي ناصرهم يأخذ بأيديهم من ضلالات الشرك والأوهام والشهوات، والذلة والاستعباد، إلى نور الحق والهداية والتحرر من الأوهام ومن الذلة، والاستقامة نحو العزة. فهذه الجملة تتضمن ثلاثة أمور:
أولها: نصرة الله القوي القادر، فلا يصح لمؤمن أن يضعف أمام جبروت الملوك الطغاة أو الجبابرة العتاة، أو الكبراء المضلين.
وثانيها: أن الله سبحانه وتعالى هو المسيطر على النفوس يوجه القلوب المؤمنة إلى الحق فيلوح لها نوره، وتشرق فيها حججه.
وثالثها: أن الذين يفيض الله عليهم بهذا النور ويؤيدهم بنصره هم الذين ارتضوا الحق بإرادتهم المختارة، ورفضوا طغيان الكبراء والجبابرة، وقاوموا نزغات الشيطان؛ فإن هؤلاء هم الذين ينصرهم رب العالمين، ويهديهم بنوره.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) المؤمنون يوجه قلوبهم رب العالمين، وينصرهم بقدرته، ويعتزون بعزته، وهو رب العزة، له الكبرياء في السماوات وفي الأرض، وهو العلي العظيم؛ أما الذين كفروا فالطاغوت أي الطغيان بكل أنواعه من جبابرة متحكمين، وكبراء مضلين، وأوهام مستحكمة، وضلالات مسيطرة، هو الذي ينصرهم ويسيطر على قلوبهم؛ والسبب في ذلك أنهم جعلوا الكفر وستر الفطرة هو الذي يتحكم في قلوبهم، فهم اختاروا تلك الأوهام المضلة، وولاية الجبابرة المذلة، واتباع الكبراء المردي، ففتحوا بسبب ذلك قلوبهم للضلالة تدخل فيها جزءًا جزءًا حتى أظلمت وبعدت عن نور الفطرة، وغلقت عليها
أولها: نصرة الله القوي القادر، فلا يصح لمؤمن أن يضعف أمام جبروت الملوك الطغاة أو الجبابرة العتاة، أو الكبراء المضلين.
وثانيها: أن الله سبحانه وتعالى هو المسيطر على النفوس يوجه القلوب المؤمنة إلى الحق فيلوح لها نوره، وتشرق فيها حججه.
وثالثها: أن الذين يفيض الله عليهم بهذا النور ويؤيدهم بنصره هم الذين ارتضوا الحق بإرادتهم المختارة، ورفضوا طغيان الكبراء والجبابرة، وقاوموا نزغات الشيطان؛ فإن هؤلاء هم الذين ينصرهم رب العالمين، ويهديهم بنوره.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) المؤمنون يوجه قلوبهم رب العالمين، وينصرهم بقدرته، ويعتزون بعزته، وهو رب العزة، له الكبرياء في السماوات وفي الأرض، وهو العلي العظيم؛ أما الذين كفروا فالطاغوت أي الطغيان بكل أنواعه من جبابرة متحكمين، وكبراء مضلين، وأوهام مستحكمة، وضلالات مسيطرة، هو الذي ينصرهم ويسيطر على قلوبهم؛ والسبب في ذلك أنهم جعلوا الكفر وستر الفطرة هو الذي يتحكم في قلوبهم، فهم اختاروا تلك الأوهام المضلة، وولاية الجبابرة المذلة، واتباع الكبراء المردي، ففتحوا بسبب ذلك قلوبهم للضلالة تدخل فيها جزءًا جزءًا حتى أظلمت وبعدت عن نور الفطرة، وغلقت عليها
952
أبواب الحق، فلا يدخلها إلا ضلال، وكأن للقلب بابين: بابًا للنور، وبابًا للضلال؛ فإن أركست النفس في الشهوات، فإن باب الضلالة يتسع ويضيق باب الحق حتى يغلق فلا يدخل النور إليها.
وفى الجملة الكريمة السامية إشارات بيانية يجب التنبيه إليها:
أولها: أن الله سبحانه وتعالى قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) ففي التعبير بالذين كفروا إشارة بيانية إلى أنهم هم الذين ارتضوا أن يجعلوا الطغيان متحكمًا في قلوبهم، إذ كفرهم واستيلاء الشهوات على نفوسهم هو الذي سهل استمراء ولاية الطاغوت عليهم، وتحكمه فيهم، وسيطرته على نفوسهم، وحيث كانت الشهوات مستحكمة فللأوهام سلطان، وللجبابرة سلطان، وللكبراء المضلين مكان.
والثانية: أنه أفرد الطاغوت، وجمع الأولياء، ففي ذلك إشارة بيانية إلى أن الطاغوت مهما تتعدد ضروبه، وأشكاله ومظاهر سلطانه، فهو نوع واحد، أساسه أن يتحكم الوهم والهوى والذل والضعف في النفس ولكن مع ذلك يتعدد سلطانه، فهو مرة يظهر في مظهر ذي سلطان متجبر تخضع الرقاب لطغيانه لتحكم الذلة أو الشهوة الردية في نفوس الذين يتحكم فيهم، ومرة يظهر سلطان الطاغوت في دعوة إلى الباطل زخرفها تمويه داعية مضل، وأحيانا تكون في أوهام مسيطرة على الجماعة تجعلها تعبد حجرًا أصم لَا يسمع ولا يبصر، وعلى ذلك يكون الطاغوت واحدًا؛ لأنه ضلال كيفما كان، ولكن لتعدد مظاهر سلطانه تعددت ولاياته وكلها لَا قوة لها أمام قوة الله سبحانه وتعالى علوًا كبيرًا.
والثالثة من الإشارات البيانية: ما تضمنه قوله تعالى: (يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) أي الضلالات الردية المختلفة الأنواع، فإن في ذلك إشارة إلى أن الفطرة في أصلها نور، ففي الفطرة الإنسانية نور الحق ووجدان الهداية، والإيمان الفطري، حتى يكون الضلال إذ تتحكم الاهواء والأوهام وتستخذي النفوس، فكل
وفى الجملة الكريمة السامية إشارات بيانية يجب التنبيه إليها:
أولها: أن الله سبحانه وتعالى قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) ففي التعبير بالذين كفروا إشارة بيانية إلى أنهم هم الذين ارتضوا أن يجعلوا الطغيان متحكمًا في قلوبهم، إذ كفرهم واستيلاء الشهوات على نفوسهم هو الذي سهل استمراء ولاية الطاغوت عليهم، وتحكمه فيهم، وسيطرته على نفوسهم، وحيث كانت الشهوات مستحكمة فللأوهام سلطان، وللجبابرة سلطان، وللكبراء المضلين مكان.
والثانية: أنه أفرد الطاغوت، وجمع الأولياء، ففي ذلك إشارة بيانية إلى أن الطاغوت مهما تتعدد ضروبه، وأشكاله ومظاهر سلطانه، فهو نوع واحد، أساسه أن يتحكم الوهم والهوى والذل والضعف في النفس ولكن مع ذلك يتعدد سلطانه، فهو مرة يظهر في مظهر ذي سلطان متجبر تخضع الرقاب لطغيانه لتحكم الذلة أو الشهوة الردية في نفوس الذين يتحكم فيهم، ومرة يظهر سلطان الطاغوت في دعوة إلى الباطل زخرفها تمويه داعية مضل، وأحيانا تكون في أوهام مسيطرة على الجماعة تجعلها تعبد حجرًا أصم لَا يسمع ولا يبصر، وعلى ذلك يكون الطاغوت واحدًا؛ لأنه ضلال كيفما كان، ولكن لتعدد مظاهر سلطانه تعددت ولاياته وكلها لَا قوة لها أمام قوة الله سبحانه وتعالى علوًا كبيرًا.
والثالثة من الإشارات البيانية: ما تضمنه قوله تعالى: (يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) أي الضلالات الردية المختلفة الأنواع، فإن في ذلك إشارة إلى أن الفطرة في أصلها نور، ففي الفطرة الإنسانية نور الحق ووجدان الهداية، والإيمان الفطري، حتى يكون الضلال إذ تتحكم الاهواء والأوهام وتستخذي النفوس، فكل
953
مولود يولد على الفطرة (١)، وهي نور، حتى يكون الضلال بما في النفس من استعداد له مع وجود ذلك النور.
(أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الإشارة إلى الذين كفروا، وفي هذه الإشارة بيان إلى أن أحوالهم التي عرفوا بها من كفرهم، ورضاهم بالطغيان حاكمًا عليهم متحكمًا فيهم مسيطرًا على قلوبهم، هي السبب في ذلك الحكم الخالد عليهم، وهو أنهم أصحاب النار.
وفى التعبير بأصحاب النار إشارة إلى ملازمتهم لها، وبقائهم فيها، واختصاصها بهم؛ لأن أصحاب جمع صاحب، والصاحب هو الرفيق الملازم الذي اختصصت بصحبته، فهذا التعبير أفاد ملازمتهم للنار واختصاص النار بهم.
وفى قوله تعالى: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) تأكيد لبقائهم فيها واختصاصها بهم دون غيرها؛ ذلك لأن التعبير بالجملة الاسمية فيه تأكيد، وتكرار المسند إليه بذكر كلمة " هم "، فيه فضل تأكيد، وتقديم الجار والمجرور وهو " فيها " دليل على اختصاصها بخلودهم فيها فلا منفذ لهم في غيرها؛ لأنهم سدوا على أنفسهم باب النور في الدنيا، فسدت عليهم أبواب الرحمة في الدنيا والآخرة.
* * *
________
(١) عن أبَي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: " مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ "، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [الروم: ٣٠]، [رواه البخاري (١٢٧١): الجنائز، ومسلم (٤٨٠٣): القدر].
(أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الإشارة إلى الذين كفروا، وفي هذه الإشارة بيان إلى أن أحوالهم التي عرفوا بها من كفرهم، ورضاهم بالطغيان حاكمًا عليهم متحكمًا فيهم مسيطرًا على قلوبهم، هي السبب في ذلك الحكم الخالد عليهم، وهو أنهم أصحاب النار.
وفى التعبير بأصحاب النار إشارة إلى ملازمتهم لها، وبقائهم فيها، واختصاصها بهم؛ لأن أصحاب جمع صاحب، والصاحب هو الرفيق الملازم الذي اختصصت بصحبته، فهذا التعبير أفاد ملازمتهم للنار واختصاص النار بهم.
وفى قوله تعالى: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) تأكيد لبقائهم فيها واختصاصها بهم دون غيرها؛ ذلك لأن التعبير بالجملة الاسمية فيه تأكيد، وتكرار المسند إليه بذكر كلمة " هم "، فيه فضل تأكيد، وتقديم الجار والمجرور وهو " فيها " دليل على اختصاصها بخلودهم فيها فلا منفذ لهم في غيرها؛ لأنهم سدوا على أنفسهم باب النور في الدنيا، فسدت عليهم أبواب الرحمة في الدنيا والآخرة.
* * *
________
(١) عن أبَي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: " مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ "، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [الروم: ٣٠]، [رواه البخاري (١٢٧١): الجنائز، ومسلم (٤٨٠٣): القدر].
954
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)
* * *
* * *
955
بعد أن بين سبحانه تحكم الطغيان في نفوس الكافرين ذكر سبحانه وتعالى لونًا من ألوان الطغيان أو أظهر ألوانه فقال:
956
(أَلَمْ تَرَ) وفي هذا تصوير لملك من الملوك يدفعه اغتراره بملكه إلى أن ينكر رب العالمين ويسأل إبراهيم عنه، وتصوير لطاغية من طغاة الدنيا يدفعه طغيان الغرور على نفسه ثم طغيانه على شعبه إلى أن يدعي الربوبية.
فلننظر إلى تلك الحاجة: ينبهنا الله سبحانه وتعالى إلى تلك الحال الشاذة فيقول سبحانه: (أَلَمْ تَرَ) وقد بينا ما في هذا التركيب من أسرار بلاغية عند تفسير قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ... )، وخلاصة المعنى: لقد عرفت هذه القصة بالخبر القرآني اليقيني معرفة واضحة جلية بينة كأنها في تعينها ووضوحها المعرفة بطريق الرؤية البصرية والنظر، وهذا على أن رأى بمعنى أبصر. وإن كانت رأى بمعنى علم فالمعنى: تأمل وانظر بعين بصيرتك وادرس حال تلك النفس الطاغية التي تحمل الناس على الظلمات بطغيانها وإذا تأملتها علمت أيها المكلف أو أيها القارئ للقرآن إلى أي مدى يصل الطغيان من الظلمات والضلالات.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ) حاجه: أي بادله المحجة وفي تسمية كلامه حجة إنما هو من قبيل المماثلة اللفظية أو هو حجة في نظره السقيم الذي أفسد تفكيره وأضله فقد توهم وتخيل ثم ظن فضلَّ عن معرفة نفسه وعن معرفة الحق ووقع في أمور لَا يقبلها أي عقل سليم.
وما السبب في كل ذلك الضلال؛ هو شيء واحد هو أن الله سبحانه وتعالى أعطاه الملك؛ ولذلك قال تعالى: (أَنْ آتَاهُ اللَّهَ الْمُلْكَ) أي أن سبب تلك المحاجة التي تدل على مقدار ضلاله وطغيانه هو أن الله سبحانه وتعالى آتاه أي أعطاه الملك والسلطان الدنيوي وهو زائل فقوله: (أَنْ آتَاهُ اللَّهَ الْمُلْكَ) مجرور بحرف جر محذوف هو الباء أو اللام، أي أن الذي بعثه على ذلك الإسراف في القول الوقوع في هذا الضلال هو نعمة الملك التي أنعم الله بها عليه فجعلته مسرفًا في الضلال ذلك الإسراف المردي.
فلننظر إلى تلك الحاجة: ينبهنا الله سبحانه وتعالى إلى تلك الحال الشاذة فيقول سبحانه: (أَلَمْ تَرَ) وقد بينا ما في هذا التركيب من أسرار بلاغية عند تفسير قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ... )، وخلاصة المعنى: لقد عرفت هذه القصة بالخبر القرآني اليقيني معرفة واضحة جلية بينة كأنها في تعينها ووضوحها المعرفة بطريق الرؤية البصرية والنظر، وهذا على أن رأى بمعنى أبصر. وإن كانت رأى بمعنى علم فالمعنى: تأمل وانظر بعين بصيرتك وادرس حال تلك النفس الطاغية التي تحمل الناس على الظلمات بطغيانها وإذا تأملتها علمت أيها المكلف أو أيها القارئ للقرآن إلى أي مدى يصل الطغيان من الظلمات والضلالات.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ) حاجه: أي بادله المحجة وفي تسمية كلامه حجة إنما هو من قبيل المماثلة اللفظية أو هو حجة في نظره السقيم الذي أفسد تفكيره وأضله فقد توهم وتخيل ثم ظن فضلَّ عن معرفة نفسه وعن معرفة الحق ووقع في أمور لَا يقبلها أي عقل سليم.
وما السبب في كل ذلك الضلال؛ هو شيء واحد هو أن الله سبحانه وتعالى أعطاه الملك؛ ولذلك قال تعالى: (أَنْ آتَاهُ اللَّهَ الْمُلْكَ) أي أن سبب تلك المحاجة التي تدل على مقدار ضلاله وطغيانه هو أن الله سبحانه وتعالى آتاه أي أعطاه الملك والسلطان الدنيوي وهو زائل فقوله: (أَنْ آتَاهُ اللَّهَ الْمُلْكَ) مجرور بحرف جر محذوف هو الباء أو اللام، أي أن الذي بعثه على ذلك الإسراف في القول الوقوع في هذا الضلال هو نعمة الملك التي أنعم الله بها عليه فجعلته مسرفًا في الضلال ذلك الإسراف المردي.
956
وفى الكلام إشارة إلى أن هذا ما كان يسوغ له أن ينكر وأن يحاج في إنكاره، لأنه يحاج في موضوع لَا يقبل الجدل والمناقشة، لأنه يناقش في ربه خالقه وخالق كل شيء، فالضمير في " ربه " يعود إلى ذلك الملك الطاغي المتجبر، ويصح أن يعود الضمير إلى إبراهيم وإني اختار الأول، لأن الطاغية هو المتحدث عنه فالضمير يعود إليه.
(إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) هذا كلام نبي الله إبراهيم وخليله، كلام معترف بالربوبية عرف ربه بأوضح ما يعرف به وبأروع آثار قدرته في هذا الوجود وبأبعدها أثرًا في نفس العاقل المتفكر المتدبر وهو الحياة والموت لأنهما أشد الأمور أثرًا في نفس كل إنسان ذي حس وشعور وعقل وأفاد القول صيغة الحصر إذ قال سبحانه: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) وفي ذلك تعريف المبتدأ والخبر وتعريفهما يفيد القصر، فالمعنى أنه وحده سبحانه هو الذي يحيي ويميت ولا أحد سواه يفعل ذلك. ومعنى يحيي ينشئ الحياة ويوجدها، ومعنى يميت يوجد تلك الحقيقة التي تفقد الجسم معنى الحياة. والتعبير بالمضارع يفيد معنى الاستمرار الذي يرى ويحس كل يوم، فالمعنى أن ربي وخالقي هو الذي يحيي الناس كل يوم كما ترى ويميت منهم كل يوم من ترى.
هذا كلام إبراهيم وهو يحوي حجة قوية واضحة من شأنها أن تثير في النفس نزوع الاتجاه إلى الحق، لأنها تشير مع ذلك إلى حقيقة الحياة وهي أنها إلى فناء، فلا يصح أن يغر الشخص بها الغرور ولا يذهب به الطغيان إلى إنكار ربوبية الخالق.
(قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) هذا جواب الملك الذي سيطر الهوى عليه فأضله وسيطر الطاغوت على نفسه فحمل شعبه على الإذعان لطغيانه وضلاله، ومنعهم من أن يصل النور إلى قلوبهم وحاجز بينهم وبين كل دعوة إلى الحق والنور، وبذلك كان ممن يدعون إلى الظلمات كما ذكر في الآية السابقة (وَالَّذينَ كَفَرُوا أَوْليَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَات).
(إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) هذا كلام نبي الله إبراهيم وخليله، كلام معترف بالربوبية عرف ربه بأوضح ما يعرف به وبأروع آثار قدرته في هذا الوجود وبأبعدها أثرًا في نفس العاقل المتفكر المتدبر وهو الحياة والموت لأنهما أشد الأمور أثرًا في نفس كل إنسان ذي حس وشعور وعقل وأفاد القول صيغة الحصر إذ قال سبحانه: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) وفي ذلك تعريف المبتدأ والخبر وتعريفهما يفيد القصر، فالمعنى أنه وحده سبحانه هو الذي يحيي ويميت ولا أحد سواه يفعل ذلك. ومعنى يحيي ينشئ الحياة ويوجدها، ومعنى يميت يوجد تلك الحقيقة التي تفقد الجسم معنى الحياة. والتعبير بالمضارع يفيد معنى الاستمرار الذي يرى ويحس كل يوم، فالمعنى أن ربي وخالقي هو الذي يحيي الناس كل يوم كما ترى ويميت منهم كل يوم من ترى.
هذا كلام إبراهيم وهو يحوي حجة قوية واضحة من شأنها أن تثير في النفس نزوع الاتجاه إلى الحق، لأنها تشير مع ذلك إلى حقيقة الحياة وهي أنها إلى فناء، فلا يصح أن يغر الشخص بها الغرور ولا يذهب به الطغيان إلى إنكار ربوبية الخالق.
(قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) هذا جواب الملك الذي سيطر الهوى عليه فأضله وسيطر الطاغوت على نفسه فحمل شعبه على الإذعان لطغيانه وضلاله، ومنعهم من أن يصل النور إلى قلوبهم وحاجز بينهم وبين كل دعوة إلى الحق والنور، وبذلك كان ممن يدعون إلى الظلمات كما ذكر في الآية السابقة (وَالَّذينَ كَفَرُوا أَوْليَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَات).
957
أجاب ذلك الملك بنقض الاختصاص الذي ذكره خليل الله لرب العالمين، وهو أنه وحده الذي يحيي ويميت، فقال ذلك الضال: أنا أحيي وأميت أيضا، ومرمى قوله أنه إذا كان ربك يا إبراهيم يحيي ويميت واستحق الربوبية لذلك، فأنا أيضا أحيي وأميت فاستحق هذه الربوبية، ويقصد بالإحياء كما يقول العلماء العفو عمن حكم عليه بالإعدام وبالإماتة وقتل من شاء قتله هذا ما قاله العلماء. ولو أن لي أن أقول كلامًا آخر لقلت إن ذلك الطاغوت يقصد بالإحياء الاستيلاد والاستنبات ونحو ذلك مما يفعله الإنسان ويتخذه سببا عاديا من أسباب ظهور الحي بحياته، وبالإماته القضاء على الحي بالقتل أو القطع أو الاستئصال ونحو ذلك مما يجوز أن تسند فيه أسباب الحياة إلى الإنسان وأسباب الإماتة إليه، وهذا بلا شك غير ما قصده الخليل عليه السلام، لأن ما قصده هو خلق الحياة وخلق الموت، وذلك ما لا يستطيعه إلا رب العالمين تعالى الله علوا كبيرا. وكان الخليل يستطيع أن يبين له تلك الحقيقة ويحرر موضع القول ولكن ذلك قد يجر إلى مراء فاختار طريقًا آخر أجدى
وأردع وأقوى وأشد إفحامًا، قال له ما حكاه رب العالمين في قوله:
(قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) لقد ادعى الطاغية أنه شريك الله سبحانه وتعالى، والشركة تقتضي المساواة في القدرة والسلطان والخلق والتكوين ولا تبدو تلك المساواة إلا إذا كان أحد المتساويين عنده قدرة على مقاومة إرادة الآخر وبسط سلطانه حيث بسط هو سلطانه، والله سبحانه ْيأتي بالشمس من المشرق، أي الجهة التي تشرق منها فعلى المدعي أن يعاند هذا النظام المسيطر الذي يدعي ربوبيته عليه، بأن يأتي بالشمس من جهة الغروب، ويعكس الفلك الدوار.
والفاء في قوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأتِي) هي فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر وتقدير القول: إذا كنت تدعي الألوهية أو الربوبية فأظهر أمارات قدرتك وسلطانك على الكون بأن تأتي بالشمس من جهة غروبها الآن بدل أن تخرج من جهة شروقها، والمعنى أن ذلك الكون قد خلق على نظام محكم وأحكم تنسيقه بنظم
وأردع وأقوى وأشد إفحامًا، قال له ما حكاه رب العالمين في قوله:
(قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) لقد ادعى الطاغية أنه شريك الله سبحانه وتعالى، والشركة تقتضي المساواة في القدرة والسلطان والخلق والتكوين ولا تبدو تلك المساواة إلا إذا كان أحد المتساويين عنده قدرة على مقاومة إرادة الآخر وبسط سلطانه حيث بسط هو سلطانه، والله سبحانه ْيأتي بالشمس من المشرق، أي الجهة التي تشرق منها فعلى المدعي أن يعاند هذا النظام المسيطر الذي يدعي ربوبيته عليه، بأن يأتي بالشمس من جهة الغروب، ويعكس الفلك الدوار.
والفاء في قوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأتِي) هي فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر وتقدير القول: إذا كنت تدعي الألوهية أو الربوبية فأظهر أمارات قدرتك وسلطانك على الكون بأن تأتي بالشمس من جهة غروبها الآن بدل أن تخرج من جهة شروقها، والمعنى أن ذلك الكون قد خلق على نظام محكم وأحكم تنسيقه بنظم
958
قدرها منشئه وأمارة قدرتك أن تغير هذه النظم فافعل إن كنت قديرًا، فليست القدرة في أن تدعي إنشاء نظام وجد قبل أن توجد أنت وأشباهك من الطغاة، إنما القدرة تكون في تغييره فافعل هذا التغيير وما كان ذلك في قدرته لأنه ضال مضل؛ ولذا حكى الله سبحانه وتعالى حاله في قوله: (فَبُهِتَ الَّذِي كفَرَ) أي تحير واضطرب ولم يجد جوابًا ولم يستطع أن يتكلم قليلا أو كثيرا. وقد عبر عنه بقوله: (الَّذي كفَرَ) للإشارة إلى أن سبب الحيرة هو كفره، إذ لو كان طالب هداية لكانت الحجة القاطعة الملزمة هادية بدل أن تكون محيرة ولكنه صمم على الكفر وأصر عليه، فكانت نفسه حائرة بين حق ظهرت بيناته وباطل قد عض عليه بالنواجذ، وكذلك شأن كل من أضله الله على علم.
(وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ختم الله سبحانه وتعالى الآية بهذه الجملة السامية وهي تدل على ثلاثة أمور:
أولها: إن الذين يعاندون الحق ظالمون دائمًا: يظلمون أنفسهم لأنهم يسدون منافذ النور فلا يصل إلى قلوبهم، ويظلمون أقوامهم لأنهم يحملونهم على الضلال، ويظلمون الحق لأنهم يحاربونه.
ثانيها: إن ظلمهم يسبق كامل ضلالهم؛ ذلك لأن الشهوات تتحكم فيهم فتدفعهم إلى طلب ما ليس لهم ثم يستهويهم الشيطان بالطمع بعد المطمع، فيتجاوزون الحدود ويطغون ثم يكون الضلال الكامل الذي تطمس فيه البصيرة فتغلف القلوب عن الحق وتقسو فلا تلين.
ثالثها: إن الظلم إذا استحكم في النفس أصبحت كل البراهين لَا تجدي بل تزيده عنادًا وإصرارًا؛ ولذلك لم يكتب الله الهداية لمن استمرأ الظلم آحادا أو جماعات والله ولي المتقين.
ولقد كان احتجاج إبراهيم عليه السلام على الطاغية الذي يدعي الربوبية بأن الله هو الذي يحيي ويميت، فتجاهل الطاغية معنى الحياة والموت، وحرَّف الكلم عن مواضعه فلوى خليلُ الله عنقه حتى أراه عَجْزَه وقدرة الله على نحو ما ذكر سبحانه: (فَبُهِتَ الَّذِي كفَرَ).
(وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ختم الله سبحانه وتعالى الآية بهذه الجملة السامية وهي تدل على ثلاثة أمور:
أولها: إن الذين يعاندون الحق ظالمون دائمًا: يظلمون أنفسهم لأنهم يسدون منافذ النور فلا يصل إلى قلوبهم، ويظلمون أقوامهم لأنهم يحملونهم على الضلال، ويظلمون الحق لأنهم يحاربونه.
ثانيها: إن ظلمهم يسبق كامل ضلالهم؛ ذلك لأن الشهوات تتحكم فيهم فتدفعهم إلى طلب ما ليس لهم ثم يستهويهم الشيطان بالطمع بعد المطمع، فيتجاوزون الحدود ويطغون ثم يكون الضلال الكامل الذي تطمس فيه البصيرة فتغلف القلوب عن الحق وتقسو فلا تلين.
ثالثها: إن الظلم إذا استحكم في النفس أصبحت كل البراهين لَا تجدي بل تزيده عنادًا وإصرارًا؛ ولذلك لم يكتب الله الهداية لمن استمرأ الظلم آحادا أو جماعات والله ولي المتقين.
ولقد كان احتجاج إبراهيم عليه السلام على الطاغية الذي يدعي الربوبية بأن الله هو الذي يحيي ويميت، فتجاهل الطاغية معنى الحياة والموت، وحرَّف الكلم عن مواضعه فلوى خليلُ الله عنقه حتى أراه عَجْزَه وقدرة الله على نحو ما ذكر سبحانه: (فَبُهِتَ الَّذِي كفَرَ).
959
إن الأمر الذي يحير العقول التي لَا تربط بين بدء الحياة وانتهائها هو أمر الحياة بعد الموت، وقد ذكر سبحانه ما يزيل أسباب الحيرة أولاً بأن الله سبحانه هو الذي يحيي ويميت، وأن ذلك من أوصاف الربوبية التي اختصت بها الذات العلية، وأزال الريب ثانيا ببيان ما كان منه سبحانه للذين أرادوا أن يروا بالحس الحياة بعد الموت والإعادة بعد الفناء فذكر سبحانه وتعالى قصتين تكشفان عن القدرة الإلهية في الإعادة والإبقاء كما هي قادرة على الإنشاء الأول: قصة القرية التي خوت على عروشها وتعجب من رآها من إعادتها وسأل متعجبا (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)، والثانية: قصة إبراهيم عليه السلام وقد سأل ربه أن يريه كيف يحي الموتى.
أما القصة الأولى فقد قال سبحانه:
* * *
أما القصة الأولى فقد قال سبحانه:
* * *
960
(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا... (٢٥٩)
هذه الآيَة مرتبطة بالسياق والعطف بالآية قبلها، والعطف في المعنى واللفظ أو في المعنى فقط، ونسق القول هكذا: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك، أو ألم تر كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها والكاف هنا بمعنى مثل فالمعنى: أولم تر مثل هذا الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها؛ ولأن القصة الأولى قصة نبي معلوم من أولي العزم من الرسل مع ملك طاغية في زمانه لم يعبر بالكاف، أما هذه فلأن الشخص غير معلوم والمكان غير معلوم والقرية غير معلومة ذكر سبحانه الكاف فقال: (كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) لأنه إذا لم يعلم الشخص ولا الزمان ولا المكان كان المقصود العبرة وبيان الحال والشأن فناسب ذلك التعبير بالكاف التي هي بمعنى مثل وإن كانت القصة لها حقيقة واقعة كما ذكر سبحانه وهو العليم الحكيم.
والقرية المدينة من القَرْي بمعنى الجمع؛ لأنها الجامعة لأشتات الناس وأصنافهم. ومعنى خاوية على عروشها، أي سقطت جدرانها على سقوفها؛ لأن العرش معناه السقف، والتعبير بـ (خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) كناية عن خرابها وذهاب عمرانها وفناء أهلها، وأنه لم تعد لهم من باقية وقد خرجوا من هذه الدنيا الفانية.
هذه الآيَة مرتبطة بالسياق والعطف بالآية قبلها، والعطف في المعنى واللفظ أو في المعنى فقط، ونسق القول هكذا: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك، أو ألم تر كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها والكاف هنا بمعنى مثل فالمعنى: أولم تر مثل هذا الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها؛ ولأن القصة الأولى قصة نبي معلوم من أولي العزم من الرسل مع ملك طاغية في زمانه لم يعبر بالكاف، أما هذه فلأن الشخص غير معلوم والمكان غير معلوم والقرية غير معلومة ذكر سبحانه الكاف فقال: (كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) لأنه إذا لم يعلم الشخص ولا الزمان ولا المكان كان المقصود العبرة وبيان الحال والشأن فناسب ذلك التعبير بالكاف التي هي بمعنى مثل وإن كانت القصة لها حقيقة واقعة كما ذكر سبحانه وهو العليم الحكيم.
والقرية المدينة من القَرْي بمعنى الجمع؛ لأنها الجامعة لأشتات الناس وأصنافهم. ومعنى خاوية على عروشها، أي سقطت جدرانها على سقوفها؛ لأن العرش معناه السقف، والتعبير بـ (خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) كناية عن خرابها وذهاب عمرانها وفناء أهلها، وأنه لم تعد لهم من باقية وقد خرجوا من هذه الدنيا الفانية.
960
وجد ذلك الذي مر على هذه القرية العظيمة الخراب قد خيم عليها وذهب كل ما فيها ومن فيها من الأحياء وبقيت الرسوم والآثار تعلن عمن عفت عليه الديار فهاله الأمر وتذكر الفناء وما بعد هذه الدنيا، ثم انبعث إيمانه باليوم الآخر، ولكن كان بين حقيقتين ثابتتين: إيمان صادق باليوم الآخر والبعث والنشور وذلك الفناء المحسوس الذي تحللت فيه أجزاء الإنسان فقال: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْد مَوْتِهَا) أي كيف يحيي هذه القرية التي فنيت وخربت بعد موتها و " أنى " تكون بمعنى " من أين "، وتكون بمعنى " كيف "، وهي هنا بمعنى " كيف ".
ويلاحظ أن التساؤل عن كيفية الإعادة لَا عن أصل الإعادة فهو مؤمن بها صادق الإيمان لكنه مأسور بالحس والعيان وكأن سلطان الحس هو الذي دفعه إلى ذلك التساؤل. وفي العبارة ما يدل على ذلك فالتعبير بالإشارة " هذه " فيه إشارة إلى تلك الحال الحسية الثابتة التي استولت على حسه وهي تلك القرية الخربة. وقد قدمها على لفظ الجلالة فقال: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) لأن السبب في التساؤل تلك ألحال الحسية التي هو عليها.
وموت القرية هو موت السكان فهو من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحال، وكذلك الحياة فليست الحياة هي حياة البناء والجدران؛ لأنه لَا حياة لهما إنما الإحياء يكون لمن كانوا يسكنون البناء والجدران، سأل ذلك المار عن كيفية الإحياء وهو سر القدرة الإلهية لَا يعلمه أحد من عباده ولكن يرون آثاره، ولقد أجاب سبحانه ذلك السائل عن الكيفية بالحال العملية.
(فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) أمات الله سبحانه وتعالى ذلك السائل عن الكيفية واستمر ميتا مائة عام ثم بعثه أي أثاره بالحياة (قَالَ كَمْ لَبثْتَ) أي مكثت في هذاه الحال، والقائل هاتف نفسي أو ملك ناداه أو قاله الله سبحانه وحيًا إذا كان ذلك السائل نبيا، والأقرب إلى خاطري هو أن يكون المتكلم عن الله إما ملك من السماء أو وحي أوحاه الله رب العالمين إليه. سأله كم مدة من الزمان مكثتها؟ فأجاب بإحساسه الذي أحسه وهو أنه ظن أنه كان نائما قد
ويلاحظ أن التساؤل عن كيفية الإعادة لَا عن أصل الإعادة فهو مؤمن بها صادق الإيمان لكنه مأسور بالحس والعيان وكأن سلطان الحس هو الذي دفعه إلى ذلك التساؤل. وفي العبارة ما يدل على ذلك فالتعبير بالإشارة " هذه " فيه إشارة إلى تلك الحال الحسية الثابتة التي استولت على حسه وهي تلك القرية الخربة. وقد قدمها على لفظ الجلالة فقال: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) لأن السبب في التساؤل تلك ألحال الحسية التي هو عليها.
وموت القرية هو موت السكان فهو من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحال، وكذلك الحياة فليست الحياة هي حياة البناء والجدران؛ لأنه لَا حياة لهما إنما الإحياء يكون لمن كانوا يسكنون البناء والجدران، سأل ذلك المار عن كيفية الإحياء وهو سر القدرة الإلهية لَا يعلمه أحد من عباده ولكن يرون آثاره، ولقد أجاب سبحانه ذلك السائل عن الكيفية بالحال العملية.
(فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) أمات الله سبحانه وتعالى ذلك السائل عن الكيفية واستمر ميتا مائة عام ثم بعثه أي أثاره بالحياة (قَالَ كَمْ لَبثْتَ) أي مكثت في هذاه الحال، والقائل هاتف نفسي أو ملك ناداه أو قاله الله سبحانه وحيًا إذا كان ذلك السائل نبيا، والأقرب إلى خاطري هو أن يكون المتكلم عن الله إما ملك من السماء أو وحي أوحاه الله رب العالمين إليه. سأله كم مدة من الزمان مكثتها؟ فأجاب بإحساسه الذي أحسه وهو أنه ظن أنه كان نائما قد
961
استيقظ من نوم طويل (لَبثْتُ يَوْمًا)، أي مكثت في نومي هذا يوما ولكنه رأى الشمس لم تغب فقال: (أَوْ بَعْضَ يوْمٍ) هذا مظهر حسي قد تصور فيه الشخص الذي أماته الله أنه كان نائمًا ثم استيقظ، وفي ذلك تصوير للإنسان بأن الموت يشبه النوم والبعث يشبه اليقظة بعد النوم، ولقد قال النبي - ﷺ - في جمع قريش عندما دعاهم دعوة الحق: " والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، وإنها للجنة أبدا أو للنار أبدا " (١). (قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ) أجابه الله سبحانه وتعالى بهاتف نفسي وجه نظره إلى ما حوله، أو بملك أرسله أو بوحي أوحى به إليه على ما بينا في الجملة السامية السابقة. أثبت سبحانه وتعالى أنه لبث مائة عام ووجه نظره إلى آيتين تثبتان قدرة الله تعالى:
إحداهما: إنه لم يتغير الطعام والشراب بل بقي كما هو على مر السنين وهذا معنى قوله تعالى: (لَمْ يَتَسَنَّهْ) وكان الضمير للواحد مع أنهما طعام وشراب؛ لأنهما في معناهما ومقصدهما الحاجة منهما شيء واحد.
الآية الثانية: الحمار وكيف بلى وتحلل وتفتت ولم يبق منه شيء، وهذا يدل على مر السنين وكر الأعوام. ويتجه بعض المفسرين إلى أن الحمار كان قائما كالطعام والشراب وأنه لم يتغير، ويؤيدون اتجاههم بأن السياق يدل على ذلك لأنه معطوف على الطعام والشراب، والفعل محذوف في المعطوف لدلالة المعطوف عليه. ويرى بعضهم أن المراد انظر إلى حمارك وقد صار عظاما بالية ثم رد إليه سبحانه وتعالى الحياة وقد اتخذوا من قوله بعد ذلك: (وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا) قرينة على ذلك.
وعندي أن الأقرب هو التخريج الأول؛ ولذلك أمر سبحانه وتعالى بالنظر إلى الطعام والشراب وحدهما ثم أمر بالنظر إلى الحمار وحده فكان هذا يشعر بالتقابل
________
(١) تاريخ إبن عساكر جـ ٦ ص ٣٩٦.
إحداهما: إنه لم يتغير الطعام والشراب بل بقي كما هو على مر السنين وهذا معنى قوله تعالى: (لَمْ يَتَسَنَّهْ) وكان الضمير للواحد مع أنهما طعام وشراب؛ لأنهما في معناهما ومقصدهما الحاجة منهما شيء واحد.
الآية الثانية: الحمار وكيف بلى وتحلل وتفتت ولم يبق منه شيء، وهذا يدل على مر السنين وكر الأعوام. ويتجه بعض المفسرين إلى أن الحمار كان قائما كالطعام والشراب وأنه لم يتغير، ويؤيدون اتجاههم بأن السياق يدل على ذلك لأنه معطوف على الطعام والشراب، والفعل محذوف في المعطوف لدلالة المعطوف عليه. ويرى بعضهم أن المراد انظر إلى حمارك وقد صار عظاما بالية ثم رد إليه سبحانه وتعالى الحياة وقد اتخذوا من قوله بعد ذلك: (وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا) قرينة على ذلك.
وعندي أن الأقرب هو التخريج الأول؛ ولذلك أمر سبحانه وتعالى بالنظر إلى الطعام والشراب وحدهما ثم أمر بالنظر إلى الحمار وحده فكان هذا يشعر بالتقابل
________
(١) تاريخ إبن عساكر جـ ٦ ص ٣٩٦.
962
وهو يومئ إلى تغاير بينهما: فهذا بلى، وهذان بقيا على حالهما، وكان بقاؤهما دليلا على قدرة العلي القدير، وتغييره أمارة على مرور السنين.
وهنا بحث لغوي في قوله تعالى: (يَتَسَنَّهْ) فإما أن نقول أنه من السنة
كقولهم: سانهت وسانيت فمعنى (لَمْ يَتَسَنَّهْ) لم يتغير بمرور السنين وذلك من سنهت النخلة وتسنهت إذا أتت عليها السنون وغيرتها، وإما أن نقول إنها من أسن الماء أي تغير. وقيل أصلها " لم يتسن " وقلبت النون هاء ولكن على معنى يتغير والأولى أولى بالقبول وأقرب في المعنى والاشتقاق.
(وَلِنجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ) والمعنى: فعلنا ما فعلنا لتدرك قدرة الله سبحانه وتعالى كما رأيت ولنجعلك آية، أي معجزة معلنة قدرة الله سبحانه وتعالى للناس لكي يؤمن بالبعث والنشور من لَا يؤمن ولكي يدرك عظمة الله في الخلق والتكوين من لم يدركها وعلى ذلك فالواو في قوله تعالى: (وَلِنَجعَلَكَ) للعطف على نتائج الكلام السامي الذي سبقها، لأن نتيجته أن تطمئن وتدرك ولنجعلك... إلخ.
ووجه كونه آية للناس أن الناس تناقلوه فيما بينهم وأن أحفاده يذكرون أنه مات وانتهى فإن وجدوه حيا وأعلمهم بما كان له وما أصابه من موت ثم حياة، ولابد أن من أسرته ومن ذريته من يذكر غيبته وأنه عاد وأنه حيي بعد وفاة وبعث بعد موت - كان ذلك آية البعث وعلامته الحسية ودلالته القاهرة لمن عنده قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وبعد أن ذكر سبحانه تلك الآية الدالة على كمال قدرته وجه الأذهان إلى ما في أصل الخلق من دلالة على قدرة الله سبحانه وتعالى على الإعادة كما هو قادر على الإنشاء، وأن الإنشاء نفسه دليل القدرة على الإعادة (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)، وأنه لو تنبه الإنسان لأصل خلقه لأدرك عظيم القدرة، فقال سبحانه مخاطبا ذلك الذي أحياه بعد موت:
(وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا) أي انظر إلى العظام كيف ننشزها أي نركب بعضها في بعض بعد أن نوجدها، فالإنشاز الإنشاء للعظام
وهنا بحث لغوي في قوله تعالى: (يَتَسَنَّهْ) فإما أن نقول أنه من السنة
كقولهم: سانهت وسانيت فمعنى (لَمْ يَتَسَنَّهْ) لم يتغير بمرور السنين وذلك من سنهت النخلة وتسنهت إذا أتت عليها السنون وغيرتها، وإما أن نقول إنها من أسن الماء أي تغير. وقيل أصلها " لم يتسن " وقلبت النون هاء ولكن على معنى يتغير والأولى أولى بالقبول وأقرب في المعنى والاشتقاق.
(وَلِنجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ) والمعنى: فعلنا ما فعلنا لتدرك قدرة الله سبحانه وتعالى كما رأيت ولنجعلك آية، أي معجزة معلنة قدرة الله سبحانه وتعالى للناس لكي يؤمن بالبعث والنشور من لَا يؤمن ولكي يدرك عظمة الله في الخلق والتكوين من لم يدركها وعلى ذلك فالواو في قوله تعالى: (وَلِنَجعَلَكَ) للعطف على نتائج الكلام السامي الذي سبقها، لأن نتيجته أن تطمئن وتدرك ولنجعلك... إلخ.
ووجه كونه آية للناس أن الناس تناقلوه فيما بينهم وأن أحفاده يذكرون أنه مات وانتهى فإن وجدوه حيا وأعلمهم بما كان له وما أصابه من موت ثم حياة، ولابد أن من أسرته ومن ذريته من يذكر غيبته وأنه عاد وأنه حيي بعد وفاة وبعث بعد موت - كان ذلك آية البعث وعلامته الحسية ودلالته القاهرة لمن عنده قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وبعد أن ذكر سبحانه تلك الآية الدالة على كمال قدرته وجه الأذهان إلى ما في أصل الخلق من دلالة على قدرة الله سبحانه وتعالى على الإعادة كما هو قادر على الإنشاء، وأن الإنشاء نفسه دليل القدرة على الإعادة (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)، وأنه لو تنبه الإنسان لأصل خلقه لأدرك عظيم القدرة، فقال سبحانه مخاطبا ذلك الذي أحياه بعد موت:
(وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا) أي انظر إلى العظام كيف ننشزها أي نركب بعضها في بعض بعد أن نوجدها، فالإنشاز الإنشاء للعظام
963
وتركيبها. وقرئ (كيف ننشرها) أي نحييها ونوجدها فالمعنى التفت إلى تكوين الله سبحانه وتعالى للإنسان والحيوان كيف ينشئ العظم أولا ويوجده ويركبه بعضه فوق بعض، حتى إذا تكونت العظام خلق سبحانه اللحم وتكون حول العظام كأنه الكسوة تكسوها فهذا كقوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (١٤).
ولقد أنتجت تلك البينات نتيجتها الحسية فحكى الله سبحانه ذلك عنه فقال:
(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي لما تبين له بالأدلة الحسية المادية القاطعة لكل جدل قال: " أعلم " أي استيقن وأومن وأعتقد " أن الله على كل شيء قدير ". ويدخل في ذلك العموم البعث والنشور وإنشاء الحياة وإعادتها، ولكن إذا كان ذلك المار المتحدث عنه من الأنبياء كيف يقال عنه أنه تبين بعد تلك الإعادة الحسية وأنه علم علما مقترنا بها؛ إذ معنى ذلك أنه لم يكن عالما بذلك قبلها؟ ونقول في ذلك: إنه إذا لم يكن نبيا فلا مورد للاعتراض ولا داعي للجواب، ولكن إن كان نبيا فللاعتراض مورد وللإجابة موضع فنقول: إن العلم درجات واليقين درجات فالعلم المبني على الأدلة العقلية وعلى الإذعان المطلق للحق ببيان من لَا يتطرق الظن إلى قوله هو نوع من العلم القاطع الجازم وهو مهما تكن درجته من القوة والإيمان والإذعان دون العلم المبني على التجربة والحس والعيان، فذلك العلم المبني على التجربة والحس هو العلم الجديد الذي علمه ذلك النبي والذي كان نتيجة لذلك التبين الحسي الذي لم يعتمد على التفكير المجرد بل اعتمد مع ذلك على قوة الحس والتجربة فالتقى للعلم سببان: سبب مشتق من التفكير والإيمان والتصديق، وسبب آخر مشتق من التجربة والعيان.
هذه هي القصة الأولى التي تؤكد بالحس الإيمان بالحياة بعد الموت وبالبعث والنشور. أما القصة الثانية التي تؤكد هذا فهي قصة سيدنا إبراهيم خليل الله فقد قال تعالى:
* * *
ولقد أنتجت تلك البينات نتيجتها الحسية فحكى الله سبحانه ذلك عنه فقال:
(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي لما تبين له بالأدلة الحسية المادية القاطعة لكل جدل قال: " أعلم " أي استيقن وأومن وأعتقد " أن الله على كل شيء قدير ". ويدخل في ذلك العموم البعث والنشور وإنشاء الحياة وإعادتها، ولكن إذا كان ذلك المار المتحدث عنه من الأنبياء كيف يقال عنه أنه تبين بعد تلك الإعادة الحسية وأنه علم علما مقترنا بها؛ إذ معنى ذلك أنه لم يكن عالما بذلك قبلها؟ ونقول في ذلك: إنه إذا لم يكن نبيا فلا مورد للاعتراض ولا داعي للجواب، ولكن إن كان نبيا فللاعتراض مورد وللإجابة موضع فنقول: إن العلم درجات واليقين درجات فالعلم المبني على الأدلة العقلية وعلى الإذعان المطلق للحق ببيان من لَا يتطرق الظن إلى قوله هو نوع من العلم القاطع الجازم وهو مهما تكن درجته من القوة والإيمان والإذعان دون العلم المبني على التجربة والحس والعيان، فذلك العلم المبني على التجربة والحس هو العلم الجديد الذي علمه ذلك النبي والذي كان نتيجة لذلك التبين الحسي الذي لم يعتمد على التفكير المجرد بل اعتمد مع ذلك على قوة الحس والتجربة فالتقى للعلم سببان: سبب مشتق من التفكير والإيمان والتصديق، وسبب آخر مشتق من التجربة والعيان.
هذه هي القصة الأولى التي تؤكد بالحس الإيمان بالحياة بعد الموت وبالبعث والنشور. أما القصة الثانية التي تؤكد هذا فهي قصة سيدنا إبراهيم خليل الله فقد قال تعالى:
* * *
964
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي... (٢٦٠) هذه مجاوبة بين رب العالمين وخليله إبراهيم. لقد كان إبراهيم قانتًا لله حنيفًا وكان غواصًا طالبًا للمعرفة يتأمل في كل شيء ويتقصى بفكره باحثًا وراء الحقيقة طالبا لها، قال لربه الذي اتخذه له خليلا: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى) نادى ربه ذلك النداء، فيشير بأنه مقر بأنه خالقه ومربيه والقائم على أمره، وطلبه هو طلب الكيفية، فهو مقر بالأصل مذعن له خاضعٌ كل الخضوع لحكمه مؤمن بالبعث والنشور، وأن الله سبحانه هو الذي يحيي ويميت، وأنه القاهر فوق عباده، ولكنه يريد أن يعلم بالحس كما علم بالقول الحق وبالعيان كما علم بالبرهان.
قال إبراهيم ذلك، فقال له ربه مشيرا إلى أن الغاية هي الإيمان (أَوَلَمْ تؤْمِن) أي: أتقول ذلك وتطلبه وأنت لم تؤمن؛ فإن كنت مؤمنا فإن ذلك غاية المطلوب وإن لم تكن فليس وراء ما علمت من حجة، وإن فيه الدليل القاطع والبرهان الساطع، فأجاب إبراهيم ربه: (قَالَ بَلَى وَلَكِن ليَطْمَئِنَّ قَلْبِي) " بلى " أي آمنت؛ فهي نفي لما بعد الهمزة، ونفي عدم الإيمان إثبات للإيمان؛ لأن نفي النفي إثبات كما يقول العلماء، وإذا كان إبراهيم مؤمنا فلماذا طلب ما طلب؟ فقد قال مستدركا: (لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) والاطمئنان السكون والقرار فهل كان إبراهيم غير مطمئن وفى اضطراب حتى رأى وعاين؛ إن الاضطراب ينافي الإيمان والشك ينافي اليقين، وقد قرر أنه مؤمن فلا اضطراب، إنما كانت حيرة إبراهيم في الكيفية لَا في أصل القضية؛ لأن إبراهيم كما قلنا كان غواصا متأملا يتطلع لتعرف كل شيء، فحمل نفسه بسبب ذلك عناء البحث عن الكيفية، فكان في حاجة إلى ما يذهب حيرته في هذه الكيفية، فطلب ما طلب ليطمئن عقله الحائر الذي تجاوز منطقة الإيمان بالأصل إلى محاولة معرفة كيفية الإعادة وهي فوق القدرة العقلية البشرية. ولقد قال بعض العلماء إن الاطمئنان الذي طلبه إبراهيم عليه السلام هو الاستدلال بالعيان بعد الاستدلال بالبرهان، فإن الحس يحمل الإنسان على الإذعان أكثر مما يحمل الدليل العقلي، وهذا رأى حسن في جملته ولكن ما سقناه أولا أقوى في نظرنا وأحكم.
هذا طلب إبراهيم عليه السلام، ولقد كان جواب ربه هو ما كان بقوله تعالى:
قال إبراهيم ذلك، فقال له ربه مشيرا إلى أن الغاية هي الإيمان (أَوَلَمْ تؤْمِن) أي: أتقول ذلك وتطلبه وأنت لم تؤمن؛ فإن كنت مؤمنا فإن ذلك غاية المطلوب وإن لم تكن فليس وراء ما علمت من حجة، وإن فيه الدليل القاطع والبرهان الساطع، فأجاب إبراهيم ربه: (قَالَ بَلَى وَلَكِن ليَطْمَئِنَّ قَلْبِي) " بلى " أي آمنت؛ فهي نفي لما بعد الهمزة، ونفي عدم الإيمان إثبات للإيمان؛ لأن نفي النفي إثبات كما يقول العلماء، وإذا كان إبراهيم مؤمنا فلماذا طلب ما طلب؟ فقد قال مستدركا: (لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) والاطمئنان السكون والقرار فهل كان إبراهيم غير مطمئن وفى اضطراب حتى رأى وعاين؛ إن الاضطراب ينافي الإيمان والشك ينافي اليقين، وقد قرر أنه مؤمن فلا اضطراب، إنما كانت حيرة إبراهيم في الكيفية لَا في أصل القضية؛ لأن إبراهيم كما قلنا كان غواصا متأملا يتطلع لتعرف كل شيء، فحمل نفسه بسبب ذلك عناء البحث عن الكيفية، فكان في حاجة إلى ما يذهب حيرته في هذه الكيفية، فطلب ما طلب ليطمئن عقله الحائر الذي تجاوز منطقة الإيمان بالأصل إلى محاولة معرفة كيفية الإعادة وهي فوق القدرة العقلية البشرية. ولقد قال بعض العلماء إن الاطمئنان الذي طلبه إبراهيم عليه السلام هو الاستدلال بالعيان بعد الاستدلال بالبرهان، فإن الحس يحمل الإنسان على الإذعان أكثر مما يحمل الدليل العقلي، وهذا رأى حسن في جملته ولكن ما سقناه أولا أقوى في نظرنا وأحكم.
هذا طلب إبراهيم عليه السلام، ولقد كان جواب ربه هو ما كان بقوله تعالى:
965
(قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي إذا كنت مُصِرَّا على طلبك فخذ أربعة من الطير. فالفاء هنا فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر. ومعنى (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي فضمهن إليك، أو أملهن أو حوِّلهن إليك، والضمير يعود على الطير، لأن كلمة الطير في معناه جمع لما لَا يعقل، وجمع ما لَا يعقل يصح عود الضمير عليه بصيغة ضمير جماعة الإناث، وقد كانت عودة الضمير بتلك الصيغة دالة على معنى الجماعة وعموم ضم الطير واحدة واحدة، وإنما كانت الطير موضع تجربة لأنها لَا تستأنس بالإنسان وتطير عند مجرد رؤيته، فتحويلهن إليه بيسر لا يكون إلا بتأليف من الله العلي الخبير.
وأن تحويل الطير إليه لتجري تلك التجربة الربانية، وهي أن يجعل على كل جبل منهن جزءا ثم يدعوهن يأتين إبراهيم سعيًا، ولذا قال سبحانه:
(ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا) أمر الله إبراهيم بأن يجعل أي يضع على كل جبل أي كل جزء مرتفع من الأرض جزءا وأن يدعوهن بعد ذلك يأتينه سعيا.
وجمهور المفسرين يقول في تفسير هذه الجملة السامية: أن الله سبحانه وتعالى أمر إبراهيم خليله أن يجري هذه التجربة، بأن يذبح تلك الطيور ويقطع أجزاءها ويضع على كل مرتفع من الأرض جزءا من تلك الأشلاء المتقطعة، ثم يدعوها فتكون طيرًا بإذن الله ويجيء إليه سعيًا، وعلى هذا النحو يكون ذلك العمل الحسي تقريبًا لمعنى الإحياء وإن لم يكن بيانا كاملا للكيفية، لأن الكيفية عند الله العليم الخبير علمها، ويكون ذلك إظهارا للإحياء بمظهر حسي وإن لم يكن فيه بيان الكيفية.
هذا نظر جمهور المفسرين، ولقد قال أبو مسلم الأصفهاني إن الآية ليس فيها ما يدل على أن سيدنا إبراهيم عليه السلام قد ذبح الطير وقطع أجزاءها، إنما الذي فيها أنه حولها إليه ووضع جزءا على كل مرتفع من الأرض، وعلى هذا يكون المعنى أن إبراهيم عليه السلام طلب منه رب البرية أن يحول جمعا من الطير إليه
وأن تحويل الطير إليه لتجري تلك التجربة الربانية، وهي أن يجعل على كل جبل منهن جزءا ثم يدعوهن يأتين إبراهيم سعيًا، ولذا قال سبحانه:
(ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا) أمر الله إبراهيم بأن يجعل أي يضع على كل جبل أي كل جزء مرتفع من الأرض جزءا وأن يدعوهن بعد ذلك يأتينه سعيا.
وجمهور المفسرين يقول في تفسير هذه الجملة السامية: أن الله سبحانه وتعالى أمر إبراهيم خليله أن يجري هذه التجربة، بأن يذبح تلك الطيور ويقطع أجزاءها ويضع على كل مرتفع من الأرض جزءا من تلك الأشلاء المتقطعة، ثم يدعوها فتكون طيرًا بإذن الله ويجيء إليه سعيًا، وعلى هذا النحو يكون ذلك العمل الحسي تقريبًا لمعنى الإحياء وإن لم يكن بيانا كاملا للكيفية، لأن الكيفية عند الله العليم الخبير علمها، ويكون ذلك إظهارا للإحياء بمظهر حسي وإن لم يكن فيه بيان الكيفية.
هذا نظر جمهور المفسرين، ولقد قال أبو مسلم الأصفهاني إن الآية ليس فيها ما يدل على أن سيدنا إبراهيم عليه السلام قد ذبح الطير وقطع أجزاءها، إنما الذي فيها أنه حولها إليه ووضع جزءا على كل مرتفع من الأرض، وعلى هذا يكون المعنى أن إبراهيم عليه السلام طلب منه رب البرية أن يحول جمعا من الطير إليه
966
ويجعل على كل مرتفع من الأرض طائفة من هذا الطير ثم يدعو هذه الطوائف يأتينه سعيا، وفي هذا توجيه لإبراهيم عليه السلام إلى أن الله سبحانه وتعالى يؤلف كل شيء ولو كان متنافرا ويجمع كل جزء ولو كان بعيدا، كما دعوت الطير التي لا تجيب إنسانا وتنفر منه فأجابتك بقدرة العلي الحكيم الذي يؤلف بين المتنافرات، فإن كان ثمة استغراب من أن الحياة تقتضي أن يجمع الله سبحانه وتعالى أجزاء متناثرة قد تحللت وتجزأت إلى أجزاء بل جزيئات، فها أنت ذا ترى تلك النفرة التي بين الإنسان والطير تزول، تدعوها فتستجيب وهي من شأنها النفور، وكذلك يؤلف الله بين الأجزاء المتناثرة، فيجعل منها ذلك الحي الذي كان من قبل ثم إن في تلك التجربة تصويرًا دقيقًا، وهو أن إعادة الله تعالى للأشياء لَا تكون إلا بقوله تعالى كن فيكون، كما يقول خليل الله إبراهيم للطير وقد تفرقت: أقبِلي فَتُقْبِل.
هذان هما التفسيران للآية، ونرى أن رأي الجمهور يتجه إلى تحقيق معجزة تجري على يد إبراهيم عليه السلام وهي إحياء الموتى بالحس المعاين وإن لم تعلم الكيفية، كما جرى بالحس المعاين إماتة الرجل مائة عام ثم إحياؤه، ويكون من مقتضى التناسق بين الآيتين أن تكون في هذه الآية معجزة الإحياء بعد تقطيع الأجزاء، فالمقام كله يتجه بنا إلى الإعجاز بإحياء الميت بمرأى العين، وتكون العبرة في القصة هي أنه يريه الحقيقة واضحة جلية، ورؤيتها تغني عن البحث في كيفيتها وإنا نميل لهذا الرأي.
أما رأى أبي مسلم فهو مبني على الألفاظ من غير أن يرمي بنظره قليلا إلى الآية التي سبقت ذلك من الإماتة مائة عام ثم الإحياء بعد ذلك، وهو نظر إلى أن الكيفية لَا يمكن أن تعلم للإنسان، وإنما أقصى ما يعلمه هو أثر القدرة لَا كيفيتها وأنه صور للإنسان الإعادة بقوله سبحانه وتعالى: (كن فَيَكُونُ)، وأنها تكون كقول إبراهيم للطير: أقبلن أيها النافرات فيقبلن.
وقد ذيل سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالت كلماته: (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عزِيزٌ حَكِيمٌ) وكان ذلك التذييل الكريم للدلالة على ثلاثة أمور:
هذان هما التفسيران للآية، ونرى أن رأي الجمهور يتجه إلى تحقيق معجزة تجري على يد إبراهيم عليه السلام وهي إحياء الموتى بالحس المعاين وإن لم تعلم الكيفية، كما جرى بالحس المعاين إماتة الرجل مائة عام ثم إحياؤه، ويكون من مقتضى التناسق بين الآيتين أن تكون في هذه الآية معجزة الإحياء بعد تقطيع الأجزاء، فالمقام كله يتجه بنا إلى الإعجاز بإحياء الميت بمرأى العين، وتكون العبرة في القصة هي أنه يريه الحقيقة واضحة جلية، ورؤيتها تغني عن البحث في كيفيتها وإنا نميل لهذا الرأي.
أما رأى أبي مسلم فهو مبني على الألفاظ من غير أن يرمي بنظره قليلا إلى الآية التي سبقت ذلك من الإماتة مائة عام ثم الإحياء بعد ذلك، وهو نظر إلى أن الكيفية لَا يمكن أن تعلم للإنسان، وإنما أقصى ما يعلمه هو أثر القدرة لَا كيفيتها وأنه صور للإنسان الإعادة بقوله سبحانه وتعالى: (كن فَيَكُونُ)، وأنها تكون كقول إبراهيم للطير: أقبلن أيها النافرات فيقبلن.
وقد ذيل سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالت كلماته: (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عزِيزٌ حَكِيمٌ) وكان ذلك التذييل الكريم للدلالة على ثلاثة أمور:
967
أولها: إن العزة لله وحده فلا يركن إليه مؤمن إلا عزَّ، ولا يبعد عنه أحد إلا ذلَّ، فمن اعتز بغير الله فهو الذليل، ومن آوى إلى فضل الله فقد آوى إلى ركن شديد. وأن مناسبة هذا للآيات السابقة كلها واضحة، لأن إبراهيم كان يغالب طاغية جبارًا عاتيًا قد استهان بالناس جميعا كما دلت عليه الآية الأولى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ).
فالله العلي القدير يدعو خليله أن يتقدم لدعوة ذلك الجبار معتزا بالله فلا عزة إلا من الله، والله غالب على النمرود ومن هو أكبر من النمرود.
وثانيها: الإشعار بأن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء وعزته هي عزة القادر الغالب، لَا عزة الضعيف العاجز.
وثالثها: إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق بحكمته وبعث الرسل يدعون إلى عبادته وحده وهو الذي قدر الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وكل ذلك من مقتضى الحكمة الإلهية التي لَا تصل العقول إلى العلم بها؛ لأنها لَا تعلم من الكون إلا مظاهره وأشكاله وألوانه، ولا تعلم شيئا عن كيفيته وأسراره، إن ذلك كله عند علام الغيوب، وفوق كل ذي علم عليم.
* * *
(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا
فالله العلي القدير يدعو خليله أن يتقدم لدعوة ذلك الجبار معتزا بالله فلا عزة إلا من الله، والله غالب على النمرود ومن هو أكبر من النمرود.
وثانيها: الإشعار بأن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء وعزته هي عزة القادر الغالب، لَا عزة الضعيف العاجز.
وثالثها: إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق بحكمته وبعث الرسل يدعون إلى عبادته وحده وهو الذي قدر الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وكل ذلك من مقتضى الحكمة الإلهية التي لَا تصل العقول إلى العلم بها؛ لأنها لَا تعلم من الكون إلا مظاهره وأشكاله وألوانه، ولا تعلم شيئا عن كيفيته وأسراره، إن ذلك كله عند علام الغيوب، وفوق كل ذي علم عليم.
* * *
(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا
968
أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٢٦٤)
* * *
المؤمن الحق يشعر أن الحق يتقاضاه دائمًا الجهاد لأجله، والسعي في سبيل رفعته؛ لأنه منذ أن أخرج إبليس وآدم وحواء من جنة الله، والعداوة مستحكمة بين الحق والباطل، وإبليس يغوي الأشرار، والله سبحانه يهدي المؤمنين إلى الحق، ويوفقهم لنصرته.
وإن الجهاد في سبيل الحق له ميادين ثلاثة:
أولها: الإقناع بالحجة والبرهان، كما قال سبحانه وتعالى لنبيه محمد - ﷺ -: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن...).
وإن ذلك الجدال مع أهل الشر الذين مردت نفوسهم على النفاق والمغالبة بالباطل ليس أمرًا سهلا يسيرًا، بل هو أمر الأمور؛ لأن التقاء العقل الذي أناره نور الحق بالعقل الذي طمس الله على بصيرته ليس من الأمور التي يستطيعها كل العقلاء.
والميدان الثاني من ميادين الجهاد: الجهاد المسلح، بمنع اعتداء الباطل، وخضد شوكته وفَلّ حدته، وحمله على الجادة، ومنع أهله من أن يفتنوا الناس في دينهم؛ وإن ذلك أظهر ميادين الجهاد، وهو باب من أبواب الجنة.
والميدان الثالث من ميادين الجهاد: البر وإعطاء المال، وبذله مع طيبة النفس ببذله وعطائه؛ وإذا كان المال قد سمي النفيس؛ فلأنه قطعة من نفس من يبذله، وإن بذل المال هو الذي يقوي وحدة المؤمنين؛ لأنه من التعاون بين الفقير والغني،
* * *
المؤمن الحق يشعر أن الحق يتقاضاه دائمًا الجهاد لأجله، والسعي في سبيل رفعته؛ لأنه منذ أن أخرج إبليس وآدم وحواء من جنة الله، والعداوة مستحكمة بين الحق والباطل، وإبليس يغوي الأشرار، والله سبحانه يهدي المؤمنين إلى الحق، ويوفقهم لنصرته.
وإن الجهاد في سبيل الحق له ميادين ثلاثة:
أولها: الإقناع بالحجة والبرهان، كما قال سبحانه وتعالى لنبيه محمد - ﷺ -: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن...).
وإن ذلك الجدال مع أهل الشر الذين مردت نفوسهم على النفاق والمغالبة بالباطل ليس أمرًا سهلا يسيرًا، بل هو أمر الأمور؛ لأن التقاء العقل الذي أناره نور الحق بالعقل الذي طمس الله على بصيرته ليس من الأمور التي يستطيعها كل العقلاء.
والميدان الثاني من ميادين الجهاد: الجهاد المسلح، بمنع اعتداء الباطل، وخضد شوكته وفَلّ حدته، وحمله على الجادة، ومنع أهله من أن يفتنوا الناس في دينهم؛ وإن ذلك أظهر ميادين الجهاد، وهو باب من أبواب الجنة.
والميدان الثالث من ميادين الجهاد: البر وإعطاء المال، وبذله مع طيبة النفس ببذله وعطائه؛ وإذا كان المال قد سمي النفيس؛ فلأنه قطعة من نفس من يبذله، وإن بذل المال هو الذي يقوي وحدة المؤمنين؛ لأنه من التعاون بين الفقير والغني،
969
والتعاون جماع كل القوي، وفوق ذلك فإن إمداد الجند بالمال إنما هو إمداد بذخيرة القتال، وعدة النزال، والمال في الحروب من عصبها، كما هو عصب كل إصلاح في الأمة.
وقد ذكر سبحانه وتعالى قصص القتال بين الحق والباطل، وكيف ينتصر الحق مع الإيمان به وقلة العدد والعُدد، وينهزم الباطل مع كثرة العدد، وذكر عمل المرسلين، وتبليغهم رسالات ربهم؛ وذكر من ذلك مجادلة إبراهيم خليله لطاغية من طغاة الدنيا.
وفى هذه الآية الكريمة يذكر سبحانه ميدان الجهاد الثالث، وهو ميدان الصدقة غير الممنونة ولا الممنوعة؛ ولقد روي أن هذه الآيات نزلت في صدقة عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان في الجهاد في سبيل الله عند غزوة تبوك؛ وذلك أن رسول الله - ﷺ - لما حث الناس حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك، جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم فقال: يا رسول الله كانت لي ثمانية آلاف، فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلاف أقرضتها لربى؛ فقال رسول الله - ﷺ -: " بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت " (١). وقال عثمان: يا رسول الله عليَّ جهاز من لَا جهاز له. ولقد قال عبد الرحمن بن سمرة: جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر رسول الله) (٢). ولقد قال أبو سعيد الخدري: رأيت النبي - ﷺ - رافعا يديه يدعو لعثمان يقول: " يارب! عثمان، رضيت عن عثمان فارض عنه " (٣).
________
(١) رواه البزار عن أبي هريرة، وكذلك أخرجه عبد بن حميد، وأخرجه ابن أبي حاتم والطبري وابن مردويه، وذكره ابن إسحاق في المغازي بغير إسناد. راجع: فتح الباري ٨/ ٣٣٢، ومجمع الزوائد ٧/ ٣٢، وكنز العمال (٣٦٣٣).
(٢) رواه الترمذي: مناقب عثمان (٣٦٣٤).
(٣) رواه أبو نعيم وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري بلفظ: " اللهم قد رضيت عن عثمان فارض عنه " قالها ثلاثا، وكذا رواه ابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها. [جامع الأحاديث - السيوطي (٤٢٢٥)].
وقد ذكر سبحانه وتعالى قصص القتال بين الحق والباطل، وكيف ينتصر الحق مع الإيمان به وقلة العدد والعُدد، وينهزم الباطل مع كثرة العدد، وذكر عمل المرسلين، وتبليغهم رسالات ربهم؛ وذكر من ذلك مجادلة إبراهيم خليله لطاغية من طغاة الدنيا.
وفى هذه الآية الكريمة يذكر سبحانه ميدان الجهاد الثالث، وهو ميدان الصدقة غير الممنونة ولا الممنوعة؛ ولقد روي أن هذه الآيات نزلت في صدقة عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان في الجهاد في سبيل الله عند غزوة تبوك؛ وذلك أن رسول الله - ﷺ - لما حث الناس حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك، جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم فقال: يا رسول الله كانت لي ثمانية آلاف، فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلاف أقرضتها لربى؛ فقال رسول الله - ﷺ -: " بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت " (١). وقال عثمان: يا رسول الله عليَّ جهاز من لَا جهاز له. ولقد قال عبد الرحمن بن سمرة: جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر رسول الله) (٢). ولقد قال أبو سعيد الخدري: رأيت النبي - ﷺ - رافعا يديه يدعو لعثمان يقول: " يارب! عثمان، رضيت عن عثمان فارض عنه " (٣).
________
(١) رواه البزار عن أبي هريرة، وكذلك أخرجه عبد بن حميد، وأخرجه ابن أبي حاتم والطبري وابن مردويه، وذكره ابن إسحاق في المغازي بغير إسناد. راجع: فتح الباري ٨/ ٣٣٢، ومجمع الزوائد ٧/ ٣٢، وكنز العمال (٣٦٣٣).
(٢) رواه الترمذي: مناقب عثمان (٣٦٣٤).
(٣) رواه أبو نعيم وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري بلفظ: " اللهم قد رضيت عن عثمان فارض عنه " قالها ثلاثا، وكذا رواه ابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها. [جامع الأحاديث - السيوطي (٤٢٢٥)].
970
وفى الحق إن هذه الآية تشمل صدقة عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف في معناها؛ لأنه يتحقق في تلك الصدقة السخية كل أوصاف الصدقة التي يتقبلها رب العالمين فرضي الله عن الصحابة أجمعين.
971
(مَثَلُ الَّذينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مّائَةُ حَبَّةِ) الحبةَ اسم لكل ما يزرعه ابن آدم ويكون منه قوته، وأكثر ما تكون في الَبُر، وسَنابل جمع سنبلة، وهي وزن فنعلة من السبل، ويقال أسبل الزرع إذا صار فيه السنبل، أي استرسل بالسنبل كما يسترسل الستر بالإسبال، وقيل معناه صار فيه حبط مستور كما يستر بإرسال الستر عليه.
وسبيل الله، هي سبيل النفع العام، والجهاد في سبيل الله وإعطاء السائل والمحروم أو بعبارة عامة: الإنفاق في سبيل كل خير، لَا يقصد بالإنفاق فيه كل وجوه البر والنفع، ولكن إذا اجتمعت مع أبواب البر الأخرى، كان المقصود بها الإنفاق في الجهاد في سبيل الله، وهو الإنفاق على المحاربين والغزاة وإعداد العدة، كما هو في آية الصدقات في التوبة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ...) ولذلكَ كان الغالب على هذا اللفظ أن يكون الإنفاق في سبيل الجهاد، وكل ما يعد القوة المدافعة عن الأمة.
وقد شبه سبحانه حال الذين يننقون في سبيل الله بحال حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، وقد ذكر الزمخشري وغيره من المفسرين: أن التشبيه ليس بين الذين ينفقون والحبة، بل بين الصدقة نفسها والحبة؛ فالكلام فيه مضاف محذوف مقدر في القول، وتقديره: مثل صدقة الذين ينفقون في سبيل الله.. فقد شبه سبحانه الصدقة التي تنفق في سبيل الله بحبة تلقى في الأرض فتخرج عودًا مستويًا قائمًا تتعلق به سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، أي أنه يتولد عن هذه الحبة التي باركها خالق الحب والنوى سبعمائة حبة، وإسناد الإنبات إليها من حيث اتصاله بها، وأن تلك الحبات هي نماء متولد عنها، وفي الحقيقة إن المنبت هو الله سبحانه وتعالى.
وسبيل الله، هي سبيل النفع العام، والجهاد في سبيل الله وإعطاء السائل والمحروم أو بعبارة عامة: الإنفاق في سبيل كل خير، لَا يقصد بالإنفاق فيه كل وجوه البر والنفع، ولكن إذا اجتمعت مع أبواب البر الأخرى، كان المقصود بها الإنفاق في الجهاد في سبيل الله، وهو الإنفاق على المحاربين والغزاة وإعداد العدة، كما هو في آية الصدقات في التوبة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ...) ولذلكَ كان الغالب على هذا اللفظ أن يكون الإنفاق في سبيل الجهاد، وكل ما يعد القوة المدافعة عن الأمة.
وقد شبه سبحانه حال الذين يننقون في سبيل الله بحال حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، وقد ذكر الزمخشري وغيره من المفسرين: أن التشبيه ليس بين الذين ينفقون والحبة، بل بين الصدقة نفسها والحبة؛ فالكلام فيه مضاف محذوف مقدر في القول، وتقديره: مثل صدقة الذين ينفقون في سبيل الله.. فقد شبه سبحانه الصدقة التي تنفق في سبيل الله بحبة تلقى في الأرض فتخرج عودًا مستويًا قائمًا تتعلق به سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، أي أنه يتولد عن هذه الحبة التي باركها خالق الحب والنوى سبعمائة حبة، وإسناد الإنبات إليها من حيث اتصاله بها، وأن تلك الحبات هي نماء متولد عنها، وفي الحقيقة إن المنبت هو الله سبحانه وتعالى.
971
والمفسرون جميعًا مجمعون على أن النفقة في سبيل الله تنتج سبعمائة مثل لها؛ لأن صاحبها يكافئه الله تعالى عليها بتلك المكافأة السخية، وهو سبحانه وتعالى المعطي الوهاب، وإن ذلك وجه صحيح بلا شك، ويزكيه قوله تعالى بعد ذلك: (وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشَاءُ) فإنه في ظاهره يدل على عطاء الله بالثواب على الحسنة بعشر أمثالها، وعلى الصدقة بسبعمائة مثل؛ فلا حد لفضله وعطائه سبحانه.
ولكن يصح مع ذلك أن نقول: إن الصدقة في سبيل الله تنتج سبعمائة مثل لها، لَا من حيث الثواب الذي يناله المنفق ممن يملك الثواب فقط، بل من حيث النتائج التي تنتج عنها، فإن نتائج الإنفاق في سبيل الله عظيمة تعود على الأمة بسبعمائة مثل لهذه الصدقة أو تزيد، فإن الإنفاق في سبيل الحرب بإعداد العدة يدفع كيد الأعداء فتنجو الأمة، وفي نجاتها خير كثير هو أكثر من سبعمائة ضعف من المال الذي أنفق. ومن يعطِ يتيما ويدر عليه من ماله فإنه يربيه، فتكون منه قوة عاملة في الأمة، تأتي من وجوه الخير بأضعاف ما أنفقت في تربيته، ودفع شرا خطيرا، وهو أن يكون ذلك اليتيم إن لم يتعهد بالتربية الصالحة عنصر تخريب في الأمة. ومن ينشئ مستشفي، فإنما يدفع أدواء تعوق القدرة الإنسانية فلا تنتج، فإذا حمى هذه القدرة فقد قدم للجماعة خيرًا كثيرًا بهذا الإنتاج.
وعلى ذلك نقول: إن سبعمائة الضعف ليست فقط هي الثواب الذي يناله صاحب الصدقة، إنما هي مع ذلك النتائج الجليلة التي ترتبت على هذه الصدقة.
وإنه ليزكي نظرنا هذا، إسناد الإنبات إلى الحبة، وهي التي شبهت بها الصدقة؛ لأن ذلك يدل على أن تلك الأضعاف نماء لتلك الحبة، وهي أنسب في معنى النتائج النافعة للصدقة في الأمة، لَا مجرد النفع فقط بالثواب لصاحبها.
وإن ذلك القول كله مبني على أن التشبيه بين الصدقة في نتائجها وبين الحبة في نمائها الدر الوفير؛ وأن الكلام على تقدير مضاف في قوله: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ) أي نفقة الذين ينفقون، على هذا التخريج الذي قاله كل المفسرين. ولقد خطر لي أنه لَا مانع من أن يكون التشبيه بين المنفقين أنفسهم من حيث كونهم عنصر
ولكن يصح مع ذلك أن نقول: إن الصدقة في سبيل الله تنتج سبعمائة مثل لها، لَا من حيث الثواب الذي يناله المنفق ممن يملك الثواب فقط، بل من حيث النتائج التي تنتج عنها، فإن نتائج الإنفاق في سبيل الله عظيمة تعود على الأمة بسبعمائة مثل لهذه الصدقة أو تزيد، فإن الإنفاق في سبيل الحرب بإعداد العدة يدفع كيد الأعداء فتنجو الأمة، وفي نجاتها خير كثير هو أكثر من سبعمائة ضعف من المال الذي أنفق. ومن يعطِ يتيما ويدر عليه من ماله فإنه يربيه، فتكون منه قوة عاملة في الأمة، تأتي من وجوه الخير بأضعاف ما أنفقت في تربيته، ودفع شرا خطيرا، وهو أن يكون ذلك اليتيم إن لم يتعهد بالتربية الصالحة عنصر تخريب في الأمة. ومن ينشئ مستشفي، فإنما يدفع أدواء تعوق القدرة الإنسانية فلا تنتج، فإذا حمى هذه القدرة فقد قدم للجماعة خيرًا كثيرًا بهذا الإنتاج.
وعلى ذلك نقول: إن سبعمائة الضعف ليست فقط هي الثواب الذي يناله صاحب الصدقة، إنما هي مع ذلك النتائج الجليلة التي ترتبت على هذه الصدقة.
وإنه ليزكي نظرنا هذا، إسناد الإنبات إلى الحبة، وهي التي شبهت بها الصدقة؛ لأن ذلك يدل على أن تلك الأضعاف نماء لتلك الحبة، وهي أنسب في معنى النتائج النافعة للصدقة في الأمة، لَا مجرد النفع فقط بالثواب لصاحبها.
وإن ذلك القول كله مبني على أن التشبيه بين الصدقة في نتائجها وبين الحبة في نمائها الدر الوفير؛ وأن الكلام على تقدير مضاف في قوله: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ) أي نفقة الذين ينفقون، على هذا التخريج الذي قاله كل المفسرين. ولقد خطر لي أنه لَا مانع من أن يكون التشبيه بين المنفقين أنفسهم من حيث كونهم عنصر
972
خير في الأمة له ثمرات منتجة، وبين الحبة من حيث ذلك النماء، وعلى ذلك لا يكون ثمة حاجة إلى تقدير مضاف محذوف، بل يكون المعنى على ذلك التخريج الذي يفيده ظاهر اللفظ: إن أولئك الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بإنفاقها في الجهاد لإنقاذ الأمة، أو لسد حاجة المعوزين ليكونوا قوة عاملة فيها ولا يكونوا عنصر تخريب، ويعملون لحفظ القوى الإنسانية من أن تبددها الأمراض، إن هؤلاء أنفسهم مثلهم في إنتاجهم وثمرات أعمالهم كمثل حبة نمت، فكان نماؤها أن تولد عنها عدد قد استغلظ وقام على سوقه، فحمل سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، وإن ذلك يكون كقوله تعالى في وصف المؤمنين ونتائجِ أعمالهم، ؛ إذ قال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ...).
وعلى هذا يكون تشبيه المنفقين أنفسهم بالحبة التي تنمو فتكون مائة، هو تشبيه المؤمنين بالزرع الذي يستغلظ فيقوم على سوقه، وينبت الخير الكثير.
وإن هذا خاطر خطر لي؛ وإنه يصح أن يستقيم عليه التخريج، وحتى على فرض التقدير؛ فإن حذف المقدر يومئ إليه ويشير.
(وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) هذا هو التشبيه المحكم الذي ذكره رب العالين، وتلك تخريجاته. ولقد بين سبحانه بعد ذلك أن هذا كله من فضل الله تعالى ومن رحمته، ونعمه التي أنعم بها على عباده؛ ولذا قال سبحانه: (وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشَاءُ) ولهذه الجملة السامية تخريجان:
أحدهما: أن تكون المضاعفة هي ذلك النماء، وهذا الثواب العظيم، يجعل الإنفاق ينتج عنه سبعمائة ضعف، ويجعل الحسنة الواحدة في باب الصدقات يكون ثوابها بسبعمائة مثل، وتكون بركتها في مال المنفق بسبعمائة مثل أيضًا؛ إن هذه المضاعفات يضاعفها الله سبحانه لمن يشاء بتوفيقه لفعل الخير، والإنفاق في سبيل الله، وهو سبحانه وتعالى الفعال لما يريد.
وعلى هذا يكون تشبيه المنفقين أنفسهم بالحبة التي تنمو فتكون مائة، هو تشبيه المؤمنين بالزرع الذي يستغلظ فيقوم على سوقه، وينبت الخير الكثير.
وإن هذا خاطر خطر لي؛ وإنه يصح أن يستقيم عليه التخريج، وحتى على فرض التقدير؛ فإن حذف المقدر يومئ إليه ويشير.
(وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) هذا هو التشبيه المحكم الذي ذكره رب العالين، وتلك تخريجاته. ولقد بين سبحانه بعد ذلك أن هذا كله من فضل الله تعالى ومن رحمته، ونعمه التي أنعم بها على عباده؛ ولذا قال سبحانه: (وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشَاءُ) ولهذه الجملة السامية تخريجان:
أحدهما: أن تكون المضاعفة هي ذلك النماء، وهذا الثواب العظيم، يجعل الإنفاق ينتج عنه سبعمائة ضعف، ويجعل الحسنة الواحدة في باب الصدقات يكون ثوابها بسبعمائة مثل، وتكون بركتها في مال المنفق بسبعمائة مثل أيضًا؛ إن هذه المضاعفات يضاعفها الله سبحانه لمن يشاء بتوفيقه لفعل الخير، والإنفاق في سبيل الله، وهو سبحانه وتعالى الفعال لما يريد.
973
وثانيهما: أن تكون المضاعفة التي يضاعفها ثوابًا أكثر من سبعمائة المثل وفوقها، ونماء أوفر منها، وعطاء أكبر.
فالله سبحانه، وهو رب كل شيء وخالق الأسباب والمسببات يستطيع أن يعطي سبعمائة وأكثر منها لمن يشاء؛ إذ يوفقه لفعل الخير بنية خالصة وقلب نقي، فيضاعف له أضعافًا كثيرة بعد السبعمائة التي نص عليها سبحانه.
ومهما يكن فإن الاتجاه واحد، وهو بيان سعة عطاء الله تعالى، وسعة نمائه، وهو الرزاق ذو القوة المتين.
وقد ذيل سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) أي أنه سبحانه عطاؤه واسع، فالسعة وصف للعطاء، أو وصف لله سبحانه وتعالى باعتبار شمول قدرته، وسعة ما يدخل في سلطان إرادته، فلا حد يحد هذه القدرة، ولا سلطان لغيوه سبحانه يمنع شمول هذه الإرادة.
وهو سبحانه عليم بعباده، عليم بالسر والجهر، وبما يجري على الألسنة وما تخفيه الصدور، وعليم بالأعمال، والنيات التي تنبعث عنها هذه الأعمال، وعليم بالأعمال ونتائجها، وهو سبحانه بقدرته القاهرة هو الذي يرتب المسببات على الأسباب، وينشئ بحكمته العلاقة المؤثرة بينهما، فلا يؤثر السبب في المسبب إلا بقدرته وإرادته التي تسير على مقتضى علمه الذي شمل كل شيء.
وقد ذيل سبحانه الآية بهذين الوصفيق للذات العلية، لكيلا يقع في نفس قارئ وهم بالاستكثار أو الاستبعاد، فإنه لابعيد على قدرته سبحانه، ولا كثير أمام إرادته، وإن كل شيء عند الله بمقدار، وهو يدبر كل أمر بعلمه وحكمته، وهو العزيز الحكيم، وهو بكل شيء عليم.
* * *
فالله سبحانه، وهو رب كل شيء وخالق الأسباب والمسببات يستطيع أن يعطي سبعمائة وأكثر منها لمن يشاء؛ إذ يوفقه لفعل الخير بنية خالصة وقلب نقي، فيضاعف له أضعافًا كثيرة بعد السبعمائة التي نص عليها سبحانه.
ومهما يكن فإن الاتجاه واحد، وهو بيان سعة عطاء الله تعالى، وسعة نمائه، وهو الرزاق ذو القوة المتين.
وقد ذيل سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) أي أنه سبحانه عطاؤه واسع، فالسعة وصف للعطاء، أو وصف لله سبحانه وتعالى باعتبار شمول قدرته، وسعة ما يدخل في سلطان إرادته، فلا حد يحد هذه القدرة، ولا سلطان لغيوه سبحانه يمنع شمول هذه الإرادة.
وهو سبحانه عليم بعباده، عليم بالسر والجهر، وبما يجري على الألسنة وما تخفيه الصدور، وعليم بالأعمال، والنيات التي تنبعث عنها هذه الأعمال، وعليم بالأعمال ونتائجها، وهو سبحانه بقدرته القاهرة هو الذي يرتب المسببات على الأسباب، وينشئ بحكمته العلاقة المؤثرة بينهما، فلا يؤثر السبب في المسبب إلا بقدرته وإرادته التي تسير على مقتضى علمه الذي شمل كل شيء.
وقد ذيل سبحانه الآية بهذين الوصفيق للذات العلية، لكيلا يقع في نفس قارئ وهم بالاستكثار أو الاستبعاد، فإنه لابعيد على قدرته سبحانه، ولا كثير أمام إرادته، وإن كل شيء عند الله بمقدار، وهو يدبر كل أمر بعلمه وحكمته، وهو العزيز الحكيم، وهو بكل شيء عليم.
* * *
974
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) الإنفاق في سبيل الله، سبيل النفع العام، يثمر ثمراته من الخير العميم؛ لأن العطاء المادي ينتج نتائجه من معونة في الجهاد، وسد للثغور، ومنع للأذى، ودفع للكرب، ولكن المنفق لَا يستحق ثواب الإنفاق إلا إذا كان طيب النفس في عطائه لَا يُرَنِّقه من ولا أذى ولا رياء؛ فالصدقة
974
تنتج آثارها في الجماعة حتما، مهما تكن نية صاحبها، ولكن صاحبها لَا ينال أجر المنفق إلا إذا خلصت نفسه من هذه العناصر الثلاثة: المن، والأذى، والرياء؛ فإن النتائج للأعمال، أما الثواب فللنيات؛ كما قال - ﷺ -: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " (١).
والمن: أن يَعُدَّ الإنسان إحسانه على من أحسن إليه، متطاولا به عليه، مبينًا له: أنها فضل ساقه إليه، غير مشكور، وإن ذلك فيه اتجاه إلى طلب المثوبة من العبد، لَا من الرب، فله ما اختار. ولقد قال الزمخشري في تفسيره: " صنوان مَن منح سائله ومَنَّ، ومن منع نائله وضنَّ " ولقد قال - ﷺ -: " ثلاثة لَا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنانُّ بما أعطى " (٢).
والأذى: أن يصدر عنه ما يؤلم من يأخذ ولو بغير منٍّ، كأن يقول له: ألا تعمل! أو يتجهم في وجهه عند العطاء، أو ينتقد بغير الحق الذين قاموا على المال الذي جمع لوجه عام. ويروى أن امرأة قالت لصحابي: دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقًّا، فإنهم إنما يخرجون يأكلون الفواكه، فإن عندي أسهمًا وجعبة، فقال: " لا بارك الله في أسهمك وجعبتك فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم! ".
ولماذا كان المن والأذى مانعين للأجر؛ لأن الأجر هو جزاء من الله، فمن تصدق يبتغي وجه الله فله ثوابه، ومن مَنَّ أو آذي فقد قصد غير وجه الله فليس له أن يطلب ثوابه. ولقد قال في ذلك ابن جرير الطبري:
(أوجب الأجر لمن كان غير مان ولا مؤذ لمن أنفق عليه في سبيل الله؛ لأن النفقة في سبيل الله مما ابتغي به وجه الله وطلب به ما عنده؛ فإذا كان معنى النفقة في سبيل الله هو ما وصفنا، فلا وجه لمن المنفق على من أنفق عليه؛ لأنه لَا يد له قِبَله، ولا صنيعة يستحق بها عليه - إن لم يكافئه عليها - المنَّ والأذى إذا كانت نفقة مَا أنفق عليه احتسابًا وابتغاء ثواب الله وطلب مرضاته، وعلى الله مثوبته دون من أنفق عليه).
________
(١) سبق قريبا تخريجه من رواية البخاري ومسلم، وقد استفتح به البخاري صحيحه.
(٢) رواه النسائي: الزكاة - المنان بما أعطى (٢٥١٥)].
والمن: أن يَعُدَّ الإنسان إحسانه على من أحسن إليه، متطاولا به عليه، مبينًا له: أنها فضل ساقه إليه، غير مشكور، وإن ذلك فيه اتجاه إلى طلب المثوبة من العبد، لَا من الرب، فله ما اختار. ولقد قال الزمخشري في تفسيره: " صنوان مَن منح سائله ومَنَّ، ومن منع نائله وضنَّ " ولقد قال - ﷺ -: " ثلاثة لَا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنانُّ بما أعطى " (٢).
والأذى: أن يصدر عنه ما يؤلم من يأخذ ولو بغير منٍّ، كأن يقول له: ألا تعمل! أو يتجهم في وجهه عند العطاء، أو ينتقد بغير الحق الذين قاموا على المال الذي جمع لوجه عام. ويروى أن امرأة قالت لصحابي: دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقًّا، فإنهم إنما يخرجون يأكلون الفواكه، فإن عندي أسهمًا وجعبة، فقال: " لا بارك الله في أسهمك وجعبتك فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم! ".
ولماذا كان المن والأذى مانعين للأجر؛ لأن الأجر هو جزاء من الله، فمن تصدق يبتغي وجه الله فله ثوابه، ومن مَنَّ أو آذي فقد قصد غير وجه الله فليس له أن يطلب ثوابه. ولقد قال في ذلك ابن جرير الطبري:
(أوجب الأجر لمن كان غير مان ولا مؤذ لمن أنفق عليه في سبيل الله؛ لأن النفقة في سبيل الله مما ابتغي به وجه الله وطلب به ما عنده؛ فإذا كان معنى النفقة في سبيل الله هو ما وصفنا، فلا وجه لمن المنفق على من أنفق عليه؛ لأنه لَا يد له قِبَله، ولا صنيعة يستحق بها عليه - إن لم يكافئه عليها - المنَّ والأذى إذا كانت نفقة مَا أنفق عليه احتسابًا وابتغاء ثواب الله وطلب مرضاته، وعلى الله مثوبته دون من أنفق عليه).
________
(١) سبق قريبا تخريجه من رواية البخاري ومسلم، وقد استفتح به البخاري صحيحه.
(٢) رواه النسائي: الزكاة - المنان بما أعطى (٢٥١٥)].
975
وقد بين سبحانه جزاء الذين ينفقون على هذا الوجه لَا يبتغون إلا رضاء سبحانه، ولا يرجون ثوابًا من أحد سواه، فذكر جزاءين عظيمين:
أولهما: (لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ) أي لهم جزاؤهم مكافأة لهم على أعمالهم
وسماه سبحانه وتعالى أجرًا، وهو المعطي الوهاب، توثيقًا للعطاء، وقال سبحانه: " لهم "، ولم يقل مثلا: " أعطيهم "، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى للإشارة إلى أنه كان لهم بنياتهم، واستحقوه باحتسابهم، وليعلمهم كيف يكون العطاء من غير أجر؛ إنه سبحانه وتعالى هو الذي منحهم المال الذي أعطوا منه، وهو الذي وفقهم لأن يعطوا، وهو الذي يملكهم وما ينفقون وما يعملون، ومع ذلك يسمى ما يعطيهم أجرًا قدموا مثيله من قبله مع أنه يعطيهم أضعافًا كثيرة عنه، ولكنه يعلم الناس كيف يكون البعد عن المن، وكيف العطاء غير ممنون.
الجزاء الثاني الذي ذكره رب العالمين هو الأمن والاطمئنان؛ ولذا قال سبحانه: (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وقد نفَى سبحانه وتعالى الخوف، ولم يقل لَا يخافون؛ لأن الخوف أمر نفسي، وقد يكون من غير مخوف، وتكون الخشية والخوف من شأن المؤمن شعورًا بتحمل التبعة؛ ولذا نفَى سبحانه الخوف أي الأمر المخوف، أي لَا ينزل بهم أمر من شأنه أن يخافوه، ولم ينف الخشية النفسية في ذاتها؛ إذ الحال النفسية من قوة الإحساس؛ ولذا يقول الصوفية: غلب الخوف على الرجاء. أما الحزن وهو الهم الذي يصيب القلب فهو منفي في كل صورة ولا يصح أن يكون حالا من حالات الإيمان.
وما الخوف المنفي والحزن؟ أهما ما يكونان في الآخرة؛ جل العلماء على ذلك، ولكن لماذا لَا يراد ما هو أعم من أحوال الدنيا والآخرة؛ وإن ذلك ما نختاره؛ لأن الإنفاق في سبيل الله يدفع خطر الأعداء من خارج الأمة، ويجمع الوحدة ويقضي على أسباب الفتن الداخلية، فيكون الأمن في الداخل والخارج معًا، فالمنفقون في سبيل الله لَا خوف عليهم في الدنيا، ولا يحزنون في الدنيا أيضًا كما أنهم لَا خوف عليهم في الآخرة ولا يحزنون.
أولهما: (لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ) أي لهم جزاؤهم مكافأة لهم على أعمالهم
وسماه سبحانه وتعالى أجرًا، وهو المعطي الوهاب، توثيقًا للعطاء، وقال سبحانه: " لهم "، ولم يقل مثلا: " أعطيهم "، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى للإشارة إلى أنه كان لهم بنياتهم، واستحقوه باحتسابهم، وليعلمهم كيف يكون العطاء من غير أجر؛ إنه سبحانه وتعالى هو الذي منحهم المال الذي أعطوا منه، وهو الذي وفقهم لأن يعطوا، وهو الذي يملكهم وما ينفقون وما يعملون، ومع ذلك يسمى ما يعطيهم أجرًا قدموا مثيله من قبله مع أنه يعطيهم أضعافًا كثيرة عنه، ولكنه يعلم الناس كيف يكون البعد عن المن، وكيف العطاء غير ممنون.
الجزاء الثاني الذي ذكره رب العالمين هو الأمن والاطمئنان؛ ولذا قال سبحانه: (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وقد نفَى سبحانه وتعالى الخوف، ولم يقل لَا يخافون؛ لأن الخوف أمر نفسي، وقد يكون من غير مخوف، وتكون الخشية والخوف من شأن المؤمن شعورًا بتحمل التبعة؛ ولذا نفَى سبحانه الخوف أي الأمر المخوف، أي لَا ينزل بهم أمر من شأنه أن يخافوه، ولم ينف الخشية النفسية في ذاتها؛ إذ الحال النفسية من قوة الإحساس؛ ولذا يقول الصوفية: غلب الخوف على الرجاء. أما الحزن وهو الهم الذي يصيب القلب فهو منفي في كل صورة ولا يصح أن يكون حالا من حالات الإيمان.
وما الخوف المنفي والحزن؟ أهما ما يكونان في الآخرة؛ جل العلماء على ذلك، ولكن لماذا لَا يراد ما هو أعم من أحوال الدنيا والآخرة؛ وإن ذلك ما نختاره؛ لأن الإنفاق في سبيل الله يدفع خطر الأعداء من خارج الأمة، ويجمع الوحدة ويقضي على أسباب الفتن الداخلية، فيكون الأمن في الداخل والخارج معًا، فالمنفقون في سبيل الله لَا خوف عليهم في الدنيا، ولا يحزنون في الدنيا أيضًا كما أنهم لَا خوف عليهم في الآخرة ولا يحزنون.
976
وقبل أن ننتقل إلى الآية الثالثة من آيات الإنفاق ننبه إلى بحثين لفظيين: أولهما: أن الله سبحانه وتعالى كرر النفي فقال: (ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى) لتأكيد النفي، بألا يصدر عنهم أي نوع من أنواع الأذى، فلا يكون مَنّ، ولا شبهة منٍّ، ولا أذى، سواء أكان أذى عن قرب أو بعد؛ حتى لقد قال بعض الصالحين: (لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه).
وثانيهما: إنه سبحانه وتعالى عطف بـ (ثُمَّ) في قوله تعالى: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى) فلماذا كان العطف بـ (ثُمَّ) دون الفاء؟ فهل مقتضى هذا أنه يسوغ المن والأذى عند العطاء، ولا يسوغ بعده بفترة من الزمان؟ والجواب عن ذلك أن التعبير بـ (ثُمَّ) أفاد النفي المطلق على عدم اتباع الإنفاق بالمن والأذى في زمن قريب أو بعيد؛ لأن المنفق في غالب الأحوال يكون عند إنفاقه في حال حماسية نفسية تدفعه إلى الإنفاق، فما يفكر في مَنٍّ ولا أذيً وقته، وإن خطر له ذلك فقد يمنعه من الإعطاء، إنما يكون التفكير في المَن أو الأذى بعد ذهاب فورة الخير في النفس، فإذا كان الله سبحانه قد صدَّر النفي بـ " ثم " فليحث المنفق على الاستمرار على نزعة الخير، ولا ينكص على عقبيه، فيفسد نيته بأذى يؤذي به من أجرى الخير على يديه، أو من يمن به على من أعطاه.
* * *
وثانيهما: إنه سبحانه وتعالى عطف بـ (ثُمَّ) في قوله تعالى: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى) فلماذا كان العطف بـ (ثُمَّ) دون الفاء؟ فهل مقتضى هذا أنه يسوغ المن والأذى عند العطاء، ولا يسوغ بعده بفترة من الزمان؟ والجواب عن ذلك أن التعبير بـ (ثُمَّ) أفاد النفي المطلق على عدم اتباع الإنفاق بالمن والأذى في زمن قريب أو بعيد؛ لأن المنفق في غالب الأحوال يكون عند إنفاقه في حال حماسية نفسية تدفعه إلى الإنفاق، فما يفكر في مَنٍّ ولا أذيً وقته، وإن خطر له ذلك فقد يمنعه من الإعطاء، إنما يكون التفكير في المَن أو الأذى بعد ذهاب فورة الخير في النفس، فإذا كان الله سبحانه قد صدَّر النفي بـ " ثم " فليحث المنفق على الاستمرار على نزعة الخير، ولا ينكص على عقبيه، فيفسد نيته بأذى يؤذي به من أجرى الخير على يديه، أو من يمن به على من أعطاه.
* * *
977
(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣)
في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه منزلة قول المعروف، وكيف يذهب الأذى بخير الصدقة الفردية، وأن الحرمان فيها مع قول الخير خير من الصدقة مع الأذى بالمن أو غيره، وأن ألم الحرمان أقل من أذى القول؛ لأنه أذى يصيب النفس بالجراح، وجراح النفس ليس لها التئام، أما ألم الحرمان فيذهبه الصبر، ووراء الصبر الفرج القريب، وإن الله مع الصابرين.
وقول المعروف هو الرد الجميل لطالب العطاء، وذلك بتأنيسه، وترجية الخير له، وإن هذا في ذاته صدقة؛ ولقد قال - ﷺ -: " الكلمة الطيبة صدقة، وإن من
في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه منزلة قول المعروف، وكيف يذهب الأذى بخير الصدقة الفردية، وأن الحرمان فيها مع قول الخير خير من الصدقة مع الأذى بالمن أو غيره، وأن ألم الحرمان أقل من أذى القول؛ لأنه أذى يصيب النفس بالجراح، وجراح النفس ليس لها التئام، أما ألم الحرمان فيذهبه الصبر، ووراء الصبر الفرج القريب، وإن الله مع الصابرين.
وقول المعروف هو الرد الجميل لطالب العطاء، وذلك بتأنيسه، وترجية الخير له، وإن هذا في ذاته صدقة؛ ولقد قال - ﷺ -: " الكلمة الطيبة صدقة، وإن من
977
المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق " (١) ولقد قال بعضا الحكماء (الق صاحب الحاجة بالبشر، فإن عدمت شكره لم تعدم عذره).
وإنه ظاهر من هذا أن قول المعروف يكون لصاحب المصلحة الشخصية الذي يطلب من المنفق مباشرة. ولقد ذكر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده أن قول المعروف يكون أيضًا عندما يكون الإنفاق في المصلحة العامة، وإنه يكون كفاءها، ومساويًا لها، وخيرًا من الصدقة التي يتبعها أذى، وذلك بالتحريض على العمل، وعلى الإنتاج، وعلى الإعطاء، ويكون بالدعوة إلى كل ما فيه رفعة الأمة وتقوية عناصرها والتعاون بين آحادها، وإن ذلك بلا ريب فضله لَا يقل عن الإنفاق من غير مَنٍّ، ويزيد عن الإنفاق مع المَنِّ والأذى.
والمغفرة معناها الستر أو العفو، والمراد: إما الستر من المطلوب منه العطاء، وعانوه، وذلك بأن يستر خلة المحتاج ولا يعلن سوء حاله، ويجعلها موضع حديثه، ويعفو عنه إذا أغلظ أو جفا، أو أثقل في السؤال، وألحف في المسألة، وإما أن نقول إن المغفرة هي مغفرة الله سبحانه وتعالى للمسئول إذا لم يعط من غير شح ولا بخل.
والمعنى على هذا التخريج: إن قول المعروف مع مغفرة الله سبحانه وتعالى خير من الصدقة يتبعها الأذى. والوجه الأول أظهو وأبين، وهو المتفق مع سياق القول.
وقد ختم الله سبحانه الآية بقوله تعالى: (وَاللَّهُ غَنِيٌ حَلِيمٌ) لإثبات أن الذين يعطون إنما يقصدون وجه الله بعطائهم لينفعوا عباده، فإذا لم يقصدوا وجهه تبارك وتعالى؛ ويطلبوا رضوانه، فإنه غني عنهم، وهو بغناه الذي يعلو فوق كل تقدير يستطيع أن يجعل الفقير غنيا يعطي، والغني فقيرًا يسأل، فالمال مال الله، وهو غاد ورائح والله سبحانه وتعالى حليم، وعلى الناس أن يتخلقوا بأخلاق الله تعالى، ولله المثل الأعلى، وليس كمثله شيء، فلا يصح أن يدفعهم حمقهم لأن يقولوا
________
(١) رواه الترمذي: البر والصلة (١٨٩٣)، وأحمد (١٤١٨٢).
وإنه ظاهر من هذا أن قول المعروف يكون لصاحب المصلحة الشخصية الذي يطلب من المنفق مباشرة. ولقد ذكر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده أن قول المعروف يكون أيضًا عندما يكون الإنفاق في المصلحة العامة، وإنه يكون كفاءها، ومساويًا لها، وخيرًا من الصدقة التي يتبعها أذى، وذلك بالتحريض على العمل، وعلى الإنتاج، وعلى الإعطاء، ويكون بالدعوة إلى كل ما فيه رفعة الأمة وتقوية عناصرها والتعاون بين آحادها، وإن ذلك بلا ريب فضله لَا يقل عن الإنفاق من غير مَنٍّ، ويزيد عن الإنفاق مع المَنِّ والأذى.
والمغفرة معناها الستر أو العفو، والمراد: إما الستر من المطلوب منه العطاء، وعانوه، وذلك بأن يستر خلة المحتاج ولا يعلن سوء حاله، ويجعلها موضع حديثه، ويعفو عنه إذا أغلظ أو جفا، أو أثقل في السؤال، وألحف في المسألة، وإما أن نقول إن المغفرة هي مغفرة الله سبحانه وتعالى للمسئول إذا لم يعط من غير شح ولا بخل.
والمعنى على هذا التخريج: إن قول المعروف مع مغفرة الله سبحانه وتعالى خير من الصدقة يتبعها الأذى. والوجه الأول أظهو وأبين، وهو المتفق مع سياق القول.
وقد ختم الله سبحانه الآية بقوله تعالى: (وَاللَّهُ غَنِيٌ حَلِيمٌ) لإثبات أن الذين يعطون إنما يقصدون وجه الله بعطائهم لينفعوا عباده، فإذا لم يقصدوا وجهه تبارك وتعالى؛ ويطلبوا رضوانه، فإنه غني عنهم، وهو بغناه الذي يعلو فوق كل تقدير يستطيع أن يجعل الفقير غنيا يعطي، والغني فقيرًا يسأل، فالمال مال الله، وهو غاد ورائح والله سبحانه وتعالى حليم، وعلى الناس أن يتخلقوا بأخلاق الله تعالى، ولله المثل الأعلى، وليس كمثله شيء، فلا يصح أن يدفعهم حمقهم لأن يقولوا
________
(١) رواه الترمذي: البر والصلة (١٨٩٣)، وأحمد (١٤١٨٢).
978
للفقير ما يؤلم، أو للقائم بالمصلحة العامة التي أنفقوا في سبيلها ما يثبط همته، وينهنه من عزيمته. وفي ذكر هذا الوصف الكريم في هذا المقام إشعار بأن المن والأذى ذنب كبير يستحق العقاب، ولكن لحلم الله تعالى، ولأن رحمته سبقت عذابه أمهل ولم يهمل.
* * *
* * *
979
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ... (٢٦٤)
هذا نهى صريح واضح عن المن والأذى، وقد تضمن هذا النهيَ الحَاسم أن الصدقات يبطلها المن والأذى، فلا يكون لها أجر من الله، ولا يكون لها شكر ممن أسدى إليه، سواء أكان الإنفاق في سبيل النفع العام، أم كان لبعض آحاد الأمة بسد الخلة، ودفع الحاجة؛ وقد أكد سبحانه النهي عن المن والأذي بثلاثة توكيدات:
أولها: تصدير الآية الكريمة بنداء للبعيد وفي ذلك فضل مبين، وبأن النداء للذين آمنوا، وفي هذا إشعار بأن الأذى في الصدقات ليس من صفات أهل الإيمان، إنما هو من صفات أهل الصلف والكبرياء والذين يمنون على الله وعلى الناس إن فعلوا الخير، وليست الكبرياء والاستطالة بفضل العطاء من صفات المؤمنين.
وثانيها: أنه صرح سبحانه بأن المن يبطل الصدقة، ولا يجعل لها ثوابًا عند الله، ولا شكرًا من الناس، ولذا قال - ﷺ -: " إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر " (١) وتلا قوله تعالى: (يَا أَيّهَا الَّذينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى).
وثالثها: أنه سبحانه وتعالى جعل المنفق مع المن والأذى كالمنفق رئاء الناس، والمنفق للرياء والسمعة مشرك شركا خفيا؛ ولذا وصف سبحانه وتعالى الذي ينفق ماله رئاء الناس، بأنه لَا يؤمن بالله واليوم الآخر، فأفعاله كقلبه ليست أفعال المؤمنين، وقلبه ليس قلب مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر؛ وإذا كان المنفق الذي يتبع صدقته بالمن والأذى مثله، فإن إبطال الصدقات أقل ما يناله.
________
(١) ذكره القرطبي في تفسيره: البقرة (٢٦٤) عن ابن سيرين رضي الله عنه.
هذا نهى صريح واضح عن المن والأذى، وقد تضمن هذا النهيَ الحَاسم أن الصدقات يبطلها المن والأذى، فلا يكون لها أجر من الله، ولا يكون لها شكر ممن أسدى إليه، سواء أكان الإنفاق في سبيل النفع العام، أم كان لبعض آحاد الأمة بسد الخلة، ودفع الحاجة؛ وقد أكد سبحانه النهي عن المن والأذي بثلاثة توكيدات:
أولها: تصدير الآية الكريمة بنداء للبعيد وفي ذلك فضل مبين، وبأن النداء للذين آمنوا، وفي هذا إشعار بأن الأذى في الصدقات ليس من صفات أهل الإيمان، إنما هو من صفات أهل الصلف والكبرياء والذين يمنون على الله وعلى الناس إن فعلوا الخير، وليست الكبرياء والاستطالة بفضل العطاء من صفات المؤمنين.
وثانيها: أنه صرح سبحانه بأن المن يبطل الصدقة، ولا يجعل لها ثوابًا عند الله، ولا شكرًا من الناس، ولذا قال - ﷺ -: " إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر " (١) وتلا قوله تعالى: (يَا أَيّهَا الَّذينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى).
وثالثها: أنه سبحانه وتعالى جعل المنفق مع المن والأذى كالمنفق رئاء الناس، والمنفق للرياء والسمعة مشرك شركا خفيا؛ ولذا وصف سبحانه وتعالى الذي ينفق ماله رئاء الناس، بأنه لَا يؤمن بالله واليوم الآخر، فأفعاله كقلبه ليست أفعال المؤمنين، وقلبه ليس قلب مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر؛ وإذا كان المنفق الذي يتبع صدقته بالمن والأذى مثله، فإن إبطال الصدقات أقل ما يناله.
________
(١) ذكره القرطبي في تفسيره: البقرة (٢٦٤) عن ابن سيرين رضي الله عنه.
979
ولماذا شدد سبحانه في النهي عن المن والأذى، وكرر ذلك في ثلاث آيات متواليات، وأكثر من التشبيه لتقبيح المن والأذى في الصدقة؟
الجواب عن ذلك: أن المن والأذى في الإنفاق ينشأ عن استطالة الغني بفضل غناه، والمباهاة بثروته وقدرته، وإنه لَا شيء يرمض نفس الفقير إلا إحساسه باستعلاء الغني بسبب الغنى، وصغار الفقير بسبب الفقر، وإن ذلك يدفع بلا شك إلى تفكيك الروابط، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، فإن الفقراء لَا يتألمون لذات الفقر إنما يتألمون من مرارته باعتزاز الغني عليهم، وإشعارهم بذل الحاجة، وعندئذ تتمرد النفوس، وتتعرض الأمم للخراب، وتذهب الوحدة الجامعة.
إن الغنى والفقر أمران لَا يخلو الوجود منهما، ولا يمكن أن تخلو أمة من غني وفقير، ما دامت القوى متفاوتة، والفرص لَا تواتي الجميع بقدر واحد، والأقدار لَا تسعف الجميع في زمن واحد، وما دامت تلك حقيقة مقررة، فعمل الشرائع هو تخفيف ويلات الفقر، ومنع استطالة الغني، ولقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (إن الله امتحن بعض عباده بالفقر، وأمرهم بالصبر، وامتحن الأغنياء بالمال، وأمرهم بالعطاء).
ولقد شبه سبحانه وتعالى المن والأذى بالرياء في الصدقة كما أشرنا فقال:
(كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) وفي هذا التشبيه إشارة إلى أن الذي ينفق ماله رئاء الناس، أي لأجل الرياء والسمعة، وأن يقول الناس: إنه سخي جواد، أو لتملق ذي جاه - أسوأ حالا عند الله من ذي المن والأذى، لأن المشبه به أقوى دائما من المشبه. ولقد ذكر سبحانه حال المرائي بنفقته على أنه أمر مقرر سوءه، وليس في حاجة إلى بيان، لأنه لَا اشتباه في بطلان ما أنفق، إذ إنه ما قصد الخير حتى يبطل قصده، فالفرق بينه وبين الأول أن الأول قصد الخير واحتسبه، ولكنه أفسد عمله بما خالطه به من مَنٍّ وأذى؛ أما الثاني وهو المرائي فلم يقصد خيرا قط، حتى يبطله سواه، فشبه سبحانه حال قاصد الخير المنان في إبطال عمله، بحال من لم يقصد خيرًا قط، بل الرياء والسمعة، وهو من فعل الشرك
الجواب عن ذلك: أن المن والأذى في الإنفاق ينشأ عن استطالة الغني بفضل غناه، والمباهاة بثروته وقدرته، وإنه لَا شيء يرمض نفس الفقير إلا إحساسه باستعلاء الغني بسبب الغنى، وصغار الفقير بسبب الفقر، وإن ذلك يدفع بلا شك إلى تفكيك الروابط، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، فإن الفقراء لَا يتألمون لذات الفقر إنما يتألمون من مرارته باعتزاز الغني عليهم، وإشعارهم بذل الحاجة، وعندئذ تتمرد النفوس، وتتعرض الأمم للخراب، وتذهب الوحدة الجامعة.
إن الغنى والفقر أمران لَا يخلو الوجود منهما، ولا يمكن أن تخلو أمة من غني وفقير، ما دامت القوى متفاوتة، والفرص لَا تواتي الجميع بقدر واحد، والأقدار لَا تسعف الجميع في زمن واحد، وما دامت تلك حقيقة مقررة، فعمل الشرائع هو تخفيف ويلات الفقر، ومنع استطالة الغني، ولقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (إن الله امتحن بعض عباده بالفقر، وأمرهم بالصبر، وامتحن الأغنياء بالمال، وأمرهم بالعطاء).
ولقد شبه سبحانه وتعالى المن والأذى بالرياء في الصدقة كما أشرنا فقال:
(كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) وفي هذا التشبيه إشارة إلى أن الذي ينفق ماله رئاء الناس، أي لأجل الرياء والسمعة، وأن يقول الناس: إنه سخي جواد، أو لتملق ذي جاه - أسوأ حالا عند الله من ذي المن والأذى، لأن المشبه به أقوى دائما من المشبه. ولقد ذكر سبحانه حال المرائي بنفقته على أنه أمر مقرر سوءه، وليس في حاجة إلى بيان، لأنه لَا اشتباه في بطلان ما أنفق، إذ إنه ما قصد الخير حتى يبطل قصده، فالفرق بينه وبين الأول أن الأول قصد الخير واحتسبه، ولكنه أفسد عمله بما خالطه به من مَنٍّ وأذى؛ أما الثاني وهو المرائي فلم يقصد خيرا قط، حتى يبطله سواه، فشبه سبحانه حال قاصد الخير المنان في إبطال عمله، بحال من لم يقصد خيرًا قط، بل الرياء والسمعة، وهو من فعل الشرك
980
الخفي، فقد قال النبي - ﷺ -: " من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك " (١).
ولهذا الفارق الجوهري بيَّن المنفق المنان، والمنفق رئاء الناس، ذكر الله عمل الأول بأنه صدقة، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى) ولم يصف عمل الثاني بأنه صدقة، ولا في سبيل الله، ولذا قال سبحانه: (كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ) فما الصدقة ابتغاها ولا الخير أراده، بل الشر كل الشر ما عمله.
(فَمَثَلًهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُون عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا) هذا تشبيه جديد، وقبل أن نذكر التشبيه ووجه الشبه نذكر معنى هذه الألفاظ: صفوان، وصلد، ووابل: فالصفوان اسم جنس جمعي لصفوانة، كشجر وشجرة، وهو الحجر الأملس. وقال الأخفش: إن صفوان مفرد كحجر. والصلد معناه الأجرد النقي؛ وقد قال الكسائي فيه: إنه من صَلِدَ يَصْلَدُ صَلَدًا، وهو ما لا ينبت شيئًا، وقد قال النقَّاش: الأصلد الأجرد الذي لَا ينبت شيئًا. والوابل هو المطر الشديد، وقد وَبَلَت السماء تبل، والأرض موبولة.
والآن نذكر المشبه به في الآية الكريمة؛ ويبدو بادي الرأي، أن التشبيه بين الذي ينفق ماله للرياء والحجر الصفوان الأملس الذي يكون على ظاهره قليل من التراب الذي يبدو به خصبًا، ووجه الشبه هو ظاهر الخصب الذي يبدو على ظاهر الحجر، ثم انكشافه بمطر وابل، وظهور حقيقته، وهو أنه لَا يمكن أن يكون منبتًا؛ فالمعنى أن حال من ينفق للرياء والظهور بمظهر البر المعطي وهو لَا يقصد وجه الله تعالى ولا يبتغي رضاه بل ينفق ليرائي الناس، هي كحال حجر أملس لَا ينتج شيئًا ولا ينبت نباتًا ولكن عليه ظاهر من التراب يوهم الناظر إليه أنه خصب منتج، ثم تتبين حاله بمطر يزيل ما ستره ويكشف حاله، فالمرائي لَا إنتاج لعمله مطلقًا كالحجر، وإن كان يبدو للناس بَرا فإن ذلك لَا يلبث أن ينكشف، وتظهر حاله بأمر
________
(١) سبق تخريجه.
ولهذا الفارق الجوهري بيَّن المنفق المنان، والمنفق رئاء الناس، ذكر الله عمل الأول بأنه صدقة، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى) ولم يصف عمل الثاني بأنه صدقة، ولا في سبيل الله، ولذا قال سبحانه: (كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ) فما الصدقة ابتغاها ولا الخير أراده، بل الشر كل الشر ما عمله.
(فَمَثَلًهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُون عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا) هذا تشبيه جديد، وقبل أن نذكر التشبيه ووجه الشبه نذكر معنى هذه الألفاظ: صفوان، وصلد، ووابل: فالصفوان اسم جنس جمعي لصفوانة، كشجر وشجرة، وهو الحجر الأملس. وقال الأخفش: إن صفوان مفرد كحجر. والصلد معناه الأجرد النقي؛ وقد قال الكسائي فيه: إنه من صَلِدَ يَصْلَدُ صَلَدًا، وهو ما لا ينبت شيئًا، وقد قال النقَّاش: الأصلد الأجرد الذي لَا ينبت شيئًا. والوابل هو المطر الشديد، وقد وَبَلَت السماء تبل، والأرض موبولة.
والآن نذكر المشبه به في الآية الكريمة؛ ويبدو بادي الرأي، أن التشبيه بين الذي ينفق ماله للرياء والحجر الصفوان الأملس الذي يكون على ظاهره قليل من التراب الذي يبدو به خصبًا، ووجه الشبه هو ظاهر الخصب الذي يبدو على ظاهر الحجر، ثم انكشافه بمطر وابل، وظهور حقيقته، وهو أنه لَا يمكن أن يكون منبتًا؛ فالمعنى أن حال من ينفق للرياء والظهور بمظهر البر المعطي وهو لَا يقصد وجه الله تعالى ولا يبتغي رضاه بل ينفق ليرائي الناس، هي كحال حجر أملس لَا ينتج شيئًا ولا ينبت نباتًا ولكن عليه ظاهر من التراب يوهم الناظر إليه أنه خصب منتج، ثم تتبين حاله بمطر يزيل ما ستره ويكشف حاله، فالمرائي لَا إنتاج لعمله مطلقًا كالحجر، وإن كان يبدو للناس بَرا فإن ذلك لَا يلبث أن ينكشف، وتظهر حاله بأمر
________
(١) سبق تخريجه.
981
لم يكن في حسبانه، فثوب الرياء يشف دائما عما تحته، وإن لم يكشفه فإن الله كاشفه.
هذا الكلام يدل على أن التشبيه منعقد بين المرائي والحجر الأملس الذي عليه قدر رقيق من التراب ستر حاله؛ ولكن كثيرين يجعلون التشبيه بين المنفق المنان والحجر الصلد، ويكون المعنى على ذلك أن حال المنان في نفقته التي يبطلها بالمن والأذى، كحال الحجر الأملس الذي عليه تراب كان يرجى أن يكون منتجًا منبتًا للزرع فيصيبه وابل يزيل التراب الذي عليه، فيزول سبب إنتاجه، ومادة الخصب فيه؛ فالمن والأذى في إبطالهما الصدقات التي من شأنها أن تأتي بالثواب ورضا رب العالمين، كالوابل الذي يزيل الصعيد الطيب الذي يخرج نباته بإذن ربه، من حيثما كان من شأنه أن ينتج الثواب، فأزال ذلك بمنه وأذاه.
وإني أرجح الأول، لأن التشبيه بلفظ المفرد، وهو يناسب الذي ينفق ماله رئاء الناس؛ لأنه بلفظ المفرد، والمنفق منا وأذى ذكر بلفظ الجمع، فالضمير في قوله تعالى: (فَمَثَلُهُ) أولى بأن يعود على المرائي لإفرادهما، ولأن الآيات التالية تبين حال المنفق ابتغاء مرضاة الله، وفيها تشبيه صدقتهم بالحبة التي تكون في أرض خصبة، وإن هذه مقابلة ظاهرة بين المنفق رياء، والمنفق ابتغاء مرضاة الله، فكان الأظهر إذن أن يكون التشبيه في هذه الآية بين الإنفاق رياء والحجر الأملس.
(لَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا) جمهور المفسرين على أن هذه الجملة السامية للدلالة على أن المنان والمرائي كلاهما لَا ثواب له، فالمعنى لَا يقدرون، أي لا ينالون شيئًا من المال الذي أرادوا بإنفاقه كسب الثواب، ولكن كيف يعبر عن نيل الثواب بالقدرة عليه، وعن الإنفاق بالكسب؟ وقد يجاب عن ذلك بأنهم إذا أنفقوا فقد صاروا قادرين على الثواب، وعلى كسبه بمقتضى ما وعد الله به عباده المتقين، فإذا مَنُّوا وآذوا في نفقته، فقد انتفت عنهم تلك القدرة على ثواب هذا الذي أنفقوا وقد كان من شأنه أن يكون كسبًا لهم.
هذا الكلام يدل على أن التشبيه منعقد بين المرائي والحجر الأملس الذي عليه قدر رقيق من التراب ستر حاله؛ ولكن كثيرين يجعلون التشبيه بين المنفق المنان والحجر الصلد، ويكون المعنى على ذلك أن حال المنان في نفقته التي يبطلها بالمن والأذى، كحال الحجر الأملس الذي عليه تراب كان يرجى أن يكون منتجًا منبتًا للزرع فيصيبه وابل يزيل التراب الذي عليه، فيزول سبب إنتاجه، ومادة الخصب فيه؛ فالمن والأذى في إبطالهما الصدقات التي من شأنها أن تأتي بالثواب ورضا رب العالمين، كالوابل الذي يزيل الصعيد الطيب الذي يخرج نباته بإذن ربه، من حيثما كان من شأنه أن ينتج الثواب، فأزال ذلك بمنه وأذاه.
وإني أرجح الأول، لأن التشبيه بلفظ المفرد، وهو يناسب الذي ينفق ماله رئاء الناس؛ لأنه بلفظ المفرد، والمنفق منا وأذى ذكر بلفظ الجمع، فالضمير في قوله تعالى: (فَمَثَلُهُ) أولى بأن يعود على المرائي لإفرادهما، ولأن الآيات التالية تبين حال المنفق ابتغاء مرضاة الله، وفيها تشبيه صدقتهم بالحبة التي تكون في أرض خصبة، وإن هذه مقابلة ظاهرة بين المنفق رياء، والمنفق ابتغاء مرضاة الله، فكان الأظهر إذن أن يكون التشبيه في هذه الآية بين الإنفاق رياء والحجر الأملس.
(لَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا) جمهور المفسرين على أن هذه الجملة السامية للدلالة على أن المنان والمرائي كلاهما لَا ثواب له، فالمعنى لَا يقدرون، أي لا ينالون شيئًا من المال الذي أرادوا بإنفاقه كسب الثواب، ولكن كيف يعبر عن نيل الثواب بالقدرة عليه، وعن الإنفاق بالكسب؟ وقد يجاب عن ذلك بأنهم إذا أنفقوا فقد صاروا قادرين على الثواب، وعلى كسبه بمقتضى ما وعد الله به عباده المتقين، فإذا مَنُّوا وآذوا في نفقته، فقد انتفت عنهم تلك القدرة على ثواب هذا الذي أنفقوا وقد كان من شأنه أن يكون كسبًا لهم.
982
وإني أرى أن يكون المعنى أن المنفقين الذين يتبعون ما أنفقوا منا وأذى، والذين يراءون ليس عندهم قدرة على شيء من المال الذي كسبوه، إنما القدرة من الله العلي القدير، فما كان لهم أن يمنوا ولا أن يؤذوا في سبيل ذلك الإنفاق، ولا أن يراءوا به، فالمال مال الله، وهو الذي بقدرته مكنهم منه، وسلطهم عليه، فعليهم أن يتقوا الله فيه، ويشكروا نعمة المنعم به، ولا يراءوا في إعطائهم، وإلا كانوا بالنعمة كافرين.
وعلى ذلك تكون هذه الجملة لتقوية المعنى في الإنفاق، والتحريض على الإخلاص لله في النفقة بحيث تكون خالية من المن والأذى والرياء.
(وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) ختم سبحانه وتعالى الآيات بهذه الجملة الحكيمة للإشارة إلى أن الإنفاق من غير مَنٍّ ولا أذى هو من خواص الإيمان، فالله سبحانه وتعالى يهدي إليه المؤمنين ولا يهدي إليه الكافرين، وللإشارة إلى أن المَنَّ والأذى والرياء إنما هي صفات الكافرين فيجب أن يقلع عنها أهل الإيمان، فهي صفات لَا تليق بهم، ولا ينبغي أن يكونوا عليها؛ لأن فيها كفرًا للنعمة التي أنعم الله بها، والصدقة رياء وسمعة فيها شرك خفي فيجب على المؤمن أن يطهر نفسه من هذه الأهواء المردية، وليضبط نفسه إذا أعطى، فلا ينطق لسانه بالمَنِّ، ولينق قلبه من الرياء فإنه يأكل الحسنة فيجعلها سيئة.
وفى الجملة إشارة إلى أن الله غني عن عطاء المنان المؤذي أو المرائي، إن أعطوا لنفع عام أو لدفع أذى الكافرين، فإن الله سيتولى الكافرين، وهو لَا يهديهم إلى سبيل الانتصار على المؤمنين الصادقينِ في إيمانهم؛ لأنهم أولياء الله الذين قال فيهم: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُون).
* * *
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ
وعلى ذلك تكون هذه الجملة لتقوية المعنى في الإنفاق، والتحريض على الإخلاص لله في النفقة بحيث تكون خالية من المن والأذى والرياء.
(وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) ختم سبحانه وتعالى الآيات بهذه الجملة الحكيمة للإشارة إلى أن الإنفاق من غير مَنٍّ ولا أذى هو من خواص الإيمان، فالله سبحانه وتعالى يهدي إليه المؤمنين ولا يهدي إليه الكافرين، وللإشارة إلى أن المَنَّ والأذى والرياء إنما هي صفات الكافرين فيجب أن يقلع عنها أهل الإيمان، فهي صفات لَا تليق بهم، ولا ينبغي أن يكونوا عليها؛ لأن فيها كفرًا للنعمة التي أنعم الله بها، والصدقة رياء وسمعة فيها شرك خفي فيجب على المؤمن أن يطهر نفسه من هذه الأهواء المردية، وليضبط نفسه إذا أعطى، فلا ينطق لسانه بالمَنِّ، ولينق قلبه من الرياء فإنه يأكل الحسنة فيجعلها سيئة.
وفى الجملة إشارة إلى أن الله غني عن عطاء المنان المؤذي أو المرائي، إن أعطوا لنفع عام أو لدفع أذى الكافرين، فإن الله سيتولى الكافرين، وهو لَا يهديهم إلى سبيل الانتصار على المؤمنين الصادقينِ في إيمانهم؛ لأنهم أولياء الله الذين قال فيهم: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُون).
* * *
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ
983
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)
* * *
في الآيات السابقة بيَّن سبحانه الصدقات التي يشوبها الرياء فيذهب بخيرها، وأن الرياء في الصدقة لَا يصدر عن شخص يؤمن بالله واليوم الآخر صادق الإيمان، وأن الرياء في الصدقة يذهب بثمرتها والقربى فيها كما يذهب المطر الغزير يصيب أرضا حجرية عليها قشرة رقيقة من التراب، فيذهب المطر الشديد بها.
وفى الآية الأولى من هاتين الآيتين يبين سبحانه وتعالى الثمرة المترتبة على الصدقة ابتغاء مرضاة الله تعالى، ولتربية التقوى في النفس وتهذيبها، وإرهاف إحساسها بحق المجتمع على ذوي المال من المؤمنين فقال تعالى: (وَمَثَلُ الَّذينَ يُنفقُونَ أَمْوَالَهُمُ اتغَاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ).
يشبه سبحانه وتعالى حال الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله ولتثبيت النفس على التقوى وتهذيبها وتقويتها تهذيبًا ناشئًا عنها منبعثًا منها - يشبه سبحانه وتعالى حال هؤلاء المنفقين بجنة، أي حديقة غنَّاء كثيرة الأشجار، بربوة أي أرض مرتفعة أصابها مطر غزير فآتت ثمراتها ضعفين أي مثلين مما ينتج أمثالها.
ولابد لبيان هذا التشبيه السامي أن نبين المشبه، والمشبه به، ووجه الشبه، والتوجيه الكريم من هذا التشبيه:
* * *
في الآيات السابقة بيَّن سبحانه الصدقات التي يشوبها الرياء فيذهب بخيرها، وأن الرياء في الصدقة لَا يصدر عن شخص يؤمن بالله واليوم الآخر صادق الإيمان، وأن الرياء في الصدقة يذهب بثمرتها والقربى فيها كما يذهب المطر الغزير يصيب أرضا حجرية عليها قشرة رقيقة من التراب، فيذهب المطر الشديد بها.
وفى الآية الأولى من هاتين الآيتين يبين سبحانه وتعالى الثمرة المترتبة على الصدقة ابتغاء مرضاة الله تعالى، ولتربية التقوى في النفس وتهذيبها، وإرهاف إحساسها بحق المجتمع على ذوي المال من المؤمنين فقال تعالى: (وَمَثَلُ الَّذينَ يُنفقُونَ أَمْوَالَهُمُ اتغَاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ).
يشبه سبحانه وتعالى حال الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله ولتثبيت النفس على التقوى وتهذيبها وتقويتها تهذيبًا ناشئًا عنها منبعثًا منها - يشبه سبحانه وتعالى حال هؤلاء المنفقين بجنة، أي حديقة غنَّاء كثيرة الأشجار، بربوة أي أرض مرتفعة أصابها مطر غزير فآتت ثمراتها ضعفين أي مثلين مما ينتج أمثالها.
ولابد لبيان هذا التشبيه السامي أن نبين المشبه، والمشبه به، ووجه الشبه، والتوجيه الكريم من هذا التشبيه:
984
أما المشبه فهو قوله تعالى:
985
(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ) فالمثل هو الحال والشأن، ومعنى ابتغاء مرضاة الله طلب رضاه سبحانه وتعالى الدائم المستمر، فالمرضاة مفعلة من الرضا، فهي مصدر ميمي من الرضا، وهو أقوى في الدلالة من معنى الرضا، إذ المعنى فيها الرضا الثابت الدائم الذي لَا يكون معه أي غضب من الولي العزيز الحكيم القوي القهار، فهو ينفق طالبا قويا موثقا رضا الله سبحانه وتعالى رضًا دائمًا مستمرًا.
وأما معنى (وَتَثْبِيتًا) فقد اختلفت عبارات المفسرين حولها، وإن انتهت إلى الاتفاق على مغزاها ومرماها؛ وإن أصل معنى ثبت قوى حقيقة ودعمها، ومن ذلك قوله تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)، ويقال ثبت فلان في الأمر أي صحت عزيمته فيه وداوم عليه؛ ويقال أيضًا: ثبَّتُ فلانًا في الأمر، أي جعلته ثابتًا فيه لَا يتزعزع عنه ولا يضطرب، وقويت رأيه فيه.
والمعنى على ذلك: أن أولئك المتقين من المنفقين ينفقون طلبًا لرضا الله الدائم عليهم وتثبيتًا من أنفسهم أي تقوية لليقين والإيمان والاحتساب إلى الله تعالى، وتلك التقوية وهذا التثبيت صادر عن أنفسهم، فهم يربون أنفسهم على الإيمان واليقين، فـ " مِنْ " في قوله تعالى: (وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ) هي " من " التي تكون بمعنى الابتداء، أي أن التثبيت مبتدئ من أنفسهم، فهم يزكونها وينقونها ويراقبونها، لكيلا يدخلها أي معنى من معاني الرياء والنفاق، أو الاتجاه إلى المَنِّ والأذى؛ وفي هذا إشارة واضحة إلى أنهم ينفقون ما ينفقون قاصدين وجه الله تعالى، وأن ذلك القصد يستمر دائمًا، فلا يجيء وقت يمنون فيه ويؤذون؛ لأن الثبات يقتضي الاستمرار على حال واحدة، وهي حال ابتغاء رضا الله وحده، لَا يرجون من غيره جزاء ولا حمدًا ولا ثناء، ولا يبتغون بغير رضا الله بديلا.
ويصح أن يكون معنى (وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ) أي يقينًا وإيمانًا صادرًا من أنفسهم فالمعنى على هذا أن أولئك المنفقين المخلصين يتفقون طالبين رضا الله تعالى
وأما معنى (وَتَثْبِيتًا) فقد اختلفت عبارات المفسرين حولها، وإن انتهت إلى الاتفاق على مغزاها ومرماها؛ وإن أصل معنى ثبت قوى حقيقة ودعمها، ومن ذلك قوله تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)، ويقال ثبت فلان في الأمر أي صحت عزيمته فيه وداوم عليه؛ ويقال أيضًا: ثبَّتُ فلانًا في الأمر، أي جعلته ثابتًا فيه لَا يتزعزع عنه ولا يضطرب، وقويت رأيه فيه.
والمعنى على ذلك: أن أولئك المتقين من المنفقين ينفقون طلبًا لرضا الله الدائم عليهم وتثبيتًا من أنفسهم أي تقوية لليقين والإيمان والاحتساب إلى الله تعالى، وتلك التقوية وهذا التثبيت صادر عن أنفسهم، فهم يربون أنفسهم على الإيمان واليقين، فـ " مِنْ " في قوله تعالى: (وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ) هي " من " التي تكون بمعنى الابتداء، أي أن التثبيت مبتدئ من أنفسهم، فهم يزكونها وينقونها ويراقبونها، لكيلا يدخلها أي معنى من معاني الرياء والنفاق، أو الاتجاه إلى المَنِّ والأذى؛ وفي هذا إشارة واضحة إلى أنهم ينفقون ما ينفقون قاصدين وجه الله تعالى، وأن ذلك القصد يستمر دائمًا، فلا يجيء وقت يمنون فيه ويؤذون؛ لأن الثبات يقتضي الاستمرار على حال واحدة، وهي حال ابتغاء رضا الله وحده، لَا يرجون من غيره جزاء ولا حمدًا ولا ثناء، ولا يبتغون بغير رضا الله بديلا.
ويصح أن يكون معنى (وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ) أي يقينًا وإيمانًا صادرًا من أنفسهم فالمعنى على هذا أن أولئك المنفقين المخلصين يتفقون طالبين رضا الله تعالى
985
وهم موقنون صادقو الإيمان بربهم محتسبو النية له تعالى. وفي ذلك إشارة إلى أن أولئك المراءين الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس أو يتبعون ما ينفقون منًّا أو أذي ليس إيمانهم كاملا، ولا يقينهم مستقرًا ثابتًا؛ والمعنيان متلاقيان في الجملة، أو على الأقل متقاربان جدا. هذه مفردات المشبه ومعناه.
أما المشبه به فهو قوله تعالى: (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ) والجنة البستان، وسمى البستان جنة، وهي فعلة من جن بمعنى ستر وغطى؛ لأن الأشجار تغطيها فلا ترى أرضها، وكأن الأرض مغطاة بلفائف الأشجار. والربوة المكان المرتفع قليلا، في خصوبة تربة، وجودة زرع، والربوات من الأراضي أخصب وأكثر إنتاجًا من المنخفضات؛ ولما كان مرتفع الأرض لَا تصل إليه مجاري الأنهار عادة ذكر الله سبحانه وتعالى أن تلك الربوة قد أنعم الله عليها بوابل أي مطر غزير أصابها، وبذلك تجتمع لها أسباب الإنتاج الكثير، وهي ثلاثة: خصب تربة، وتخلل الشمس لأجزائها، إذ إنها بارتفاعها صارت الشمس تنفذ إلى الأشجار، وفي ضوء الشمس غذاء للأشجار كغذاء الماء؛ والثالث الماء النقي الغزير، يصيبها به مالك السماوات والأرض يكون لها نعمة يمد زرعها بالغذاء، ولا يزيل طبقة الخصب فيه كالوابل الذي يصيب الحجر الصوَّان فيتركه أملس صلدًا، بل إنه يمدها بالإنتاج لأنَّ الخصوبة فيها ليست قشرة ظاهرة من التراب يزيلها الماء الغزير فلا تنبت بل خصوبتها في معدنها، وليست مظهرًا بل هي حقيقة وجوهر.
وإذا كانت أسباب الإنتاج الكثير قد توافرت، فإن الثمرة ستكون لَا محالة بمقدار توافر هذه الأسباب؛ ولذا قال تعالى: (فآتَتْ أُكلَهَا ضِعْفَيْنِ) فالفاء للسببية أي أن ما قبلها سبب لما بعدها، وآتت بمعنى أعطت، والمعطي في الحقيقة هو الله تعالى، ولكن أسند إليها العطاء لتوافر الأسباب التي خلقها المولى القدير فيها، وتضافر كل المهيئات التي هيأها المولى العلي القدير لإنتاجها.
والأُكل: الثمر الذي يؤكل، وفي التعبير عن الثمر بالأكل من غير وصف سواه إشارة إلى طيب ثمرها وحسنه، واستساغة النفس له، وجودة الغذاء منه؛ لأنه
أما المشبه به فهو قوله تعالى: (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ) والجنة البستان، وسمى البستان جنة، وهي فعلة من جن بمعنى ستر وغطى؛ لأن الأشجار تغطيها فلا ترى أرضها، وكأن الأرض مغطاة بلفائف الأشجار. والربوة المكان المرتفع قليلا، في خصوبة تربة، وجودة زرع، والربوات من الأراضي أخصب وأكثر إنتاجًا من المنخفضات؛ ولما كان مرتفع الأرض لَا تصل إليه مجاري الأنهار عادة ذكر الله سبحانه وتعالى أن تلك الربوة قد أنعم الله عليها بوابل أي مطر غزير أصابها، وبذلك تجتمع لها أسباب الإنتاج الكثير، وهي ثلاثة: خصب تربة، وتخلل الشمس لأجزائها، إذ إنها بارتفاعها صارت الشمس تنفذ إلى الأشجار، وفي ضوء الشمس غذاء للأشجار كغذاء الماء؛ والثالث الماء النقي الغزير، يصيبها به مالك السماوات والأرض يكون لها نعمة يمد زرعها بالغذاء، ولا يزيل طبقة الخصب فيه كالوابل الذي يصيب الحجر الصوَّان فيتركه أملس صلدًا، بل إنه يمدها بالإنتاج لأنَّ الخصوبة فيها ليست قشرة ظاهرة من التراب يزيلها الماء الغزير فلا تنبت بل خصوبتها في معدنها، وليست مظهرًا بل هي حقيقة وجوهر.
وإذا كانت أسباب الإنتاج الكثير قد توافرت، فإن الثمرة ستكون لَا محالة بمقدار توافر هذه الأسباب؛ ولذا قال تعالى: (فآتَتْ أُكلَهَا ضِعْفَيْنِ) فالفاء للسببية أي أن ما قبلها سبب لما بعدها، وآتت بمعنى أعطت، والمعطي في الحقيقة هو الله تعالى، ولكن أسند إليها العطاء لتوافر الأسباب التي خلقها المولى القدير فيها، وتضافر كل المهيئات التي هيأها المولى العلي القدير لإنتاجها.
والأُكل: الثمر الذي يؤكل، وفي التعبير عن الثمر بالأكل من غير وصف سواه إشارة إلى طيب ثمرها وحسنه، واستساغة النفس له، وجودة الغذاء منه؛ لأنه
986
وصف بأخص ما يطلب له الثمر الجيد الطيب المستساغ وهو أن يؤكل، ومعنى " ضعفين " أي أنها آتت بضعفي ثمر غيرها من الأرض، والضعف معناه هنا المثل، وقد ذكرنا ذلك من قبل، أي أن توافر هذه الأسباب جعلها تنتج بمقدار مرتين مما ينتج غيرها. ويصح أن يكون المراد من الضعفين الكثرة المطلقة من غير تقيد باثنين كما في قوله تعالى: (ارْجِعِ الْبَصَرَ كرَّتَيْنِ...).
ولكن تلك الأرض الطيبة المباركة التي شبهت بها نفس المؤمن الطيبة، ربما لا يصيبها الوابل وهو المطر الغزير فلا يننتج طيبًا في هذه الحال؛ فبين سبحانه وتعالى أنها تنتج أيضًا بمطر قليل، ولذا قال تعالى (فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ) والطل أضعف المطر، وزرع الطل أضعف من زرع المطر الغزير وأقل ريعًا، ولكن يكون في عيدانه قوة تماسك ونفع.
ولكن هل يكون المعنى في الآية أنها تنتج ضعفين، كما أنتجت في حال الوابل؟ بين أيدينا منهاجان:
أولهما أن نقول: إنها تنتج مثلها بما توافر فيها من علو يجعل الشمس تخلل أجزاءها فتمدها بغذاء يغنيها عن كثرة الماء، وبما فيها من خصب تتوافر فيه عناصر التغذية أكثر من غيرها، فيكون ذلك معوضًا لها عن قلة الماء، وتكون النتيجة على هذا التوجيه أن قلة الماء وكثرتها سواء، لتوافر أسباب النماء. هذا هو التوجيه الأول.
أما التوجيه الثاني فهو أن نقول: إن المعنى أنها تنتج على كل حال، فإن كان المطر غزيرًا أنتجت كثيرًا وإن كان المطر قليلا فالإنتاج وإن قل طيب نافع، وإن كانت الربوة هي المقابلة في التشبيه للنفس المؤمنة الطيبة، فيكون المعنى أن النفس التقية المؤمنة التي تبغي بإنفاقها رضوان الله تعالى، وتثبيت إيمانها وتصديقها بالإنفاق في سبيله، لإنفاقها إنتاج عظيم، ونعيم مقيم، إن قلَّ فهو في نفعه كالثمر الذي ينتج من الربوة الخصبة التي يصيبها طل، وإن كثر فهو كتلك الربوة تؤتي ثمرتها ضعفين إن أصابها وابل، وعلى ذلك فالقليل والكثير ذو نفع عظيم وخير عميم.
ولكن تلك الأرض الطيبة المباركة التي شبهت بها نفس المؤمن الطيبة، ربما لا يصيبها الوابل وهو المطر الغزير فلا يننتج طيبًا في هذه الحال؛ فبين سبحانه وتعالى أنها تنتج أيضًا بمطر قليل، ولذا قال تعالى (فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ) والطل أضعف المطر، وزرع الطل أضعف من زرع المطر الغزير وأقل ريعًا، ولكن يكون في عيدانه قوة تماسك ونفع.
ولكن هل يكون المعنى في الآية أنها تنتج ضعفين، كما أنتجت في حال الوابل؟ بين أيدينا منهاجان:
أولهما أن نقول: إنها تنتج مثلها بما توافر فيها من علو يجعل الشمس تخلل أجزاءها فتمدها بغذاء يغنيها عن كثرة الماء، وبما فيها من خصب تتوافر فيه عناصر التغذية أكثر من غيرها، فيكون ذلك معوضًا لها عن قلة الماء، وتكون النتيجة على هذا التوجيه أن قلة الماء وكثرتها سواء، لتوافر أسباب النماء. هذا هو التوجيه الأول.
أما التوجيه الثاني فهو أن نقول: إن المعنى أنها تنتج على كل حال، فإن كان المطر غزيرًا أنتجت كثيرًا وإن كان المطر قليلا فالإنتاج وإن قل طيب نافع، وإن كانت الربوة هي المقابلة في التشبيه للنفس المؤمنة الطيبة، فيكون المعنى أن النفس التقية المؤمنة التي تبغي بإنفاقها رضوان الله تعالى، وتثبيت إيمانها وتصديقها بالإنفاق في سبيله، لإنفاقها إنتاج عظيم، ونعيم مقيم، إن قلَّ فهو في نفعه كالثمر الذي ينتج من الربوة الخصبة التي يصيبها طل، وإن كثر فهو كتلك الربوة تؤتي ثمرتها ضعفين إن أصابها وابل، وعلى ذلك فالقليل والكثير ذو نفع عظيم وخير عميم.
987
والتوجيه الأول عندي أولى بالقبول، لأنه ليس في الآية ما يدل على قلة الإنتاج، فإن قلة المطر لاتستلزم قلة الثمر، بل قد تكون كثرة الماء معوقة عن الإنتاج لَا مكثرة له وعلى ذلك يكون المعنى: أن تلك الربوة لخصبها وطيب مناخها وتخلل الشمس لأجزائها تنتج خيرًا كثيرًا، سواء قل الماء أم كثر، متى وجد القدر المنبت.
هذان طرفا التشبيه: المشبه والمشبه به، وبقي علينا أن نبين وجه الشبه في النص السامي الكريم، وذلك بتوجيه التشبيه في جملته وسياقه، وذلك أن الله سبحانه وتعالى شبه هؤلاء المنفقين عن إيمان صادق، قاصدين بإنفاقهم وجه الله جل جلاله لَا يبغون سوى رضاه، مثلهم في إنفاقهم الكثير والقليل كمثل جنة بربوة خصبة منتجة تنتج دائمًا في حال غزارة المطر، وفي حال قلته، فأكلها دائم، ونفعها مستمر، لَا يمنعون خيرهم إن لم يشكرهم الناس، ولا يؤذون في نفعهم أحدًا من الناس، ولا يراءون الناس، فصدقتهم في نماء، تنمو دائمًا في الناس بنفع ينالهم، كصدقة جارية مستمرة لَا تنقطع، ثم نفعها للمنفق دائم بما يحسه من أريحية دينية واطمئنان قلب، ولذة العبودية في الاتجاه إلى الله وحده والاستعلاء بالاستغناء عن شكر الشاكرين ومدح المادحين، ثم يعقب ذلك كله جزاء كريم من رب العالمين، يوم الدين، ولذا قرر النبي - ﷺ - أن الصدقة تنمو لصاحبها كما ينمو الفلو (١) يربيه صاحبه، فقال - ﷺ -: " لَا يَتَصَدَّقُ أَحَدٌ بِتَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، إِلَّا أَخَذَهَا اللهُ بِيَمِينِهِ، فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، أَوْ فصيلهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ، أَوْ أَعْظَمَ " (٢).
(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير) ختم سبحانه وتعالى هذه الآية بتلك الجملة السامية ليعلم الناس عظيم مراقبته سبحانه وتعالى لأحوالهم، واطلاعه على خفايا نفوسهم، فيراقبوه سبحانه في أفعالهم وأقوالهم، كما يراقبهم سبحانه، فتمتلئ قلوبهم عند العمل بعظمته، فيعملوا ما يعملون محسين بأنه مطلع على ما تخفي صدورهم،
________
(١) الفُلُوُّ هو المُهر.
(٢) رواه بهذا اللفظ أحمد (٩٠٦٤) في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، وبنحوه عنه أيضا رواه البخاري: الزكاة (ا١٣٢) ومسلم (١٦٨٢).
هذان طرفا التشبيه: المشبه والمشبه به، وبقي علينا أن نبين وجه الشبه في النص السامي الكريم، وذلك بتوجيه التشبيه في جملته وسياقه، وذلك أن الله سبحانه وتعالى شبه هؤلاء المنفقين عن إيمان صادق، قاصدين بإنفاقهم وجه الله جل جلاله لَا يبغون سوى رضاه، مثلهم في إنفاقهم الكثير والقليل كمثل جنة بربوة خصبة منتجة تنتج دائمًا في حال غزارة المطر، وفي حال قلته، فأكلها دائم، ونفعها مستمر، لَا يمنعون خيرهم إن لم يشكرهم الناس، ولا يؤذون في نفعهم أحدًا من الناس، ولا يراءون الناس، فصدقتهم في نماء، تنمو دائمًا في الناس بنفع ينالهم، كصدقة جارية مستمرة لَا تنقطع، ثم نفعها للمنفق دائم بما يحسه من أريحية دينية واطمئنان قلب، ولذة العبودية في الاتجاه إلى الله وحده والاستعلاء بالاستغناء عن شكر الشاكرين ومدح المادحين، ثم يعقب ذلك كله جزاء كريم من رب العالمين، يوم الدين، ولذا قرر النبي - ﷺ - أن الصدقة تنمو لصاحبها كما ينمو الفلو (١) يربيه صاحبه، فقال - ﷺ -: " لَا يَتَصَدَّقُ أَحَدٌ بِتَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، إِلَّا أَخَذَهَا اللهُ بِيَمِينِهِ، فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، أَوْ فصيلهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ، أَوْ أَعْظَمَ " (٢).
(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير) ختم سبحانه وتعالى هذه الآية بتلك الجملة السامية ليعلم الناس عظيم مراقبته سبحانه وتعالى لأحوالهم، واطلاعه على خفايا نفوسهم، فيراقبوه سبحانه في أفعالهم وأقوالهم، كما يراقبهم سبحانه، فتمتلئ قلوبهم عند العمل بعظمته، فيعملوا ما يعملون محسين بأنه مطلع على ما تخفي صدورهم،
________
(١) الفُلُوُّ هو المُهر.
(٢) رواه بهذا اللفظ أحمد (٩٠٦٤) في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، وبنحوه عنه أيضا رواه البخاري: الزكاة (ا١٣٢) ومسلم (١٦٨٢).
988
فتتجه القلوب - تحت تأثير هذه الرقابة المسيطرة العليمة التي لَا تغادر صغيرة ولا كبيرة - إليه سبحانه وحده، ولا تتجه إلى سواه.
وفوق ذلك فإن لذلك التذييل السامي معنى آخر مناسبًا مناسبة أخص للسياق الخاص بحسن القصد في الإنفاق، وهو بيان أن الله سبحانه وتعالى يعلم الذين أخلصت قلوبهم في الصدقة فلم تبتغ رضا أحد غير الله تعالى، فيجازيها على إخلاصها في النية، واحتسابها الخير لوجه الله الكريم، ويعلم من ينفق رياء أو يتبع ما ينفق بالمن والأذى فيحبط عمله.
وإن عبارات التذييل في ذاتها تربي المهابة للذات العلية في النفس التي تريد ما عند الله تعالى؛ فإنه قد صدَّر الجملة السامية بلفظ الجلالة الذي يدل في ذاته على العلو والسلطان والألوهية الحق؛ ثم إن هذا القاهر فوق عباده يعلم علم من يبصر ويعاين ويرى بكل ما يعمله الناس من خير وشر، وما يقصدون في صدقاتهم، فإن أرادوا رضاه فقد آووا إلى ركن حصين، وإن قصدوا سواه فهم على شفا جرف هار، وسينهار بهم في نار جهنم، فلا أموالهم بقيت لهم، ولا الثواب نالوا، بل العقوبة تستقبلهم ومقت الناس يلحقهم، والله من ورائهم محيط.
* * *
وفوق ذلك فإن لذلك التذييل السامي معنى آخر مناسبًا مناسبة أخص للسياق الخاص بحسن القصد في الإنفاق، وهو بيان أن الله سبحانه وتعالى يعلم الذين أخلصت قلوبهم في الصدقة فلم تبتغ رضا أحد غير الله تعالى، فيجازيها على إخلاصها في النية، واحتسابها الخير لوجه الله الكريم، ويعلم من ينفق رياء أو يتبع ما ينفق بالمن والأذى فيحبط عمله.
وإن عبارات التذييل في ذاتها تربي المهابة للذات العلية في النفس التي تريد ما عند الله تعالى؛ فإنه قد صدَّر الجملة السامية بلفظ الجلالة الذي يدل في ذاته على العلو والسلطان والألوهية الحق؛ ثم إن هذا القاهر فوق عباده يعلم علم من يبصر ويعاين ويرى بكل ما يعمله الناس من خير وشر، وما يقصدون في صدقاتهم، فإن أرادوا رضاه فقد آووا إلى ركن حصين، وإن قصدوا سواه فهم على شفا جرف هار، وسينهار بهم في نار جهنم، فلا أموالهم بقيت لهم، ولا الثواب نالوا، بل العقوبة تستقبلهم ومقت الناس يلحقهم، والله من ورائهم محيط.
* * *
989
(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ (٢٦٦)
* * *
هذا مثل ثان يذكره سبحانه وتعالى في بيان أولئك الذين يحبطون أعمالهم من صدقات أو صلوات أو حج وغير ذلك من أعمال البر بالرياء أو المن والأذى، أو التطاول على الناس بما يزعمون لأنفسهم من عمل خير قاموا به.
وهو يختلف عن التشبيه السابق من ناحيتين:
أولاهما: في الشكل، فإن التشبيه الأول كان بصريح اللفظ، وقد ذكر فيه المشبه والمشبه به وأداة التشبيه وهي الكاف في قوله تعالى: (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ)؛ أما هذا التشبيه فلم يذكر فيه الشبه ولا أداة التشبيه، وهو من النوع البياني الذي يسميه علماء البلاغة " استعارة تمثيلية " وهي تشبيه حال بحال لم تذكر فيه أداة التشبيه ولا المشبه، بل ذكر المشبه به فقط، وقامت قرائن تدل على إرادة التشبيه.
* * *
هذا مثل ثان يذكره سبحانه وتعالى في بيان أولئك الذين يحبطون أعمالهم من صدقات أو صلوات أو حج وغير ذلك من أعمال البر بالرياء أو المن والأذى، أو التطاول على الناس بما يزعمون لأنفسهم من عمل خير قاموا به.
وهو يختلف عن التشبيه السابق من ناحيتين:
أولاهما: في الشكل، فإن التشبيه الأول كان بصريح اللفظ، وقد ذكر فيه المشبه والمشبه به وأداة التشبيه وهي الكاف في قوله تعالى: (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ)؛ أما هذا التشبيه فلم يذكر فيه الشبه ولا أداة التشبيه، وهو من النوع البياني الذي يسميه علماء البلاغة " استعارة تمثيلية " وهي تشبيه حال بحال لم تذكر فيه أداة التشبيه ولا المشبه، بل ذكر المشبه به فقط، وقامت قرائن تدل على إرادة التشبيه.
989
الناحية الثانية: أن التشبيه الأول فيه تشبيه من يبتغي بعمله مرضاة الله، وينقي ضميره وقلبه من كل رياء ونفاق، بالحديقة الغناء المثمرة القائمة على ربوة من الأرض خصبة منتجة؛ أما هنا فالتشبيه هو تشبيه من ينقض عمل الخير الذي يعمله برياء يحبطه، أو مَنٍّ وأذى، أو مباهاة ومفاخرة ببرِّه بين الناس، بمن كانت له حديقة فيها نخيل وأعناب، وأنهار تجري فيها مع الثمرات وقد أصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء، وتكون عونًا لهم بعد وفاته فأصابتها رياح شديدة فيها نار فاحترقت.
ولم يذكر في هذه الآية المشبه ولا أداة التشبيه كما نوهنا، بل ذكر المشبه به فقط، فعلينا أن نتكلم في مفردات المشبه به ومعانيها، ثم نتعرف المشبه ووجه الشبه، ومغزى هذا التشبيه السامي الكريم.
والود في قوله تعالى: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) معناه محبة الشيء مع تمنيه؛ ولذلك يتستعمل في مقام التمني. والنخيل اسم جمع النخل، والأعناب جمع عنب، وهو ثمرة الكروم، وقد جاء في تفسير المنار في السبب في ذكر النخيل دون ثمرتها وهو التمر، بينما ذكر العنب وهو ثمر الكروم وقالوا في تعليل ذلك: (إن كل شيء في النخيل نافع للناس في إنفاقهم: ورقه وجذوعه وأليافه وعثاكيله (١)، فمنه يتخذون القفف والزنابيل والحبال والعروش والسقوف وغير ذلك) (٢). والإعصار ريح عاصفة تستدير في الأرض ثم تنعكس منها صاعدة إلى السماء على هيئة العمود، وقيل: الإعصار ريح تثير سحابًا ذا رعد وبرق، وسميت إعصارًا لأنها تلتف كالثوب، أو لأنها تكون سببًا في نزول المطر، فكأنها تعصر السحاب، فتنزل ما يحمل من ماء، ولذا فسرت المعصرات في قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (١٤).
بأنها السحاب، لأنها تحصر بالإعصار ذلك العصر. والنار التي تكون في الإعصار هي البرق الذي يتسبب عن اصطدام السحاب بتحريك ذلك الإعصار، أو
________
(١) العثاكيل: جمع العِثكالُ: العذْق من أعْذاق النخل الذي يكون فيه الرطَب [لسان العرب: العين - عثكل].
(٢) تفسير المنار جـ ٣ ص ٦٩.
ولم يذكر في هذه الآية المشبه ولا أداة التشبيه كما نوهنا، بل ذكر المشبه به فقط، فعلينا أن نتكلم في مفردات المشبه به ومعانيها، ثم نتعرف المشبه ووجه الشبه، ومغزى هذا التشبيه السامي الكريم.
والود في قوله تعالى: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) معناه محبة الشيء مع تمنيه؛ ولذلك يتستعمل في مقام التمني. والنخيل اسم جمع النخل، والأعناب جمع عنب، وهو ثمرة الكروم، وقد جاء في تفسير المنار في السبب في ذكر النخيل دون ثمرتها وهو التمر، بينما ذكر العنب وهو ثمر الكروم وقالوا في تعليل ذلك: (إن كل شيء في النخيل نافع للناس في إنفاقهم: ورقه وجذوعه وأليافه وعثاكيله (١)، فمنه يتخذون القفف والزنابيل والحبال والعروش والسقوف وغير ذلك) (٢). والإعصار ريح عاصفة تستدير في الأرض ثم تنعكس منها صاعدة إلى السماء على هيئة العمود، وقيل: الإعصار ريح تثير سحابًا ذا رعد وبرق، وسميت إعصارًا لأنها تلتف كالثوب، أو لأنها تكون سببًا في نزول المطر، فكأنها تعصر السحاب، فتنزل ما يحمل من ماء، ولذا فسرت المعصرات في قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (١٤).
بأنها السحاب، لأنها تحصر بالإعصار ذلك العصر. والنار التي تكون في الإعصار هي البرق الذي يتسبب عن اصطدام السحاب بتحريك ذلك الإعصار، أو
________
(١) العثاكيل: جمع العِثكالُ: العذْق من أعْذاق النخل الذي يكون فيه الرطَب [لسان العرب: العين - عثكل].
(٢) تفسير المنار جـ ٣ ص ٦٩.
990
أن السحاب مع هذه القوة الشديدة التي يتحرك بها هو أيضا حامل لنار إذا أصابت شيئا أحرقته.
هذه مفردات المشبه به ومعانيها، والاستفهام في قوله تعالى: (أَيوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّة) هو للإنكار، وهو لإنكار الوقوع أي بمعنى النفي، والمعنى لَا يود أحدكم أن يكون له جنة.. إلخ، ومجيء النفي على صيغة الاستفهام على ذلك النحو، لتأكيد النفي، وبيان أن الأمر في ذاته غير معقول، بحيث لو سئل عنه أي عاقل لأجاب بنفيه؛ لأن النفي مجمع عليه من كل العقلاء.
وخلاصة القول: إنه لَا يود أحد أن تكون له جنة فيها نخيل وعنب، وفيها من كل الثمرات غير النخيل والعنب - وكان النص عليهما لأنهما فاكهة العرب - وإنها مع هذه الثمرات الطيبة ذات منظر بهيج، فالأنهار تجري من تحتها فتمدها بالخصب، كما تسر الناظرين، قد احتازها وقد أصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء من ذكور وإناث يحتاجون إلى مال من بعده يسد عوزهم، ويقيم أودهم، ومع هذا الأمل المدخر في هذه الحديقة أصابتها ريح شديدة فيها نار فاحترقت بنارها؛ لَا يود أحد ذلك أبدًا، وهو شر يتوقاه ويدعو الله سبحانه وتعالى أن يجنبه إياه.
هذا هو المشبه به فما هو المشبه؛ إنه يفهم من سياق القول من سعابقه ولاحقه؛ وهو العمل الطيب المنتج الذي يكون مدخر الرجل في حياته الآخرة، كما كانت الحديقة مدخرة لذريته في كبره، وهم امتداد حياته وفيهم بقاؤه بعد مماته، وإنه في هذه الحياة الدنيا الفانية الوشيكة الزوال كمن أصابه الكبر وله ذرية ضعاف تحتاج إلى مدخره بعد مماته، فهو محتاج إلى مدخره من الأعمال الصالحة بعد وفاته لتكون ذخره وثروته في الحياة الباقية بعد هذه الفانية، وإنه إذا أبطل ذلك العمل برياء يحبطه، أو مَنٍّ أو أذى أو مباهاة أو فخر، يكون كمن يرضى بأن تحترق جنته في كبره بريح عاتية تأكل الأخضر واليابس ولا تبقي من المدخر لذريته في القابل قليلا.
هذا هو المشبه المستنبط الذي تدل عليه الآيات السابقة واللاحقة.
هذه مفردات المشبه به ومعانيها، والاستفهام في قوله تعالى: (أَيوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّة) هو للإنكار، وهو لإنكار الوقوع أي بمعنى النفي، والمعنى لَا يود أحدكم أن يكون له جنة.. إلخ، ومجيء النفي على صيغة الاستفهام على ذلك النحو، لتأكيد النفي، وبيان أن الأمر في ذاته غير معقول، بحيث لو سئل عنه أي عاقل لأجاب بنفيه؛ لأن النفي مجمع عليه من كل العقلاء.
وخلاصة القول: إنه لَا يود أحد أن تكون له جنة فيها نخيل وعنب، وفيها من كل الثمرات غير النخيل والعنب - وكان النص عليهما لأنهما فاكهة العرب - وإنها مع هذه الثمرات الطيبة ذات منظر بهيج، فالأنهار تجري من تحتها فتمدها بالخصب، كما تسر الناظرين، قد احتازها وقد أصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء من ذكور وإناث يحتاجون إلى مال من بعده يسد عوزهم، ويقيم أودهم، ومع هذا الأمل المدخر في هذه الحديقة أصابتها ريح شديدة فيها نار فاحترقت بنارها؛ لَا يود أحد ذلك أبدًا، وهو شر يتوقاه ويدعو الله سبحانه وتعالى أن يجنبه إياه.
هذا هو المشبه به فما هو المشبه؛ إنه يفهم من سياق القول من سعابقه ولاحقه؛ وهو العمل الطيب المنتج الذي يكون مدخر الرجل في حياته الآخرة، كما كانت الحديقة مدخرة لذريته في كبره، وهم امتداد حياته وفيهم بقاؤه بعد مماته، وإنه في هذه الحياة الدنيا الفانية الوشيكة الزوال كمن أصابه الكبر وله ذرية ضعاف تحتاج إلى مدخره بعد مماته، فهو محتاج إلى مدخره من الأعمال الصالحة بعد وفاته لتكون ذخره وثروته في الحياة الباقية بعد هذه الفانية، وإنه إذا أبطل ذلك العمل برياء يحبطه، أو مَنٍّ أو أذى أو مباهاة أو فخر، يكون كمن يرضى بأن تحترق جنته في كبره بريح عاتية تأكل الأخضر واليابس ولا تبقي من المدخر لذريته في القابل قليلا.
هذا هو المشبه المستنبط الذي تدل عليه الآيات السابقة واللاحقة.
991
ولقد روى البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يومًا لأصحاب رسول الله - ﷺ -: (فيمن ترون هذه الآية: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ) نزلت؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فغضب عمر، وقال: قولوا نعلم أو لَا نعلم! فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك.
قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل رجل غني يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان فعمل في المعاصي حتى أحرق عمله، وفي رواية أخرى: فإذا فني عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من أعمال الشقاء).
وروي أن عمر رضي الله عنه قال: هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملا صالحًا حتى إذا كان آخر عمره أحوج ما يكون إليه عَمِل عمل السوء.
وإننا إذا نظرنا إلى سياق الآيات قصرنا المشبه على من يفسد عمله بالمن والأذى والمباهاة والمفاخرة، ثم إذا نظرنا إلى هاتين الروايتين اعتبرنا المشبه هو حال الرجل يعمل الصالحات، حتى إذا دنا أجله أو كاد، عَمِل عملا غير صالح، فكانت حاله كحال رجل كل ثروته حديقة غناء فيها من كل الثمرات وكل زوج بهيج، قد توافر خيرها، حتى إذا أصابه الكبر وله ذرية ضعاف تحتاج إلى ما يترك من مال، أصابت ثروته ريح عاتية فذهبت بها، فترك ذريته من غير شيء. وعلى هذا يكون المقصد والمرمى الاستمرار على عمل البر والمداومة عليه في هذه الدنيا.
وعندي أن يجعل المشبه خاصا في دائرة السياق الخاص بالمن والأذى والرياء، ويكون التشبيه على هذا الوجه أن حال من يفعل الخير ويكثر منه ثم يبطله بالمن أو الأذى أو الرياء، كحال رجل يملك حديقة غناء جعلها موضع أمله في حياته، وغذاء أولاده بعد وفاته وهو في سن الكبر، ثم وهو في هذه الشيخوخة الفانية أصحاب ثروته ريح أحرقتها، إنه لَا يود أحد أن يكون في هذه الحال، فكذلك يجب أن ينفر فاعل الخير من تلك الموبقات التي هي كالريح العاصف الذي يهلك الزرع
قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل رجل غني يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان فعمل في المعاصي حتى أحرق عمله، وفي رواية أخرى: فإذا فني عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من أعمال الشقاء).
وروي أن عمر رضي الله عنه قال: هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملا صالحًا حتى إذا كان آخر عمره أحوج ما يكون إليه عَمِل عمل السوء.
وإننا إذا نظرنا إلى سياق الآيات قصرنا المشبه على من يفسد عمله بالمن والأذى والمباهاة والمفاخرة، ثم إذا نظرنا إلى هاتين الروايتين اعتبرنا المشبه هو حال الرجل يعمل الصالحات، حتى إذا دنا أجله أو كاد، عَمِل عملا غير صالح، فكانت حاله كحال رجل كل ثروته حديقة غناء فيها من كل الثمرات وكل زوج بهيج، قد توافر خيرها، حتى إذا أصابه الكبر وله ذرية ضعاف تحتاج إلى ما يترك من مال، أصابت ثروته ريح عاتية فذهبت بها، فترك ذريته من غير شيء. وعلى هذا يكون المقصد والمرمى الاستمرار على عمل البر والمداومة عليه في هذه الدنيا.
وعندي أن يجعل المشبه خاصا في دائرة السياق الخاص بالمن والأذى والرياء، ويكون التشبيه على هذا الوجه أن حال من يفعل الخير ويكثر منه ثم يبطله بالمن أو الأذى أو الرياء، كحال رجل يملك حديقة غناء جعلها موضع أمله في حياته، وغذاء أولاده بعد وفاته وهو في سن الكبر، ثم وهو في هذه الشيخوخة الفانية أصحاب ثروته ريح أحرقتها، إنه لَا يود أحد أن يكون في هذه الحال، فكذلك يجب أن ينفر فاعل الخير من تلك الموبقات التي هي كالريح العاصف الذي يهلك الزرع
992
والنسل، ويذهب بالثروة المثرية في وقت هو أشد ما يكون حاجة إليه في قابل حياته، ولذريته بعد مماته.
وإنه يرشح لهذا المعنى قوله تعالى: (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذي) كما يرشح له كل التشبيهات السابقة.
وإن وجه الشبه على هذا هو أن في الحالين إبطالا لأمر جوهري في الحياة له نفاسة في ذاته، وله نفع في الحاضر والقابل، يذهبه أمر عارض مزيل لَا يبقى بعده شيئًا مفيدًا، فكما أن الحديقة الغناء ذات النفع في الحاضر والقابل للحاضر ومن يخلفهم يذهب بها الإعصار الشديد المحرق، فكذلك النفاق والرياء والمن والأذي والتطاول على الناس بفعل الخير يفسد عمل الخير الذي هو ثروة معنوية لفاعله في حاضره ومستقبله، وفيه رضوان الله وعزته، فهل يود مؤمن أن تكون حاله كحال من يصيب الإعصار ثروته في كبره، فيمد يده إلى الناس شيخًا هرمًا فانيا، ويترك أولاده كلًّا على الناس من بعده؛ لَا يود مؤمن ذلك فلا يصح أن يمكن الرياء من نفسه والاستطالة والمباهاة والمنَّ والأذى من لسانه، فيكون ذلك إعصارًا شديدًا يذهبط بعمله.
وفى هذا التشبيه فوائد كثيرة:
أولها: الإشارة إلى أن هذه الحياة الدنيا مهما طالت فهي متاع قليل، وعلى المؤمن أن ينتفع بكل لحظة بعمل الخير يحتسبه عند ربه، كالرجل الذي يكون في شيخوخة فانية فعليه أن يتوقع الموت دائمًا كما يتوقع صاحب هذه الشيخوخة، وعليه أن يعمل الخير عمل من يخشى الفوت، وقد قرب منه الموت.
ثانيها: أن الرياء والمباهاة والاستطالة بعمل الخير تذهب به بل تحرقه، كما يحرق الإعصار الحديقة الغناء.
ثالثها: أن عمل الخير ينمو ويربو وينتج كالحديقة الغناء التي فيها من كل الثمرات والمياه تجري من تحت أغراسها والشمس تمد ثمارها، فتؤتي أكلها بإذن ربها، فهي في نماء مستمر دائم.
وإنه يرشح لهذا المعنى قوله تعالى: (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذي) كما يرشح له كل التشبيهات السابقة.
وإن وجه الشبه على هذا هو أن في الحالين إبطالا لأمر جوهري في الحياة له نفاسة في ذاته، وله نفع في الحاضر والقابل، يذهبه أمر عارض مزيل لَا يبقى بعده شيئًا مفيدًا، فكما أن الحديقة الغناء ذات النفع في الحاضر والقابل للحاضر ومن يخلفهم يذهب بها الإعصار الشديد المحرق، فكذلك النفاق والرياء والمن والأذي والتطاول على الناس بفعل الخير يفسد عمل الخير الذي هو ثروة معنوية لفاعله في حاضره ومستقبله، وفيه رضوان الله وعزته، فهل يود مؤمن أن تكون حاله كحال من يصيب الإعصار ثروته في كبره، فيمد يده إلى الناس شيخًا هرمًا فانيا، ويترك أولاده كلًّا على الناس من بعده؛ لَا يود مؤمن ذلك فلا يصح أن يمكن الرياء من نفسه والاستطالة والمباهاة والمنَّ والأذى من لسانه، فيكون ذلك إعصارًا شديدًا يذهبط بعمله.
وفى هذا التشبيه فوائد كثيرة:
أولها: الإشارة إلى أن هذه الحياة الدنيا مهما طالت فهي متاع قليل، وعلى المؤمن أن ينتفع بكل لحظة بعمل الخير يحتسبه عند ربه، كالرجل الذي يكون في شيخوخة فانية فعليه أن يتوقع الموت دائمًا كما يتوقع صاحب هذه الشيخوخة، وعليه أن يعمل الخير عمل من يخشى الفوت، وقد قرب منه الموت.
ثانيها: أن الرياء والمباهاة والاستطالة بعمل الخير تذهب به بل تحرقه، كما يحرق الإعصار الحديقة الغناء.
ثالثها: أن عمل الخير ينمو ويربو وينتج كالحديقة الغناء التي فيها من كل الثمرات والمياه تجري من تحت أغراسها والشمس تمد ثمارها، فتؤتي أكلها بإذن ربها، فهي في نماء مستمر دائم.
993
رابعها: أن من مطالب الحياة التي يقرها الدين أن يحرص الرجل على أن يترك لأولاده إذا كانوا ذرية ضعافًا، فضلا من المال يستعينون به في شدائد الحياة، ولا يكونون كلًّا على الناس، كما قال النبي - ﷺ - لسعد بن مالك (١) في مرض كان يتوقع الموت منه، وقد أراد أن يتصدق بماله كله فنهاه وأقره على التصدق بالثلث: " إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " (٢).
هذه بعض إشارات الآية الكريمة وإنها لتشع منها معان سامية متعددة كما يشع
الثمر الجيد من الغصن المثمر، تعالت كلمات الله العليم الحكيم.
ومن أجل هذه المعاني السامية المنبعثة من ذلك النص الكريم المفهومة من عباراته أو إشارته، دعا سبحانه إلى التفكير فيها وتدبرها مع غيرها، فقال عز من قائل:
(كَذَلِكَ يُبَيِّن اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) هذا ختام هذه الآية الكريمة، والآيات المقصودة هنا هي الآيات القرآنية، والمراد من التفكر هو التدبر والتأمل وتعرف مرامي العبارات القريبة والبعيدة، والتفكر في عواقب الاعمال ونتائجها، وفى أسبابها وغاياتها. والتشبيه في قوله تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) فيه تشبيه الكلي العام من بيان الله سبحانه وتعالى في كل آياته، بهذه الصورة الجزئية التي رأيناها في تلك التشبيهات الرائعة وذلك السياق المحكم، وتلك المعاني الجلية التي يتدبرها المتدبر، فتجلى له معان كريمة سامية كلما أعمل فكره وتفكر وقدر، ومثل ذلك كما يجري في عباراتنا - ولكلام الله المثل الأعلى - أن يقول عندما يعمل عملا جيدًا يعمله فيستحسن، فيقول: كذلك أعمل دائمًا، أي كهذا العمل الذي استحسنتموه كل عمل. ومعنى التشبيه في الآية الكريمة على هذا يكون هكذا: كهذا البيان الجلي الرائع الذي بدا في هذا المثل المحكم بيان الله الكلي لكل آياته في كتابه الحكيم.
________
(١) هو سعد بن أبي وقاص بن مالك بن أهيب بن عبد منات، الزهري القرشي، كنيته أبو إسحاق، ولقبه: فارس الإسلام، صحابي جليل، أقام بالكوفة، وتوفى بالمدينة ٥٥ هـ.
(٢) رواه البخاري: الوصايا - أن يترك ورثته أغنياء (٢٥٣٧)، ومسلم: الوصية - الوصية بالثلث (٣٠٧٦).
هذه بعض إشارات الآية الكريمة وإنها لتشع منها معان سامية متعددة كما يشع
الثمر الجيد من الغصن المثمر، تعالت كلمات الله العليم الحكيم.
ومن أجل هذه المعاني السامية المنبعثة من ذلك النص الكريم المفهومة من عباراته أو إشارته، دعا سبحانه إلى التفكير فيها وتدبرها مع غيرها، فقال عز من قائل:
(كَذَلِكَ يُبَيِّن اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) هذا ختام هذه الآية الكريمة، والآيات المقصودة هنا هي الآيات القرآنية، والمراد من التفكر هو التدبر والتأمل وتعرف مرامي العبارات القريبة والبعيدة، والتفكر في عواقب الاعمال ونتائجها، وفى أسبابها وغاياتها. والتشبيه في قوله تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) فيه تشبيه الكلي العام من بيان الله سبحانه وتعالى في كل آياته، بهذه الصورة الجزئية التي رأيناها في تلك التشبيهات الرائعة وذلك السياق المحكم، وتلك المعاني الجلية التي يتدبرها المتدبر، فتجلى له معان كريمة سامية كلما أعمل فكره وتفكر وقدر، ومثل ذلك كما يجري في عباراتنا - ولكلام الله المثل الأعلى - أن يقول عندما يعمل عملا جيدًا يعمله فيستحسن، فيقول: كذلك أعمل دائمًا، أي كهذا العمل الذي استحسنتموه كل عمل. ومعنى التشبيه في الآية الكريمة على هذا يكون هكذا: كهذا البيان الجلي الرائع الذي بدا في هذا المثل المحكم بيان الله الكلي لكل آياته في كتابه الحكيم.
________
(١) هو سعد بن أبي وقاص بن مالك بن أهيب بن عبد منات، الزهري القرشي، كنيته أبو إسحاق، ولقبه: فارس الإسلام، صحابي جليل، أقام بالكوفة، وتوفى بالمدينة ٥٥ هـ.
(٢) رواه البخاري: الوصايا - أن يترك ورثته أغنياء (٢٥٣٧)، ومسلم: الوصية - الوصية بالثلث (٣٠٧٦).
994
ولعل في قوله تعالى: (لَعَلَّكمْ تتَفَكَرونَ) هي في الرجاء، وليس الرجاء من الله تعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى عالم بكل شيء، فلا يكون منه رجاء وتوقع؛ لأن ذلك شأن من لَا يعلم، إنما يكون منه سبحانه وتعالى تحقق وتأكد؛ وإنما معنى الرجاء هو المتفق مع ذات البيان؛ لأنَّ ذلك من شأنه أن يرجى معه تفكر المتفكر وتدبر التدبر؛ ولذلك قال بعض العلماء: إن لعل هنا للتعليل، فالمعنى كان ذلك البيان لتتفكروا وتتدبروا.
والمعنى الإجمالي لذلك الختام الكريم لهذا المثل السامي الحكيم: يبين الله سبحانه وتعالى آياته دائمًا، كذلك البيان الذي اتضح لكم في هذا المثل الرائع المحكم الذي تتسع آفاق الفكر في إدراكه، فينال كل منه بمقدار إدراكه، فبيان الله دائمًا من ذلك النوع، لتتفكروا وتتأملوا آيه، وتدركوا مراميها القريبة والبعيدة.
وفقنا الله سبحانه وتعالى لإدراك معاني كتابه، والعمل به، وألهمنا الصواب في فهمه؛ إنه سبحانه وتعالى الهادي إلى الحق دائمًا.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨)
* * *
بيَّن سبحانه وتعالى الإنفاق الذي يعد برًّا، ويؤتي ثمراته في الدنيا والآخرة، وهو الإنفاق ابتغاء مرضاة الله تعالى [لا ابتغاء] تسهيل مطلب من مطالب الدنيا، ولا طلبًا لجاه، ولا ملَقًا لذي جاه، ويشترط في ثواب الآخرة مع ذلك ألا يعقب العطاء
والمعنى الإجمالي لذلك الختام الكريم لهذا المثل السامي الحكيم: يبين الله سبحانه وتعالى آياته دائمًا، كذلك البيان الذي اتضح لكم في هذا المثل الرائع المحكم الذي تتسع آفاق الفكر في إدراكه، فينال كل منه بمقدار إدراكه، فبيان الله دائمًا من ذلك النوع، لتتفكروا وتتأملوا آيه، وتدركوا مراميها القريبة والبعيدة.
وفقنا الله سبحانه وتعالى لإدراك معاني كتابه، والعمل به، وألهمنا الصواب في فهمه؛ إنه سبحانه وتعالى الهادي إلى الحق دائمًا.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨)
* * *
بيَّن سبحانه وتعالى الإنفاق الذي يعد برًّا، ويؤتي ثمراته في الدنيا والآخرة، وهو الإنفاق ابتغاء مرضاة الله تعالى [لا ابتغاء] تسهيل مطلب من مطالب الدنيا، ولا طلبًا لجاه، ولا ملَقًا لذي جاه، ويشترط في ثواب الآخرة مع ذلك ألا يعقب العطاء
995
مَنٌّ أو أذى، فلا يُشعر المعطي من أعطاه بمنة العطاء، ويستكثر عليه ما أعطاه، ولا يؤذيه بإعلان عطائه أو توجيه كلمات مذلة، فحسبه أن يده هي الدنيا، ويد المعطي العليا، والنبي - ﷺ - قال: " اليد العليا خير من اليد السفلى " (١) فلا يصح أن يجمع عليه بين هذا الضعف مع المن وأذى الكشف والإعلان في مواطن لَا يحسن الإعلان فيها. وفي هذه الآيات التي نتكلم في معانيها السامية الآن بيان المال الذي يكون منه العطاء، ففي الآيات السابقة كان بيان مقاصد العطاء وما يقترب به وما يعقبه، وفي هذه الآيات بيان المال الذي يكون منه العطاء؛ وأن تخير المال واصطفاءه يدل على مقدار الصفاء في النية، فمن اختار عند العطاء أجود ماله، كان ذلك دليلا على حسن القصد إن لم يصحب العطاء مَنٌّ أو أذى أو رياء، وإن اتجه إلى غير الجيد من ماله يعطيه كان ذلك دليلا على ضعف العزيمة وشح النفس (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِه فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
ولذلك بين سبحانه عقب المطالبة بأن يكون ابتغاء مرضاة الله أنه لَا يسوغ أن يكون الإنفاق من الرديء دون الجيد، ومن الخبيث دون الطيب، فقال تعالت كلماته:
________
(١) رواه البخاري: الزكاة - لَا صدقة إلا عن ظهر غنى (١٣٣٨)، ومسلم بنحوه عن ابن عمر: الزكاة -[بَيَان أَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى] (١٧١٥).
ولذلك بين سبحانه عقب المطالبة بأن يكون ابتغاء مرضاة الله أنه لَا يسوغ أن يكون الإنفاق من الرديء دون الجيد، ومن الخبيث دون الطيب، فقال تعالت كلماته:
________
(١) رواه البخاري: الزكاة - لَا صدقة إلا عن ظهر غنى (١٣٣٨)، ومسلم بنحوه عن ابن عمر: الزكاة -[بَيَان أَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى] (١٧١٥).
996
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَياتِ مَا كسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ) ابتدأ سبحانه بالنداء بالبعيد للدلالة على عموم النداء للمؤمنين في كل الأجيال من وقت البعث المحمدي إلى يوم القيامة، وكان النداء للمؤمنين لبيان أن من أخلاق أهل الإيمان أن يتصدقوا من الطيب لَا من الخبيث، ومما تحبه النفس لَا مما تزهد فيه، فليس من مقتضيات الإيمان في شيء أن يجيء الرجل إلى أخبث ماله أو الخبيث فينفق منه لزهادته فيه، ولرغبته عنه، وعدم اتجاهه إلى الانتفاع به، إذ لَا يكون فيه معاناة لعمل الخير، ولا مصابرة في إرادته، ولا جهاد نفسي للحمل على الفعل؛ والأجر على قدر كف النفس عن الهوى، ومشقة الإرادة في التغلب عليه.
996
وما المراد بالطيب؛ للعلماء في ذلك منهاجان: قال بعضهم: إن المراد بالطيب الحلال، أي أن الإنفاق الذي يقبله الله سبحانه وتعالى هو الإنفاق من المال الحلال الذي كسب من طريق حلال؛ فإن الله سبحانه وتعالى لَا يقبل إلا طيبًا، ولا يريد من العبد إلا خيرا، فمن كان يريد بعمله وجه الله تعالى فلا يكسب إلا حلالا، ولا ينفق إلا من حلال. ولقد روى الإمام أحمد رضي الله عنه في ذلك أن رسول الله - ﷺ - قال: " إِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللهُ الدِّينَ، فَقَدْ أَحَبَّهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى يَسْلَمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ "، قَالُوا: وَمَا بَوَائِقُهُ يَا نَبِيَّ اللهِ؟ قَالَ: " غَشْمُهُ وَظُلْمُهُ، وَلَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالًا مِنْ حَرَامٍ، فَيُنْفِقَ مِنْهُ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلَ مِنْهُ، وَلَا يَتْرُكُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ، وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ، إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ " (١).
وعلى هذا التخريج يكون الاتجاه في الآية هو الحث على الإنفاق من الحلال دون الحرام، ويكون بالنتيجة اللازمة الحث على طلب الحلال؛ لأنه إذا كان الكسب الحرام لَا يقبل في الصدقات، فأولى أن يكون الأكل منه إثمًا يلقي في نار جهنم، ومن يأكل منه كمن يأكلون في بطونهم نارًا.
فيكون على هذا القول، المرمى يتجه إلى أمرين: الحث على طلب الحلال في الإنفاق، والحث على طلب الحلال من المكاسب، دون المآثم منها.
هذا هو القول الأول في تفسير الآية؛ وهو كلام في ذاته صحيح تؤيده الأحاديث والمعاني الدينية القررة الثابتة، ولكنه لَا يتفق مع سياق الآية ولا موضوعها ولا معنى كلمة الطيب في مقامها؛ ولذلك رجح أكثر العلماء التفسير الثاني لمعنى الطيب وهو أن المراد به الجيد في نفسه؛ لأن كلمة طيب على وزن فيعل من طاب،
________
(١) رواه أحمد (٣٤٩٠) في مسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وعلى هذا التخريج يكون الاتجاه في الآية هو الحث على الإنفاق من الحلال دون الحرام، ويكون بالنتيجة اللازمة الحث على طلب الحلال؛ لأنه إذا كان الكسب الحرام لَا يقبل في الصدقات، فأولى أن يكون الأكل منه إثمًا يلقي في نار جهنم، ومن يأكل منه كمن يأكلون في بطونهم نارًا.
فيكون على هذا القول، المرمى يتجه إلى أمرين: الحث على طلب الحلال في الإنفاق، والحث على طلب الحلال من المكاسب، دون المآثم منها.
هذا هو القول الأول في تفسير الآية؛ وهو كلام في ذاته صحيح تؤيده الأحاديث والمعاني الدينية القررة الثابتة، ولكنه لَا يتفق مع سياق الآية ولا موضوعها ولا معنى كلمة الطيب في مقامها؛ ولذلك رجح أكثر العلماء التفسير الثاني لمعنى الطيب وهو أن المراد به الجيد في نفسه؛ لأن كلمة طيب على وزن فيعل من طاب،
________
(١) رواه أحمد (٣٤٩٠) في مسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
997
وهو ما تستطيبه النفس وتتجه إليه وتطلبه وإن ذلك هو الأصل في معنى طيب؛ ولذا جاء في مفردات الراغب الأصفهاني ما نصه: " أصل الطيب ما تستلذه الحواس وما تستلذه النفس " وإطلاق الطيب بمعنى الحلال عرف إسلامي، لَا معنى لغوي؛ لأن الله سبحانه لَا يبيح إلا ما كان طيبًا في ذاته تستسيغه النفوس السليمة المستقيمة ولا يحرم عليهم إلا ما كان خبيثًا في ذاته تعافه النفوس السليمة، فالله سبحانه وتعالى يحل الطيبات ويحرم الخبائث، كما ورد بذلك النص القرآني الكريم.
وإن تفسير النص بذلك، وهو أن الطيب المستطاب المحبوب للنفس هو الذي يبدو بادي الرأي من الآية الكريمة، فوق أنه الذي يتفق مع المعنى اللغوي، ولقد فسره ابن عباس بذلك؛ فقد روي عنه أنه قال: (أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه وخبيثه؛ " فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا " ((١).
وعلى هذا المعنى المستقيم يكون توجيه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى يحث المنفقين على أن ينفقوا من الطيب النفيس، ابتغاء وجه الله تعالى، ولأن البر كل البر هو في إنفاق الإنسان مما يحب لَا مما يبغض؛ ولقد قال سبحانه وتعالى:
(لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تحِبّونَ...). وقال تعالى:
(وَيُطْعِمُونَ الطعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا). ولقد نهى النبي - ﷺ - المؤمنين عن أن يطعموا الفقراء إلا مما يطعمون، فقال - ﷺ -: " لا تطعموهم مما لا تأكلون " (٢).
إن الله سبحانه وتعالى يحاسب القلوب، فيثيبها على مقدار ما اعتزمته من خير، وإن أدل شيء على قوة العزيمة في الإنفاق والرغبة فيه وخروجه عن طيب
________
(١) رواه مسلم: الزكاة - قبول الصدقة من الكسب الطيب (١٦٨٦)، والترمذي: تفسير سورة البقرة (٢٩١٥)، وأحمد (٧٩٩٨)، والدارمي: الرقاق - الكسب الطيب (٢٦٠١).
(٢) رواه أحمد في مسنده عن السيدة عائشة رضي الله عنها (٢٣٧٧٠).
وإن تفسير النص بذلك، وهو أن الطيب المستطاب المحبوب للنفس هو الذي يبدو بادي الرأي من الآية الكريمة، فوق أنه الذي يتفق مع المعنى اللغوي، ولقد فسره ابن عباس بذلك؛ فقد روي عنه أنه قال: (أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه وخبيثه؛ " فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا " ((١).
وعلى هذا المعنى المستقيم يكون توجيه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى يحث المنفقين على أن ينفقوا من الطيب النفيس، ابتغاء وجه الله تعالى، ولأن البر كل البر هو في إنفاق الإنسان مما يحب لَا مما يبغض؛ ولقد قال سبحانه وتعالى:
(لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تحِبّونَ...). وقال تعالى:
(وَيُطْعِمُونَ الطعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا). ولقد نهى النبي - ﷺ - المؤمنين عن أن يطعموا الفقراء إلا مما يطعمون، فقال - ﷺ -: " لا تطعموهم مما لا تأكلون " (٢).
إن الله سبحانه وتعالى يحاسب القلوب، فيثيبها على مقدار ما اعتزمته من خير، وإن أدل شيء على قوة العزيمة في الإنفاق والرغبة فيه وخروجه عن طيب
________
(١) رواه مسلم: الزكاة - قبول الصدقة من الكسب الطيب (١٦٨٦)، والترمذي: تفسير سورة البقرة (٢٩١٥)، وأحمد (٧٩٩٨)، والدارمي: الرقاق - الكسب الطيب (٢٦٠١).
(٢) رواه أحمد في مسنده عن السيدة عائشة رضي الله عنها (٢٣٧٧٠).
998
نفس وقوة إيمان، أن يخرجه وله فيه رغبة، بل فيه شوق ومحبة؛ ولذا ورد عن النبي - ﷺ - أنه قال في خير الصدقات: " أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح ترجو الغنى وتخشى الفقر " (١) أي أن تتصدق والمال حبيب إليك غير زاهد فيه، فإنك إن صابرت نفسك، وحملتها على التصدق في هذه الحال نلت أجرين: أجر العطاء في ذاته، وأجر تلك المغالبة النفسية التي انتصرت فيها لله وللحق، فأطعمت وكسوت، وأنت تحب المال موفورًا كثيرًا، فآثرت محبة الله على محبة المال، ورضا الله على رضا الهوى، ورضا الحق على رضا النفس، فانتصرت في الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس والهوى.
هذا هو المعنى الذي اختاره جمهور العلماء لهذا النص الكريم، وهو المعنى القويم الذي يتفق مع سياق الآية وموضوعها، ويزكيه قوله تعالى: (مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ) فإن الكسب إذا ذكر مقرونًا بما يلقيه سبحانه وتعالى في الأرض ويضعه لنا من نفائس في باطن الأرض، وزرع نضير، وغراس مثمر، إن هذا يدل حينئذ على أن المال كله حلال، وأنه يقصد إلى طيبه أو رديئه فينفق منه، فبين أن ذلك الكسب الحلال لَا يتخير في الإنفاق منه إلا جيده، فلا تجعل حصة الفقير إلا أجوده؛ إن المال الذي كسبته رزقًا حلالا: قسم هو حق الفقير والمسكين واليتيم وقد تولى الله عنهم مطالبتك به، وقسم هو لك ولأولادك ومن تعول، فهل يسوغ أن تجعل حق من تولى الله عنهم المطالبة أردأه وأخبثه وأرذله وأسوأه؛ تلك إذن قسمة ضيزى، وكيف تصنعها وتريد بها وجه الله، والتماس عفوه ورضاه؟! إن ذلك غير معقول في ذاته، ووقوعه غير سائغ ولا مقبول.
ولقد قسم سبحانه موارد المال الحلال إلى قسمين: قسم بعمل من العبد، إذ عمل العبد فيه واضح بين، واجتهاده فيه ظاهر، وإن كان التوفيق من الله، وهو الرزاق ذو القوة المتين؛ وقسم هو بعمل العبد ولكن فيض الله هو الواضح البين، والأول هو كسب العبد بالعمل والضرب في الأرض صانعًا أو تاجرًا، أو مسهمًا بماله
________
(١) رواه البخاري: الزكاة - فضل صدقة الصحيح الشحيح (١٣٣٠)، ومسلم (١٧١٣).
هذا هو المعنى الذي اختاره جمهور العلماء لهذا النص الكريم، وهو المعنى القويم الذي يتفق مع سياق الآية وموضوعها، ويزكيه قوله تعالى: (مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ) فإن الكسب إذا ذكر مقرونًا بما يلقيه سبحانه وتعالى في الأرض ويضعه لنا من نفائس في باطن الأرض، وزرع نضير، وغراس مثمر، إن هذا يدل حينئذ على أن المال كله حلال، وأنه يقصد إلى طيبه أو رديئه فينفق منه، فبين أن ذلك الكسب الحلال لَا يتخير في الإنفاق منه إلا جيده، فلا تجعل حصة الفقير إلا أجوده؛ إن المال الذي كسبته رزقًا حلالا: قسم هو حق الفقير والمسكين واليتيم وقد تولى الله عنهم مطالبتك به، وقسم هو لك ولأولادك ومن تعول، فهل يسوغ أن تجعل حق من تولى الله عنهم المطالبة أردأه وأخبثه وأرذله وأسوأه؛ تلك إذن قسمة ضيزى، وكيف تصنعها وتريد بها وجه الله، والتماس عفوه ورضاه؟! إن ذلك غير معقول في ذاته، ووقوعه غير سائغ ولا مقبول.
ولقد قسم سبحانه موارد المال الحلال إلى قسمين: قسم بعمل من العبد، إذ عمل العبد فيه واضح بين، واجتهاده فيه ظاهر، وإن كان التوفيق من الله، وهو الرزاق ذو القوة المتين؛ وقسم هو بعمل العبد ولكن فيض الله هو الواضح البين، والأول هو كسب العبد بالعمل والضرب في الأرض صانعًا أو تاجرًا، أو مسهمًا بماله
________
(١) رواه البخاري: الزكاة - فضل صدقة الصحيح الشحيح (١٣٣٠)، ومسلم (١٧١٣).
999
في صناعة أو تجارة؛ والقسم الثاني، بما يخرجه الله سبحانه وتعالى من زرع يحصد فيكون منه القوت للإنسان والحيوان أو غراس أو شجر يؤتي أكله كل حين بإذن ربه، أو بما يودعه سبحانه وتعالى باطن الأرض من معادن يكون بها عمران الأرض، وقيام المصانع، والأعمال الإنسانية التي تسجل خلافة الإنسان في هذه الأرض ليصلح فيها ولايفسد.
ولقد نبه سبحانه إلى القسمين بقوله تعالى: (مِن طَيّبَات مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ) ففي هذا النص الكريم ذلك التقسيم الحكيم؛ وقد قدم سبحانه وتعالى القسم الأول، وهو الكسب الذي يكون بعمل الإنسان، سواء أكان صناعة أم كان تجارة، وسواء أكان عملا آليا أم كان عملا فكريا؛ وكان ذلك التقديم لأسباب كثيرة؛ منها بيان فضل الأكل من العمل والكسب، كما قال - ﷺ -: " ما أكل ابن آدم طعامًا خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده " (١)، ومنها أن العطاء من مال يجيء بمجهود وتبذل فيه الجهود يكون أعظم ثوابًا؛ ومنها إعلاء قدر العمل الإنساني لأن به إقامة العمران، وإصلاح الأرض، وتقدم هذا الوجود الإنساني في معيشته ووسائل رزقه.
والقسم الثاني فيه خير كثير، ولكنه كله بفضل الله تعالى لَا عمل للعبد إلا إلقاء البذر، وغرس الغراس والقيام عليها، والباقي كله لله الواحد القهار.
وهنا يسأل سائل: لماذا أضاف سبحانه ما يخرج من الأرض إليه سبحانه وتعالى مع أن للعبد فيه عملا من حرث وبذر وإصلاح ومراقبة، ثم أضيف الكسب بالتجارة والصناعة والعمل في هذه الدنيا إلى العبد مع أنه برزق من الله، لأنه هو الذي قسم الأرزاق بين العباد، وجميع ما للعبد من مكاسب بتوفيقه ورزقه، كما قال تعالى في آية أخرى: (وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)، وكما قال تعالى:
(ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا...)، فكل شيء منه وإليه، وكل كسب للعبد سواء أكان من الزرع والضرع أم كان من الصناعة أو التجارة فهو من الله، وبفضله، وبتوفيقه ورزقه وهدايته بل عطائه سبحانه؟
________
(١) رواه البخاري: البيوع - كسب الرجل وعمله بيده (١٩٣٠) بلفظ: " مَا أكَلَ أحَدٌ ".
ولقد نبه سبحانه إلى القسمين بقوله تعالى: (مِن طَيّبَات مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ) ففي هذا النص الكريم ذلك التقسيم الحكيم؛ وقد قدم سبحانه وتعالى القسم الأول، وهو الكسب الذي يكون بعمل الإنسان، سواء أكان صناعة أم كان تجارة، وسواء أكان عملا آليا أم كان عملا فكريا؛ وكان ذلك التقديم لأسباب كثيرة؛ منها بيان فضل الأكل من العمل والكسب، كما قال - ﷺ -: " ما أكل ابن آدم طعامًا خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده " (١)، ومنها أن العطاء من مال يجيء بمجهود وتبذل فيه الجهود يكون أعظم ثوابًا؛ ومنها إعلاء قدر العمل الإنساني لأن به إقامة العمران، وإصلاح الأرض، وتقدم هذا الوجود الإنساني في معيشته ووسائل رزقه.
والقسم الثاني فيه خير كثير، ولكنه كله بفضل الله تعالى لَا عمل للعبد إلا إلقاء البذر، وغرس الغراس والقيام عليها، والباقي كله لله الواحد القهار.
وهنا يسأل سائل: لماذا أضاف سبحانه ما يخرج من الأرض إليه سبحانه وتعالى مع أن للعبد فيه عملا من حرث وبذر وإصلاح ومراقبة، ثم أضيف الكسب بالتجارة والصناعة والعمل في هذه الدنيا إلى العبد مع أنه برزق من الله، لأنه هو الذي قسم الأرزاق بين العباد، وجميع ما للعبد من مكاسب بتوفيقه ورزقه، كما قال تعالى في آية أخرى: (وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)، وكما قال تعالى:
(ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا...)، فكل شيء منه وإليه، وكل كسب للعبد سواء أكان من الزرع والضرع أم كان من الصناعة أو التجارة فهو من الله، وبفضله، وبتوفيقه ورزقه وهدايته بل عطائه سبحانه؟
________
(١) رواه البخاري: البيوع - كسب الرجل وعمله بيده (١٩٣٠) بلفظ: " مَا أكَلَ أحَدٌ ".
1000
وإن لذلك السؤال موضعه، وأن الله سبحانه في بعض آي الذكر الحكيم يضيف الكسب إلى العبد لأنه الذي باشر العمل، وفي بعضه يضيف الرزق إلى الرب الأنه المانح، وهو سبحانه يصرف الآيات لمن يفقهونها كما قال سبحانه: (انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)، ولكل مقام ما يناسبه، ولكلامه سبحانه المثل الأعلى فلا يحاكيه كلام الإنسان مهما يعلُ قدره في البيان.
ولو حاولنا أن نصل إلى سر التعبير، ما بلغناه على وجهه الكامل؛ وأقصى ما نقول هو أنه سبحانه وتعالى أضاف الكسب إلى العبد في الأولى، وإخراج النبات والغراس إليه، ليتميز القسمان من الإنتاج، فهما قسمان متقابلان بلا شك، إذ الأول العنصر الواضح فيه كسب العبد، والثاني العنصر الواضح فيه عمل الرب، كما أشرنا، فلهذا التمييز بين القسمين كانت الإضافتان المختلفتان، وليحث سبحانه الناس على النوعين من العمل، وبيان أنهما أساس العمران في هذا الوجود، فكلاهما إصلاح في الأرض وسبيل من سبل الإنتاج فيها؛ وقد كان بعض الاقتصاديين المتقدمين يعتبر طريق الإنتاج فقط الزراعة، وما تخرجه الأرض؛ والأخرى طرق ثانوية، فالله سبحانه يرشد إلى أن كليهما طريق متميز فيه عمران الأرض والإصلاح فيها، وفوق ذلك فإن إضافة الكسب إلى العبد مع الحث على الإنفاق من طيباته فيه إشارة إلى أن للفقير حقا معلوما في كل ما يكسب من مال سواء أكان بصناعة أو تجارة أو عمل باليد أم كان بالبحث في الأرض وإلقاء الحب ورجاء الثمار من الرب، فللفقير قدر معلوم في كل هذا، وفي كل شيء صدقة؛ في المال المكسوب بالجهد صدقة، وفي المال الذي يخرج من الأرض صدقة، وفي العمل نفسه صدقة؛ فعلى الطبيب أن يجعل جزءًا من عمله صدقة بأن يداوي المرضى، وعلى المدرس أن يجعل جزءًا من عمله للصدقة بالإرشاد والتوجيه، وعلى الصانع أن يجعل جزءًا من عمله صدقة كالإسهام بعمله في بناء مسجد أو مستشفي أو نحوهما، وهكذا ففي الآية الكريمة إشارة إلى كل هذا.
وبعض المفسرين لَا يقصر ما تخرجه الأرض على الزرع والشجر، والحشائش التي يتغذى منها ذات الضرع وذات الحافر، بل يتجاوز إلى ما يكون في باطن
ولو حاولنا أن نصل إلى سر التعبير، ما بلغناه على وجهه الكامل؛ وأقصى ما نقول هو أنه سبحانه وتعالى أضاف الكسب إلى العبد في الأولى، وإخراج النبات والغراس إليه، ليتميز القسمان من الإنتاج، فهما قسمان متقابلان بلا شك، إذ الأول العنصر الواضح فيه كسب العبد، والثاني العنصر الواضح فيه عمل الرب، كما أشرنا، فلهذا التمييز بين القسمين كانت الإضافتان المختلفتان، وليحث سبحانه الناس على النوعين من العمل، وبيان أنهما أساس العمران في هذا الوجود، فكلاهما إصلاح في الأرض وسبيل من سبل الإنتاج فيها؛ وقد كان بعض الاقتصاديين المتقدمين يعتبر طريق الإنتاج فقط الزراعة، وما تخرجه الأرض؛ والأخرى طرق ثانوية، فالله سبحانه يرشد إلى أن كليهما طريق متميز فيه عمران الأرض والإصلاح فيها، وفوق ذلك فإن إضافة الكسب إلى العبد مع الحث على الإنفاق من طيباته فيه إشارة إلى أن للفقير حقا معلوما في كل ما يكسب من مال سواء أكان بصناعة أو تجارة أو عمل باليد أم كان بالبحث في الأرض وإلقاء الحب ورجاء الثمار من الرب، فللفقير قدر معلوم في كل هذا، وفي كل شيء صدقة؛ في المال المكسوب بالجهد صدقة، وفي المال الذي يخرج من الأرض صدقة، وفي العمل نفسه صدقة؛ فعلى الطبيب أن يجعل جزءًا من عمله صدقة بأن يداوي المرضى، وعلى المدرس أن يجعل جزءًا من عمله للصدقة بالإرشاد والتوجيه، وعلى الصانع أن يجعل جزءًا من عمله صدقة كالإسهام بعمله في بناء مسجد أو مستشفي أو نحوهما، وهكذا ففي الآية الكريمة إشارة إلى كل هذا.
وبعض المفسرين لَا يقصر ما تخرجه الأرض على الزرع والشجر، والحشائش التي يتغذى منها ذات الضرع وذات الحافر، بل يتجاوز إلى ما يكون في باطن
1001
الأرض من معادن وفلزات، وسواء مما تقوم عليها الثروات عند بعض الأمم، ومما صار أساس العمران في عصرنا الحاضر؛ فإن أولئك المفسرين الأجلاء أدخلوا ذلك في عموم قوله تعالى: (وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ) وإن ذلك صادق بلا ريب، وهو نظر مستقيم.
وقد يقول قائل: إن ذلك مودع باطن الأرض، ولم يخرجه الله سبحانه وتعالى إلى ظاهرها، بل الإنسان هو الذي يخرجه، فنقول: ليس المراد بالإخراج هو هذا المظهر الحسي، بل المراد منه التكوين والإنشاء وظهور الأعراض التي تكون سبيلا لخروجه، فيشمل الإخراج ذلك كما يشمل تكوين الزرع بخروج البذرة من باطن الأرض؛ فإن كليهما يكونه الله تعالى ويظهره لعباده؛ هذا بعوده مستقيما يراه الحس بما يحمل من ثمر وما معه من غذاء، وذاك يظهر بأعراضه التي يعرفها الخبراء، وقد يظهر للحس ويبدو للنظر، كما يرى البترول طافيًا على الأرض في بعض البلدان، يعلن ما حوته في باطنها من عيون ثرَّة (١) تفيض به.
وإن للفقير حقا في كل هذا، وقد اتفق علماء الإسلام على أن يكون للفقير حق معلوم فيما يوجد في باطن الأرض، وإن اختلفوا في مقدار ذلك على آراء فهو على أي حال لَا يخلو من إنفاق واجب فيه بقدر معلوم، أو بصدقة منثورة تقدرها الحاجة العامة.
وفى الجملة إن على كل مؤمن صدقة يقدمها من طيب ماله أيا كانت مصادره وموارده، فهو خير ساقه الله إليه يجب أن يجعل للمحتاجين قدرًا فيها ليبارك الله تعالى له.
(وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) بعد أن أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بأن يقصدوا في إنفاقهم إلى الطيب النفيس ينفقون منه،
________
(١) ثرَّة: من ثرر: عَيْن ثَرَّةٌ وثرَّارَة وثَرْثَارَةٌ: غَزِيرَة الماء [لسان العرب: الثاء - ثرر].
وقد يقول قائل: إن ذلك مودع باطن الأرض، ولم يخرجه الله سبحانه وتعالى إلى ظاهرها، بل الإنسان هو الذي يخرجه، فنقول: ليس المراد بالإخراج هو هذا المظهر الحسي، بل المراد منه التكوين والإنشاء وظهور الأعراض التي تكون سبيلا لخروجه، فيشمل الإخراج ذلك كما يشمل تكوين الزرع بخروج البذرة من باطن الأرض؛ فإن كليهما يكونه الله تعالى ويظهره لعباده؛ هذا بعوده مستقيما يراه الحس بما يحمل من ثمر وما معه من غذاء، وذاك يظهر بأعراضه التي يعرفها الخبراء، وقد يظهر للحس ويبدو للنظر، كما يرى البترول طافيًا على الأرض في بعض البلدان، يعلن ما حوته في باطنها من عيون ثرَّة (١) تفيض به.
وإن للفقير حقا في كل هذا، وقد اتفق علماء الإسلام على أن يكون للفقير حق معلوم فيما يوجد في باطن الأرض، وإن اختلفوا في مقدار ذلك على آراء فهو على أي حال لَا يخلو من إنفاق واجب فيه بقدر معلوم، أو بصدقة منثورة تقدرها الحاجة العامة.
وفى الجملة إن على كل مؤمن صدقة يقدمها من طيب ماله أيا كانت مصادره وموارده، فهو خير ساقه الله إليه يجب أن يجعل للمحتاجين قدرًا فيها ليبارك الله تعالى له.
(وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) بعد أن أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بأن يقصدوا في إنفاقهم إلى الطيب النفيس ينفقون منه،
________
(١) ثرَّة: من ثرر: عَيْن ثَرَّةٌ وثرَّارَة وثَرْثَارَةٌ: غَزِيرَة الماء [لسان العرب: الثاء - ثرر].
1002
وقد فهم من ذلك الأمر ألا يقصدوا إلى الخبيث، أكد سبحانه ذلك الأمر والقصد إلى الطيب وعدم القصد إلى سواه، أكده بأمرين:
أحدهما: هو النهي عن القصد إلى الخبيث في الإنفاق، فهو تكرار حسن أفاد توكيد الأمر بقصد الطيب، وأفاد أيضًا أن الصدقة المجزئة لصاحبها التي يثاب عليها والتي تنمو حتى تصير كالحبة التي فيها سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، هي التي تكون من الطيب لَا من الخبيث، فلا ثواب لمن ينفق يتحري الخبيث ينفق منه.
ومعنى " لا تيمموا " لَا تقصدوا إلى الخبيث، فإن التيمم معناه في الأصل اللغوي القصد، ويقال يممت جهة كذا أو نحو كذا قصدتها، كذلك تيممت أي قصدت والمعنى: لَا تتحروا أن تكون صدقتكم من الخبيث أي الرديء. وهذا يستفاد منه أن الإنفاق بالنسبة للمال الذي يؤخذ منه ثلاث مراتب: المرتبة الأولى وهي أعلاها وأزكاها عند الله، هي أن يقصد إلى الطيب فينفق منه، وهذا هو الذي يليق بالمؤمن، وقد دعا إليه الله سبحانه وتعالى بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا أَنفِقوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتمْ) والمرتبة الثانية: أن ينفق من ماله فيأخذ منه اعتباطا، غير قاصد إلى جيد أو رديء، فيعطي منه من غير تحر لأحدهما، وهذه دون الأولى بلا شك، ولصاحبها قصد الخير؛ لأنه يشطر من ماله شطرًا. والمرتبة الثالثة، وهي الدنيا: أن يقصد إلى الرديء لينفق منه، وهي موضع النهي، وإذا كان منهيًّا عنها فهي إثم وغير مقبولة عند الله، وهي تكشف عن شح النفس وفساد القلب.
هذا هو الأمر الأول الذي تأكد به طلب الإنفاق من الطيب النفيس.
أما الأمر الثاني: فهو قوله تعالى: (وَلَسْتم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ) أي أنتم تقصدون إلى الإنفاق من الخبيث غير الجيد رذالة المال، مع أنكم لَا تأخذونه إن أُعطي إليكم هبة أو شراء أو غير ذلك إلا أن تغمضوا فيه، أي تتغافلوا عن ملاحظته وتتساهلوا في قبوله؛ وإن ذلك غير عدل إن أنفقتم المال وأعطيتموه للفقراء والمساكين تحريتم الرديء، وإن طلبتم المال وأردتم أخذه لَا تأخذوا خبيثًا إلا إذا أغمضتم عن عيوبه قاصدين الإغماض، وفي ذلك تنبيه إلى أن يضع الرجل في أعماله مقياسا
أحدهما: هو النهي عن القصد إلى الخبيث في الإنفاق، فهو تكرار حسن أفاد توكيد الأمر بقصد الطيب، وأفاد أيضًا أن الصدقة المجزئة لصاحبها التي يثاب عليها والتي تنمو حتى تصير كالحبة التي فيها سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، هي التي تكون من الطيب لَا من الخبيث، فلا ثواب لمن ينفق يتحري الخبيث ينفق منه.
ومعنى " لا تيمموا " لَا تقصدوا إلى الخبيث، فإن التيمم معناه في الأصل اللغوي القصد، ويقال يممت جهة كذا أو نحو كذا قصدتها، كذلك تيممت أي قصدت والمعنى: لَا تتحروا أن تكون صدقتكم من الخبيث أي الرديء. وهذا يستفاد منه أن الإنفاق بالنسبة للمال الذي يؤخذ منه ثلاث مراتب: المرتبة الأولى وهي أعلاها وأزكاها عند الله، هي أن يقصد إلى الطيب فينفق منه، وهذا هو الذي يليق بالمؤمن، وقد دعا إليه الله سبحانه وتعالى بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا أَنفِقوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتمْ) والمرتبة الثانية: أن ينفق من ماله فيأخذ منه اعتباطا، غير قاصد إلى جيد أو رديء، فيعطي منه من غير تحر لأحدهما، وهذه دون الأولى بلا شك، ولصاحبها قصد الخير؛ لأنه يشطر من ماله شطرًا. والمرتبة الثالثة، وهي الدنيا: أن يقصد إلى الرديء لينفق منه، وهي موضع النهي، وإذا كان منهيًّا عنها فهي إثم وغير مقبولة عند الله، وهي تكشف عن شح النفس وفساد القلب.
هذا هو الأمر الأول الذي تأكد به طلب الإنفاق من الطيب النفيس.
أما الأمر الثاني: فهو قوله تعالى: (وَلَسْتم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ) أي أنتم تقصدون إلى الإنفاق من الخبيث غير الجيد رذالة المال، مع أنكم لَا تأخذونه إن أُعطي إليكم هبة أو شراء أو غير ذلك إلا أن تغمضوا فيه، أي تتغافلوا عن ملاحظته وتتساهلوا في قبوله؛ وإن ذلك غير عدل إن أنفقتم المال وأعطيتموه للفقراء والمساكين تحريتم الرديء، وإن طلبتم المال وأردتم أخذه لَا تأخذوا خبيثًا إلا إذا أغمضتم عن عيوبه قاصدين الإغماض، وفي ذلك تنبيه إلى أن يضع الرجل في أعماله مقياسا
1003
ضابطا، وهو ألا يفعل لغيره إلا ما يحب أن يفعله لنفسه، ولا يعطي من شيء إلا ما يحب أن يعطي إليه، وهذا قانون ضابط يحمل المرء على الاستقامة في كل ما يفعل، وهو ما يرمي إليه الحديث الصحيح: " عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به " (١) فكذلك لَا تعط من المال في إنفاقك إلا ما تقبله طيب النفس إن أخذته في شراء أو هبة أو غيرهما.
وهنا مبحثان لفظيان:
أولهما: في معنى الإغماض في قوله تعالى: (إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ) فقد قال بعض العلماء: إنه من قبيل أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه، فالإغماض هنا بمعنى الإغضاء، وهذا يتلاقى مع من يقول إن معنى الإغماض ألا يتحري الفحص تسامحا أو تساهلا، وقيل: إن معنى الإغماض أن يأخذ زيادة في نظير هذا الرديء، فهو يأخذه مضاعفا، فإنه يقال لغة أغمض لي فيما بعتني أي أعطني زيادة، وكأن المعنى: إنكم لَا تأخذون الرديء إلا متساهلين مغضين مغمضين أعينكم عن الفحص، أو تأخذونه في نظير زيادة.
وثانيهما: قوله تعالى: (وَلا تَيَمَمُوا الْخَبِيثَ منْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بآخذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ) يقف بعض القراء على قوله تعالى: (تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) ثم يبتدئ بقوله تعالى: (مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيه) ويكون التخريج على هذه القراءة أن قوله تعالى: (مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ) في مقام تأكيد النهي وإردافه بما هو في معنى التوبيخ، أي لَا تقصدوا إلى الخبيث مع أنكم تنفقون منه، ولا تأخذونه في ديونكم، ففي ديون الله تعالى تتحرون الرديء وفي ديونكم تتحرون الجيد! وليس ذلك من العدل في شيء.
________
(١) عن عَبْد اللَّهِ الْيَشكُرِىُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَبِّرْنِي بِعَمَلٍ يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ: «تُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتُحِبُّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْكَ، وَتَكْرَهُ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْكَ، خَلِّ عَنْ وُجُوهِ الرِّكَابِ ". [رواه أحمد في مسنده عن عبد الله اليشكرى عن رجل مبهم] (١٥٣٢١)]. َ
وهنا مبحثان لفظيان:
أولهما: في معنى الإغماض في قوله تعالى: (إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ) فقد قال بعض العلماء: إنه من قبيل أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه، فالإغماض هنا بمعنى الإغضاء، وهذا يتلاقى مع من يقول إن معنى الإغماض ألا يتحري الفحص تسامحا أو تساهلا، وقيل: إن معنى الإغماض أن يأخذ زيادة في نظير هذا الرديء، فهو يأخذه مضاعفا، فإنه يقال لغة أغمض لي فيما بعتني أي أعطني زيادة، وكأن المعنى: إنكم لَا تأخذون الرديء إلا متساهلين مغضين مغمضين أعينكم عن الفحص، أو تأخذونه في نظير زيادة.
وثانيهما: قوله تعالى: (وَلا تَيَمَمُوا الْخَبِيثَ منْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بآخذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ) يقف بعض القراء على قوله تعالى: (تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) ثم يبتدئ بقوله تعالى: (مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيه) ويكون التخريج على هذه القراءة أن قوله تعالى: (مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ) في مقام تأكيد النهي وإردافه بما هو في معنى التوبيخ، أي لَا تقصدوا إلى الخبيث مع أنكم تنفقون منه، ولا تأخذونه في ديونكم، ففي ديون الله تعالى تتحرون الرديء وفي ديونكم تتحرون الجيد! وليس ذلك من العدل في شيء.
________
(١) عن عَبْد اللَّهِ الْيَشكُرِىُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَبِّرْنِي بِعَمَلٍ يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ: «تُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتُحِبُّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْكَ، وَتَكْرَهُ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْكَ، خَلِّ عَنْ وُجُوهِ الرِّكَابِ ". [رواه أحمد في مسنده عن عبد الله اليشكرى عن رجل مبهم] (١٥٣٢١)]. َ
1004
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) ختم سبحانه وتعالى الآية بهذه الجملة السامية، وهي تتضمن التذكير بالله تعالى ذي الجلال والإكرام، وإشعارهم برقابته على أفعالهم وصدقاتهم، ولذا ذكر لفظ الجلالة الذي يربي المهابة وخشيته سبحانه في النفوس؛ لأنه المعبود وحده، المسيطر على كل ما في الوجود وحده، وقد تضمنت الجملة وصف الله سبحانه وتعالى بوصفين كريمين مناسبين:
أولهما: وصفه بأنه سبحانه غني، فمن يعطي الفقراء فهو يقرض غنيًا يضاعف ما أقرض عند العطاء، وهو غني فلا يقبل إلا الجيد الذي يقدم بنفس سمحة، وبقلب مطمئن ممن يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. وهو الحميد، أي الذي يستحق أن يحمد، ولا يحمد سواه؛ لأنه المعطي الوهاب؛ فهو الذي وهب الغني غناه، واختبر الفقير بفقره، وكان حقا على من أعطاه أن يحمده، والحمد أن يجود من ماله سمحًا في جوده، قاصدا إلى الطيب من ماله يجود به، فإن خالف ذلك فقد أخطأ مرتين: مرة لأنه لم يقرض الله قرضا حسنًا، وهو الغني المعطي، ومرة ثانية؛ لأنه أخل بواجب الحمد، فالاعتراف بالنعمة للمنعم كان يوجب عليه أن يعطي خير ما في يده، ورجاء الثواب، ورجاء دوام هذه النعمة، كان يوجب عليه مضاعفة العطاء، لَا تحري البخس منه.
* * *
أولهما: وصفه بأنه سبحانه غني، فمن يعطي الفقراء فهو يقرض غنيًا يضاعف ما أقرض عند العطاء، وهو غني فلا يقبل إلا الجيد الذي يقدم بنفس سمحة، وبقلب مطمئن ممن يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. وهو الحميد، أي الذي يستحق أن يحمد، ولا يحمد سواه؛ لأنه المعطي الوهاب؛ فهو الذي وهب الغني غناه، واختبر الفقير بفقره، وكان حقا على من أعطاه أن يحمده، والحمد أن يجود من ماله سمحًا في جوده، قاصدا إلى الطيب من ماله يجود به، فإن خالف ذلك فقد أخطأ مرتين: مرة لأنه لم يقرض الله قرضا حسنًا، وهو الغني المعطي، ومرة ثانية؛ لأنه أخل بواجب الحمد، فالاعتراف بالنعمة للمنعم كان يوجب عليه أن يعطي خير ما في يده، ورجاء الثواب، ورجاء دوام هذه النعمة، كان يوجب عليه مضاعفة العطاء، لَا تحري البخس منه.
* * *
1005
(الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ... (٢٦٨) في هذه الجملة يبين سبحانه وتعالى بواعث الشر الكامنة في نفس الإنسان، فالشيطان يجري في عروقه مجرى الدم، وهو يوسوس للإنسان بالشر، فإذا تقدم لينفق في سبيل الله، وإعلاء شأن الحق، أو سد حاجة المعوزين من الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، وسوس إليه بأن ذلك سبيل نفاد المال، وأنه إذا ذهب ماله، ضاع وهانت حاله، ويوسوس له بذلك، فيحجم بعد إقدام، وإن أقدم فليعط قليلا من المال، أو ليتخير الحشف (١) من ماله. هذه وسوسة الشيطان، وهذا مغزى قوله تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) أي يوعدكم إذا أنفقتم بالفقر، ويحذركم من الصدقة بما يوسوس بذلك في أنفسكم؛
________
(١) الحشف: المر اليابس الفاسد، والمقصود هنا رديء المال.
________
(١) الحشف: المر اليابس الفاسد، والمقصود هنا رديء المال.
1005
وفى هذا الكلام عبر سبحانه عن التهديد بوعد، وهو المشهور في لغة القرآن، وقد تستعمل أوعد في الشر والخير معًا، وإن كل بخيل تحدثه نفسه بخوف الفقر عند الإنفاق، وهذا الحديث هو حديث الشيطان؛ ولذا قيل: الناس من خوف الفقر في فقر. (وَيَأمُرُكم بِالْفَحْشَاءِ) أي يغري نفس المؤمن بالفحشاء، ويستمر في إغرائها حتى تطيعه وتخضع خضوع المأمور للآمر. والفحشاء قال بعض العلماء: إن المراد بها المعاصي التي تردي النفس الإنسانية، من مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر؛ واقترانها بالوعد من الشيطان بالفقر، ليدفع الإنسان تلك الوسوسة عن نفسه " وبذلك يشير المولى الحكيم إلى أن وسوسة الشيطان للإنسان بتخويفه بالفقر هي من قبيل وسوسته بالفحشاء والمعاصي المنكرة القبيحة، وإن الممتنع عن الإنفاق في موطنه كمن يرتكب أفحش الفواحش، وينتهك الحرمات، لأنَّ امتناعه عن العطاء وقت لزومه يؤدي إلى انتهاك الحرمات، وارتكاب المعاصي؛ إذ ينقلب الفقير هادمًا مخربًا، فترتكب أبلغ المحرمات إيغالا في الشر، وقد يكون في ترك الإنفاق تعريض البلاد للخراب والدمار، وفي ذلك نشر للفساد، وتعريض البلاد لأن تنتهك فيها الحرمات، وترتكب فيها أشنع الموبقات، وهل بعد الذلة خير يرتجى وشر يدفع؟
هذا قول بعض العلماء في معنى الفحشاء هنا وتوجيهه، وهو تفسير للكلمة بمعناها الشائع في استعمال القرآن الكريم، وقد فسر الزمخشري هنا الفحشاء بالبخل الشديد؛ فإن كلمة الفاحش تطلق في لغة العرب على البخيل الشديد البخل، ومن ذلك قول طَرَفَةَ بن العبد:
ويكون توجيه الكلام على هذا المعنى، أن الشيطان يوسوس في نفس الغني، يخوِّفه بالفقر، حتى إذا استمكن من نفسه وسيطر عليها في هذا وجَّهه إلى طريق
________
(١) قال المصنف رحمه الله تعالى: اعتام معناها اختار أحسن المال، والعقيلة أكرم المال، والفاحش البخيل، ومعنى البيت أرى الموت يختار الكرام ويختار خيار مال البخيل، فلا جدوى في البخل.
هذا قول بعض العلماء في معنى الفحشاء هنا وتوجيهه، وهو تفسير للكلمة بمعناها الشائع في استعمال القرآن الكريم، وقد فسر الزمخشري هنا الفحشاء بالبخل الشديد؛ فإن كلمة الفاحش تطلق في لغة العرب على البخيل الشديد البخل، ومن ذلك قول طَرَفَةَ بن العبد:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي | عقيلة مال الفاحش المتشدد (١) فالفاحش هنا المراد به البخيل. |
________
(١) قال المصنف رحمه الله تعالى: اعتام معناها اختار أحسن المال، والعقيلة أكرم المال، والفاحش البخيل، ومعنى البيت أرى الموت يختار الكرام ويختار خيار مال البخيل، فلا جدوى في البخل.
1006
البخل الشديد فاتجه وأطاعه كما يطيع المأمور الآمر، ويصير سَيِّقَة في يده يسوقه حيث يشاء.
ولقد قال - ﷺ -: " إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ المَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»، ثُمَّ قَرَأَ ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ﴾ الآية (١).
هذه وسوسة الشيطان، وتلك خاطرة النفسِ الملكية، وقد ذكر سبحانه أمره في مقابل وسوسة الشيطان فقال: (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا).
صدَّر سبحانه القول بلفظ الجلالة للإشارة إلى أن الوعد الذي وعد به المنفقين وعد حق، لَا يمكن أن يجيء الشك في صدقه؛ لأنه وعد الله ذي الجلال والإكرام المعبود بحق، الذي لَا يستحق العبادة سواه سبحانه وتعالى عن الشريك والمثيل، وإذا كان الشيطان يهدد بالفقر عند العطاء، فالولي تعالت حكمته يعد المنفق بأمرين: أولهما المغفرة، وثانيهما الفضل، وهو الزيادة في الدنيا والآخرة.
فأما المغفرة، فلأن الصدقة التي يقصد بها وجه الله تعالى لَا لأحد سواه، وليس فيها رياء ولا نفاق، ولم يعقبها مَنٌّ ولا أذى، تدل على نفس صافية خالصة مخلصة، متجهة إلى الله تعالى منصرفة، فإن كان منها في ماضيها ما يؤاخذ المرء عليه، فإن الله تعالى يغفر له، ويتوب عليه، ولقد قال تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ... )، وقال - ﷺ -: " الصدقة تطفئ الخطيئة " (٢) ولأن النفس تكون صافية إذا كانت الصدقة على هذا الوجه، قال الله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا...)، فالصدقة التي تؤدى ابتغاء وجه الله تعالى تطهر النفس كما تطهر المال، وتوجه النفس نحو الخير، كما تنمي المال.
________
(١) رواه الترمذي: تفسير سورة البقرة (٢٩١٤).
(٢) جزء من حديث رواه الترمذي: الإيمان (٢٥٤١) وأحمد في مسنده عن معاذ (٢١١١٦).
ولقد قال - ﷺ -: " إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ المَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»، ثُمَّ قَرَأَ ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ﴾ الآية (١).
هذه وسوسة الشيطان، وتلك خاطرة النفسِ الملكية، وقد ذكر سبحانه أمره في مقابل وسوسة الشيطان فقال: (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا).
صدَّر سبحانه القول بلفظ الجلالة للإشارة إلى أن الوعد الذي وعد به المنفقين وعد حق، لَا يمكن أن يجيء الشك في صدقه؛ لأنه وعد الله ذي الجلال والإكرام المعبود بحق، الذي لَا يستحق العبادة سواه سبحانه وتعالى عن الشريك والمثيل، وإذا كان الشيطان يهدد بالفقر عند العطاء، فالولي تعالت حكمته يعد المنفق بأمرين: أولهما المغفرة، وثانيهما الفضل، وهو الزيادة في الدنيا والآخرة.
فأما المغفرة، فلأن الصدقة التي يقصد بها وجه الله تعالى لَا لأحد سواه، وليس فيها رياء ولا نفاق، ولم يعقبها مَنٌّ ولا أذى، تدل على نفس صافية خالصة مخلصة، متجهة إلى الله تعالى منصرفة، فإن كان منها في ماضيها ما يؤاخذ المرء عليه، فإن الله تعالى يغفر له، ويتوب عليه، ولقد قال تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ... )، وقال - ﷺ -: " الصدقة تطفئ الخطيئة " (٢) ولأن النفس تكون صافية إذا كانت الصدقة على هذا الوجه، قال الله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا...)، فالصدقة التي تؤدى ابتغاء وجه الله تعالى تطهر النفس كما تطهر المال، وتوجه النفس نحو الخير، كما تنمي المال.
________
(١) رواه الترمذي: تفسير سورة البقرة (٢٩١٤).
(٢) جزء من حديث رواه الترمذي: الإيمان (٢٥٤١) وأحمد في مسنده عن معاذ (٢١١١٦).
1007
هذه هي المغفرة التي يعد الله سبحانه وتعالى بها، وأما الفضل وهو النماء والزيادة فإن ذلك يتحقق بالصدقات؛ لأنها تُحدث البركة في الرزق فيكون القليل في يد المتصدق كثيرًا بتوفيق الله تعالى، وبتوجيه من الله تعالى إلى السبل الناجحة، وإبعاده عما يذهب فيه المال ضياعًا، وإن الفضل يتحقق بسيادة المرء على نفسه، ومن ساد على نفسه فقد ساد على غيره، والمنفق يغالب الأهواء فينتصر، فيشرف في نفسه، ويشرف أمام الناس؛ ثم إن الله سبحانه مخلف الرزق في الدنيا بالتيسير والتسهيل والرزق الوفير، وفي الآخرة بالنعيم المقيم؛ ولقد قال تعالى: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يخْلِفُهُ وَهوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)، وقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله - ﷺ - قال: " ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفًا " (١) وإن ذلك مشاهد محسوس بين الناس اليوم، فإن الممسك إن لم يتلف ماله تلف جسمه، فإن لم يتلف جسمه تلفت نفسه، أو شرفه، وتقطعت صلات المودة بينه وبين الناس حتى أقرب الناس إليه.
(وَاللَّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ) ختم الله سبحانه وتعالى هذه الآية بتلك الجملة السامية تأكيدًا لوعده الذي وعد به عباده المتقين المتصدقين؛ فإنه سبحانه وتعالى قد وعدهم بأن يعطيهم من فضله، فبين سبحانه وتعالى أنه واسع المغفرة، واسع الفضل، يعطي من يشاء؛ فإذا كان هو الذي أعطى الغني من فضله ابتداءً، فهو الذي يمده إن تصدق بفضله أيضًا، وهو مع سعة فضله ومغفرته عليم بموضع المغفرة وموضع الفضل، وهو الصادق فيما يعد، يعلم نتيجة العطاء، وأنها لَا تنتج فقرًا كما يوسوس الشيطان، بل يعلم الغيب، وقد أكنَّ في قدره أنها تنتج مغفرة وفضلا، فصدِّقوا أيها المنفقون من يعلم الغيب، ولا تسيروا وراء وسوسة الشيطان الرجيم.
* * *
________
(١) البخاري: الزكاة - قول الله تعالى: (فأما من أعطى واتقى) (١٣٥١)، ومسلم: الزكاة - في المنفق والممسك (١٦٧٨). عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(وَاللَّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ) ختم الله سبحانه وتعالى هذه الآية بتلك الجملة السامية تأكيدًا لوعده الذي وعد به عباده المتقين المتصدقين؛ فإنه سبحانه وتعالى قد وعدهم بأن يعطيهم من فضله، فبين سبحانه وتعالى أنه واسع المغفرة، واسع الفضل، يعطي من يشاء؛ فإذا كان هو الذي أعطى الغني من فضله ابتداءً، فهو الذي يمده إن تصدق بفضله أيضًا، وهو مع سعة فضله ومغفرته عليم بموضع المغفرة وموضع الفضل، وهو الصادق فيما يعد، يعلم نتيجة العطاء، وأنها لَا تنتج فقرًا كما يوسوس الشيطان، بل يعلم الغيب، وقد أكنَّ في قدره أنها تنتج مغفرة وفضلا، فصدِّقوا أيها المنفقون من يعلم الغيب، ولا تسيروا وراء وسوسة الشيطان الرجيم.
* * *
________
(١) البخاري: الزكاة - قول الله تعالى: (فأما من أعطى واتقى) (١٣٥١)، ومسلم: الزكاة - في المنفق والممسك (١٦٧٨). عن أبي هريرة رضي الله عنه.
1008
(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٢٦٩) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٢٧٠)
* * *
بعد أن بيَّن سبحانه وتعالى نوازع الشر في نفس الإنسان وإلهام الله له بالخير، وأن الشيطان يعد بالفقر ويحرِّض على الفحشاء والبخل، وأن الله يعد بالمغفرة والفضل، بعد ذلك بيَّن أن الحكمة في أن يجيب داعي الله، وأن هذه الحكمة إنما هي من الله سبحانه وتعالى وأن من نالها فقد أعطاه الله خيرًا كثيرًا.
وأصل الحكمة مأخوذ من حكَم بمعنى منع، وهي في الإنسانية صفة نفسية هي أساس المعرفة الصحيحة التي تصيب الحق، وتوجه الإنسان نحو عمل الخير، وتمنعه من عمل الشر، فهي فيه مانعة ضابطة حاكمة للنفس مسيرة لها نحو الكمال. ولقد قال الراغب الأصفهاني في معنى الحكمة: " الحكمة إصابة الحق بالعلم والعقل، والحكمة من الله تعالى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات، وهذا هو الذي وصف به لقمان في قوله عز وجل: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ...)، ونبه على جملتها بما وصفه بهأ، والمعاني التي أشار إليها الراغب هي في قوله تعالى: (... أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣)، إلى آخر الآيات التي تدل على معرفته للحق وإدراكه له وإيمانه به، وعمله على منهاج ما علم وإرشاده الناس إلى فعل الخير.
فالحكمة إذن في حقيقتها تتضمن معاني العلم الصائب والإيمان بالحق والإذعان له وطلبه، والعمل على وفق ما علم، وإرشاد الناس إلى المنهاج المستقيم؛
* * *
بعد أن بيَّن سبحانه وتعالى نوازع الشر في نفس الإنسان وإلهام الله له بالخير، وأن الشيطان يعد بالفقر ويحرِّض على الفحشاء والبخل، وأن الله يعد بالمغفرة والفضل، بعد ذلك بيَّن أن الحكمة في أن يجيب داعي الله، وأن هذه الحكمة إنما هي من الله سبحانه وتعالى وأن من نالها فقد أعطاه الله خيرًا كثيرًا.
وأصل الحكمة مأخوذ من حكَم بمعنى منع، وهي في الإنسانية صفة نفسية هي أساس المعرفة الصحيحة التي تصيب الحق، وتوجه الإنسان نحو عمل الخير، وتمنعه من عمل الشر، فهي فيه مانعة ضابطة حاكمة للنفس مسيرة لها نحو الكمال. ولقد قال الراغب الأصفهاني في معنى الحكمة: " الحكمة إصابة الحق بالعلم والعقل، والحكمة من الله تعالى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات، وهذا هو الذي وصف به لقمان في قوله عز وجل: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ...)، ونبه على جملتها بما وصفه بهأ، والمعاني التي أشار إليها الراغب هي في قوله تعالى: (... أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣)، إلى آخر الآيات التي تدل على معرفته للحق وإدراكه له وإيمانه به، وعمله على منهاج ما علم وإرشاده الناس إلى فعل الخير.
فالحكمة إذن في حقيقتها تتضمن معاني العلم الصائب والإيمان بالحق والإذعان له وطلبه، والعمل على وفق ما علم، وإرشاد الناس إلى المنهاج المستقيم؛
1009
ولذا قال الله تعالى (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ... )، وقال النبي - ﷺ -: " لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها " (١).
وقد يقول قائل: ما موضع هذه الآية من آيات الصدقات؛ فنقول: إن الله سبحانه وتعالى أشار إلى أن المنفق عليه أن يستولي على نفسه، وأن يدفع دواعي الشر، ويحمي قلبه منها، وأن يجيب نداء الله تعالى؛ وفي هذه الآية أن تلك هي الحكمة، فالحكمة في ضبط النفس، ومنعها من أهوائها والسيطرة عليها، وإطاعة الله تعالى.
ومن الناس من يحسب الحرص والضنَّ بالمال حكمة، ويدَّعي أن ذلك من الاقتصاد، وأن الإنفاق إسراف، فأشار سبحانه أن التصدق هو الحكمة، بذكر آية الحكمة في آيات الصدقة.
وإن الحكمة نور يقذفه الله في قلب المؤمن الذي يطلب الحق ويتجه إليه ويقصده؛ فإنه إن استولى على نفسه وطلب مرضاة الله تعالى آتاه الله نورًا به يبصر الحق، فأشرق في قلبه الإيمان به فاندفع إلى العمل الصالح، إذ إن الاتجاه المستقيم، بقلب مخلص سليم، يكون معه نور الحكمة، إذ يقذف الله سبحانه وتعالى به في قلبه، فيكون الفكر المستقيم الذي يصيب الحق، ويكون القلب الذي يؤمن به، ويكون العمل النافع؛ ولذا يقول بعض العلماء: إن الحكمة هي العلم النافع الذي يكون معه العمل.
هذا معنى قوله تعالى:
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: العلم - الاغتباط في العلم والحكمة (٧١)، ومسلم: صلاة المسافرين: - فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه (١٣٥٢) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وفي الباب عن عن عبد الله بن عمر، وعند البخاري عن أبي هريرة أيضا.
وقد يقول قائل: ما موضع هذه الآية من آيات الصدقات؛ فنقول: إن الله سبحانه وتعالى أشار إلى أن المنفق عليه أن يستولي على نفسه، وأن يدفع دواعي الشر، ويحمي قلبه منها، وأن يجيب نداء الله تعالى؛ وفي هذه الآية أن تلك هي الحكمة، فالحكمة في ضبط النفس، ومنعها من أهوائها والسيطرة عليها، وإطاعة الله تعالى.
ومن الناس من يحسب الحرص والضنَّ بالمال حكمة، ويدَّعي أن ذلك من الاقتصاد، وأن الإنفاق إسراف، فأشار سبحانه أن التصدق هو الحكمة، بذكر آية الحكمة في آيات الصدقة.
وإن الحكمة نور يقذفه الله في قلب المؤمن الذي يطلب الحق ويتجه إليه ويقصده؛ فإنه إن استولى على نفسه وطلب مرضاة الله تعالى آتاه الله نورًا به يبصر الحق، فأشرق في قلبه الإيمان به فاندفع إلى العمل الصالح، إذ إن الاتجاه المستقيم، بقلب مخلص سليم، يكون معه نور الحكمة، إذ يقذف الله سبحانه وتعالى به في قلبه، فيكون الفكر المستقيم الذي يصيب الحق، ويكون القلب الذي يؤمن به، ويكون العمل النافع؛ ولذا يقول بعض العلماء: إن الحكمة هي العلم النافع الذي يكون معه العمل.
هذا معنى قوله تعالى:
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: العلم - الاغتباط في العلم والحكمة (٧١)، ومسلم: صلاة المسافرين: - فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه (١٣٥٢) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وفي الباب عن عن عبد الله بن عمر، وعند البخاري عن أبي هريرة أيضا.
1010
(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ) فالمعطي للحكمة هو الله، ولكنه العليم بكل شيء يضع الأمور في مواضعها، فهو لَا يعطيها إلا لمن يخلص قلبه، ويسلم وجهه، وإن كان كل شيء بمشيئته سبحانه، إنه على ما يشاء قدير.
1010
والحكمة على هذا التوجيه هي علو بالإنسان، وسمو به، إذ إنه يخلص نفسه من الأهواء المردية، ومن الشهوات الجسدية الأرضية. ومن المأثور أن الإنسان فيه طبيعتان: طبيعة أرضية منها ينفذ الشيطان، وطبيعة ملكية بها سموه، ومن جانبها تنفذ دعوة الديَّان، فإن غلبت عليه طبيعته الأرضية غلبت عليه شقوته وكان شرًّا من الشيطان، وإن غلبت عليه الثانية سمت إنسانيته وكان أفضل منِ الملك، وتلك هي الحكمة، ولذا قال تعالى: (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرَا كَثِيرًا).
(وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ) أي وما يتذكر ويعتبر بأوامر الله تعالى، ويستولي على نفسه ويحارب أهواءه حتى يقذف الله في قلبه بنور الحكمة إلا أولو الألباب، أي أصحاب العقول التي تصيب الحق وتدركه، وتتجه إليه غير متأشبة بلذة من لذات الجسد، أو شهوة من شهوات الدنيا المردية.
فاللب معناه العقل، ولكنه لَا يستعمل في القرآن إلا في العقول المستقيمة المدركة التي تخلصت وسلمت من شوائب الهوى، ومعايب اللذات، فهي العقول المسيطرة التي تستخدم لطلب الحق وتوصل إليه، لَا العقول المسخرة للأهواء واللذائذ تتحكم فيها وتسيرها. وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بذلك الختام الحكيم، للإشارة إلى أن الله سبحانه الذي يعطي حكمته من يشاء لَا يعطيها إلا للذين خلَّصوا قلوبهم من الفاسد والملاذِّ الأرضية، ولم يجعلوها حاكمة على قلوبهم، متحكمة في تفكيرهم.
وللإشارة إلى أن الذين يجيبون داعي الله، ويردون داعي الشيطان هم ذوو العقول المستقيمة، فلا يتحكم الشيطان إلا في غفوة من غفوات العقل المدرك " وللحث على وجوب تذكر الله دائمًا، وأن على ذوي العقول أن يتجهوا بعقولهم دائمًا لله ليتذكروا ويعتبروا، ويستبصروا، فإنها لَا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، والله سبحانه وتعالى هو القادر على كل شيء الهادي إلى سواء السبيل.
* * *
(وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ) أي وما يتذكر ويعتبر بأوامر الله تعالى، ويستولي على نفسه ويحارب أهواءه حتى يقذف الله في قلبه بنور الحكمة إلا أولو الألباب، أي أصحاب العقول التي تصيب الحق وتدركه، وتتجه إليه غير متأشبة بلذة من لذات الجسد، أو شهوة من شهوات الدنيا المردية.
فاللب معناه العقل، ولكنه لَا يستعمل في القرآن إلا في العقول المستقيمة المدركة التي تخلصت وسلمت من شوائب الهوى، ومعايب اللذات، فهي العقول المسيطرة التي تستخدم لطلب الحق وتوصل إليه، لَا العقول المسخرة للأهواء واللذائذ تتحكم فيها وتسيرها. وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بذلك الختام الحكيم، للإشارة إلى أن الله سبحانه الذي يعطي حكمته من يشاء لَا يعطيها إلا للذين خلَّصوا قلوبهم من الفاسد والملاذِّ الأرضية، ولم يجعلوها حاكمة على قلوبهم، متحكمة في تفكيرهم.
وللإشارة إلى أن الذين يجيبون داعي الله، ويردون داعي الشيطان هم ذوو العقول المستقيمة، فلا يتحكم الشيطان إلا في غفوة من غفوات العقل المدرك " وللحث على وجوب تذكر الله دائمًا، وأن على ذوي العقول أن يتجهوا بعقولهم دائمًا لله ليتذكروا ويعتبروا، ويستبصروا، فإنها لَا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، والله سبحانه وتعالى هو القادر على كل شيء الهادي إلى سواء السبيل.
* * *
1011
(وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ... (٢٧٠)
* * *
النفقة هي العطاء العاجل
في باب من أبواب البر، فهي عطاء منجز، توجبه حاجة من يعطيه، أو حاجة الجماعة التي يعيش فيها، والضرورات الاجتماعية، أو السياسية أو العسكرية لها. أما النَّذْر فهو التزام طاعة من الطاعات، أو عطاء في بر. ويقول الراغب: النَّذْر أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر، يقال نذرت قال تعالى: (إِنِي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ ايوْمَ إِنسِيًّا)، وأصل مادة نذر من الخوف؛ لأن الإنسان إنما يلتزم ما يلتزمه على نفسه مما ليس بلازم عليه خوف التقصير وخوف أن تضعف الإرادة البشرية في القيام بذلك الفعل الذي ليس واجبًا في أصله. والصيغة المشهورة للنذر أن يقول: لله عليَّ نذر أو نذرت لله كذا، فهي في معناها تتضمن العهد الموثق لله.
ومعنى الجملة السامية: ما أنفقتم من نفقة عاجلة وأديتموها، أو التزمتم بنفقة قابلة وعاهدتم الله على القيام بها، فإن الله تعالى سبحانه وتعالى يعلمه، فيعلم الباعث عليه أقصد ابتغاء مرضاة الله أم قصد به رئاء الناس، أو كان من الطيِّب الذي يقبله الله، أم تيمم الخبيث فلم يختر لله سواه، وأتبعه مَنًّا وأذى، وجرحًا للكرامة وعزة النفس، أم كان بطيب النفس، ومن غير ذل ولا امتهان؛ ثم يعلم سبحانه أَوَفَّى الناذر بنذره على الوجه الأكمل أم نكث عهده، وأبطل ذمته؟ يعلم الله سبحانه وتعالى ذلك كله، يعلمه علم القادر القائم على كل شيء، الذي يجازي المحسن إحسانًا والمسيء إساءة؛ فقوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ) مع إيجازها أفادت فوائد جمة: أفادت الوعد والوعيد، أفادت التبشير بالثواب والنعيم المقيم ورضوان الله تعالى، وأفادت الإنذار بالعقاب، لمن فسد قلبه، فلم يقصد بعطائه وجه الله تعالى، ولمن نقض عهده، وأخلَّ بذمته؛ ثم أفادت مع ذلك تربية المهابة في قلب المؤمن؛ فإن المؤمن إذا ذكر أن الله تعالى يعلم عمله، أحس برقابته في خلجات نفسه، وخصوصًا أن الجملة السامية: (فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ) صُدِّرت بما يؤكدها. وذكر العليم الحكيم بلفظ الجلالة الدال على الاستحقاق الكامل للألوهية، وانفراده سبحانه وتعالى بها، فإن ذلك كله من شأنه أن يجعل المؤمن يحس بمقام الألوهية،
* * *
النفقة هي العطاء العاجل
في باب من أبواب البر، فهي عطاء منجز، توجبه حاجة من يعطيه، أو حاجة الجماعة التي يعيش فيها، والضرورات الاجتماعية، أو السياسية أو العسكرية لها. أما النَّذْر فهو التزام طاعة من الطاعات، أو عطاء في بر. ويقول الراغب: النَّذْر أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر، يقال نذرت قال تعالى: (إِنِي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ ايوْمَ إِنسِيًّا)، وأصل مادة نذر من الخوف؛ لأن الإنسان إنما يلتزم ما يلتزمه على نفسه مما ليس بلازم عليه خوف التقصير وخوف أن تضعف الإرادة البشرية في القيام بذلك الفعل الذي ليس واجبًا في أصله. والصيغة المشهورة للنذر أن يقول: لله عليَّ نذر أو نذرت لله كذا، فهي في معناها تتضمن العهد الموثق لله.
ومعنى الجملة السامية: ما أنفقتم من نفقة عاجلة وأديتموها، أو التزمتم بنفقة قابلة وعاهدتم الله على القيام بها، فإن الله تعالى سبحانه وتعالى يعلمه، فيعلم الباعث عليه أقصد ابتغاء مرضاة الله أم قصد به رئاء الناس، أو كان من الطيِّب الذي يقبله الله، أم تيمم الخبيث فلم يختر لله سواه، وأتبعه مَنًّا وأذى، وجرحًا للكرامة وعزة النفس، أم كان بطيب النفس، ومن غير ذل ولا امتهان؛ ثم يعلم سبحانه أَوَفَّى الناذر بنذره على الوجه الأكمل أم نكث عهده، وأبطل ذمته؟ يعلم الله سبحانه وتعالى ذلك كله، يعلمه علم القادر القائم على كل شيء، الذي يجازي المحسن إحسانًا والمسيء إساءة؛ فقوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ) مع إيجازها أفادت فوائد جمة: أفادت الوعد والوعيد، أفادت التبشير بالثواب والنعيم المقيم ورضوان الله تعالى، وأفادت الإنذار بالعقاب، لمن فسد قلبه، فلم يقصد بعطائه وجه الله تعالى، ولمن نقض عهده، وأخلَّ بذمته؛ ثم أفادت مع ذلك تربية المهابة في قلب المؤمن؛ فإن المؤمن إذا ذكر أن الله تعالى يعلم عمله، أحس برقابته في خلجات نفسه، وخصوصًا أن الجملة السامية: (فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ) صُدِّرت بما يؤكدها. وذكر العليم الحكيم بلفظ الجلالة الدال على الاستحقاق الكامل للألوهية، وانفراده سبحانه وتعالى بها، فإن ذلك كله من شأنه أن يجعل المؤمن يحس بمقام الألوهية،
1012
ويشعر بحق العبودية، فتخلص نيته، ويخلص قلبه من كل الشوائب والأغراض الدنيوية.
(وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ): ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذه الجملة السامية التي تفيد النفي المطلق لنصرة الظالمين، ومعناها ليس للظالمين أي نصير في الدنيا والآخرة، وهي تؤكد الوعيد في الجملة السابقة، وتشير إلى أن الامتناع عن الإعطاء ظلم، وليس للظالم نصير؛ وأن الامتناع عن الإعطاء حقيقة هو ظلم، فهو ظلم للجماعة، لأنه منع صاحب الحق من حقه؛ لأن الله سبحانه وتعالى وهو أحكم الحاكمين حكم بأن للفقير في مال الغني حقا معلوما، ولا ظلم أفحش من أن يمنع صاحب الحق من حقه، ولأن الممتنع عن العطاء يظلم نفسه؛ لأنه يعرضها للهوان في الدنيا، ولعذاب الله في الآخرة، وهو يظلم نفسه وجماعته؛ إذ إن الجماعة التي يشح فيها الغنيُّ بالعطاء لإمداد الجند المدافع، ولإمداد الفقير وجعله يعيش عيشة آدمية محترمة - يبتليها الله تعالى ببلاء واقع ماله من دافع، لأن ذلك الفقير إذا جوَّعته كان أداة هدم للجماعة، فيكون الشُّذَّاب (١) الذين يبدلون أمن الجماعة خوفًا، ويكون المنحرفون في تفكيرهم ومنازعهم الذين يهدمون بناء الجماعة، ويقوضون كل قائم.
ونفي الأنصار يشمل النفي في الدنيا والآخرة كما قررنا؛ أما نفيه في الآخرة فمعلوم ظاهر ثابت، ونفيه في الآخرة يدركه البصير النافذ البصيرة؛ فإن البخلاء بأموالهم عن مواطن الخير مبَغضُون إلى الناس، لَا يرضى عنهم أحد، ولا يناصرهم أحد بالقول أو العمل، وأحب الناس إلى الناس الباذل المعطي، وأبغضهم إليهم الشحيح المانع.
والآية الكريمة تشير إلى أن الوفاء بالنذر مطلوب في العطاء؛ فإنه اقترن بالإنفاق المطلوب الذي حث عليه القرآن الكريم في الآيات السابقة، فكذلك ما اقترن به.
________
(١) الشُّذَّاب: من الشذَبُ، محركةً: قِطَعُ الشَّجَرِ، أو قِشْرُهُ، و - الشَّيءَ: قَطَعَهُ. والتَشْذِيبُ: الطَّرْدُ، والتَّفريقُ والتَّمزيقُ في المال [لسان العرب: الثين - شذب].
(وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ): ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذه الجملة السامية التي تفيد النفي المطلق لنصرة الظالمين، ومعناها ليس للظالمين أي نصير في الدنيا والآخرة، وهي تؤكد الوعيد في الجملة السابقة، وتشير إلى أن الامتناع عن الإعطاء ظلم، وليس للظالم نصير؛ وأن الامتناع عن الإعطاء حقيقة هو ظلم، فهو ظلم للجماعة، لأنه منع صاحب الحق من حقه؛ لأن الله سبحانه وتعالى وهو أحكم الحاكمين حكم بأن للفقير في مال الغني حقا معلوما، ولا ظلم أفحش من أن يمنع صاحب الحق من حقه، ولأن الممتنع عن العطاء يظلم نفسه؛ لأنه يعرضها للهوان في الدنيا، ولعذاب الله في الآخرة، وهو يظلم نفسه وجماعته؛ إذ إن الجماعة التي يشح فيها الغنيُّ بالعطاء لإمداد الجند المدافع، ولإمداد الفقير وجعله يعيش عيشة آدمية محترمة - يبتليها الله تعالى ببلاء واقع ماله من دافع، لأن ذلك الفقير إذا جوَّعته كان أداة هدم للجماعة، فيكون الشُّذَّاب (١) الذين يبدلون أمن الجماعة خوفًا، ويكون المنحرفون في تفكيرهم ومنازعهم الذين يهدمون بناء الجماعة، ويقوضون كل قائم.
ونفي الأنصار يشمل النفي في الدنيا والآخرة كما قررنا؛ أما نفيه في الآخرة فمعلوم ظاهر ثابت، ونفيه في الآخرة يدركه البصير النافذ البصيرة؛ فإن البخلاء بأموالهم عن مواطن الخير مبَغضُون إلى الناس، لَا يرضى عنهم أحد، ولا يناصرهم أحد بالقول أو العمل، وأحب الناس إلى الناس الباذل المعطي، وأبغضهم إليهم الشحيح المانع.
والآية الكريمة تشير إلى أن الوفاء بالنذر مطلوب في العطاء؛ فإنه اقترن بالإنفاق المطلوب الذي حث عليه القرآن الكريم في الآيات السابقة، فكذلك ما اقترن به.
________
(١) الشُّذَّاب: من الشذَبُ، محركةً: قِطَعُ الشَّجَرِ، أو قِشْرُهُ، و - الشَّيءَ: قَطَعَهُ. والتَشْذِيبُ: الطَّرْدُ، والتَّفريقُ والتَّمزيقُ في المال [لسان العرب: الثين - شذب].
1013
وإنه من الحق علينا قبل أن ننتقل إلى تفسير الآية الآتية نتكلم في النذر:
إن العلماء يقسمون النذر إلى قسمين: نذر مطلق هو التزام بطاعة غير معلق على زمن، ولم يكن المقصود منه الحض على فعل أو المنع من فعل، أو الامتناع عن فعل، أو توثيق فعل، كأن يقول القائل: لله عَلَيَّ نذر أن أعتكف في العشر الأخيرة من رمضان، أو: لله عَلَيَّ نذر أن أتصدق على الفقراء بعشرة جنيهات. فإن النذر في هذه الحال يجب الوفاء به ما دام طاعة باتفاق الفقهاء ويقسِّم الفخر الرازي في تفسيره الكبير هذا النذر إلى قسمين: مفسَّر وغير مفسَّر، فالمفسر أن يقول مثلا: لله عَلَيَّ حجٌّ، وهذا يلزم الوفاء به، وغير المفسَّر أن يقول: لله عَلَيَّ نذر، من غير أن يسمى النذر ويبينه فيلزمه فيه كفارة يمين لقوله - ﷺ -: " من نذر نذرًا وسمى فعليه ما سمى، ومن نذر نذرًا ولم يسم فعليه كفارة يمين " (١).
وهذا مذهب الشافعي، ويلحق بالنذر غير المفسر في المذهب الشافعي النذر الذي يكون في معناه تحريض على فعل، أو الامتناع من فعل، كأن يقول: نذرت لله ألا أفعل كذا ثم يفعله، فإنه يجب فيه كفارة يمين؛ لأنه في معنى اليمين.
ولقد روى أن رسول الله - ﷺ - قال: " من نذر نذرًا لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا لَا يطيقه فكفارته كفارة يمين " (٢).
هذا إذا كان النذر التزامًا مجردًا من غير تعليق أو تقييد بمكان؛ فقد اتفق الفقهاء على وجوب الوفاء به ما دام قربة، لقوله - ﷺ -: " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " (٣). ولقوله تعالى. (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ...)، فهو أمر حتمي لازم.
________
(١) رواه ابن ماجه في الكفارات (٢١١٨) عن عقبة بن عامر الجهني، وعنه رواه الترمذي: النذور والأيمان (١٤٤٨).
(٢) رواه أبو داود: الأيمان والنذور - من نذر نذرا لَا يطيقه (٢٨٨٧) عن ابن عباس بهذا اللفظ، وفي آخره: " وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا أطَاقَهُ فَلْيَف به ".
(٣) رواه البخاري: الأيمان والَنذَوَر - النذر في الطاعة (٦٢٠٢) عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
إن العلماء يقسمون النذر إلى قسمين: نذر مطلق هو التزام بطاعة غير معلق على زمن، ولم يكن المقصود منه الحض على فعل أو المنع من فعل، أو الامتناع عن فعل، أو توثيق فعل، كأن يقول القائل: لله عَلَيَّ نذر أن أعتكف في العشر الأخيرة من رمضان، أو: لله عَلَيَّ نذر أن أتصدق على الفقراء بعشرة جنيهات. فإن النذر في هذه الحال يجب الوفاء به ما دام طاعة باتفاق الفقهاء ويقسِّم الفخر الرازي في تفسيره الكبير هذا النذر إلى قسمين: مفسَّر وغير مفسَّر، فالمفسر أن يقول مثلا: لله عَلَيَّ حجٌّ، وهذا يلزم الوفاء به، وغير المفسَّر أن يقول: لله عَلَيَّ نذر، من غير أن يسمى النذر ويبينه فيلزمه فيه كفارة يمين لقوله - ﷺ -: " من نذر نذرًا وسمى فعليه ما سمى، ومن نذر نذرًا ولم يسم فعليه كفارة يمين " (١).
وهذا مذهب الشافعي، ويلحق بالنذر غير المفسر في المذهب الشافعي النذر الذي يكون في معناه تحريض على فعل، أو الامتناع من فعل، كأن يقول: نذرت لله ألا أفعل كذا ثم يفعله، فإنه يجب فيه كفارة يمين؛ لأنه في معنى اليمين.
ولقد روى أن رسول الله - ﷺ - قال: " من نذر نذرًا لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا لَا يطيقه فكفارته كفارة يمين " (٢).
هذا إذا كان النذر التزامًا مجردًا من غير تعليق أو تقييد بمكان؛ فقد اتفق الفقهاء على وجوب الوفاء به ما دام قربة، لقوله - ﷺ -: " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " (٣). ولقوله تعالى. (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ...)، فهو أمر حتمي لازم.
________
(١) رواه ابن ماجه في الكفارات (٢١١٨) عن عقبة بن عامر الجهني، وعنه رواه الترمذي: النذور والأيمان (١٤٤٨).
(٢) رواه أبو داود: الأيمان والنذور - من نذر نذرا لَا يطيقه (٢٨٨٧) عن ابن عباس بهذا اللفظ، وفي آخره: " وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا أطَاقَهُ فَلْيَف به ".
(٣) رواه البخاري: الأيمان والَنذَوَر - النذر في الطاعة (٦٢٠٢) عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
1014
أما إذا علق النذر على أمر سيقع في المستقبل كأن يقول: إن شفى الله مريضي مما ألم به فلله عليَّ نذر أن أتصدق بمائة جنيه مثلا، فقد اختلف الفقهاء فيه؛ فقال الحنفية فيجب الوفاء بشروط ثلاثة: ألا يكون معصية وألا يكون واجبًا، وأن يكون قربة بحيث يكون من جنسه واجب؛ فنذر المعصية باطل كما قدمنا، وكنص الحديث الذي ذكرناه؛ ونذر الواجب لَا جدوى فيه؛ لأنه واجب من تلقاء نفسه؛ أما نذر القُرَب التي من جنسها واجبات كالصدقات والصيام والحج فإن الوفاء به واجب، وهذا هو مذهب المالكية إلا أنه إذا كان النذر بجميع المال وجب الثلث فقط عندهم، إن لم يكن المال معينًا بالتعيين. والشافعي في قول اعتبر النذر المعلق على الشرط كاليمين تجب به كفارة، كأن يقول: إن شربتُ الدخان وجب عَلَيَّ كذا صدقة، فشرب، فإنه تجب كفارة يمين.
ومذهب الإمام أحمد كما حققه العلامة ابن تيمية أن النذر المعلق على شرط إن قصد به التعليق حقيقة كـ: " إن جاء رمضان فلله عليَّ نذر أن أعتكف العشرة الأخيرة منه "، فهذا يجب الوفاء به، وإن كان المقصود به الحض على فعل أو الامتناع عن فعل، فإنه لَا يجب الوفاء به ولكن تجب كفارة يمين؛ لأنه حلف تجب فيه الكفارة.
وقد اتفق العلماء على عدم وجوب الوفاء في نذر المعصية، لقوله - ﷺ -: " من نذر أن يعصي الله فلا يعصه " (١). وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لَا يجب شيء؛ ولكن قال أحمد: تجب كفارة يمين، للحديث الذي رواه أبو داود ونقلناه آنفًا؛ ففيه التصريح بأن نذر المعصية تجب فيه الكفارة ولأن منطق الحنابلة أن النذر الذي يكون فيه الحض على فعل أو منع فعل هو من قبيل اليمين، واليمين في المعاصي حكمها أنه يجب الحنث فيها، وتجب كفارة اليمين، لقوله - ﷺ -: " من حلف على شيء فرأى خيرًا منه فليحنث وليكفر " (٢).
________
(١) انظر السابق.
(٢) روى مسلم في صحيحه: الأيمان - ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها (٣١١٣).
ومذهب الإمام أحمد كما حققه العلامة ابن تيمية أن النذر المعلق على شرط إن قصد به التعليق حقيقة كـ: " إن جاء رمضان فلله عليَّ نذر أن أعتكف العشرة الأخيرة منه "، فهذا يجب الوفاء به، وإن كان المقصود به الحض على فعل أو الامتناع عن فعل، فإنه لَا يجب الوفاء به ولكن تجب كفارة يمين؛ لأنه حلف تجب فيه الكفارة.
وقد اتفق العلماء على عدم وجوب الوفاء في نذر المعصية، لقوله - ﷺ -: " من نذر أن يعصي الله فلا يعصه " (١). وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لَا يجب شيء؛ ولكن قال أحمد: تجب كفارة يمين، للحديث الذي رواه أبو داود ونقلناه آنفًا؛ ففيه التصريح بأن نذر المعصية تجب فيه الكفارة ولأن منطق الحنابلة أن النذر الذي يكون فيه الحض على فعل أو منع فعل هو من قبيل اليمين، واليمين في المعاصي حكمها أنه يجب الحنث فيها، وتجب كفارة اليمين، لقوله - ﷺ -: " من حلف على شيء فرأى خيرًا منه فليحنث وليكفر " (٢).
________
(١) انظر السابق.
(٢) روى مسلم في صحيحه: الأيمان - ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها (٣١١٣).
1015
هذه كلمة إجمالية في حكم النذر واختلاف أقوال الفقهاء فيه، ومن المفيد في هذا الموضع أن نتكلم في أمرين:
أحدهما: في نذر القيام بقربة في مكان معيَّن، كالصدقة عند البيت الحرام، أو عند المسجد الفلاني.
وثانيهما: هل النذر في ذاته حسن في الدين أو ليس بحسن؟ فقد كان الكلام في وجوب الوفاء به. أما الكلام في هذا الموضع فهو في أصله أيكون من المستحسن أن يلتزم الإنسان الطاعة أم يفعلها ولا يقيد نفسه بالتزامها أولاً ثم يفعلها؟.
أما بالنسبة للأمر الأول، فقد اتفق الفقهاء على أن الالتزام بقربة في مكان تشد الرحال إليه وله مزيد اختصاص بالفضل في الشرع، كالمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي - ﷺ -، يجب الوفاء به؛ فقد ورد أن النبي - ﷺ - نص على أنه لا تشد الرحال إلا إلى هذه المساجد الثلاثة، فالنذر بالصلاة فيها أو الصدقة عندها يجب الوفاء به؛ لأن الصدقة في ذاتها قربة، والاتجاه إلى الله في هذه الأمكنة بالذات قربة ثانية.
وأما إذا كان المكان الذي نذرت القربة فيه ليس من الأماكن التي تشد الرحال إليها، فقد قال كثيرون من الفقهاء: تجب القربة من غير تقييد بالمكان؛ فمن نذر أن يتصدق عند مسجد الحسين أو غيره فالوفاء واجب من غير تقيد بالمكان.
وقال بعض الفقهاء: يجب الوفاء بهذا المكان الذي عيَّنه، واستدلوا على ذلك بما روى أبو داود أن ثابت بن الضحاك قال: " نذر رجل على عهد رسول الله - ﷺ - أن ينحر إبلًا ببوانة فأتى رسول الله - ﷺ - فسأله، فقال - ﷺ -: " أكان فيها وثن يعبد؟ " قال: لَا، قال: " فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ " فقال: لَا، فقال: " أوف بنذرك، فإنه لَا وفاء لنذر في معصية الله تعالى، ولا في قطيعة رحم، ولا فيما لَا يملك ابن آدم " (١).
________
(١) رواه بنحو من ذلك أبو داود: الأيمان والنذور - ما يلزم به من الوفاء بالنذر (٢٨٨١) عن ثَابِت بْن الضَّحَّاكِ. وبوانة: قيل هضبة وراء ينبع، وقيل: موضع بين الشام وديار بكر، وقال البغوي: أسفل مكة دون يلملم.
أحدهما: في نذر القيام بقربة في مكان معيَّن، كالصدقة عند البيت الحرام، أو عند المسجد الفلاني.
وثانيهما: هل النذر في ذاته حسن في الدين أو ليس بحسن؟ فقد كان الكلام في وجوب الوفاء به. أما الكلام في هذا الموضع فهو في أصله أيكون من المستحسن أن يلتزم الإنسان الطاعة أم يفعلها ولا يقيد نفسه بالتزامها أولاً ثم يفعلها؟.
أما بالنسبة للأمر الأول، فقد اتفق الفقهاء على أن الالتزام بقربة في مكان تشد الرحال إليه وله مزيد اختصاص بالفضل في الشرع، كالمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي - ﷺ -، يجب الوفاء به؛ فقد ورد أن النبي - ﷺ - نص على أنه لا تشد الرحال إلا إلى هذه المساجد الثلاثة، فالنذر بالصلاة فيها أو الصدقة عندها يجب الوفاء به؛ لأن الصدقة في ذاتها قربة، والاتجاه إلى الله في هذه الأمكنة بالذات قربة ثانية.
وأما إذا كان المكان الذي نذرت القربة فيه ليس من الأماكن التي تشد الرحال إليها، فقد قال كثيرون من الفقهاء: تجب القربة من غير تقييد بالمكان؛ فمن نذر أن يتصدق عند مسجد الحسين أو غيره فالوفاء واجب من غير تقيد بالمكان.
وقال بعض الفقهاء: يجب الوفاء بهذا المكان الذي عيَّنه، واستدلوا على ذلك بما روى أبو داود أن ثابت بن الضحاك قال: " نذر رجل على عهد رسول الله - ﷺ - أن ينحر إبلًا ببوانة فأتى رسول الله - ﷺ - فسأله، فقال - ﷺ -: " أكان فيها وثن يعبد؟ " قال: لَا، قال: " فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ " فقال: لَا، فقال: " أوف بنذرك، فإنه لَا وفاء لنذر في معصية الله تعالى، ولا في قطيعة رحم، ولا فيما لَا يملك ابن آدم " (١).
________
(١) رواه بنحو من ذلك أبو داود: الأيمان والنذور - ما يلزم به من الوفاء بالنذر (٢٨٨١) عن ثَابِت بْن الضَّحَّاكِ. وبوانة: قيل هضبة وراء ينبع، وقيل: موضع بين الشام وديار بكر، وقال البغوي: أسفل مكة دون يلملم.
1016
وبهذا يتبين أن الوفاء بالنذر واجب ما دام غير معصية، وفي مكان لَا معصية فيه، ولكن هل النذر عند الأضرحة والقبور خال من المعصية؟ إن ذلك موضع نظر، والاحتياط في النذور أن تكون لله خالصة.
أما الأمر الثاني، وهو التزام الطاعات بالنذور المطلقة أو النذور المعلقة على شرط، أهو أمر مستحب، أم الأولى خلافه وإن كان يجب الوفاء به إن التزمه؛ لقد اختلف في ذلك الفقهاء؛ فقال فريق كبير منهم: إن الأولى ألا ينذر العبادة، بل يقوم بها متى قدر عليها من غير نذر، وذلك لما روي عن ابن عمر عن النبي - ﷺ - أنه نهى عن النذر، وقال: " إنه لَا يأتي بخير، وإنما يستخرج الله به من البخيل " (١) وإن أكثر النذور في الماضي كما هي في الحاضر تكون لرجاء أمر فتعلق القربة على وجوده، أو للخوف من نتائج أمر فتعلق القربة على عدمه، وإن تعليق القربة على ذلك أمر غير مستحسن، بل هو مكروه، بل صرح بعض الأئمة بأنه حرام؛ ولقد قال ذلك القول كثيرون من فقهاء الذاهب الأربعة، بل رواه أبو داود عن بعض الصحابة.
وقال آخرون: إن النذر مستحب؛ لأنه يحمل الشخص على القيام بالقرب، فهو تقوية للعزيمة على الطاعة؛ ولقد صرح النووي في المجموع بأنه مستحب.
وعندي أن النذر غير المعلق على شرط قد يكون مستحبا لما فيه من حمل النفس على الإصرار على الطاعات، وأما المعلق على شرط، فهو الذي ينطبق عليه الحديث، وقد صرح النبي - ﷺ - بأنه لَا يأتي بخير لمنع اعتقاد الناس ذلك، وكثيرون يتوهمون أن النذر يغير القدر، فنفَى النبي - ﷺ - صحة اعتقادهم. والله سبحانه هو القادر على كل شيء، وله عاقبة الأمور.
* * *
________
(١) رواه بهذا اللفظ مسلم: النذر - النذر وأنه لَا يرد شيئا (٣٠٩٥٩، والنسائي: الأيمان والنذور: النهي عن النذر (٣٧٤١) عن ابن عمر رضي الله عنه، ورواه البخاري بنحوه: النذر - إلقاء العبد النذر إلى القدر (٦١١٨).
أما الأمر الثاني، وهو التزام الطاعات بالنذور المطلقة أو النذور المعلقة على شرط، أهو أمر مستحب، أم الأولى خلافه وإن كان يجب الوفاء به إن التزمه؛ لقد اختلف في ذلك الفقهاء؛ فقال فريق كبير منهم: إن الأولى ألا ينذر العبادة، بل يقوم بها متى قدر عليها من غير نذر، وذلك لما روي عن ابن عمر عن النبي - ﷺ - أنه نهى عن النذر، وقال: " إنه لَا يأتي بخير، وإنما يستخرج الله به من البخيل " (١) وإن أكثر النذور في الماضي كما هي في الحاضر تكون لرجاء أمر فتعلق القربة على وجوده، أو للخوف من نتائج أمر فتعلق القربة على عدمه، وإن تعليق القربة على ذلك أمر غير مستحسن، بل هو مكروه، بل صرح بعض الأئمة بأنه حرام؛ ولقد قال ذلك القول كثيرون من فقهاء الذاهب الأربعة، بل رواه أبو داود عن بعض الصحابة.
وقال آخرون: إن النذر مستحب؛ لأنه يحمل الشخص على القيام بالقرب، فهو تقوية للعزيمة على الطاعة؛ ولقد صرح النووي في المجموع بأنه مستحب.
وعندي أن النذر غير المعلق على شرط قد يكون مستحبا لما فيه من حمل النفس على الإصرار على الطاعات، وأما المعلق على شرط، فهو الذي ينطبق عليه الحديث، وقد صرح النبي - ﷺ - بأنه لَا يأتي بخير لمنع اعتقاد الناس ذلك، وكثيرون يتوهمون أن النذر يغير القدر، فنفَى النبي - ﷺ - صحة اعتقادهم. والله سبحانه هو القادر على كل شيء، وله عاقبة الأمور.
* * *
________
(١) رواه بهذا اللفظ مسلم: النذر - النذر وأنه لَا يرد شيئا (٣٠٩٥٩، والنسائي: الأيمان والنذور: النهي عن النذر (٣٧٤١) عن ابن عمر رضي الله عنه، ورواه البخاري بنحوه: النذر - إلقاء العبد النذر إلى القدر (٦١١٨).
1017
(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٢٧٢)
* * *
في الآيات السابقة حذر الله سبحانه وتعالى المنفقين من أدواء الصدقات التي تفتك بها وتذهب بخيرها، وهي أعداء الإخلاص الثلاثة: المنُّ، والأذى، والرياء.
والمنُّ والأذى عملان حسِّيان قد يسهل على المؤمن اجتنابهما، أما الرياء فهو داء نفسي الاحتياط في تجنبه يوجب تفتيش النفس في داخليتها، ومراقبتها في حركتها، والتنقيب عن بواعثها، فإن كانت تتصل بالرياء عن قرب أو بعد طهرها وزكاها، وإن سلمت منه فقد برئت واصَّعَّدت إلى سماء التقديس، وإن المؤمن في سبيل هذه المعالجة الروحية عند الإنفاق قد يتردد بين الإعلان ليكون أسوة حسنة للناس، إذ يعلن حق الله في ماله فيعرف كل ذي مال ذلك، ولكنه يخشى أن يجد الرياء منفذًا إلى نفسه من هذه الناحية، وإن أخفاها وسترها عن الأعين، فقد يضل في العطاء، فيعطي من لَا يستحق العطاء، ولا يكون إعلان تلك الشعيرة المقدسة، شعيرة الصدقة التي تثير نخوة ذي المال، فيقتطع من ماله حق الله فيه.
ولقد بيَّن سبحانه أن في الإخفاء خيرًا كثيرًا، والجهر محمود إن نقِّي من كل أعراض الرياء، فقال تعالى:
* * *
في الآيات السابقة حذر الله سبحانه وتعالى المنفقين من أدواء الصدقات التي تفتك بها وتذهب بخيرها، وهي أعداء الإخلاص الثلاثة: المنُّ، والأذى، والرياء.
والمنُّ والأذى عملان حسِّيان قد يسهل على المؤمن اجتنابهما، أما الرياء فهو داء نفسي الاحتياط في تجنبه يوجب تفتيش النفس في داخليتها، ومراقبتها في حركتها، والتنقيب عن بواعثها، فإن كانت تتصل بالرياء عن قرب أو بعد طهرها وزكاها، وإن سلمت منه فقد برئت واصَّعَّدت إلى سماء التقديس، وإن المؤمن في سبيل هذه المعالجة الروحية عند الإنفاق قد يتردد بين الإعلان ليكون أسوة حسنة للناس، إذ يعلن حق الله في ماله فيعرف كل ذي مال ذلك، ولكنه يخشى أن يجد الرياء منفذًا إلى نفسه من هذه الناحية، وإن أخفاها وسترها عن الأعين، فقد يضل في العطاء، فيعطي من لَا يستحق العطاء، ولا يكون إعلان تلك الشعيرة المقدسة، شعيرة الصدقة التي تثير نخوة ذي المال، فيقتطع من ماله حق الله فيه.
ولقد بيَّن سبحانه أن في الإخفاء خيرًا كثيرًا، والجهر محمود إن نقِّي من كل أعراض الرياء، فقال تعالى:
1018
(إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لكُمْ) هذه الآية الكريمة تفيد أن الصدقات في كل أحوالها خير محض ما دام المنفق قد خلص من الرياء، وجانب المنَّ والأذى؛ وإذا كان ثمة تفاوت فهو في حال النفس، والاحتياط للرياء، وسد مداخله، ولذا قال تعالى مادحًا النوعين من الصدقة: صدقة الجهر، وصدقة السر: (إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا) أي إن تظهروا صدقاتكم وتعلنوها بين الناس فنعم تلك الصدقة، أي أنها أمر محمود ممدوح يوجب الثناء والذكر الحسن؛ فقوله تعالى: (فَنِعِمَّا هِيَ) هو نِعْم المدغمة في ما، وما هي التي يقول عنها علماء اللغة إنها نكرة تامة بمعنى شيء، والمعنى نِعْمَ شيئا يستحق المدح والثناء تلك الصدقات. وعبر في قوله عن الإنفاق بالصدقات هنا، للإشارة إلى أن المدوح من الإنفاق المعلن هو الصدقات التي يقصد فيها الشخص إلى إرضاء الرب، وتصدق فيها نيته، ويخلص قلبه؛ لأن كلمة (الصدقة) مأخوذة من الصدق، والصدق هنا هو صدق النية وتخليصها من كل شوائب الرياء. وإذا كانت الصدقة التي خلصت النية فيها لوجه الله تعالى هي موضع مدح وثناء ولا ذم فيها قط، فهي خير بلا شك. وذكرت خيريته بعبارات المدح والثناء دون التصريح بالخيرية، للإشارة إلى أنها ممدوحة عند الله كما هي ممدوحة عند الناس؛ إذ إن المعلن لصدقته سينال ثناء الناس، وسيتحدثون بجوده؛ فبين سبحانه أن عمله ممدوح عند الناس أيضًا وبذلك ينال التصدق المخلص في نيته ومقصده إن أعلن، ثواب الله، وثناء الناس، وثناء الشرع.
هذه صدقة الجهر إن خلصت من الرياء؛ أما صدقة السر فقد أثنى عليها سبحانه بقوله تعالى: (وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لكُمْ) أي إن تخفوا الصدقات التي خلصت فيها النية وتؤتوها الفقراء بأنفسكم فهو خير لكم؛ لأن البعد عن الرياء يكون أوثق؛ إذ في السرية سد لكل ذرائع الرياء، ولذلك كان السر خيرًا للمعطي؛ إذ فيه احتياط لنفسه من أن يدخلها داء الإنفاق، وهو الرياء؛ فإذا كان في الجهر فائدة الثناء، ففي السر فائدة الاحتياط من الرياء؛ وذلك خير من كل ثناء. ثم
هذه صدقة الجهر إن خلصت من الرياء؛ أما صدقة السر فقد أثنى عليها سبحانه بقوله تعالى: (وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لكُمْ) أي إن تخفوا الصدقات التي خلصت فيها النية وتؤتوها الفقراء بأنفسكم فهو خير لكم؛ لأن البعد عن الرياء يكون أوثق؛ إذ في السرية سد لكل ذرائع الرياء، ولذلك كان السر خيرًا للمعطي؛ إذ فيه احتياط لنفسه من أن يدخلها داء الإنفاق، وهو الرياء؛ فإذا كان في الجهر فائدة الثناء، ففي السر فائدة الاحتياط من الرياء؛ وذلك خير من كل ثناء. ثم
1019
صدقة السر خير في ذاتها كصدقة الجهر، وفوق ذلك فإن صدقة السر خير للفقير؛ لأنها تستره بستر الله، فلا يجتمع عليه ذل الفقر، وذل الأخذ، وذل الإعلان والكشف.
والتعبير في نفقة السر بقوله تعالى: (وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ) فيه إشارة إلى ثلاثة أمور:
أولها: أن الصدقة قسمان: قسم يعطى إلى الحكام، وهو الصدقات المفروضة التي قدرها الشارع؛ فهذه يجمعها أولو الأمر ومن ينوبون عنهم من ولاة وعمال، أو جماعات يختارونها لذلك وهذه تكون معلنة بلا ريب. والقسم الثاني يعطي الفقراء مباشرة وهو الصدقات غير المفروضة، والصدقات المفروضة غير المقدرة التي تكون على حسب حال الشخص، كمن يرى شخصًا في مخمصة وجوع، ويخشى عليه من الموت فإن الصدقة تكون فرضًا على من يعلم حاله؛ وهذه الصدقات التي تعطى الفقراء مباشرة يكون السر فيها أولى، بل أكاد أقول إنه يكون لازمًا؛ لأن الإعلان أذى، وقد قرر المولى العلي القدير أن الأذى يبطل الصدقة في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى...).
الأمر الثاني: الذي يفيده التعبير بقوله تعالى: (وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ): الإشارة إلى وجوب تحري صفة الفقر فيمن يعطى، فلا يعطي إلا ذا حاجة، ولا يكون من الصدقات ما يعطى لغير الفقراء؛ لأنه يكون مروءة أو جودا ولا يكون صدقة يبتغى بها ما عند الله، إذ يبتغي بها ما عند الناس؛ وإن ذلك وإن كان من نظام الدنيا ليس من الصدقة في شيء.
الأمر الثالث: أن الإعطاء في هذه الصدقات بوصف الفقر، لَا فرق في ذلك بين مسلم وغير مسلم، ولا بر أو فاجر؛ فإذا كان غير المسلم في حال مخمصة ولا يعلم حاله إلا مسلم فرض عليه أن يدفع عنه مخمصته؛ فإن ذلك من الرحمة المفروضة لكل إنسان؛ ولذا ورد في صحيح البخاري ومسلم أن رسول الله - ﷺ -
والتعبير في نفقة السر بقوله تعالى: (وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ) فيه إشارة إلى ثلاثة أمور:
أولها: أن الصدقة قسمان: قسم يعطى إلى الحكام، وهو الصدقات المفروضة التي قدرها الشارع؛ فهذه يجمعها أولو الأمر ومن ينوبون عنهم من ولاة وعمال، أو جماعات يختارونها لذلك وهذه تكون معلنة بلا ريب. والقسم الثاني يعطي الفقراء مباشرة وهو الصدقات غير المفروضة، والصدقات المفروضة غير المقدرة التي تكون على حسب حال الشخص، كمن يرى شخصًا في مخمصة وجوع، ويخشى عليه من الموت فإن الصدقة تكون فرضًا على من يعلم حاله؛ وهذه الصدقات التي تعطى الفقراء مباشرة يكون السر فيها أولى، بل أكاد أقول إنه يكون لازمًا؛ لأن الإعلان أذى، وقد قرر المولى العلي القدير أن الأذى يبطل الصدقة في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى...).
الأمر الثاني: الذي يفيده التعبير بقوله تعالى: (وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ): الإشارة إلى وجوب تحري صفة الفقر فيمن يعطى، فلا يعطي إلا ذا حاجة، ولا يكون من الصدقات ما يعطى لغير الفقراء؛ لأنه يكون مروءة أو جودا ولا يكون صدقة يبتغى بها ما عند الله، إذ يبتغي بها ما عند الناس؛ وإن ذلك وإن كان من نظام الدنيا ليس من الصدقة في شيء.
الأمر الثالث: أن الإعطاء في هذه الصدقات بوصف الفقر، لَا فرق في ذلك بين مسلم وغير مسلم، ولا بر أو فاجر؛ فإذا كان غير المسلم في حال مخمصة ولا يعلم حاله إلا مسلم فرض عليه أن يدفع عنه مخمصته؛ فإن ذلك من الرحمة المفروضة لكل إنسان؛ ولذا ورد في صحيح البخاري ومسلم أن رسول الله - ﷺ -
1020
قال: " في كل كبد رطبة أجر " (١) وفي رواية لغيرهما " فى كل كبد حَرَّى أجر " (٢) فهذا يدل على أن الرحمة بكل الأحياء فيها أجر، فكيف بالرحمة بالإنسان.
بعد بيان أن صدقة السر فيها خير وصدقة الجهر موضع ثناء ومدح، قال سبحانه: (وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ) أي أنه سبحانه وتعالى يستر السيئات التي يرتكبها الشخص، ويخفيها ولا يظهرها عند الثواب والجزاء، فلا يحاسب عليها أصحابها إذا تصدقوا وأعطوا مبتغين وجه الله تعالى في صدقاتهم. و " من " في قوله تعالى: (مِّن سَيِّئَاتِكُمْ) إما أن تكون " مِنْ " البيانية، والمعنى أن الصدقات تكفر السيئات وإما أن تكون " من " الدالة على البعضية، أي أن الله سبحانه وتعالى يكفر للمتصدقين من الخطايا بمقدار ما يتصدقون من صدقات، وينفقون ابتغاء وجه الله تعالى. وعندي أن " مِنْ " بيانية؛ لأن النفس التي تفيض خيراتها وتتجه إلى الله تعالى في صدقاتها لَا تبغي إلا مرضاته، فلا تبغي رياء ولا نفاقًا، ولا جاهًا في الدنيا، نفس برة تقية لم تحط بها خطيئاتها والنفس التي تكون على هذا النحو لا تسيطر عليها المعاصي، فيكون غفران الله تعالى لما كان منها من سيئات في بعض الأحوال.
وقوله: (وَيُكَفرُ عَنكُم مِّن سَيئَاتِكُمْ) قال بعض العلماء: إنه بالنسبة لصدقة السر؛ ولذا قال - ﷺ -: " صدقة السر تطفئ غضب الرب " (٣) وقال بعضهم: إن الصدقة بنوعيها تكفر السيئات؛ وذلك أوضح من الأول؛ لأن الصدقة إن سلمت من الرياء وقدمها الشخص طائعًا مختارًا ولو بإعلان هي حسنة مقبولة، والله سبحانه وتعالى يقول: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ...)، ولقد روي أن
________
(١) رواه البخاري: المساقاة - فضل سقى الماء (٢١٩٠)، ومسلم: السلام - فضل سقي البهائم المحترمة وإطعامها (٤١٦٢).
(٢) رواه ابن ماجه: الأدب - فضل صدقة الماء (٣٦٧٦) وأحمد (٦٧٧٨) عن عبد الله بن عمرو بنحوه.
ذات كبد: كل ما فيه روح. حرى: من شدة الحر، وهو كناية عن شدة العطش.
(٣) جامع الأحاديث والمراسيل: الجامع الصغير وزوائده - الصاد مع الدال.
بعد بيان أن صدقة السر فيها خير وصدقة الجهر موضع ثناء ومدح، قال سبحانه: (وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ) أي أنه سبحانه وتعالى يستر السيئات التي يرتكبها الشخص، ويخفيها ولا يظهرها عند الثواب والجزاء، فلا يحاسب عليها أصحابها إذا تصدقوا وأعطوا مبتغين وجه الله تعالى في صدقاتهم. و " من " في قوله تعالى: (مِّن سَيِّئَاتِكُمْ) إما أن تكون " مِنْ " البيانية، والمعنى أن الصدقات تكفر السيئات وإما أن تكون " من " الدالة على البعضية، أي أن الله سبحانه وتعالى يكفر للمتصدقين من الخطايا بمقدار ما يتصدقون من صدقات، وينفقون ابتغاء وجه الله تعالى. وعندي أن " مِنْ " بيانية؛ لأن النفس التي تفيض خيراتها وتتجه إلى الله تعالى في صدقاتها لَا تبغي إلا مرضاته، فلا تبغي رياء ولا نفاقًا، ولا جاهًا في الدنيا، نفس برة تقية لم تحط بها خطيئاتها والنفس التي تكون على هذا النحو لا تسيطر عليها المعاصي، فيكون غفران الله تعالى لما كان منها من سيئات في بعض الأحوال.
وقوله: (وَيُكَفرُ عَنكُم مِّن سَيئَاتِكُمْ) قال بعض العلماء: إنه بالنسبة لصدقة السر؛ ولذا قال - ﷺ -: " صدقة السر تطفئ غضب الرب " (٣) وقال بعضهم: إن الصدقة بنوعيها تكفر السيئات؛ وذلك أوضح من الأول؛ لأن الصدقة إن سلمت من الرياء وقدمها الشخص طائعًا مختارًا ولو بإعلان هي حسنة مقبولة، والله سبحانه وتعالى يقول: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ...)، ولقد روي أن
________
(١) رواه البخاري: المساقاة - فضل سقى الماء (٢١٩٠)، ومسلم: السلام - فضل سقي البهائم المحترمة وإطعامها (٤١٦٢).
(٢) رواه ابن ماجه: الأدب - فضل صدقة الماء (٣٦٧٦) وأحمد (٦٧٧٨) عن عبد الله بن عمرو بنحوه.
ذات كبد: كل ما فيه روح. حرى: من شدة الحر، وهو كناية عن شدة العطش.
(٣) جامع الأحاديث والمراسيل: الجامع الصغير وزوائده - الصاد مع الدال.
1021
النبي - ﷺ - قال " الصدقة تطفئ المعصية " (١) ولأن من الصدقات ما لَا يمكن إلا أن تكون معلنة كشراء سيدنا عثمان بن عفان لبئر رومة ووقفها على المسلمين؛ فلا يمكن أن تكون تلك الصدقات المعلنة التي يبتغى فيها وجه الله غير مكفرة للسيئات، وقد أعدَّ عثمان جيش العسرة، فهل يغض ذلك من صدقته. ولذا نرى أن تكفير الصدقات للسيئات لَا يختص بصدقات السر وحدها، بل يعم الصدقات كلها. ولقد أثار العلماء بحثا في أيهما أفضل: صدقة السر أم صدقة الجهر؟ وقبل أن نخوض في أقوال الفقهاء في ذلك نقرر أن الصحابة أثرت عنهم صدقات الجهر، كما كان معلومًا عنهم أنهم يتصدقون ويخفون حتى لَا تعلم شمالهم ما تنفق يمينهم.
ومما يروى في صدقاتهم التي كانت معروفة أن عمر رضي الله عنه جاء إلى النبي - ﷺ - بنصف ماله، فقال النبي - ﷺ -: " ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر؛ " قال: خلفت لهم نصف مالي: وفي هذا الوقت جاء أبو بكر بكل ماله، فقال له النبي - ﷺ -: " ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر؟ " قال: عِدةُ الله وعدة رسوله. فبكى عمر وقال: بأبي أنت وأمي يا أبا بكر، والله ما استبقنا إلى خير قط إلا كنت سابقًا! (٢).
وتبرعات عثمان كثيرة مشهورة معلمة بينة، دونتها كتب التاريخ، والسيرة المحمدية الشريفة.
وإذا كان المأثور عن الصحابة وعن النبي - ﷺ - صدقة العلن والسر، ففي كل خير، والآية صريحة في ذلك. ولكن بعض العلماء فضَّل صدقة السر، لقول النبي - ﷺ - في حديث البخاري: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لَا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه يرجع إليه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه،
________
(١) سبق قريبا بلفظ: " الصدقة تطفئ الخطيئة ".
(٢) رواه ابن أبي حاتم في التفسير - ما خلفت وراءك لأهلك، وابن مردويه، وابن عساكر. عن الشعبي.
ومما يروى في صدقاتهم التي كانت معروفة أن عمر رضي الله عنه جاء إلى النبي - ﷺ - بنصف ماله، فقال النبي - ﷺ -: " ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر؛ " قال: خلفت لهم نصف مالي: وفي هذا الوقت جاء أبو بكر بكل ماله، فقال له النبي - ﷺ -: " ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر؟ " قال: عِدةُ الله وعدة رسوله. فبكى عمر وقال: بأبي أنت وأمي يا أبا بكر، والله ما استبقنا إلى خير قط إلا كنت سابقًا! (٢).
وتبرعات عثمان كثيرة مشهورة معلمة بينة، دونتها كتب التاريخ، والسيرة المحمدية الشريفة.
وإذا كان المأثور عن الصحابة وعن النبي - ﷺ - صدقة العلن والسر، ففي كل خير، والآية صريحة في ذلك. ولكن بعض العلماء فضَّل صدقة السر، لقول النبي - ﷺ - في حديث البخاري: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لَا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه يرجع إليه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه،
________
(١) سبق قريبا بلفظ: " الصدقة تطفئ الخطيئة ".
(٢) رواه ابن أبي حاتم في التفسير - ما خلفت وراءك لأهلك، وابن مردويه، وابن عساكر. عن الشعبي.
1022
ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لَا تعلم شماله ما تنفق يمينه " (١).
وقال بعض العلماء: إن صدقة الفرض المقدَّر الأحب فيها الإعلان؛ وصدقة الفرض المقدَّر هي الزكاة وصدقة الفطر. والصدقة غير المقدَّرة الأحب فيها الستر حتى لَا يؤذي الفقير. ولقد أثر عن ابن عباس أنه كان يقول: (جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفًا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا).
إنه بلا شك صدقة الفريضة المقدرة تكون علنًا، وهي معلنة بحكم أن الإمام يجمعها بعماله، أو بمن ينوبهم عنه؛ وأما صدقة التطوع فإنه بلا شك واضح أن سترها أولى للبعد عن الرياء، ولعدم إيذاء الفقير؛ ولكن قد يكون في إعلانها ما يتحقق به الأسوة، ويكون كدعوة عامة للإنفاق في باب معين من أبواب غير المفروضة، فيكون في الإعلان خير يفوق خير الستر، ولكن بشرط البعد عن الرياء؛ ولذلك كان السر في غير الفريضة المقدرة التي يجمعها ولي الأمر، والأمر متروك لتقدير المنفق، لأنه يتصل بقلبه أخلا من الرياء أم شابته شوائبه؟ ولأنه يعرف حال الفقير الذي يعطيه، أَويؤذيه الإعلان أم لَا يؤذيه؛ ولأنه هو الأدرى بفائدة الإعلان وفائدة الستر في أمر صدقته.
هذا هو الحكم العام في الصدقات في ماضيها عندما كان الناس يقومون بمراقبة نفوسهم، وإنه بالنسبة لزماننا وقد ساد النفاق، وسيطر الرياء، وعطلت الفرائض نرى أن - الستر أولى حتى تهذب النفوس، وقد سئل رسول الله - ﷺ -: أي الصدقة أفضل؛ فقال - ﷺ -: " سر إلى فقير أو جهد من مقل " (٢).
________
(١) روى البخاري هذا الحديث في ثلاثة مواضع، ورواه كاملا في موضعين منهما ولفظه: الأذان - باب من جلس ينتظر الصلاة وفضل المساجد (٦٢٠). كما رواه الترمذي ومالك وأحمد.
(٢) جزء من حديث طويل رواه الإمام أحمد (٢١٢٥٧) في مسنده.
وقال بعض العلماء: إن صدقة الفرض المقدَّر الأحب فيها الإعلان؛ وصدقة الفرض المقدَّر هي الزكاة وصدقة الفطر. والصدقة غير المقدَّرة الأحب فيها الستر حتى لَا يؤذي الفقير. ولقد أثر عن ابن عباس أنه كان يقول: (جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفًا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا).
إنه بلا شك صدقة الفريضة المقدرة تكون علنًا، وهي معلنة بحكم أن الإمام يجمعها بعماله، أو بمن ينوبهم عنه؛ وأما صدقة التطوع فإنه بلا شك واضح أن سترها أولى للبعد عن الرياء، ولعدم إيذاء الفقير؛ ولكن قد يكون في إعلانها ما يتحقق به الأسوة، ويكون كدعوة عامة للإنفاق في باب معين من أبواب غير المفروضة، فيكون في الإعلان خير يفوق خير الستر، ولكن بشرط البعد عن الرياء؛ ولذلك كان السر في غير الفريضة المقدرة التي يجمعها ولي الأمر، والأمر متروك لتقدير المنفق، لأنه يتصل بقلبه أخلا من الرياء أم شابته شوائبه؟ ولأنه يعرف حال الفقير الذي يعطيه، أَويؤذيه الإعلان أم لَا يؤذيه؛ ولأنه هو الأدرى بفائدة الإعلان وفائدة الستر في أمر صدقته.
هذا هو الحكم العام في الصدقات في ماضيها عندما كان الناس يقومون بمراقبة نفوسهم، وإنه بالنسبة لزماننا وقد ساد النفاق، وسيطر الرياء، وعطلت الفرائض نرى أن - الستر أولى حتى تهذب النفوس، وقد سئل رسول الله - ﷺ -: أي الصدقة أفضل؛ فقال - ﷺ -: " سر إلى فقير أو جهد من مقل " (٢).
________
(١) روى البخاري هذا الحديث في ثلاثة مواضع، ورواه كاملا في موضعين منهما ولفظه: الأذان - باب من جلس ينتظر الصلاة وفضل المساجد (٦٢٠). كما رواه الترمذي ومالك وأحمد.
(٢) جزء من حديث طويل رواه الإمام أحمد (٢١٢٥٧) في مسنده.
1023
(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ختم سبحانه الآية الكريمة بذلك الختام السامي؛ والمعنى فيه أن الله ذا الجلال والإكرام المعبود بحق، الذي انفرد بالألوهية خبير، أي عليم علمًا دقيقًا صادقًا بما تعملون أيها المؤمنون.
فهذه الجملة السامية تشعر المؤمن برقابة الله تعالى على أعماله، وعلى بواعث هذه الأعمال وعلى القلوب التي تنبعث منها النيات والمقاصد، عليم سبحانه بكل ذلك؛ فإذا أحس العبد برقابة الله القوي القادر بهذا العلم السامي نقى قلبه من كل شوائب الرياء في صدقاته كلها، جهرها وسرها، خافيها وظاهرها. ثم هذه الجملة كما تربي في نفس المؤمن المهابة من الله، والشعور بمراقبته تتضمن وعدًا ووعيدًا؛ لأنه إذا كان الله سبحانه وتعالى عليمًا علمًا دقيقًا بكل ما يعمل العبد من خير وشر، فإنه يكافئ العبد بما ينتج فعله، إن خيرًا فالثواب والنعيم المقيم، وإن شرا فالعذاب الأليم.
* * *
فهذه الجملة السامية تشعر المؤمن برقابة الله تعالى على أعماله، وعلى بواعث هذه الأعمال وعلى القلوب التي تنبعث منها النيات والمقاصد، عليم سبحانه بكل ذلك؛ فإذا أحس العبد برقابة الله القوي القادر بهذا العلم السامي نقى قلبه من كل شوائب الرياء في صدقاته كلها، جهرها وسرها، خافيها وظاهرها. ثم هذه الجملة كما تربي في نفس المؤمن المهابة من الله، والشعور بمراقبته تتضمن وعدًا ووعيدًا؛ لأنه إذا كان الله سبحانه وتعالى عليمًا علمًا دقيقًا بكل ما يعمل العبد من خير وشر، فإنه يكافئ العبد بما ينتج فعله، إن خيرًا فالثواب والنعيم المقيم، وإن شرا فالعذاب الأليم.
* * *
1024
(لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ... (٢٧٢)
* * *
كان المسلمون الأولون قلة في
أرض العرب، وكان المشركون يحيطون بهم، واليهود يجاورونهم، وكان يربطهم بالفريقين صلة قرابة، أو على الأقل صلة جوار.
فكان بعض المسلمين يمتنع عن مد يد المعونة بالمال ليهودي أو مشرك، مع شديد حاجته إليه، وكان ذلك الامتناع من قبل المعاملة بالمثل من جهة، ولأن فقراء المسلمين الأولى، ولحمل أولئك على الدخول في الإسلام دين الوحدانية والعزة؛ فبين الله سبحانه وتعالى أن الصدقة واجب إذا وجد سببها، ووجدت الحاجة إلى العطاء من غير نظر إلى الموضع الذي يستحقها، فإنك تكرم إنسانيته، لَا يهوديته، ولا نصرانيته ولا إشراكه.
ولقد روى ابن عباس عن النبي - ﷺ - أنه كان يأمر بألا يتصدق إلا على أهل الإسلام، فنزلت هذه الآية: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ). وقال ابن عباس أيضا: " كانوا (أي أصحاب رسول الله - ﷺ - يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين، فسألوا رسول الله - ﷺ - فرخص لهم، فنزل قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء).
* * *
كان المسلمون الأولون قلة في
أرض العرب، وكان المشركون يحيطون بهم، واليهود يجاورونهم، وكان يربطهم بالفريقين صلة قرابة، أو على الأقل صلة جوار.
فكان بعض المسلمين يمتنع عن مد يد المعونة بالمال ليهودي أو مشرك، مع شديد حاجته إليه، وكان ذلك الامتناع من قبل المعاملة بالمثل من جهة، ولأن فقراء المسلمين الأولى، ولحمل أولئك على الدخول في الإسلام دين الوحدانية والعزة؛ فبين الله سبحانه وتعالى أن الصدقة واجب إذا وجد سببها، ووجدت الحاجة إلى العطاء من غير نظر إلى الموضع الذي يستحقها، فإنك تكرم إنسانيته، لَا يهوديته، ولا نصرانيته ولا إشراكه.
ولقد روى ابن عباس عن النبي - ﷺ - أنه كان يأمر بألا يتصدق إلا على أهل الإسلام، فنزلت هذه الآية: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ). وقال ابن عباس أيضا: " كانوا (أي أصحاب رسول الله - ﷺ - يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين، فسألوا رسول الله - ﷺ - فرخص لهم، فنزل قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء).
1024
وبهذين الخبرين يتبين أن هذه الآية الكريمة نزلت لبيان أن الصدقة تسوغ على غير المسلم، بل تجب إذا كان غير المسلم في حاجة شديدة، ويخشى عليه إن لم يقدم له عطاء ينقذه.
وإن هذه الآية وما يليها من آيات تبين من يستحقون الصدقات ومن يؤثرون، فصدرها سبحانه وتعالى بالإشارة إلى أنه يسوغ إعطاء غير المسلمين، بل يجب، وبذلك التصدير يتبين موضع الإسلام من احترام الإنسانية، والإخاء الإنساني العام؛ فإنه يدعو إلى التعاون والسلم العام، وما يحارب إلا لتقرير ذلك السلام؛ فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَةً... )، وقال تعالى: (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْم فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ...).
ومعنى قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) أي أن الواجب المفروض عليك هو التبليغ والدعوة إلى ربك بالموعظة الحسنة؛ فليس عليك أن تهدي عاصيًا، ولا تدخل الإيمان في قلب كافر، فلا تمنع صدقة لأجل الكفر، ولا تمنع عطية للحمل على الإيمان (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ) فهو يهدي من يسير في طريق الهداية، ويفتح قلبه لنور الإيمان، فيوفقه المولى العلي القدير العليم بما تخفي الصدور إلى الحق فيدركه بعد أن يأخذ في الأسباب، ويسد عن قلبه مداخل الشيطان إليه.
وعليك أنت أيها الرسول أن تبلغ ما أنزل إليك، وأن تعامل الناس بما يليق بأخلاق أهل الإيمان، وباحترام الإنسانية وسد حاجة المعوزين، ولو كانوا من المخالفين الذين يدينون بغير دينك، وأن تعاملهم بالتي هي أحسن.
وبهذا المنهاج القويم أخذ السلف الصالح رضوان الله تبارك وتعالى عليهم مقتدين بالنبي - ﷺ -. وإنه يروى أنه في الموادعة التي كانت بين النبي - ﷺ - والمشركين التي تمت في صلح الحديبية أصابت قريشا ضائقة، فأرسل النبي - ﷺ - إلى أبي سفيان بن حرب زعيم الشرك في ذلك الإبان خمسمائة دينار يشتري بها قمحًا يفرج به ضائقتهم، ويسد حاجة المعوزين منهم، وهم ما زالوا مشركين (١).
________
(١) رواه أبو داود: الأدب - الحذر من الناس (٤٢١٩)، وأحمد (٢١٤٥٤).
وإن هذه الآية وما يليها من آيات تبين من يستحقون الصدقات ومن يؤثرون، فصدرها سبحانه وتعالى بالإشارة إلى أنه يسوغ إعطاء غير المسلمين، بل يجب، وبذلك التصدير يتبين موضع الإسلام من احترام الإنسانية، والإخاء الإنساني العام؛ فإنه يدعو إلى التعاون والسلم العام، وما يحارب إلا لتقرير ذلك السلام؛ فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَةً... )، وقال تعالى: (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْم فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ...).
ومعنى قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) أي أن الواجب المفروض عليك هو التبليغ والدعوة إلى ربك بالموعظة الحسنة؛ فليس عليك أن تهدي عاصيًا، ولا تدخل الإيمان في قلب كافر، فلا تمنع صدقة لأجل الكفر، ولا تمنع عطية للحمل على الإيمان (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ) فهو يهدي من يسير في طريق الهداية، ويفتح قلبه لنور الإيمان، فيوفقه المولى العلي القدير العليم بما تخفي الصدور إلى الحق فيدركه بعد أن يأخذ في الأسباب، ويسد عن قلبه مداخل الشيطان إليه.
وعليك أنت أيها الرسول أن تبلغ ما أنزل إليك، وأن تعامل الناس بما يليق بأخلاق أهل الإيمان، وباحترام الإنسانية وسد حاجة المعوزين، ولو كانوا من المخالفين الذين يدينون بغير دينك، وأن تعاملهم بالتي هي أحسن.
وبهذا المنهاج القويم أخذ السلف الصالح رضوان الله تبارك وتعالى عليهم مقتدين بالنبي - ﷺ -. وإنه يروى أنه في الموادعة التي كانت بين النبي - ﷺ - والمشركين التي تمت في صلح الحديبية أصابت قريشا ضائقة، فأرسل النبي - ﷺ - إلى أبي سفيان بن حرب زعيم الشرك في ذلك الإبان خمسمائة دينار يشتري بها قمحًا يفرج به ضائقتهم، ويسد حاجة المعوزين منهم، وهم ما زالوا مشركين (١).
________
(١) رواه أبو داود: الأدب - الحذر من الناس (٤٢١٩)، وأحمد (٢١٤٥٤).
1025
ويروى أن عمر بن الخطاب وجد شيخا ذميا على باب المسجد يتكفف الناس، فأجرى عليه رزقًا مستمرا من بيت المال بعد أن قال له كلمته الرحيمة: " ما أنصفناك! أخذنا منك الجزية صغيرًا، وضيعناك كبيرًا ".
ولقد أمر النبي - ﷺ - المسلمين أن يعطوا فقراء غير المسلمين من صدقة الفطر فقال عليه السلام: " أغنوهم عن سؤال هذا اليوم " (١).
وإنه إذا كانت الصدقة جائزة على غير المسلمين فأولى أن تكون جائزة على عصاة المسلمين. وقد أجمع على ذلك علماء المسلمين، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا ابن تيمية؛ فقد أفتى بعدم جواز ذلك لئلا يكون ذلك تشجيعا لعصيانهم؛ وهذا غير ما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم والبخاري عن أبي هريرة فقد قال: قال رسول الله - ﷺ -: " قال رجل: لأتصدقن الليلة بصدقة فوضعها في يد زانية فأصبح الناس يتحدثون: تصدق على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن الليلة بصدقة، فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على غني، قال: اللهم لك الحمد على غني، لأتصدقن الليلة، فخرج فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على سارق فقال: اللهم لك الحمد على زانية وغني وسارق فأتى، فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، وأما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زناها، ولعل الغني أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته " (٢).
(وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ) بيَّن سبحانه أن الصدقة تجوز لكل من يكون في حاجة إليها، سواء أكان مؤمنًا أم كان كافرًا، وسواء أكان برا تقيا، أم كان فاجرا عصيا، فالعطاء لإنقاذ الإنسانية أيا كان صاحبها بعد أن بين ذلك بين سبحانه أن الصدقة كيفما كانت، وأيا كان موضعها هي خير لصاحبها؛ وخيريتها ثابتة من ثلاث
نواح:
________
(١) أخرجه الدارقطني عن أبي معشر، كحا رواه ابن عدي في الكامل وأعلَّه بأبي معشر، وراجع أيضا جمع الجوامع (٣٦٦٧).
(٢) رواه البخاري: الزكاة - إذا تصدق على غني وهو لَا يعلم (١٣٣٢)، ومسلم واللفظ له: الزكاة - ثبوت أجر المتصدق (١٦٩٨)].
ولقد أمر النبي - ﷺ - المسلمين أن يعطوا فقراء غير المسلمين من صدقة الفطر فقال عليه السلام: " أغنوهم عن سؤال هذا اليوم " (١).
وإنه إذا كانت الصدقة جائزة على غير المسلمين فأولى أن تكون جائزة على عصاة المسلمين. وقد أجمع على ذلك علماء المسلمين، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا ابن تيمية؛ فقد أفتى بعدم جواز ذلك لئلا يكون ذلك تشجيعا لعصيانهم؛ وهذا غير ما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم والبخاري عن أبي هريرة فقد قال: قال رسول الله - ﷺ -: " قال رجل: لأتصدقن الليلة بصدقة فوضعها في يد زانية فأصبح الناس يتحدثون: تصدق على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن الليلة بصدقة، فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على غني، قال: اللهم لك الحمد على غني، لأتصدقن الليلة، فخرج فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على سارق فقال: اللهم لك الحمد على زانية وغني وسارق فأتى، فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، وأما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زناها، ولعل الغني أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته " (٢).
(وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ) بيَّن سبحانه أن الصدقة تجوز لكل من يكون في حاجة إليها، سواء أكان مؤمنًا أم كان كافرًا، وسواء أكان برا تقيا، أم كان فاجرا عصيا، فالعطاء لإنقاذ الإنسانية أيا كان صاحبها بعد أن بين ذلك بين سبحانه أن الصدقة كيفما كانت، وأيا كان موضعها هي خير لصاحبها؛ وخيريتها ثابتة من ثلاث
نواح:
________
(١) أخرجه الدارقطني عن أبي معشر، كحا رواه ابن عدي في الكامل وأعلَّه بأبي معشر، وراجع أيضا جمع الجوامع (٣٦٦٧).
(٢) رواه البخاري: الزكاة - إذا تصدق على غني وهو لَا يعلم (١٣٣٢)، ومسلم واللفظ له: الزكاة - ثبوت أجر المتصدق (١٦٩٨)].
1026
الناحية الأولى: أنها تعود على نفسه بالتهذيب والتربية، وتقوية الإحساس بحق الجماعة عليها، والتأليف الروحي بينها وبين الناس؛ وهذا ما ذكره سبحانه بقوله: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ) أي أن كل شيء تنفقونه خير عائد على أنفسكم من حيث إنه يهذبها، ويقوى صلاتها الاجتماعية، ويرهف الوجدان، وفوق هذا وذاك فإن الإنفاق يدفع غوائل اجتماعية إن سلطت على الجماعة أذهبت وحدتها، وقوضت بناءها؛ فإن أولئك الفقراء إن لم يمكنوا من حقهم في الحياة كانوا أداة تخريب وعنصر هدم، وكانوا كالشاة إذا جوعتها انتشرت ذئبًا، وافترست كل ما في طريقها؛ وإن دفع هذه الكوارث هو حماية للنفس، ودفاع عن الوجود، وهذا المعنى يتضمنه قوله تعالى: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ) لأنه حماية لها.
فهذه هي الناحية الأولى التي تعود بالخير على المنفق، أيا كان من يعطيه، وأيا كان مقدار العطاء قليلا أو كثيرًا؛ ولذا قال: (مِنْ خَيْرٍ) فـ " من " الدالة على البعضية تنبئ عن أنه يجوز الإنفاق بالقليل والكثير، وفي كل خير يعود على النفس.
والناحية الثانية: ما أشار إليها سبحانه بقوله تعالى: (وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) فهذه الجملة السامية تثبت الخيرية في الصدقة، ولو كانت لعاص أو كافر؛ ذلك لأنه لَا يقصد بالعطاء إرضاء العاصي أو الكافر إنما يقصد بالعطاء وجه الله تعالى ورضاه، ورضا الله سبحانه وحده غاية ترجى، وخير عظيم يطلب، ومقصد أسمى يتجه إليه المؤمن ويبتغيه طالب الهداية؛ فإن المؤمن العامر قلبه بالإيمان يحس بروحانية إن طلب رضا الله وابتغاه، أي طلبه بشدة.
وقوله تعالى: (ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) لَا يدل على طلب رضا الله فقط، بل يدل مع ذلك على طلب إقبال الله تعالى عليه؛ لأن كلمة (وَجْهِ اللَّهِ) تدل على الرغبة في المواجهة والاتصال بالله تعالى، وإقباله على ربه، وإقبال ربه عليه؛ وتلك منزلة
فهذه هي الناحية الأولى التي تعود بالخير على المنفق، أيا كان من يعطيه، وأيا كان مقدار العطاء قليلا أو كثيرًا؛ ولذا قال: (مِنْ خَيْرٍ) فـ " من " الدالة على البعضية تنبئ عن أنه يجوز الإنفاق بالقليل والكثير، وفي كل خير يعود على النفس.
والناحية الثانية: ما أشار إليها سبحانه بقوله تعالى: (وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) فهذه الجملة السامية تثبت الخيرية في الصدقة، ولو كانت لعاص أو كافر؛ ذلك لأنه لَا يقصد بالعطاء إرضاء العاصي أو الكافر إنما يقصد بالعطاء وجه الله تعالى ورضاه، ورضا الله سبحانه وحده غاية ترجى، وخير عظيم يطلب، ومقصد أسمى يتجه إليه المؤمن ويبتغيه طالب الهداية؛ فإن المؤمن العامر قلبه بالإيمان يحس بروحانية إن طلب رضا الله وابتغاه، أي طلبه بشدة.
وقوله تعالى: (ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) لَا يدل على طلب رضا الله فقط، بل يدل مع ذلك على طلب إقبال الله تعالى عليه؛ لأن كلمة (وَجْهِ اللَّهِ) تدل على الرغبة في المواجهة والاتصال بالله تعالى، وإقباله على ربه، وإقبال ربه عليه؛ وتلك منزلة
1027
روحية سامية حسبها جزاء للصدقة، ولو كان المعطَى كافرًا عاصيًا ولقد قال بعض الصوفية في معنى (ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) أي يطلب المتصدق وجه الباقي، أي الناحية الباقية في الدنيا والآخرة، وهي ناحية الله تعالى؛ ولذا يقولون إن لكل شيء ولكل عمل وجهين: وجهًا يتجه إلى هذا العالم وما فيه من أناسي، وهو الوجه الفاني، والوجه الثاني هو الوجه الدائم الباقي، وهو رضا الله تعالى.
هذه هي الناحية الثانية من الخيرية في النفقة بالنسبة للمنفق من غير نظر إلى من أنفق عليه.
أما الناحية الثالثة: فهي التي بينها قوله تعالى: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه جزاء الصدقات، من حيث إنها تعود على المنفق مغباتها وثمراتها؛ والمعنى: أن ما تنفقون من خير في هذه الدنيا يوفى إليكم جزاؤه في هذه الدنيا، وفي الآخرة؛ أما في الآخرة فبالنعيم المقيم الخالد، وهو أضعاف مضاعفة للصدقة، وجزاؤها في الدنيا من حيث إنها تقوية للعناصر الضعيفة في الأمة، فتنقلب إلى عناصر قوة تمدها بالخير والمعونة الصادقة، فتكون قوة عاملة منتجة تعود ثمرات أعمالها إلى الجميع ومنهم المنفقون، وإن الفقراء إن لم يعطوا كانوا أداة تخريب وهدم، والصدقة تجعلهم عنصر عمل وبناء، وخير ذلك للجميع.
وقد أشار سبحانه إلى أن ذلك الجزاء الدنيوي والأخروي هو للصدقة، وكأنه وفاء لها مولَّد منها؛ ولذا سماه بها، فقال: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكمْ) أي يعود إليكم ذات الخير، فالجزاء لأنه ثمرة لازمة كأنه هو نفس الإنفاق، والنتيجة لأنها متولدة عن الإنفاق كانت كأنها هو. ثم ختم سبحانه الآية بقوله: (وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي لَا تنقصون أي جزاء لعمل قدمتموه لَا تبغون به إلا وجه الله تعالى، وهو العليم الحكيم القادر على كل شيء، وإلى الله المصير.
* * *
هذه هي الناحية الثانية من الخيرية في النفقة بالنسبة للمنفق من غير نظر إلى من أنفق عليه.
أما الناحية الثالثة: فهي التي بينها قوله تعالى: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه جزاء الصدقات، من حيث إنها تعود على المنفق مغباتها وثمراتها؛ والمعنى: أن ما تنفقون من خير في هذه الدنيا يوفى إليكم جزاؤه في هذه الدنيا، وفي الآخرة؛ أما في الآخرة فبالنعيم المقيم الخالد، وهو أضعاف مضاعفة للصدقة، وجزاؤها في الدنيا من حيث إنها تقوية للعناصر الضعيفة في الأمة، فتنقلب إلى عناصر قوة تمدها بالخير والمعونة الصادقة، فتكون قوة عاملة منتجة تعود ثمرات أعمالها إلى الجميع ومنهم المنفقون، وإن الفقراء إن لم يعطوا كانوا أداة تخريب وهدم، والصدقة تجعلهم عنصر عمل وبناء، وخير ذلك للجميع.
وقد أشار سبحانه إلى أن ذلك الجزاء الدنيوي والأخروي هو للصدقة، وكأنه وفاء لها مولَّد منها؛ ولذا سماه بها، فقال: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكمْ) أي يعود إليكم ذات الخير، فالجزاء لأنه ثمرة لازمة كأنه هو نفس الإنفاق، والنتيجة لأنها متولدة عن الإنفاق كانت كأنها هو. ثم ختم سبحانه الآية بقوله: (وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي لَا تنقصون أي جزاء لعمل قدمتموه لَا تبغون به إلا وجه الله تعالى، وهو العليم الحكيم القادر على كل شيء، وإلى الله المصير.
* * *
1028
(لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)
* * *
بيَّن سبحانه وتعالى في الآيات السابقة آفات الصدقات التي تذهب بخيرها بالنسبة لمعطيها من منٍّ وأذى ورياء وقصد إلى الخبيث دون الطيب ينفق منه، مع أن الله طيب لَا يقبل إلا طيبًا؛ ثم بيَّن أنه لَا يصح أن يكون الكفر أو العصيان سببًا للمنع حيث يجب العطاء، ليُحْمَل الشرك على الإيمان، والعاصي على الطاعة. بعد هذا بيّن سبحانه موضع الصدقات والصفات التي تُوجب العطاء في مستحقها؛ وقد قصد سبحانه وتعالى إلى بيان موضع الأولوية فيها؛ فقال تعالى:
* * *
بيَّن سبحانه وتعالى في الآيات السابقة آفات الصدقات التي تذهب بخيرها بالنسبة لمعطيها من منٍّ وأذى ورياء وقصد إلى الخبيث دون الطيب ينفق منه، مع أن الله طيب لَا يقبل إلا طيبًا؛ ثم بيَّن أنه لَا يصح أن يكون الكفر أو العصيان سببًا للمنع حيث يجب العطاء، ليُحْمَل الشرك على الإيمان، والعاصي على الطاعة. بعد هذا بيّن سبحانه موضع الصدقات والصفات التي تُوجب العطاء في مستحقها؛ وقد قصد سبحانه وتعالى إلى بيان موضع الأولوية فيها؛ فقال تعالى:
1029
(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي أن الصدقة تكون للفقراء الذين اتصفوا بهذه الصفات، وكانوا على تلك الأحوال، وهي خمس؛ فالجار والمجرور (للفقراء) خبر لمبتدأ محذوف يفهم من مطاوي الكلام الكريم السابق كله وثناياه؛ لأن الكلام السابق كله في الإنفاق في سبيل الله، والصدقات المأجورة المشكورة، وما يعكر إخلاصها، ويعوق جزاءها؛ فكان المحذوف المطوي في القول مع قيام المشير إليه هو " الصدقة "، فهو محذوف في حكم المذكور، ولكن لماذا آثر النص القرآني الحذف مع أن الأصل الذكر ليتم النسق الكلامي؟ الجواب عن ذلك هو، أولاً الإيجاز العجز الذي يكون فيه قصر اللفظ مع غزارة المعنى، وثانيًا هو تعليم العباد
1029
من حيث إنه طوى لفظ الصدقة، ولم يصرح فيه بالإسناد ووضعه بجوار الفقراء؛ للإشارة إلى أن الأدب يوجب على المعطي ألا يصرح أن يعطيه بأن هذا صدقة، حتى لَا يحس بمذلة الأخذ، فحذف القرآن لفظ الصدقة عند الإسناد إلى الفقراء مع وجوده في السابق من القول، يخفيه المعطي عند العطاء، مع احتسابه النية بإخفائه المقصد.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى للفقراء الذين يستحقون الصدقة أوصافًا أو أحوالاً خمسة:
الوصف الأول منها: ما ذكره سبحانه وتعالى بقوله: (أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي مُنعوا من الكسب الحلال الطيب الذي يطلبه صاحبه مجاهدًا في طلبه.
فالإحصار هنا المنع؛ وأصله من الحصر بمعنى التضييق كما قال تعالى: (وَاحْصُرُوهُمْ...)، أي ضيِّقوا عليهم. والإحصار هو التشديد في التضييق بالمنع من الحركة والسير والعمل المنتج المثمر؛ والمنع إما أن يكون لعجز مطلق بمرض أو شيخوخة أو صغر أو غير ذلك، وإما أن يكون المنع بسبب ضيق مسالك الكسب، فإن كان قادرًا ولا يجد عملا مع طلبه، أو هو مشغول عن طلب الرزق لنفسه بما هو أجدى على الجماعة وأنفع كالفدائيين الذين يتقدمون الصفوف ليفتدوا جماعتهم، ويعلوا كلمة الحق، ويخفضوا كلمة الباطل؛ فكل هذا إحصار ومنع من اكتساب الرزق.
وعبر في الآية الكريمة بـ (أُحْصِرُوا) بالبناء للمجهول للإشارة إلى أن فقرهم لم يكن نتيجة امتناع عن العمل المجدي النافع، ولم يكن تخاذلا أو كسلا، أو تهاونا في طلب الرزق الحلال، إنما كان بمنع من غيرهم، أو ليس لهم فيه إرادة حرة قد آثروا فيها الكسل على العمل، وإنما كان المنع عجزا؛ أو لأنهم بمقتضى التوزيع العادل والتنسيق الكامل في الأعمال تحبسهم الجماعة عن طلب الرزق لينصرفوا إلى عمل آخر يجدي وينفع كالجهاد في سبيل الله، فكانوا ممنوعين عن طلب الرزق بحكم الواقع أو التكليف ولم يكونوا ممتنعين.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى للفقراء الذين يستحقون الصدقة أوصافًا أو أحوالاً خمسة:
الوصف الأول منها: ما ذكره سبحانه وتعالى بقوله: (أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي مُنعوا من الكسب الحلال الطيب الذي يطلبه صاحبه مجاهدًا في طلبه.
فالإحصار هنا المنع؛ وأصله من الحصر بمعنى التضييق كما قال تعالى: (وَاحْصُرُوهُمْ...)، أي ضيِّقوا عليهم. والإحصار هو التشديد في التضييق بالمنع من الحركة والسير والعمل المنتج المثمر؛ والمنع إما أن يكون لعجز مطلق بمرض أو شيخوخة أو صغر أو غير ذلك، وإما أن يكون المنع بسبب ضيق مسالك الكسب، فإن كان قادرًا ولا يجد عملا مع طلبه، أو هو مشغول عن طلب الرزق لنفسه بما هو أجدى على الجماعة وأنفع كالفدائيين الذين يتقدمون الصفوف ليفتدوا جماعتهم، ويعلوا كلمة الحق، ويخفضوا كلمة الباطل؛ فكل هذا إحصار ومنع من اكتساب الرزق.
وعبر في الآية الكريمة بـ (أُحْصِرُوا) بالبناء للمجهول للإشارة إلى أن فقرهم لم يكن نتيجة امتناع عن العمل المجدي النافع، ولم يكن تخاذلا أو كسلا، أو تهاونا في طلب الرزق الحلال، إنما كان بمنع من غيرهم، أو ليس لهم فيه إرادة حرة قد آثروا فيها الكسل على العمل، وإنما كان المنع عجزا؛ أو لأنهم بمقتضى التوزيع العادل والتنسيق الكامل في الأعمال تحبسهم الجماعة عن طلب الرزق لينصرفوا إلى عمل آخر يجدي وينفع كالجهاد في سبيل الله، فكانوا ممنوعين عن طلب الرزق بحكم الواقع أو التكليف ولم يكونوا ممتنعين.
1030
وكلمة (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ما موضعها في الوصف المذكور؟ قال بعض العلماء: إن كلمة في سبيل الله في هذا المقام فيها إشارة إلى سبب الإحصار والمنع، وهو أنهم حبسوا أنفسهم للعمل في سبيل الله، وانقطعوا عن المكاسب وطلب الرزق؛ لأنهم ربطوا أنفسهم في سبيل الله بالجهاد في سبيل إعلاء الحق، أو بالقيام بعمل عام، وقالوا إن هذه الآية نزلت في أهل الصُّفَّة، وهم طائفة من المهاجرين الفقراء انقطعوا عن أموالهم، وأقاموا: بالمدينة لَا مرتزق لهم فيها، ينتظرون غزوة يسيرون فيها، أو سرية يذهبون معها، فكان النبي - ﷺ - يأمر الصحابة ذوي اليسار باستضافتهم، فتستضيف كل أسرة واحدًا أو أكثر على حسب قدرتها، ومن بقي منهم من غير استضافة بسط النبي - ﷺ - مائدته لهم في المسجد وأكلوا معه، وقد أقام لهم في المسجد صُفَّة، أي ظلة يأوون إليها يتقون الحر والبرد.
وعلى هذا التخريج يكون الإحصار المذكور في الآية ما يكون سببه الانصراف عن العمل بالاشتغال بعمل عام، فإن هذا يوجب على الجماعة التي يعملون فيها أن تجري على العامل ما يكفيه وأهله بالمعروف؛ فإن لم تفعل الدولة ذلك، وهي التي تمثل الجماعة، تولى الآحاد والجماعات من الناس تهيئة أسباب الرزق لهم بما يكفيهم.
ولكن الأوصاف اللاحقة لهذا الوصف تومئ إلى أن الآية الكريمة يدخل في عمومها كل فقير يتعفف عن السؤال، ولا يستطيع كسب عيشه لأي سبب منِ الأسباب المانعة أو العوقة من العمل للرزق؛ بل إن قوله تعالى: (لا يَسْأَلُونَ النَّاس إِلْحَافًا)، يجعل موضوع الآية الكريمة الفقراء العاجزين عن الكسب غير المتفرغين لخدمة عامة، لأن هؤلاء لَا يتعرضون للسؤال ثم يمتنعون عنه، إنما الذي يتعرض له، ويعف عنه هو العاجز لغير ذلك السبب.
حينئذ يكون قوله تعالى: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أعم من الحال التي ذكرها أولئك المفسرون بأن يكون معناها، أي في سبيل القيام بما يجب عليهم، سواء أكان ذلك الواجب رزقًا يطلبونه، ولكنهم يعجزون عن الحصول عليه، فهم في سبيل هذا
وعلى هذا التخريج يكون الإحصار المذكور في الآية ما يكون سببه الانصراف عن العمل بالاشتغال بعمل عام، فإن هذا يوجب على الجماعة التي يعملون فيها أن تجري على العامل ما يكفيه وأهله بالمعروف؛ فإن لم تفعل الدولة ذلك، وهي التي تمثل الجماعة، تولى الآحاد والجماعات من الناس تهيئة أسباب الرزق لهم بما يكفيهم.
ولكن الأوصاف اللاحقة لهذا الوصف تومئ إلى أن الآية الكريمة يدخل في عمومها كل فقير يتعفف عن السؤال، ولا يستطيع كسب عيشه لأي سبب منِ الأسباب المانعة أو العوقة من العمل للرزق؛ بل إن قوله تعالى: (لا يَسْأَلُونَ النَّاس إِلْحَافًا)، يجعل موضوع الآية الكريمة الفقراء العاجزين عن الكسب غير المتفرغين لخدمة عامة، لأن هؤلاء لَا يتعرضون للسؤال ثم يمتنعون عنه، إنما الذي يتعرض له، ويعف عنه هو العاجز لغير ذلك السبب.
حينئذ يكون قوله تعالى: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أعم من الحال التي ذكرها أولئك المفسرون بأن يكون معناها، أي في سبيل القيام بما يجب عليهم، سواء أكان ذلك الواجب رزقًا يطلبونه، ولكنهم يعجزون عن الحصول عليه، فهم في سبيل هذا
1031
الطلب في سبيل الله، أم كان ذلك الواجب خدمة عامة حبسوا أنفسهم لها، أو القيام بأمر من الفروض الكفائية التي تخصصوا في بعضها كطلب العلم، فإن هؤلاء على المجتمع فرادى وجماعات وعلى الدولة أن تسهل لهم الحياة، وتمكنهم من الاستمرار على طلب ما يطلبون.
والخلاصة أن الإحصار على هذا يشمل العجز المادي عن الكسب إما لمرض أو شيخوخة أو نحوهما، أو لطلب العمل مع عدم القدرة عليه، كما يشمل الذين حبسوا لتكليف عام، والقيام بفرض من فروض الكفاية.
وأما الوصف الثاني منِ أوصاف أولئك الفقراء الذين هم أولى الناس بالإنفاق عليهم أنهم (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ). والضرب في الأرض إما أن نقول إنه بمعنى الذهاب في الأرض والسفر فيها طلبًا للرزق؛ إذ إن هذا المسافر يضرب الأرض برجله كما قال تعالى:
إما أن يقال هذا، وإما أن يقال إن الضرب في الأرض بمعنى حرثها وزرعها، فإن الحارث الزارع يضرب الأرض بفأسه ويشقها بمحراثه. والأولى في نظري أن تكون كلمة الضرب في الأرض شاملة، وأن يكون النفي شاملا، أي أن هؤلاء الفقراء لَا يستطيعون العمل في الأرض بالزراعة، أو الذهاب فيها للاحتطاب والكسب، أو السفر للاتِّجار، والتنقل بين الأمصار سعيًا في الرزق، لَا يستطيع أولئك الفقراء شيئًا من هذا بسبب الحجز المادي، أو لأنهم حبسوا لنفع عام، أو واجب كفائي على العموم، وقد تخصصوا هم لأدائه، ولقد قال - ﷺ -: " لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ " (١).
وأما الوصف الثالث من أوصاف أولئك الفقراء الذين هم جديرون بالعطاء أنهم (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ)، ومعناه أنهم متجملون لَا يعرف حالهم
________
(١) رواه الترمذي: الزكاة - من لَا تحل له الصدقة (٥٨٩)، وأبو داود: الزكاة - من يعطى من الصدقة وحد الغنى (١٣٩٢) وأحمد (٦٢٤٤)، وابن ماجه، الزكاة - من سأل عن ظهر غنى (١٨٢٩) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
والخلاصة أن الإحصار على هذا يشمل العجز المادي عن الكسب إما لمرض أو شيخوخة أو نحوهما، أو لطلب العمل مع عدم القدرة عليه، كما يشمل الذين حبسوا لتكليف عام، والقيام بفرض من فروض الكفاية.
وأما الوصف الثاني منِ أوصاف أولئك الفقراء الذين هم أولى الناس بالإنفاق عليهم أنهم (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ). والضرب في الأرض إما أن نقول إنه بمعنى الذهاب في الأرض والسفر فيها طلبًا للرزق؛ إذ إن هذا المسافر يضرب الأرض برجله كما قال تعالى:
(وَإِذَا ضربْتُمْ فِي الأَرْضِ | )، والمعنى على هذا أن هؤلاء لَا يستطيعون السفر للاتِّجار وكسب الرزق. |
وأما الوصف الثالث من أوصاف أولئك الفقراء الذين هم جديرون بالعطاء أنهم (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ)، ومعناه أنهم متجملون لَا يعرف حالهم
________
(١) رواه الترمذي: الزكاة - من لَا تحل له الصدقة (٥٨٩)، وأبو داود: الزكاة - من يعطى من الصدقة وحد الغنى (١٣٩٢) وأحمد (٦٢٤٤)، وابن ماجه، الزكاة - من سأل عن ظهر غنى (١٨٢٩) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
1032
من فقر مدقع إلا أهل الخبرة بالنفوس وذوو البصيرة النفاذة، والفراسة الصادقة، فهم لا يعرفون بفقرهم وحاجتهم وعوزهم، بل يحسبهم الجاهل، أي يظنهم أغنياء ويقوم ذلك بحسبانه وتقديره من غير أمارات ظاهرة وبينات قائمة، فالظن في قوله تعالى: (يَحْسَبُهُمُ) ظن في حسبان صاحبه فقط؛ و " الجاهل " إما أن يكون المراد به من لا يعرف حالهم، أو المراد به من لَا ينفذ إلى حقائق الأمور، بل يأخذها بمظاهرها التي تبدو بادي النظر، وليس عنده إحساس مرهف يعاونه على إدراك حال هؤلاء الفقراء مما يحيط بهم لَا من مجرد الظاهر، وهذا هو الحق، و " التعفف ": يكلُّف العفة إما بالمبالغة فيها، والشدة في النزاهة، أو بمحاولة الصبر عليها وتحمل الشقة في سبيلها، أي أن الدواعي لتركها أقوى من البواعث على الاستمساك بها، ولكنه يستعين بالصبر، فيرجح العفة بعد تكلف الشقة واحتمالها. والآية الكريمة تقبل المعنيين، فإن الفقير العاجز عن الكسب عند تحمله ما يتحمل الحر الكريم في سبيل عفته، والمحافظة عليها مبالغ في العفة؛ أولا: لأن المبالغة في العفة ليست بالقدر منها، إنما يكون بقدر ما يبذل في سبيل المحافظة عليها، فالغني لَا يبالغ في العفة إن امتنع عن أخذ أموال الناس، أو طلب المعونة منهم أو أكل مالهم بالباطل، أو سرقتهم أو اغتصابهم، ولكن العاجز عن الكسب يعد مبالغًا في العفة إن امتنع عن طلب المعونة، وهو في أمس الحاجة إليها.. وهذا الفقير يبالغ في العفة ثانيًا: بتحمل المشقات والتصبر عليها وفي سبيلها.
وأما الوصف الرابع فهو (تَعْرِفهُم بسِيمَاهُمْ) وهو أمر متصل بهم وبمن يراهم من ذوي الحس المرهف، والبصيرة الخافذة، ولذا كان الخطاب في معرفة سيماهم للنبي - ﷺ - وهو البصير النافذ البصيرة، ولمن كان مقتديًا به من كل مؤمن قوي الوجدان، ممن قال فيه النبي - ﷺ -: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " (١).
والسيما: العلامة، فما هي علامة الفقراء المتجملين الذين ستروا حاجتهم، والتي يعرفون بها؟ قال بعض العلماء: التواضع والخشوع؛ وقال بعضهم: الرثاثة ومظاهر
________
(١) الترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة الحجر (٣٠٥٢).
وأما الوصف الرابع فهو (تَعْرِفهُم بسِيمَاهُمْ) وهو أمر متصل بهم وبمن يراهم من ذوي الحس المرهف، والبصيرة الخافذة، ولذا كان الخطاب في معرفة سيماهم للنبي - ﷺ - وهو البصير النافذ البصيرة، ولمن كان مقتديًا به من كل مؤمن قوي الوجدان، ممن قال فيه النبي - ﷺ -: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " (١).
والسيما: العلامة، فما هي علامة الفقراء المتجملين الذين ستروا حاجتهم، والتي يعرفون بها؟ قال بعض العلماء: التواضع والخشوع؛ وقال بعضهم: الرثاثة ومظاهر
________
(١) الترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة الحجر (٣٠٥٢).
1033
الفقر؛ وقال بعضهم الجوع وآثاره والحق أن الله سبحانه وتعالى لم يبين لنا هذه العلامة التي يعرفون بها؛ ولكنه ذكر أنها تعرف لذي البصيرة؛ أي أن الشخص المدرك الفاهم يستطيع معرفتها بزكانة (١) نفسه، من لمحات الوجه، ومن تعرف مصادر الشخص وموارده، وما يحاول به ستر حاله؛ فإنه مهما يحاول الفقير التجمل والصبر فإنه لابد أن تبدو حاجته لذي البصيرة الكريم الذي لَا يعلن عورات الناس؛ فالعلامة إذن هي الظاهرة التي تبدو للفاحص الذي يُطْمَأن إليه.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى بهذا أمرين: أحدهما ينسب للجاهل وهو الظن بأنهم من الأغنياء، إذ قال سبحانه: (يَحْسَبهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ)؛ هذا ظن الجاهل بالنفوس يحسبهم لفرط تجملهم بالصبر أغنياء، والأمر الثاني أن لهم سيما ومظهرًا لَا يعرفه الجاهل، ويعرفه غيره بالنظر الفاحص العاطف، الكاشف الساتر.
وأما الوصف الخامس من أوصافهم أنهم (لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) أي أنهم لا يسألون الناس، ولا يلحفون في السؤال أو الطلب؛ ولقد قال الزمخشري في معنى " إلحافًا ": " الإلحاف الإلحاح، وهو اللزوم، وألا يفارقه إلا بشيء يعطاه من قولهم: (لحفني من فضل لحافه) أي أعطاني من فضل ما عنده "، وقال الراغب الأصفهاني: " أصله من اللحاف، وهو ما يتغطى به " وعلى هذا يكون معنى الإلحاف: هو الملازمة في الطلب وملاصقة من يطلب العطاء كملاصقة اللحاف لمن يستر به، أو الإلحاف يأخذ به الفضل الذي يعطاه.
وقد اختلف العلماء في النفي بهذه الجملة السامية: أهو نفي للإلحاف وليس نفيًا للسؤال " أي أنهم يسألون ولكن لَا يلحفون في السؤال؛ أم هو نفي للسؤال مطلقًا سواء أكان إلحافًا أم من غير إلحاف؟
قال بعض العلماء: إن النص الكريم يفيد بظاهره نفي الإلحاف لَا نفي أصل السؤال، لأن النفي منصب عليه، إذ النفي إذا كان لأمر مقيد بوصف يكون موضعه ومناطه هو القيد، لَا الأصل.
________
(١) الزكانة والزَّكَنُ بالتحريك التفرس والظن يقال زَكِنْتُه صالحا أي ظتته. [لسان العرب - زكن].
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى بهذا أمرين: أحدهما ينسب للجاهل وهو الظن بأنهم من الأغنياء، إذ قال سبحانه: (يَحْسَبهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ)؛ هذا ظن الجاهل بالنفوس يحسبهم لفرط تجملهم بالصبر أغنياء، والأمر الثاني أن لهم سيما ومظهرًا لَا يعرفه الجاهل، ويعرفه غيره بالنظر الفاحص العاطف، الكاشف الساتر.
وأما الوصف الخامس من أوصافهم أنهم (لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) أي أنهم لا يسألون الناس، ولا يلحفون في السؤال أو الطلب؛ ولقد قال الزمخشري في معنى " إلحافًا ": " الإلحاف الإلحاح، وهو اللزوم، وألا يفارقه إلا بشيء يعطاه من قولهم: (لحفني من فضل لحافه) أي أعطاني من فضل ما عنده "، وقال الراغب الأصفهاني: " أصله من اللحاف، وهو ما يتغطى به " وعلى هذا يكون معنى الإلحاف: هو الملازمة في الطلب وملاصقة من يطلب العطاء كملاصقة اللحاف لمن يستر به، أو الإلحاف يأخذ به الفضل الذي يعطاه.
وقد اختلف العلماء في النفي بهذه الجملة السامية: أهو نفي للإلحاف وليس نفيًا للسؤال " أي أنهم يسألون ولكن لَا يلحفون في السؤال؛ أم هو نفي للسؤال مطلقًا سواء أكان إلحافًا أم من غير إلحاف؟
قال بعض العلماء: إن النص الكريم يفيد بظاهره نفي الإلحاف لَا نفي أصل السؤال، لأن النفي منصب عليه، إذ النفي إذا كان لأمر مقيد بوصف يكون موضعه ومناطه هو القيد، لَا الأصل.
________
(١) الزكانة والزَّكَنُ بالتحريك التفرس والظن يقال زَكِنْتُه صالحا أي ظتته. [لسان العرب - زكن].
1034
وقال بعض آخر: إن أولئك الفقراء لَا يسألون مطلقا لَا بإلحاف ولا بغير إلحاف؛ وإني أرى أن ذلك هو الراجح؛ لأنهم لو كانوا يسألون ما حسبهم الجاهل أغنياء من التعفف؛ ولو كانوا يسألون ما كانوا متعففين، ولو كانوا يسألون ما احتاج البصير ذو الوجدان إلى تعرف حالهم بالمظاهر والسمات؛ فإن طلبهم يغني عن التعرف، إذ هم يعرفون أنفسهم بالسؤال؛ فسياق الآية يفيد أنهم لَا يسألون مطلقا؛ ولكن لماذا كان النفي متجهًا إلى الإلحاف في ظاهره، لَا في أصل السؤال؟ فنقول في الجواب عن ذلك: إن النفي ذكر بهذه الصيغة، ليكون فيه إيماء إلى أن يوازيهم المعطي بغيرهم، وأن غيرهم يسأل الناس إلحافًا وهم لَا يسألون، فالله سبحانه وتعالى نفَى عنهم ما يقع من غيرهم، والنفي بهذه الصيغة فيه تعريض بالملحفين، وبه يبدو فضل المتعففين.
وفى الحقيقة إن نفي السؤال قد فهم فهما ضمنيا واضح الدلالة من الأوصاف السابقة؛ أما الوصف الأخير فهو ينفي عنهم ما يقع من غيرهم وهو الإلحاف، ويندر أن يكون سائل غير ملحف، وذلك لأن السؤال حيث وقع يكون التعفف قد زال، وإذا زال التعفف وجد الطلب والرغبة في الأخذ، وعند ذلك يكون الإلحاف، حتما.
وإنه بلا شك يجب على المعطي أن يبتدئ في عطائه بأولئك المتعففين الذين لا يسألون؛ لأنهم الذين يستحقون، وهم المساكين كما قال النبي - ﷺ -: " ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، إنما السكين المتعفف، اقرءوا إن شئتم (لا يَسأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا " (١).
وإنه إذا أعطى هذا المتعفف يجب عليه أن يستر حاله، ولا يكشف أمره، ليكون ذلك عونًا له على تعففه وتحمله، وكل كشف له أذى، والأذى من آفات الصدقات.
________
(١) رواه البخاري: التفسير - لَا يسألون الناس إلحافا (٤١٧٥)، ومسلم واللفظ له: الزكاة - المسكين الذي لا يجد غنى (١٧٢٣).
وفى الحقيقة إن نفي السؤال قد فهم فهما ضمنيا واضح الدلالة من الأوصاف السابقة؛ أما الوصف الأخير فهو ينفي عنهم ما يقع من غيرهم وهو الإلحاف، ويندر أن يكون سائل غير ملحف، وذلك لأن السؤال حيث وقع يكون التعفف قد زال، وإذا زال التعفف وجد الطلب والرغبة في الأخذ، وعند ذلك يكون الإلحاف، حتما.
وإنه بلا شك يجب على المعطي أن يبتدئ في عطائه بأولئك المتعففين الذين لا يسألون؛ لأنهم الذين يستحقون، وهم المساكين كما قال النبي - ﷺ -: " ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، إنما السكين المتعفف، اقرءوا إن شئتم (لا يَسأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا " (١).
وإنه إذا أعطى هذا المتعفف يجب عليه أن يستر حاله، ولا يكشف أمره، ليكون ذلك عونًا له على تعففه وتحمله، وكل كشف له أذى، والأذى من آفات الصدقات.
________
(١) رواه البخاري: التفسير - لَا يسألون الناس إلحافا (٤١٧٥)، ومسلم واللفظ له: الزكاة - المسكين الذي لا يجد غنى (١٧٢٣).
1035
وإذا فضل شيء بعد كفاية المتعفف أعطى السائل؛ فإن مذلة السؤال توجب العطف؛ ولذا ورد " للسائل حق ولو جاء على فرس " (١) وإن على من يعطي سائلًا أن يتعرف حاله أهو يسأل متكثرا، وهو غني أم هو فقير يسأل مستعينا؛ وليتهم نفسه وشحه قبل أن يتهم السائل؛ ولأن يخطئ في إعطاء غني عن جهالة خير من أن يخطي بمنع فقير تظنُّنًا وتأثمًا؛ فإن في الأول ثوابًا له بنيته، وفي الثاني إثما عليه بتغليب شح نفسه، وتركه فقيرًا يتضور جوعًا، مسوغًا ذلك بالظن الآثم والتهمة.
وإن الإثم في ترك السائلين يسألون إنما هو في عدم تنظيم الإحسان، وإغناء الفقراء عن مذلة السؤال.
ولقد تكلم العلماء في السؤال أهو سائغ من الفقير أم غير سائغ؛ فاتفقوا على أنه جائز عند الضرورة، وأنه لَا يصح أن يسأل من عنده قوت يكفيه. ولقد روى الإمام أحمد بن حنبل أن رسول الله - ﷺ - قال: " المسألة لَا تحل إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع " (٢).
وإن السؤال في غير هذه الأحوال غير سائغ، وهو داخل في عموم النهي؛ ولقد قال النبي - ﷺ -: " لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ، فَيَحْطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَتَصَدَّقَ بِهِ وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ مِنَ النَّاسِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ " (٣) فالسؤال حيث القدرة على العمل غير جائز.
ولقد قال النبي - ﷺ -: " من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم " قالوا يا رسول الله: وما يغنيه؟ قال: " ما يغديه أو يعشيه " (٤).
________
(١) سبق تخريجه.
(٢) قال المصنف رحمه الله: الفقر المدقع: هو الذي يلصق صاحبه بالأرض. والغرم المفظع: الدين الشديد الكثير. وذو الدم الموجع: المتحمل لدية ثقيلة الأداء. اهـ. والحديث رواه أحمد في مسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه (١١٨٣٠)، ورواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه بأطول من هذا.
(٣) رواه البخاري: الزكاة - الاستعفاف عن المسألة (١٧٢٧)، ومسلم واللفظ له: الزكاة - كراهة المسألة (١٧٢٧).
(٤) جزء من حديث رواه أحمد: مسند الشاميين (١٦٩٦٧) عن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه.
وإن الإثم في ترك السائلين يسألون إنما هو في عدم تنظيم الإحسان، وإغناء الفقراء عن مذلة السؤال.
ولقد تكلم العلماء في السؤال أهو سائغ من الفقير أم غير سائغ؛ فاتفقوا على أنه جائز عند الضرورة، وأنه لَا يصح أن يسأل من عنده قوت يكفيه. ولقد روى الإمام أحمد بن حنبل أن رسول الله - ﷺ - قال: " المسألة لَا تحل إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع " (٢).
وإن السؤال في غير هذه الأحوال غير سائغ، وهو داخل في عموم النهي؛ ولقد قال النبي - ﷺ -: " لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ، فَيَحْطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَتَصَدَّقَ بِهِ وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ مِنَ النَّاسِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ " (٣) فالسؤال حيث القدرة على العمل غير جائز.
ولقد قال النبي - ﷺ -: " من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم " قالوا يا رسول الله: وما يغنيه؟ قال: " ما يغديه أو يعشيه " (٤).
________
(١) سبق تخريجه.
(٢) قال المصنف رحمه الله: الفقر المدقع: هو الذي يلصق صاحبه بالأرض. والغرم المفظع: الدين الشديد الكثير. وذو الدم الموجع: المتحمل لدية ثقيلة الأداء. اهـ. والحديث رواه أحمد في مسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه (١١٨٣٠)، ورواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه بأطول من هذا.
(٣) رواه البخاري: الزكاة - الاستعفاف عن المسألة (١٧٢٧)، ومسلم واللفظ له: الزكاة - كراهة المسألة (١٧٢٧).
(٤) جزء من حديث رواه أحمد: مسند الشاميين (١٦٩٦٧) عن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه.
1036
وإن كل سائل وعنده ما يغنيه يعد ملحفا، والإلحاف بكل صوره منهي عنه؛ ولذا قال - ﷺ -: " من استعف أعفه الله، ومن استغني أغناه الله، ومن يسأل الناس، وله عدل خمس أواق فقد سأل الناس إلحافًا " (١).
وفى الجملة إن السؤال ذل وأمر قبيح لَا يلجأ إليه المؤمن إلا عند الضرورة، وعلى من يرى سائلًا أن يعطيه إن كان المعطِي في سعة، وإن قام في نفسه أنه غنى لا يعطيه، ولكن عليه أن يحتاط لدينه كما يحتاط لصدقته؛ وخصوصًا في عصرنا هذا الذي أهمل فيه حق الفقير، فلا يجري عليه رزق دائم من الدولة، وليس للناس مروءات يغنون بها ذوي الحاجات، فكان حقا على الناس أن يعطوا هؤلاء المحرومين، كما قال تعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ للسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).
(وَمَا تنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) هذه الجملة السامية ختمت بها الآية الكريمة، لثلاثة أمور:
أولها: تربية الشعور بمراقبة الله في نفس المؤمن، فإنه إذا أحس أن الله سبحانه وتعالى مطلع دائمًا على كل ما يعمل من خير ومن شر، أحس بمراقبته سبحانه، ودام ذكره له، وشعوره بعظمته، فيكون في مقام العبودية الرفيع، ويعبد الله كأنه يراه، كما قال - ﷺ -: " اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (٢).
ثانيها: هو الإحساس برضا الله عنه عند فعل الخير، إذ إن الله يراه وهو يفعله، والإحساس بمرضاة الله مقام جليل، فرضوان الله أكبر من كل نعيم.
________
(١) أحمد: مسند الشاميين - حديث رجل من مزينة رضي الله عنه.
(٢) سبق تخريجه قريبا من رواية البخاري ومسلم ويخرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
وفى الجملة إن السؤال ذل وأمر قبيح لَا يلجأ إليه المؤمن إلا عند الضرورة، وعلى من يرى سائلًا أن يعطيه إن كان المعطِي في سعة، وإن قام في نفسه أنه غنى لا يعطيه، ولكن عليه أن يحتاط لدينه كما يحتاط لصدقته؛ وخصوصًا في عصرنا هذا الذي أهمل فيه حق الفقير، فلا يجري عليه رزق دائم من الدولة، وليس للناس مروءات يغنون بها ذوي الحاجات، فكان حقا على الناس أن يعطوا هؤلاء المحرومين، كما قال تعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ للسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).
(وَمَا تنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) هذه الجملة السامية ختمت بها الآية الكريمة، لثلاثة أمور:
أولها: تربية الشعور بمراقبة الله في نفس المؤمن، فإنه إذا أحس أن الله سبحانه وتعالى مطلع دائمًا على كل ما يعمل من خير ومن شر، أحس بمراقبته سبحانه، ودام ذكره له، وشعوره بعظمته، فيكون في مقام العبودية الرفيع، ويعبد الله كأنه يراه، كما قال - ﷺ -: " اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (٢).
ثانيها: هو الإحساس برضا الله عنه عند فعل الخير، إذ إن الله يراه وهو يفعله، والإحساس بمرضاة الله مقام جليل، فرضوان الله أكبر من كل نعيم.
________
(١) أحمد: مسند الشاميين - حديث رجل من مزينة رضي الله عنه.
(٢) سبق تخريجه قريبا من رواية البخاري ومسلم ويخرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
1037
ثالثها: العلم بالجزاء الأخروي؛ فإن الله إذا كان يعلم الخير من الأخيار، فإنه يثيبه عليه؛ لأن الله لايضيع أجر من أحسن عملًا.
1038
(الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَلْوَالَهُم بِالَّليْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) هذا ختام آيات الإنفاق في سبيل الله، وقد ختم سبحانه هذه الآيات كما بدأها؛ بدأها بالجزاء الأوفى لمن يتصدق وينفق في سبيل الله، وختمها بالعاقبة الحسنى لمن يتحرى في الصدقات مواضعها، أيا كان زمنها، وأيا كان حالها، فتستوي نفقة الليل ونفقة النهار، وصدقة السر وصدقة العلن، ما دامت الصدقات قد قصد بها مرضاة الله تعالى، وسلمت من آفاتها وهي المن والأذى والرياء.
وقوله تعالى: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّليْلِ وَالنَّهَارِ) فيه بيان عموم الأزمان، فليس للصدقات وقت معلوم تقبل فيه، وآخر ترد وترفض، بل هي خير كلها، المقصود منها النفع العام، وهو متحقق فيها ليلًا ونهارًا، وغدوة وعشيا، وفي الضحى وفي الأصيل، فالعبرة بالفعل ونيته ونتيجته لَا بزمانه ولا بوقته. وقوله تعالى: (سِرًّا وَعَلانِيَةً) فيه بيان عموم الأحوال، ما دامت الصدقة قد خلت مما يرنِّق صفو الإخلاص فيها، ولا يجعلها خالصة لوجه الله الكريم. ولقد قالوا إن تقديم الليل على النهار، والسر على العلانية فيه إيماء إلى أن الأولى الإخفاء والستر؛ وإن ذلك واضح؛ لأن في الإخفاء والستر احتياطا للنفس وصونا لها عن كل ما يؤدي إلى الرياء؛ فإن الإعلان قد يؤدي إلى الحمد والثناء، وقد يستمرئ المعطي ذلك، ويستطيبه، ثم يطلبه ويقصده، وعند ذلك يدخل الرياء، إذ يجد الثغرة في هذا الموضع فينفذ إلى النفس منها.
وهناك نوع من التعميم آخر في الآية غير عموم الزمان والحال، وهو عموم الإنفاق؛ فقد قال تعالى: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم) ولم يقل مثلًا يطعمون، فالإنفاق باب واسع يشمل الإطعام والكسوة، كما يشمل سداد الدين ودفع المغارم، وإعداد العدة في سبيل الله تعالى، وإمداد المحاربين، وشراء ما يخصص للنفع العام، كشراء عثمان بئر رومة؛ فكل هذا من الإنفاق، وعمم مع الإنفاق الأموال التي تنفق، فكله خير وكله له جزاؤه.
وقوله تعالى: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّليْلِ وَالنَّهَارِ) فيه بيان عموم الأزمان، فليس للصدقات وقت معلوم تقبل فيه، وآخر ترد وترفض، بل هي خير كلها، المقصود منها النفع العام، وهو متحقق فيها ليلًا ونهارًا، وغدوة وعشيا، وفي الضحى وفي الأصيل، فالعبرة بالفعل ونيته ونتيجته لَا بزمانه ولا بوقته. وقوله تعالى: (سِرًّا وَعَلانِيَةً) فيه بيان عموم الأحوال، ما دامت الصدقة قد خلت مما يرنِّق صفو الإخلاص فيها، ولا يجعلها خالصة لوجه الله الكريم. ولقد قالوا إن تقديم الليل على النهار، والسر على العلانية فيه إيماء إلى أن الأولى الإخفاء والستر؛ وإن ذلك واضح؛ لأن في الإخفاء والستر احتياطا للنفس وصونا لها عن كل ما يؤدي إلى الرياء؛ فإن الإعلان قد يؤدي إلى الحمد والثناء، وقد يستمرئ المعطي ذلك، ويستطيبه، ثم يطلبه ويقصده، وعند ذلك يدخل الرياء، إذ يجد الثغرة في هذا الموضع فينفذ إلى النفس منها.
وهناك نوع من التعميم آخر في الآية غير عموم الزمان والحال، وهو عموم الإنفاق؛ فقد قال تعالى: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم) ولم يقل مثلًا يطعمون، فالإنفاق باب واسع يشمل الإطعام والكسوة، كما يشمل سداد الدين ودفع المغارم، وإعداد العدة في سبيل الله تعالى، وإمداد المحاربين، وشراء ما يخصص للنفع العام، كشراء عثمان بئر رومة؛ فكل هذا من الإنفاق، وعمم مع الإنفاق الأموال التي تنفق، فكله خير وكله له جزاؤه.
1038
(فَلَهُمْ أَجْرهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنونَ) هذا جزاء الذين ينفقون بإخلاص غير مقيدين بزمان ولا حال ولا مكان، ولا قدر من الإنفاق، ولا نوع منه. والجملة موقعها من الإعراب أنها خبر والمبتدأ الذين ينفقون، ودخلت الفاء في الخبر، لأن الموصول في معنى الشرط فتدخل الفاء في خبره جوازًا، كما تدخل جواب الشرط.
والجزاء الذي ذكره سبحانه وتعالى ثلاثة أنواع:
أولها: الثواب يوم القيامة، وفي الدنيا، وذلك بالبركة، وبفضل التعاون الذي توجده الصدقة والإنفاق في سبيل الله؛ ثم بالنعيم المقيم يوم القيامة. وقد سمى سبحانه وتعالى ذلك أجرًا، وسماه في مواضع أخرى جزاء، مع أنه المعطي والمانع، والرازق والباسط، وذلك تفضل منه وكرم، ولنتعلم من الله عدم المنِّ في العطاء.
والثاني من الجزاء: الأمن من الخوف؛ إذ قال سبحانه: (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) والصدقة تؤمن من الخوف في الدنيا وفي الآخرة، فهي أمن من عذاب الله يوم القيامة؛ إذ إنها تكفر السيئات، كما قال تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ...)، وكما قال - ﷺ -: " الصدقة تطفئ الخطيئة " (١)، أما الأمن من من الخوف في الدنيا، فلأن الإنفاق في مواضع الإنفاق وقاية للمجتمع من غوائل الفقر، وعوامل التخريب، فلا يحصن مال الغني إلا الإنفاق في كل ما يعود على الفقير والمجتمع بالنفع، وإن الأمن من الخوف بالإنفاق واضح كل الوضوح في الإنفاق لإمداد القوات المجاهدة في الدفاع عن الأمة، كما هو واضح في سد حاجات الفقير، وتهيئة فرص الحياة الرفيعة والعمل له.
________
(١) سبق قريبا.
والجزاء الذي ذكره سبحانه وتعالى ثلاثة أنواع:
أولها: الثواب يوم القيامة، وفي الدنيا، وذلك بالبركة، وبفضل التعاون الذي توجده الصدقة والإنفاق في سبيل الله؛ ثم بالنعيم المقيم يوم القيامة. وقد سمى سبحانه وتعالى ذلك أجرًا، وسماه في مواضع أخرى جزاء، مع أنه المعطي والمانع، والرازق والباسط، وذلك تفضل منه وكرم، ولنتعلم من الله عدم المنِّ في العطاء.
والثاني من الجزاء: الأمن من الخوف؛ إذ قال سبحانه: (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) والصدقة تؤمن من الخوف في الدنيا وفي الآخرة، فهي أمن من عذاب الله يوم القيامة؛ إذ إنها تكفر السيئات، كما قال تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ...)، وكما قال - ﷺ -: " الصدقة تطفئ الخطيئة " (١)، أما الأمن من من الخوف في الدنيا، فلأن الإنفاق في مواضع الإنفاق وقاية للمجتمع من غوائل الفقر، وعوامل التخريب، فلا يحصن مال الغني إلا الإنفاق في كل ما يعود على الفقير والمجتمع بالنفع، وإن الأمن من الخوف بالإنفاق واضح كل الوضوح في الإنفاق لإمداد القوات المجاهدة في الدفاع عن الأمة، كما هو واضح في سد حاجات الفقير، وتهيئة فرص الحياة الرفيعة والعمل له.
________
(١) سبق قريبا.
1039
والثالث من أنواع الجزاء: نفي الحزن، والبعد عن أسبابه. والحزن هم نفسي؛ ولذا عبر عنه بالفعل الذي يصور النفس والشخص فقال سبحانه: (وَلا هُمْ يَحْزَنونَ) وهَم النفس يُدْفع بالاعتماد على الله، وطلب رضاه، واطمئنان الضمير، وبرد اليقين، وذلك كله يتحقق في الدنيا بالصدقة، وزوال الحزن في الآخرة بها أعظم وأكبر.
هذا والآية عامة تشمل كل من يسارع إلى الإنفاق في وقت الحاجة إليه في سر أو في إعلان في ليل أو في نهار، غير قاصد بما أنفق إلا الخير يبتغيه، ومرضاة الله سبحانه وتعالى، لَا يرائي ولا يمنُّ ولا يؤذي، ولقد ذكر العلماء أن الآية مع عمومها وجدت روايات في سبب نزولها.
وهذه الروايات كلها لَا تمنع عمومها، وإنها تبين فضل المنفق المخلص الذي يعم إنفاقه، ويجيء في وقت الحاجة إليه، و " الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه " (١).
* * *
________
(١) جزء من حديث رواه مسلم: الذكر والدعاء - فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (٤٨٦٧) عَنْ أبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
هذا والآية عامة تشمل كل من يسارع إلى الإنفاق في وقت الحاجة إليه في سر أو في إعلان في ليل أو في نهار، غير قاصد بما أنفق إلا الخير يبتغيه، ومرضاة الله سبحانه وتعالى، لَا يرائي ولا يمنُّ ولا يؤذي، ولقد ذكر العلماء أن الآية مع عمومها وجدت روايات في سبب نزولها.
وهذه الروايات كلها لَا تمنع عمومها، وإنها تبين فضل المنفق المخلص الذي يعم إنفاقه، ويجيء في وقت الحاجة إليه، و " الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه " (١).
* * *
________
(١) جزء من حديث رواه مسلم: الذكر والدعاء - فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (٤٨٦٧) عَنْ أبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
1040
(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦)
* * *
كانت الآيات الكرِيمات من قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه كَمَثَلِ حَبَّةِ أَنْبَتَتْ سَبْع سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ...)، إلى هذه الآيَة الكريمةَ
* * *
كانت الآيات الكرِيمات من قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه كَمَثَلِ حَبَّةِ أَنْبَتَتْ سَبْع سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ...)، إلى هذه الآيَة الكريمةَ
1041
(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) كلها في الصدقات؛ بينت مقاصدها، وبينت آفاتها، وبينت وعاءها، وما يكون الإنفاق منه، ثم بينت مواضع الصدقات، وما ينبغي الإنفاق فيه؛ وفي هذه الآية الكريمة يبين سبحانه قبح الربا، وإن المناسبة بين الإنفاق في سبيل الله والربا، هي المناسبة بين الضدين؛ فإنه إذا تذكر الشخص أحد الضدين سبق إلى ذهنه ضده؛ وإن التضاد ثابت بين الإنفاق في سبيل الجماعة والربا من عدة نواح: من ناحية النفس التي ينبعث منها الربا، والنفس التي تنبعث منها الصدقة، فنفس الربوي نفس محب لذاته يريد أن يحتاز كل شيء، ونفس المنفق في سبيل الله نفس محب للناس ألوف، يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، ومن ناحية الحقيقة، فالربا أكل لأموال الناس بالباطل، والإنفاق بذل لمال النفس في سبيل الغير ورفعة شأن الجماعة، وأكل أموال الناس نقيض لإعطاء الناس من حر ماله. ومن ناحية النتيجة فالربا يقطع التعاون بين الناس، أو يكون التعاون قائمًا على الإثم والعدوان، بينما الإنفاق في
1041
سبيل الله يقيم التعاون بين الجماعة والآحاد على أساس من الفضيلة، والبر والتقوى، ثم الربا يوجد قلق المرابي، والصدقة توجد اطمئنانًا وقرارًا.
فالربا والإنفاق في سبيل الله نقيضان لَا يجتمعان؛ ولذا جعلهما سبحانه وتعالى متقابلين تقابل الأضداد، في قوله تعالى: (وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ ومَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ).
وقد ابتدأ سبحانه في بيان حقيقة الربا وحكمه ببيان أثره في نفس المرابي، ليعلم كل إنسان أن أثره شر في نفس صاحبه، وأن أول من يناله الضرر هو المرابي نفسه، فهو بمقدار ما يكثر من مال يكثر من الهموم؛ ولذا قال سبحانه: (الَّذِينَ يَأْكلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) فهذه الجملة السامية تصوير لحال المرابي، واضطراب نفسه، وقلقه في حياته، فالله سبحانه وتعالى يمثل المرابي في قلقه المستمر وانزعاجه الدائم بحال الشخص الذي أصيب بجنون واضطراب، فهو يتخبط في أموره وفي أحواله، وهو في قلق مستمر.
ومعنى التخبط الضرب في غير استواء؛ ولذا قيل في المثل: خبط عشواء. والمعنى على هذا أن الذين يأكلون الربا، ويتخذونه سبيلًا من سبل الكسب هم في حال لا يقرون فيها ولا يطمئنون، فلا يقومون ولا يتحركون إلا وهمُّ المال قد استولى على نفوسهم، والخوف عليه من الضياع مع الحرص الشديد قد أوجد قلقا نفسيا دائما في عامة أحوالهم، فهم كالمتخبط بسبب ما مسَّه الشيطان.
وإن تشبيه حال المرابين بحال المجنون الذي مسه الشيطان فيه إشارة إلى أن الشيطان قد يمسُّ نفس الإنسان فيصيبه. وقد أنكر ذلك الزمخشري في تفسيره، وخرج الآية الكريمة على غير المعنى الذي يفيد هذا فقال في الكشاف في هذا التعبير الكريم: وتخبط الشيطان من زعمات العرب، فورد على ما كانوا يعتقدون، والمس الجنون، ورجل ممسوس، وهذا أيضا من زعماتهم وأن الجني يمسه فيختلط عقله،
فالربا والإنفاق في سبيل الله نقيضان لَا يجتمعان؛ ولذا جعلهما سبحانه وتعالى متقابلين تقابل الأضداد، في قوله تعالى: (وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ ومَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ).
وقد ابتدأ سبحانه في بيان حقيقة الربا وحكمه ببيان أثره في نفس المرابي، ليعلم كل إنسان أن أثره شر في نفس صاحبه، وأن أول من يناله الضرر هو المرابي نفسه، فهو بمقدار ما يكثر من مال يكثر من الهموم؛ ولذا قال سبحانه: (الَّذِينَ يَأْكلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) فهذه الجملة السامية تصوير لحال المرابي، واضطراب نفسه، وقلقه في حياته، فالله سبحانه وتعالى يمثل المرابي في قلقه المستمر وانزعاجه الدائم بحال الشخص الذي أصيب بجنون واضطراب، فهو يتخبط في أموره وفي أحواله، وهو في قلق مستمر.
ومعنى التخبط الضرب في غير استواء؛ ولذا قيل في المثل: خبط عشواء. والمعنى على هذا أن الذين يأكلون الربا، ويتخذونه سبيلًا من سبل الكسب هم في حال لا يقرون فيها ولا يطمئنون، فلا يقومون ولا يتحركون إلا وهمُّ المال قد استولى على نفوسهم، والخوف عليه من الضياع مع الحرص الشديد قد أوجد قلقا نفسيا دائما في عامة أحوالهم، فهم كالمتخبط بسبب ما مسَّه الشيطان.
وإن تشبيه حال المرابين بحال المجنون الذي مسه الشيطان فيه إشارة إلى أن الشيطان قد يمسُّ نفس الإنسان فيصيبه. وقد أنكر ذلك الزمخشري في تفسيره، وخرج الآية الكريمة على غير المعنى الذي يفيد هذا فقال في الكشاف في هذا التعبير الكريم: وتخبط الشيطان من زعمات العرب، فورد على ما كانوا يعتقدون، والمس الجنون، ورجل ممسوس، وهذا أيضا من زعماتهم وأن الجني يمسه فيختلط عقله،
1042
وكذلك جُنَّ الرجل معناه ضربته الجن، ورأيتهم لهم في الجنِّ قصص وأخبار وعجائب، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات.
وإن هذا الكلام يفيد بفحواه أن العرب يزعمون صلة بين الجنون والجن، وأنه من مسِّ شياطين الجنِّ، وأن القرآن ورد التعبير فيه على مثل ما كانوا يعبرون، وإن لم يكن ذلك حقيقة مقررة في الإسلام عند الزمخشري.
ولكن وردت أحاديث تفيد أن الشيطان يمس الإنسان، ويكون لمسِّه أثر في فكره وعقله، فهل نترك ظواهر هذه الأحاديث مثل قوله - ﷺ - فيما رواه النسائي: " اللهم إني أعوذ بك من التردي والهدم والغرق والحريق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرًا، وأعوذ بك أن أموت لديغًا " (١).
وفى الحق إن البحوث الروحية التي يجريها العلماء الآن في أوربا أثبتت أن الشياطين من الجن تخبط نفس الإنسان أو تمسها فيكون الجنون، وأن تلك العبارات التي كانت تجري على ألسنة العرب حقائق ثابتة الآن، فلا يسوغ لنا أن نؤول القرآن الكريم بغير ظاهره، لإنكار لَا دليل عليه.
وإن ظاهر الآية الكريمة يفيد أن هذا التمثيل هو لبيان حالهم في الدنيا، فهو تصوير لاضطرابهم وقلقهم وتخبطهم في حياتهم، وإن بدوا منظمين فهو تنظيم مادي، ومعه القلق النفسي، والانزعاج المستمر.
هذا هو ظاهر الآية، وبه قال بعض المفسرين، ولكن قال الزمخشري ومعه الكثيرون: إن ذلك التخبط من أكلة الربا هو يوم القيامة، فقال في الكشاف: " المعنى أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين، تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف، وقيل الذين يخرجون من الأجداث يوفضون إلا أكلة الربا، ينهضون
________
(١) رواه النسائي: الاستعاذة - الاستعاذة من التردي والهدم (٥٤٣٦) عن أبي اليسر، وأبو اليسر هو كعب بن عمرو بن عباد الأنصاري توفى ٥٥ هـ. وعنه أيضا رواه أبو داود: الصلاة - الاستعاذة (١٣٢٨)، وأحمد: مسند المكيين (١٤٩٧٥)].
وإن هذا الكلام يفيد بفحواه أن العرب يزعمون صلة بين الجنون والجن، وأنه من مسِّ شياطين الجنِّ، وأن القرآن ورد التعبير فيه على مثل ما كانوا يعبرون، وإن لم يكن ذلك حقيقة مقررة في الإسلام عند الزمخشري.
ولكن وردت أحاديث تفيد أن الشيطان يمس الإنسان، ويكون لمسِّه أثر في فكره وعقله، فهل نترك ظواهر هذه الأحاديث مثل قوله - ﷺ - فيما رواه النسائي: " اللهم إني أعوذ بك من التردي والهدم والغرق والحريق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرًا، وأعوذ بك أن أموت لديغًا " (١).
وفى الحق إن البحوث الروحية التي يجريها العلماء الآن في أوربا أثبتت أن الشياطين من الجن تخبط نفس الإنسان أو تمسها فيكون الجنون، وأن تلك العبارات التي كانت تجري على ألسنة العرب حقائق ثابتة الآن، فلا يسوغ لنا أن نؤول القرآن الكريم بغير ظاهره، لإنكار لَا دليل عليه.
وإن ظاهر الآية الكريمة يفيد أن هذا التمثيل هو لبيان حالهم في الدنيا، فهو تصوير لاضطرابهم وقلقهم وتخبطهم في حياتهم، وإن بدوا منظمين فهو تنظيم مادي، ومعه القلق النفسي، والانزعاج المستمر.
هذا هو ظاهر الآية، وبه قال بعض المفسرين، ولكن قال الزمخشري ومعه الكثيرون: إن ذلك التخبط من أكلة الربا هو يوم القيامة، فقال في الكشاف: " المعنى أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين، تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف، وقيل الذين يخرجون من الأجداث يوفضون إلا أكلة الربا، ينهضون
________
(١) رواه النسائي: الاستعاذة - الاستعاذة من التردي والهدم (٥٤٣٦) عن أبي اليسر، وأبو اليسر هو كعب بن عمرو بن عباد الأنصاري توفى ٥٥ هـ. وعنه أيضا رواه أبو داود: الصلاة - الاستعاذة (١٣٢٨)، وأحمد: مسند المكيين (١٤٩٧٥)].
1043
ويسقطون كالمصروعين؛ لأنهم أكلوا الربا فأرباه الله في بطونهم حتى أثقلهم فلا يقدرون على الإيفاض ". ونرى من هذا أن الكشاف يقصر تلك الحال التي صورها التمثيل على الآخرة. وإني أرى أنه يصور حالهم في الدنيا والآخرة؛ فهم في الدنيا في قلق مستمر، وفي الآخرة تثقلهم سيئاتهم فيتخبطون، وكأنهم المصروعون.
ولا عجب في أن تكون تلك حالهم في الدنيا، فالربويون أكثر الناس تعرضًا للأزمات القلبية، كما يعرَضون الجماعات للأزمات الاقتصادية؛ ولقد قرر الأطباء أن نسبة ضغط الدم، وتصلب الشرايين، والشلل والذبحة الصدرية عند الربويين أضعافها عند غيرهم، وما علمت ربويا مات إلا سبقه الشلل أو أخواته قبل أن يجيء إليه الموت ليستقبل نار جهنم؛ وذلك لأنهم (لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّدي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) والله أصدق القائلين.
والربا معناه واضح يفهمه العامة وهو الزيادة في الذين في نظير الأجل، ولكن الذين يحاولون تطويع الشريعة لتكون أمةً ذليلة للاقتصاد الربوي عقدوا معنى الربا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ولذلك وجب أن نتكلم بإيجاز في معنى هذه الكلمة.
أصل الربا من " ربا " يربو بمعنى " زاد "، أو " نما "، ثم أطلقت كلمة ربا على ذلك النوع من التداين، وهو أن يزيد المدين في الدَّين في نظير الزيادة في الأجل، وقد صار إطلاق كلمة الربا على هذا المعنى حقيقة لغوية، أو هو عرف لغوي، وهذا هو الربا المذكور في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذينِ آمُوا لَا تَأْكلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضاعَفَةً...) وقوله تعالى: (ومَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ...)، وقوله - ﷺ - " ألا إن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب " (١) وهذا الربا يسمى ربا النسيئة؛ ولقد ورد في
________
(١) جزء من حديث طويل رواه مسلم: الحج - حجة النبي - ﷺ - (٢١٣٧)، وأبو داود في المناسك - صفة حجة النبي - ﷺ - (١٦٢٨)، وابن ماجه: المناسك (٣٠٦٥)، وأحمد: أول مسند البصريين (١٩٧٧٤).
ولا عجب في أن تكون تلك حالهم في الدنيا، فالربويون أكثر الناس تعرضًا للأزمات القلبية، كما يعرَضون الجماعات للأزمات الاقتصادية؛ ولقد قرر الأطباء أن نسبة ضغط الدم، وتصلب الشرايين، والشلل والذبحة الصدرية عند الربويين أضعافها عند غيرهم، وما علمت ربويا مات إلا سبقه الشلل أو أخواته قبل أن يجيء إليه الموت ليستقبل نار جهنم؛ وذلك لأنهم (لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّدي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) والله أصدق القائلين.
والربا معناه واضح يفهمه العامة وهو الزيادة في الذين في نظير الأجل، ولكن الذين يحاولون تطويع الشريعة لتكون أمةً ذليلة للاقتصاد الربوي عقدوا معنى الربا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ولذلك وجب أن نتكلم بإيجاز في معنى هذه الكلمة.
أصل الربا من " ربا " يربو بمعنى " زاد "، أو " نما "، ثم أطلقت كلمة ربا على ذلك النوع من التداين، وهو أن يزيد المدين في الدَّين في نظير الزيادة في الأجل، وقد صار إطلاق كلمة الربا على هذا المعنى حقيقة لغوية، أو هو عرف لغوي، وهذا هو الربا المذكور في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذينِ آمُوا لَا تَأْكلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضاعَفَةً...) وقوله تعالى: (ومَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ...)، وقوله - ﷺ - " ألا إن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب " (١) وهذا الربا يسمى ربا النسيئة؛ ولقد ورد في
________
(١) جزء من حديث طويل رواه مسلم: الحج - حجة النبي - ﷺ - (٢١٣٧)، وأبو داود في المناسك - صفة حجة النبي - ﷺ - (١٦٢٨)، وابن ماجه: المناسك (٣٠٦٥)، وأحمد: أول مسند البصريين (١٩٧٧٤).
1044
الأثر (إنما الربا النسيئة) (١) ولم يشك أحد من الفقهاء في أن هذا محرم، فتحريمه ثابت بالنص القرآني، والحديث النبوي، والإجماع الفقهي؛ ولقد سئل الإمام أحمد عن الربا المحرم قطعًا، فقال رضي الله عنه: أن تزيد في الدين في نظير الزيادة في الأجل.
وهناك نوع سمي الربا في الشرع الإسلامي، لَا في الحقيقة اللغوية، وهو ربا العقود، الثابت بقوله - ﷺ -: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، والآخذ والمعطي فيه سواء " (٢).
وهذا النوع من الربا لم يكن معروفًا في الجاهلية، بل هو حقيقة إسلامية وردت في مقام النهي؛ ولذا يقسم الجصاص الربا قسمين: ربا غير اصطلاحي، وهو ربا الجاهلية عرفته اللغة، ولا مجال للريب فيه؛ وربا اصطلاحي، وهو الربا الذي جاء الإسلام بتحريمه.
ومع وضوح معنى الربا الجاهلي ذلك الوضوح، وهو الذي جاء بتحريمه القرآن الكريم، وجدنا ناسًا يحاولون أن يشككوا الناس في حقيقته، ليحلوا بذلك التشكيك ربا الصارف، وقد سلكوا للتشكيك مسلكين:
أولهما: أن قوله تعالى: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً...)، فهموا منه أو بالأحرى حاولوا أن يفهموا الناس أن الربا المحرم هو ما يكون بمضاعفة الدين، وما دون ذلك حلال، وأهملوا قوله تعالى: (وَإِن تُبْتمْ فَلَكمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)، مع أن قوله تعالى:
(أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً مهو حال من (الربا) وهو الزيادة، أي لَا تأكلوا تلك الزيادة التي
________
(١) رواه البخاري: البيوع - بيع الدينار بالدينار نساء (٢٠٣٣)، ومسلم واللفظ له: المساقاة - بيع الطعام مثلا بمثل (٢٩٩١)].
(٢) رواه مسلم: المساقاة - الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا (٢٩٧١)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. كما رواه أحمد والنسائي بمثل هذا.
وهناك نوع سمي الربا في الشرع الإسلامي، لَا في الحقيقة اللغوية، وهو ربا العقود، الثابت بقوله - ﷺ -: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، والآخذ والمعطي فيه سواء " (٢).
وهذا النوع من الربا لم يكن معروفًا في الجاهلية، بل هو حقيقة إسلامية وردت في مقام النهي؛ ولذا يقسم الجصاص الربا قسمين: ربا غير اصطلاحي، وهو ربا الجاهلية عرفته اللغة، ولا مجال للريب فيه؛ وربا اصطلاحي، وهو الربا الذي جاء الإسلام بتحريمه.
ومع وضوح معنى الربا الجاهلي ذلك الوضوح، وهو الذي جاء بتحريمه القرآن الكريم، وجدنا ناسًا يحاولون أن يشككوا الناس في حقيقته، ليحلوا بذلك التشكيك ربا الصارف، وقد سلكوا للتشكيك مسلكين:
أولهما: أن قوله تعالى: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً...)، فهموا منه أو بالأحرى حاولوا أن يفهموا الناس أن الربا المحرم هو ما يكون بمضاعفة الدين، وما دون ذلك حلال، وأهملوا قوله تعالى: (وَإِن تُبْتمْ فَلَكمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)، مع أن قوله تعالى:
(أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً مهو حال من (الربا) وهو الزيادة، أي لَا تأكلوا تلك الزيادة التي
________
(١) رواه البخاري: البيوع - بيع الدينار بالدينار نساء (٢٠٣٣)، ومسلم واللفظ له: المساقاة - بيع الطعام مثلا بمثل (٢٩٩١)].
(٢) رواه مسلم: المساقاة - الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا (٢٩٧١)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. كما رواه أحمد والنسائي بمثل هذا.
1045
تتضاعف عاما بعد عام، فالمضاعفة في الزيادة لَا في أصل الدَّين، وفوق ذلك فالوصف جار مجرى الواقع من تكرار الزيادة حتى تصل إلى قدر الدَّين أو تزيد. ثم إنه من المقرر فقهًا أن النهي إذا ورد عاما ثم جاء نهي في بعض أفراد هذا العام لا يكون ثمة تعارض حتى يخصص العام، بل أقصاه أن بعض أفراد العام ورد فيه النهي مرتين، فله فضل تأكيد، وكذلك الأمر، كما في قوله تعالى: (حَافظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى...).
المسلك الثاني من مسالك التشكيك أنهم قالوا: إن الربا المحرم هو ما قصد فيه المقترض أن يستدين للاستهلاك لَا للاستغلال؛ فمن يقترض لشراء حاجات لازمة لنفسه أو أهله لَا يصح أن يؤخذ منه زيادة نظير الأجل، ومن اقترض ليوسع تجارته، أو ليصلح زراعته، فهو مستغل بما اقترض، فالزيادة لَا تكون ربا، بل هي مشاركة في الربح.
ذلك قولهم بأفواههم، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل. وإنه ينقض ذلك الزعم أمران:
أحدهما: عموم النص القرآني، فهو عام في كل قرض قد جر زيادة فوق رأس المال، بدليل (وَإِن تبْتمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ...). وثانيهما: أن الذين كانوا يقرضون تجارًا، وكان ربا الجاهلية في مكة التي اشتهرت بالتجارة، وكان تجارها ينقلون بضائع الروم إلى الفرس والفرس إلى الروم، وكانت أمن والشام فيهما الجلب والعرض، كما قال تعالى: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (٢)، فشيوع الربا في ذلك الجو التجاري يدل على أنه كان ثمة ربا استغلال، وأن ربا الاستهلاك والاستغلال كلاهما حرام.
ولا يصح أن يسمى ربا الاستغلال مشاركة في الربح؛ لأن أصول المشاركة أن يكون ثمة شركة في المغنم والمغرم معا، لَا أن تكون الشركة في المغنم دون المغرم.
المسلك الثاني من مسالك التشكيك أنهم قالوا: إن الربا المحرم هو ما قصد فيه المقترض أن يستدين للاستهلاك لَا للاستغلال؛ فمن يقترض لشراء حاجات لازمة لنفسه أو أهله لَا يصح أن يؤخذ منه زيادة نظير الأجل، ومن اقترض ليوسع تجارته، أو ليصلح زراعته، فهو مستغل بما اقترض، فالزيادة لَا تكون ربا، بل هي مشاركة في الربح.
ذلك قولهم بأفواههم، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل. وإنه ينقض ذلك الزعم أمران:
أحدهما: عموم النص القرآني، فهو عام في كل قرض قد جر زيادة فوق رأس المال، بدليل (وَإِن تبْتمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ...). وثانيهما: أن الذين كانوا يقرضون تجارًا، وكان ربا الجاهلية في مكة التي اشتهرت بالتجارة، وكان تجارها ينقلون بضائع الروم إلى الفرس والفرس إلى الروم، وكانت أمن والشام فيهما الجلب والعرض، كما قال تعالى: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (٢)، فشيوع الربا في ذلك الجو التجاري يدل على أنه كان ثمة ربا استغلال، وأن ربا الاستهلاك والاستغلال كلاهما حرام.
ولا يصح أن يسمى ربا الاستغلال مشاركة في الربح؛ لأن أصول المشاركة أن يكون ثمة شركة في المغنم والمغرم معا، لَا أن تكون الشركة في المغنم دون المغرم.
1046
هذه حقيقة الربا، وهي واضحة إلا عند الذين يتقبلون تشكيك المشككين وقد كان أهل الجاهلية يسوغون الربا مع إحساسهم الفطري بأنه ليس أمرًا حسنا، وكانوا يسوغونه بعقد المشابهة بينه وبين البيع، ولذا قال الله تعالى فيهم وفي الرد عليهم: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) لقد عقد أولئك المشركون مقايسة بين البيع والربا، فقالوا: إن البيع يماثل الربا، فكما أن كسب البيع حلال، فكسب الربا حلال أيضا، ولا فرق بينهما في نظرهم الكليل، كالذين قالوا مقالتهم في ظل الإسلام، لَا في حكم الجاهلية. ولكن ما الوصف الجامع في نظرهم بين البيع والربا؛ لعلهم نظروا إلى أن البيع قد يكون فيه بيع ما يساوي عشرة بخمسة عشر، فكان كسبه من تلك الزيادة، وهي حلال، فكذلك إعطاء مائة وأخذ عشرين ومائة حلال أيضا؛ وإلى أن من يقترض مالا ليتجر فيه يكسب منه وكسبه حلال بالبيع والشراء، فكذلك يكون الربا بالمشاركة في هذا الكسب؛ وإلى أن البيع بثمن مؤجل أكثر من الثمن العاجل حلال، فكذلك تأجيل الدَّين في نظير زيادة يكون حلالاً، وتكون الزيادة كسبًا طيبًا.
ذلك قولهم، وقد ردَّ الله سبحانه وتعالى قولهم بقوله: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) فهذه الجملة السامية رد من الله سبحانه وتعالى لقولهم، وعلى ذلك جمهور المفسرين، ويؤيده قوله تعالى: (فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ من رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ).
ومرمى الرد الحكيم، أن طالب الحق من عند الله يجب عليه أن يتلقى حكم الله من غير محاولة تشكيك ولا اعتراض، والله قد حرم الربا وأحل البيع، فحق على كل امرئ يؤمن بالله أن يذعن لحكم الله، من غير تململ ولا اعتراض؛ وإنه نظام الله الذي ارتضاه، ولم يرتض سبحانه سواه، وإن هذا الكلام جدير بأن يخاطب الذين يحاولون التخلص من النهي عن الربا بالتفرقة بين الاستدانة للاستهلاك، والاستدانة للاستغلال.
وإن التفرقة بين البيع والربا واضحة، فإن البيع موضوعه عين مغلة أو منتفع بها مع بقاء عينها، أو يجري عليها الغلاء والرخص، فكان من المعقول أن يجري
ذلك قولهم، وقد ردَّ الله سبحانه وتعالى قولهم بقوله: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) فهذه الجملة السامية رد من الله سبحانه وتعالى لقولهم، وعلى ذلك جمهور المفسرين، ويؤيده قوله تعالى: (فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ من رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ).
ومرمى الرد الحكيم، أن طالب الحق من عند الله يجب عليه أن يتلقى حكم الله من غير محاولة تشكيك ولا اعتراض، والله قد حرم الربا وأحل البيع، فحق على كل امرئ يؤمن بالله أن يذعن لحكم الله، من غير تململ ولا اعتراض؛ وإنه نظام الله الذي ارتضاه، ولم يرتض سبحانه سواه، وإن هذا الكلام جدير بأن يخاطب الذين يحاولون التخلص من النهي عن الربا بالتفرقة بين الاستدانة للاستهلاك، والاستدانة للاستغلال.
وإن التفرقة بين البيع والربا واضحة، فإن البيع موضوعه عين مغلة أو منتفع بها مع بقاء عينها، أو يجري عليها الغلاء والرخص، فكان من المعقول أن يجري
1047
فيها الكسب أما الدَّين فموضوعه نقد لَا يغل بنفسه، ولا ينتفع من عينه، ولا يجري عليه الغلاء والرخص؛ لأنه ميزان لقيم الأشياء، فلا تتغير قيمته في الأمة، وإن اختلفت قوة الشراء به، فالتفرقة بين البيع والربا ثابتة، ولكن الله سبحانه وتعالى يعلمنا الأدب في تلقى أحكامه، فلا يصح أن نقايس أمام أمر الله ونهيه، لتناقض عموم أمر الله ونهيه، وكل تفكير فيه معارضة لأوامر الله أو لنهيه فهو رد على صاحبه.
ولقد كان مقتضى القياس الظاهري أن يقاس الربا على البيع فيقال: إنما الربا مثل البيع، لَا أن يقاس البيع على الربا فيقال: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْل الرِّبَا) ولكن جاء سياق القول على ذلك النحو؛ للإشارة إلى أن أولئك يؤمنون بالربا أشد الإيمان، حتى إنهم ليجعلونه أصلًا في التشبيه، فيشبهون البيع به، وكأن حلَّه أصل، والبيع فرع. ولقد ذكر ابن كثير أنهم بقولهم هذا إنما يعترضون على الله في تحريمه، فاقتضى ذلك أن يكون أصلًا، وكأن مرادهم أن يقولوا: إن البيع يشبه الربا تماما، فما دام الإسلام قد حكم بتحريم الربا، فكان ينبغي أن يحكم بتحريم البيع؛ ولذلك رد سبحانه وتعالى ذلك عليهم بقوله: (وَأَحَلَّ اللَّهَ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) وما كان لهم أن يعترضوا على أحكام ربهم، وهو العليم بكل أمورهم، الخبير بالصالح لهم، وينبغي أن يتلقوا أوامره ونواهيه بالإذعان الكامل؛ ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ذلك: (فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَة مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ).
الموعظة: اسم لما يأمر الله سبحانه وتعالى زاجرًا للناس إن خالفوا، مبينًا لهم أن المصلحة في اتباعه، ضاربًا لهم الأمثال على أن فيه مصلحتهم في معادهم ومعاشهم؛ والمعنى: من جاءه الأمر من الله سبحانه وتعالى أو النهي عنه فعليه اتباعه والتفكير فيه والاتعاظ به، بالبحث عن حكمته، لَا أن يعترض عليه، ويجعل الشريعة تبعًا لهواه، ويخالف قول الرسول - ﷺ -: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به " (١) بأن يخضع الشريعة لأهواء الناس. وإن انتهى من جاءته موعظة
________
(١) سبق تخريجه. وقد صححه النووي في آخر الأربعين النووية من رواية أبي هريرة عن النبي - ﷺ -.
ولقد كان مقتضى القياس الظاهري أن يقاس الربا على البيع فيقال: إنما الربا مثل البيع، لَا أن يقاس البيع على الربا فيقال: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْل الرِّبَا) ولكن جاء سياق القول على ذلك النحو؛ للإشارة إلى أن أولئك يؤمنون بالربا أشد الإيمان، حتى إنهم ليجعلونه أصلًا في التشبيه، فيشبهون البيع به، وكأن حلَّه أصل، والبيع فرع. ولقد ذكر ابن كثير أنهم بقولهم هذا إنما يعترضون على الله في تحريمه، فاقتضى ذلك أن يكون أصلًا، وكأن مرادهم أن يقولوا: إن البيع يشبه الربا تماما، فما دام الإسلام قد حكم بتحريم الربا، فكان ينبغي أن يحكم بتحريم البيع؛ ولذلك رد سبحانه وتعالى ذلك عليهم بقوله: (وَأَحَلَّ اللَّهَ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) وما كان لهم أن يعترضوا على أحكام ربهم، وهو العليم بكل أمورهم، الخبير بالصالح لهم، وينبغي أن يتلقوا أوامره ونواهيه بالإذعان الكامل؛ ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ذلك: (فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَة مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ).
الموعظة: اسم لما يأمر الله سبحانه وتعالى زاجرًا للناس إن خالفوا، مبينًا لهم أن المصلحة في اتباعه، ضاربًا لهم الأمثال على أن فيه مصلحتهم في معادهم ومعاشهم؛ والمعنى: من جاءه الأمر من الله سبحانه وتعالى أو النهي عنه فعليه اتباعه والتفكير فيه والاتعاظ به، بالبحث عن حكمته، لَا أن يعترض عليه، ويجعل الشريعة تبعًا لهواه، ويخالف قول الرسول - ﷺ -: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به " (١) بأن يخضع الشريعة لأهواء الناس. وإن انتهى من جاءته موعظة
________
(١) سبق تخريجه. وقد صححه النووي في آخر الأربعين النووية من رواية أبي هريرة عن النبي - ﷺ -.
1048
الله فله ما سلف من أمره، أي لَا يعاقبه سبحانه على ما سلف من أمره قبل وجود الأمر والنهي فالإسلام يَجُبُّ ما قبله، وقانونه لَا يطبق على الماضي قبله، فما أكله المرابي من قبل تحريم الربا فلا عقاب عليه وهو ملك له، وليس له أي حق ربوي بعد التحريم، وليس كذلك من أكل الربا بعد التحريم فإنه لَا تَجُبُّه توبة حتى يعطي المال لصاحبه، لأنه أكل لمال الناس بالباطل، وقد أكل بعد النص على التحريم، فإن لم يعرف له صاحب فإن عليه أن يتصدق به، ولعل الله سبحانه وتعالى يقبل توبته.
ولقد قال الله سبحانه: (وَأَمْرهُ إِلَى اللَّهِ) أي أمر المرابي الذي رابى قبل التحريم إلى ربه، وهو العفو الغفور الرحيم؛ وفي هذا إشارة إلى أن ما يحرمه الشارع الإسلامي لَا يكون مباحًا قبل التحريم بل يكون في مرتبة العفو من الله سبحانه، وأمره إلمِه تعالت حكمته.
هذا شأن من انتهى، أما من عاد إلى الحرم بعد تحريمه، فقد بينه سبحانه بقوله: (وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
أي ومن عاد إلى حكم الجاهلية بعد إذ بين سبحانه حكم الإسلام فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. وفي هذا التعبير الكريم إشارات بيانية إلى عدة معان، منها:
أولا: تأكيد العقاب النازل بهم بالتعبير بـ " أولئك " التي تدل على البعيد، فإنهم بعيدون عن رحمة الله تعالى، والتعبير بالجملة الاسمية، وفيه فضل توكيد؛ وتأكيد القول بـ " هم "؛ والتعبير بـ " أصحاب "، فإنه يدل على ملازمة العقاب. وثانيا: أنه سبحانه قال (فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) ولم يقل فعقابهم، للإشارة إلى الملازمة بين الجريمة والعقاب، وإلى أن العقاب ثمرتها.
وثالثًا: الإشارة إلى أن المعاند لإرادة الله سبحانه وتعالى، والمستحل لما حرم الله تعالى إذ يحكم بالحل وقد حكم سبحانه بالتحريم كافر؛ ولذا حكم الله سبحانه بأنه خالد في النار، ولا يخلد في النار مؤمن.
ولقد قال الله سبحانه: (وَأَمْرهُ إِلَى اللَّهِ) أي أمر المرابي الذي رابى قبل التحريم إلى ربه، وهو العفو الغفور الرحيم؛ وفي هذا إشارة إلى أن ما يحرمه الشارع الإسلامي لَا يكون مباحًا قبل التحريم بل يكون في مرتبة العفو من الله سبحانه، وأمره إلمِه تعالت حكمته.
هذا شأن من انتهى، أما من عاد إلى الحرم بعد تحريمه، فقد بينه سبحانه بقوله: (وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
أي ومن عاد إلى حكم الجاهلية بعد إذ بين سبحانه حكم الإسلام فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. وفي هذا التعبير الكريم إشارات بيانية إلى عدة معان، منها:
أولا: تأكيد العقاب النازل بهم بالتعبير بـ " أولئك " التي تدل على البعيد، فإنهم بعيدون عن رحمة الله تعالى، والتعبير بالجملة الاسمية، وفيه فضل توكيد؛ وتأكيد القول بـ " هم "؛ والتعبير بـ " أصحاب "، فإنه يدل على ملازمة العقاب. وثانيا: أنه سبحانه قال (فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) ولم يقل فعقابهم، للإشارة إلى الملازمة بين الجريمة والعقاب، وإلى أن العقاب ثمرتها.
وثالثًا: الإشارة إلى أن المعاند لإرادة الله سبحانه وتعالى، والمستحل لما حرم الله تعالى إذ يحكم بالحل وقد حكم سبحانه بالتحريم كافر؛ ولذا حكم الله سبحانه بأنه خالد في النار، ولا يخلد في النار مؤمن.
1049
(يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ... (٢٧٦) المحق النقص والذهاب، ومنه محاق القمر: أي انتقاصه في الرؤية شيئًا فشيئًا حتى لَا يُرى، فكأنه زال وذهب؛ والله سبحانه وتعالى يمحق الربا في الدنيا والآخرة؛ ففي الآخرة عقاب أليم، وعذاب مقيم، وفي الدنيا ينقص ماله، كما قال - ﷺ -: [" الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ، فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ تَصِيرُ إِلَى قُلٍّ "] (١) أو تمحى من المال البركة، بحيث لَا يمكن الانتفاع به، إما لهمٍّ دائم وقلق مستمر، وإما لمرض يصيبه فيكون المال الكثير مع عدم القدرة على الانتفاع به، كمن عنده طعام شهي ولكنه لَا يستطيع أن يتناوله؛ لأنه يكون وبالاً عليه؛ وإما لمقت الناس له، فيفقد تعاونهم، وفي ذلك شر عليه، والربوي لَا يمكن أن يخلو في الدنيا من واحد من هذه الأمور، فكان الربا ممحوقًا دائما.
هذه نتيجة الربا، أما الصدقات فإن الله يربيها وينميها، إما بالكسب الوفير، وإما بفضل التعاون وبالهدوء والاطمئنان، ثم بالنعيم المقيم يوم القيامة؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: " إن صدقة أحدكم لتقع في يد الله فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى يجيء يوم القيامة، وإن اللقمة لعلى قدر أحُد " (٢).
والصدقة ليس المراد منها مجرد العطاء، بل تشمل كل نفع عام أو خاص لا يقصد به المؤمن المنفعة الشخصية التي تنبع من الهوى، وعلى ذلك يكون القرض الحسن الذي يقصد به التعاون على الاستغلال من الصدقة أيضا، وهو من خير الصدقات أيضا، وهو من خير الصدقات التي يربيها الله في الدنيا والآخرة.
(وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) هذا تهديد لمن استحلوا الربا، أو ارتكبوه، وقد ذُكروا في ذلك الكلام العام للإشارة إلى أن المرابين يسترون الحق، ويعوقون عن الخير؛ إذ معنى " كفَّار " من كفر بمعنى سترَ وأخفى وجحد، فهي صيغة مبالغة لكافر؛
________
(١) رواه بهذا اللفظ أحمد: مسند المكثرين - مسند عبد الله بن مسعود (٣٨٢٢). ورواه ابن ماجه: التجارات - التغليظ في الربا (٢٢٧٠) عن عبد الله بن مسعود مرفوعا إلى النبي - ﷺ -.
(٢) رواه بنحو من هذا البخاري: الزكاة - الصدقة من كسب طيب (١٣٢١)، ومسلم: الزكاة - قبول الزكاة (١٦٨٤) عن أبي هريرة وقد سبق.
هذه نتيجة الربا، أما الصدقات فإن الله يربيها وينميها، إما بالكسب الوفير، وإما بفضل التعاون وبالهدوء والاطمئنان، ثم بالنعيم المقيم يوم القيامة؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: " إن صدقة أحدكم لتقع في يد الله فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى يجيء يوم القيامة، وإن اللقمة لعلى قدر أحُد " (٢).
والصدقة ليس المراد منها مجرد العطاء، بل تشمل كل نفع عام أو خاص لا يقصد به المؤمن المنفعة الشخصية التي تنبع من الهوى، وعلى ذلك يكون القرض الحسن الذي يقصد به التعاون على الاستغلال من الصدقة أيضا، وهو من خير الصدقات أيضا، وهو من خير الصدقات التي يربيها الله في الدنيا والآخرة.
(وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) هذا تهديد لمن استحلوا الربا، أو ارتكبوه، وقد ذُكروا في ذلك الكلام العام للإشارة إلى أن المرابين يسترون الحق، ويعوقون عن الخير؛ إذ معنى " كفَّار " من كفر بمعنى سترَ وأخفى وجحد، فهي صيغة مبالغة لكافر؛
________
(١) رواه بهذا اللفظ أحمد: مسند المكثرين - مسند عبد الله بن مسعود (٣٨٢٢). ورواه ابن ماجه: التجارات - التغليظ في الربا (٢٢٧٠) عن عبد الله بن مسعود مرفوعا إلى النبي - ﷺ -.
(٢) رواه بنحو من هذا البخاري: الزكاة - الصدقة من كسب طيب (١٣٢١)، ومسلم: الزكاة - قبول الزكاة (١٦٨٤) عن أبي هريرة وقد سبق.
1050
ومعنى أثيم معوق مبطئ عن الخير (١)، فالذين يرابون ويأكلون أموال الناس بالباطل يدخلون في عموم قوله تعالى: (كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ) وقد جمع سبحانه وتعالى بين الوصفين للإشارة إلى أن إيمان المرابين ناقص إن لم يستحلوه، وهم كفار إن استحلوه؛ وهم في الحالين آثمون معاقبون، ولكل حال مقدارها من الإثم، فليس إثم من جحد بآيات الله كإثم من نقص إيمانه بترك العمل بها، فذلك كافر، وهذا فاسق، وفرق ما بين الأمرين عظيم. ويصح أن نقول: إن الكافر هو الكفَّار بنعمة الله والتمادي في كفرانها، بأن يتخذ ما أنعم الله به عليه من نعم كالمال، في الإيذاء لا في النفع، فيأكل أموال الناس بالباطل بسبب ما أعطاه الله من مال، وإن ذلك توجيه حسن، وهو في هذا المقام مناسب.
ونفي حب الله تعالى بحرمان الآثمين من رضاه؛ إذ إن محبة الله تعالى شأن من شئونه، ومن مظهره الرضا، ومن حرم من رضا الله فقد حرم خير الدنيا والآخرة، وإلى الله عاقبة الأمور.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٨١)
* * *
________
(١) وأثيم على وزن فعيل لآثم؛ مبالغة في الإثم.
ونفي حب الله تعالى بحرمان الآثمين من رضاه؛ إذ إن محبة الله تعالى شأن من شئونه، ومن مظهره الرضا، ومن حرم من رضا الله فقد حرم خير الدنيا والآخرة، وإلى الله عاقبة الأمور.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٨١)
* * *
________
(١) وأثيم على وزن فعيل لآثم؛ مبالغة في الإثم.
1051
بيَّن الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة الجرم العظيم الذي يقع فيه آكل الربا، والأثر الذي ينال نفوسهم وعقولهم من مغبة إثمهم، والعذاب الأليم الذي يرتقبهم يوم القيامة، ثم بيَّن سبحانه بعد ذلك جزاء الصالحين الذين لَا يأكلون الربا، والذين يستبدلون بأكل أموال الناس بالباطل الزكاة يؤدونها، والفرائض يقيمونها، وحق الله والناس في أنفسهم وأموالهم يأتون به على الوجه الأكمل، وبعد بيان تلك المرتبة العالية لأهل الإيمان، ذكر الطريق لتوبة أكلة الربا، والمسلك الذي يسلكونه ليرتفعوا إلى مرتبة الطاهرين، وعاقبة السوء إن استمروا في غيِّهم يعمهون. ابتدأ سبحانه ببيان الأطهار في مالهم وأنفسهم فقال سبحانه:
1052
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ) ذكر سبحانه ذلك الصنف الفاضل الذي جعله الله تعالى من صفوة عباده، فوصفه بأربع صفات، هي: الإيمان.. والعمل الصالح.. وإقامة الصلاة.. وإيتاء الزكاة. أما الوصف الأول فهو الإيمان، فهو نور القلب به يشرف وبه يهتدي، وإذا قوي الإيمان تطهرت النفس من كل أدران الهوى ومقاصد السوء. وذكر القرآن الإيمان في أول أوصاف الأبرار لثلاثة أمور:
أولها: إن الإيمان بالله ورسوله إذا استغرق النفس، واستولى على القلب وُجد الإخلاص للناس وطلب الحق، فاتجه الإنسان بكل جوارحه إليه؛ والإخلاص هو النور الذي يهتدي به الإنسان ويحميه من كل حيرة.
وثانيها: إن الإيمان الذي هو الوصف الثابت للمؤمنين هو والربا نقيضان لا يجتمعان؛ فما من شخص يأكل الربا أو يبيحه إلا كان منشأ ذلك نقصًا في إيمانه، واضطرابا في يقينه، إذ يكون إيمانه بالمال أكثر من إيمانه بالله.
وثالثها: إن الإيمان يتضمن معنى الإذعان للحق، ومن ادعى الإيمان ولم يذعن للحق، فقد جافى حقيقته.
من أجل هذه المعاني صُدِّرت أوصاف الذين لَا يأكلون الربا بوصف الإيمان.
أولها: إن الإيمان بالله ورسوله إذا استغرق النفس، واستولى على القلب وُجد الإخلاص للناس وطلب الحق، فاتجه الإنسان بكل جوارحه إليه؛ والإخلاص هو النور الذي يهتدي به الإنسان ويحميه من كل حيرة.
وثانيها: إن الإيمان الذي هو الوصف الثابت للمؤمنين هو والربا نقيضان لا يجتمعان؛ فما من شخص يأكل الربا أو يبيحه إلا كان منشأ ذلك نقصًا في إيمانه، واضطرابا في يقينه، إذ يكون إيمانه بالمال أكثر من إيمانه بالله.
وثالثها: إن الإيمان يتضمن معنى الإذعان للحق، ومن ادعى الإيمان ولم يذعن للحق، فقد جافى حقيقته.
من أجل هذه المعاني صُدِّرت أوصاف الذين لَا يأكلون الربا بوصف الإيمان.
1052
والوصف الثاني من أوصاف الذين لَا يأكلون الربا: هو العمل الصالح، والعمل الصالح هو كل عمل فيه خير للمجتمع الذي يعيش فيه المؤمن، يبتدئ فيه بالأسرة: الأقرب فالأقرب، ثم بالجيران: الأدنى فالأدنى، ثم بالعشيرة كلها، ثم بقومه، ثم بأمته.
وإن اقتران الإيمان دائما بالعمل الصالح يدل على أن الإسلام يدعو إلى العمل الإيجابي للخير، فليس الإيمان في الإسلام مجرد نزاهة روحية، وتعبد في الصوامع، إنما الإيمان مظهره عمل إيجابي فيه نفع للناس؛ فالإسلام يدعو إلى العمل الإيجابي، لَا مجرد التقديس السلبي.
وإذا كان العمل الصالح هو النفع العام والنفع الخاص، فإنه يفترق عن الصلاة والزكاة، من حيث إن هذه هي الفرائض الوقتية المنظمة للعلاقات بين العبد وربه، وبين العبد والناس، أما العمل الصالح فهو الحال الدائمة للمؤمن التي لا تتقيد بزمان ولا مكان، ولا حال، فكما أن الإيمان حال دائمة، فالعمل الصالح أي النفع الدائم المستمر للإنسان هو الذي ينبغي أن يكون حالا دائمة مستمرة للمؤمن.
وذكر هذا الوصف في مقابل أكل الربا فيه إشارة إلى التقابل بين الشر والخير، والإثم والبر، فإن الإثم إيذاء للناس ومن ذلك الربا، وأخلاق المؤمن العمل النافع الدائم للناس، وهو الخير وهو البر.
والوصف الثالث: إقامة الصلاة، أي الإتيان بها مقومة غير معوجة بحيث يستذكر فيها المصلى ربه، ولا يسهو فيها عن ذكره سبحانه، وما ذكرت الصلاة في مقام المدح للمصلين إلا ذكرت بالإقامة، لأن إقامتها هي التي تهذب النفس، وتبعدها عن الفواحش والمنكرات، كما قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ...).
وإنَّ ذكر الصلاة بجوار العمل الصالح فيه إشارة إلى أن الإسلام يلتقى فيه وصفان جليلان: التهذيب الروحي، والنزاهة النفسية التي تكون بالصلاة والمداومة
وإن اقتران الإيمان دائما بالعمل الصالح يدل على أن الإسلام يدعو إلى العمل الإيجابي للخير، فليس الإيمان في الإسلام مجرد نزاهة روحية، وتعبد في الصوامع، إنما الإيمان مظهره عمل إيجابي فيه نفع للناس؛ فالإسلام يدعو إلى العمل الإيجابي، لَا مجرد التقديس السلبي.
وإذا كان العمل الصالح هو النفع العام والنفع الخاص، فإنه يفترق عن الصلاة والزكاة، من حيث إن هذه هي الفرائض الوقتية المنظمة للعلاقات بين العبد وربه، وبين العبد والناس، أما العمل الصالح فهو الحال الدائمة للمؤمن التي لا تتقيد بزمان ولا مكان، ولا حال، فكما أن الإيمان حال دائمة، فالعمل الصالح أي النفع الدائم المستمر للإنسان هو الذي ينبغي أن يكون حالا دائمة مستمرة للمؤمن.
وذكر هذا الوصف في مقابل أكل الربا فيه إشارة إلى التقابل بين الشر والخير، والإثم والبر، فإن الإثم إيذاء للناس ومن ذلك الربا، وأخلاق المؤمن العمل النافع الدائم للناس، وهو الخير وهو البر.
والوصف الثالث: إقامة الصلاة، أي الإتيان بها مقومة غير معوجة بحيث يستذكر فيها المصلى ربه، ولا يسهو فيها عن ذكره سبحانه، وما ذكرت الصلاة في مقام المدح للمصلين إلا ذكرت بالإقامة، لأن إقامتها هي التي تهذب النفس، وتبعدها عن الفواحش والمنكرات، كما قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ...).
وإنَّ ذكر الصلاة بجوار العمل الصالح فيه إشارة إلى أن الإسلام يلتقى فيه وصفان جليلان: التهذيب الروحي، والنزاهة النفسية التي تكون بالصلاة والمداومة
1053
على إقامتها، والعمل النافع المستمر وجلب الخير للناس، ففيه نزاهة الروح والنفع العام.
والوصف الرابع من أوصاف المؤمنين إيتاء الزكاة، والزكاة هي الفريضة الاجتماعية التي فرضها الله سبحانه وتعالى، وبها يأخذ ولي الأمر من مال الغني ما يسد به حاجة الفقير، فهي قدر معلوم قدره الشارع الحكيم، بحيث يأخذه من مال الغني قسرًا أو اختيارًا، وذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الجملة أولئك الذين يؤتون الزكاة طواعية واختيارًا، فهم يعطونها محتسبين النية معتقدين أن الزكاة مغنم لهم ومطهرة لأموالهم، وليست مغرمًا لهم، ولا منقصة لأموالهم. وقد أشار النبي - ﷺ - إلى أن المسلمين بخير ما حسبوا الزكاة مغنمًا، ولم يحسبوها مغرمًا، ولقد قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَموَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِيهِم بِهَا...).
وذكرت الزكاة في هذا المقام؛ لأنها مقابلة للربا كما بينا في الآية السابقة، وقد تلونا فيما سبق قول الله تعالى: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩).
(لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) هذا جزاء الذين يؤمنون، ويعملون العمل الصالح في سبيل النفع، ويطهرون نفوسهم بالصلاة، ويطهرون أموالهم بالزكاة، وقد ذكر سبحانه وتعالى لهم أنواعا ثلاثة من الجزاء. أولها: الأجر، وهو عوض ما قاموا به من خير، واعتبر إنعامه عليهم بأضعاف ما صنعوا أجرًا وعوضًا وهو المنعم المتفضل، حثا على فعل الخير، وتعليم الناس الشكر، ومقابلة الخير بالخير.
والثاني من أنواع الجزاء: الأمن وعدم الخوف، فلا مزعج يزعج فاعل الخير، إذ إنه بالعمل للنفع العام، وتطهير النفس، وإعطاء الفقير حقه المعلوم قد وقى نفسه ووقى مجتمعه من ذرائع الفتن ونوازع الشر، هذا في الدنيا؛ أما في الآخرة، فالأمن من عذاب الله تعالى.
والوصف الرابع من أوصاف المؤمنين إيتاء الزكاة، والزكاة هي الفريضة الاجتماعية التي فرضها الله سبحانه وتعالى، وبها يأخذ ولي الأمر من مال الغني ما يسد به حاجة الفقير، فهي قدر معلوم قدره الشارع الحكيم، بحيث يأخذه من مال الغني قسرًا أو اختيارًا، وذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الجملة أولئك الذين يؤتون الزكاة طواعية واختيارًا، فهم يعطونها محتسبين النية معتقدين أن الزكاة مغنم لهم ومطهرة لأموالهم، وليست مغرمًا لهم، ولا منقصة لأموالهم. وقد أشار النبي - ﷺ - إلى أن المسلمين بخير ما حسبوا الزكاة مغنمًا، ولم يحسبوها مغرمًا، ولقد قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَموَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِيهِم بِهَا...).
وذكرت الزكاة في هذا المقام؛ لأنها مقابلة للربا كما بينا في الآية السابقة، وقد تلونا فيما سبق قول الله تعالى: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩).
(لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) هذا جزاء الذين يؤمنون، ويعملون العمل الصالح في سبيل النفع، ويطهرون نفوسهم بالصلاة، ويطهرون أموالهم بالزكاة، وقد ذكر سبحانه وتعالى لهم أنواعا ثلاثة من الجزاء. أولها: الأجر، وهو عوض ما قاموا به من خير، واعتبر إنعامه عليهم بأضعاف ما صنعوا أجرًا وعوضًا وهو المنعم المتفضل، حثا على فعل الخير، وتعليم الناس الشكر، ومقابلة الخير بالخير.
والثاني من أنواع الجزاء: الأمن وعدم الخوف، فلا مزعج يزعج فاعل الخير، إذ إنه بالعمل للنفع العام، وتطهير النفس، وإعطاء الفقير حقه المعلوم قد وقى نفسه ووقى مجتمعه من ذرائع الفتن ونوازع الشر، هذا في الدنيا؛ أما في الآخرة، فالأمن من عذاب الله تعالى.
1054
والجزاء الثالث: أنهم لَا يحزنون، وذلك لأنهم باستقامة قلوبهم، وامتلائها بالإيمان وتهذيب أرواحهم وأدائهم ما عليهم من واجب في حق أنفسهم ومجتمعهم - قد حصنوا أنفسهم من أسباب الهم والغم، فلا يأسون على ما يفوتهم، ولا يجزعون لما يصيبهم، لأن نفوسهم روحانية تعلو عن متنازع الأهواء التي تملأ النفس بأسباب الهم والغمِّ.
وإن ذكر هذه الأحوال في مقام مقابل لحال الربويين الذين لَا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسِّ - له مغزاه ومعناه، إذ فيه بيان للنعيم في مقابل الجحيم، وللراحة والاطمئنان، في مقابل الجزع والاضطراب، وكل امرئ بما كسب رهين.
* * *
وإن ذكر هذه الأحوال في مقام مقابل لحال الربويين الذين لَا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسِّ - له مغزاه ومعناه، إذ فيه بيان للنعيم في مقابل الجحيم، وللراحة والاطمئنان، في مقابل الجزع والاضطراب، وكل امرئ بما كسب رهين.
* * *
1055
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨)
* * *
في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه وتعالى طريق التوبة من الربا، والخروج من مآثمه، ويحث على هذه التوبة بإثبات أنها من مقتضيات الإيمان، وأول طرق التوبة لن خوطبوا بالقرآن أول نزوله، أن يتركوا ما بقي من الربا، فما كسبوه قبل الخطاب بالتحريم فإنه في مرتبة العفو، أما ما يجيء من بعد ذلك ولو كان بعقد سابق فإنه حرام، ولذا خاطبهم سبحانه وتعالى بقوله: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) وفي ذلك نهي عن أخذ ما استحق بالعقود السابقة. وقد تأكد النهي بثلاثة مؤكدات:
أولها: تصدير النداء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فإن ذلك التصدير لبيان أن ترك الربا من شأن الإيمان ومقتضياته، فليس من خلق أهل الإيمان بالله ورسوله وكتابه وما اشتمل عليه من أخلاق سامية ومبادئ اجتماعية عالية، أن يأكلوا الربا وأن يتعاملوا به، لأنه ضد تهذيب النفس وسمو الروح، إذ هو شَرَهٌ مادي وكسب بغير الطريق الطبعي، ولأنه يقوض بنيان الاجتماع، ويجعل كل واحد من آحاده ينظر إلى الآخر نظر القنيصة التي يقتنصها والفريسة التي يفترسها، فتنقطع الأوصال، وينتثر العقد الجامع.
* * *
في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه وتعالى طريق التوبة من الربا، والخروج من مآثمه، ويحث على هذه التوبة بإثبات أنها من مقتضيات الإيمان، وأول طرق التوبة لن خوطبوا بالقرآن أول نزوله، أن يتركوا ما بقي من الربا، فما كسبوه قبل الخطاب بالتحريم فإنه في مرتبة العفو، أما ما يجيء من بعد ذلك ولو كان بعقد سابق فإنه حرام، ولذا خاطبهم سبحانه وتعالى بقوله: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) وفي ذلك نهي عن أخذ ما استحق بالعقود السابقة. وقد تأكد النهي بثلاثة مؤكدات:
أولها: تصدير النداء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فإن ذلك التصدير لبيان أن ترك الربا من شأن الإيمان ومقتضياته، فليس من خلق أهل الإيمان بالله ورسوله وكتابه وما اشتمل عليه من أخلاق سامية ومبادئ اجتماعية عالية، أن يأكلوا الربا وأن يتعاملوا به، لأنه ضد تهذيب النفس وسمو الروح، إذ هو شَرَهٌ مادي وكسب بغير الطريق الطبعي، ولأنه يقوض بنيان الاجتماع، ويجعل كل واحد من آحاده ينظر إلى الآخر نظر القنيصة التي يقتنصها والفريسة التي يفترسها، فتنقطع الأوصال، وينتثر العقد الجامع.
1055
ثانيها: قوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ) فهذا النص يفيد أن من مقتضيات التقوى اجتناب الربا، لأن التقوى معناها أن يجعل المؤمن بينه وبين الآثام وقاية، وأن يجعل بينه وبين غضب الله تعالى وقاية، وأن يجعل بينه وبين إيذاء الناس وقاية. والربا ضد هذا كله، لأنه يعرض المرء للمآثم، فإنه بمجرد أن يعجز المدين عن الوفاء - وذلك كثير - تتوالى المطالبة المصحوبة بالأذى والترصد المستمر حتى قصبح عيشة المدين ضنكًا، وقد يبخع نفسه تخلصًا من تلك المآثم المتوالية المستمرة.
ثالثها: أنه سبحانه جعل ترك الربا شرطا للاستمرار على الإيمان، فقال في ختام الآية الكريمة: (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) أي إن كنتم مستمرين على حكم الإيمان، مذعنين لأحكام الديان.
وهنا بحثان أحدهما لغوي، والآخر موضوعي:
أما البحث اللغوي فهو في معنى كلمة " ذَرُوا " فإن معناها اتركوا. وقد قال النحويون: إن ماضي " ذروا " ومصدرها قد أماتهما العرب كالشأن في دع ويدع، وقد قال في ذلك الراغب الأصفهاني: " يقال في ذلك فلان يذر الشيء أي يقذفه لقلة اعتداده به، ولم يستعمل ماضيه؛ وهذا الكلام يدل على أن الماضي قد مات، وعلى أن " يذر " لَا تستعمل في مطلق الترك، بل تطلق على الترك الذي يصحبه عدم اعتداد بالمتروك، فكأن معنى (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) اتركوه غير معتدين به، بل اتركوه مهملين له، لأنه أذى في ذاته.
والزمخشري يقرر ذلك في أساس البلاغة ولكنه يقرر أن المصدر هو الذي مات، وليس الماضي، ولذا قال في أساس البلاغة: (ذره واحذره، والعرب أماتت المصدر منه، فيقولون: ذر تركًا، وإذا قيل لهم ذروه قالوا وذرناه). وهذا معنى جديد أتى به الإمام الزمخشري في معنى ذره، لأنه يدل على ترك الشيء مع الحذر منه، فكأن معنى (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ): اتركوه غير معتدين به حذرين من أن تنالوا منه شيئًا فإنه إثم كله.
ثالثها: أنه سبحانه جعل ترك الربا شرطا للاستمرار على الإيمان، فقال في ختام الآية الكريمة: (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) أي إن كنتم مستمرين على حكم الإيمان، مذعنين لأحكام الديان.
وهنا بحثان أحدهما لغوي، والآخر موضوعي:
أما البحث اللغوي فهو في معنى كلمة " ذَرُوا " فإن معناها اتركوا. وقد قال النحويون: إن ماضي " ذروا " ومصدرها قد أماتهما العرب كالشأن في دع ويدع، وقد قال في ذلك الراغب الأصفهاني: " يقال في ذلك فلان يذر الشيء أي يقذفه لقلة اعتداده به، ولم يستعمل ماضيه؛ وهذا الكلام يدل على أن الماضي قد مات، وعلى أن " يذر " لَا تستعمل في مطلق الترك، بل تطلق على الترك الذي يصحبه عدم اعتداد بالمتروك، فكأن معنى (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) اتركوه غير معتدين به، بل اتركوه مهملين له، لأنه أذى في ذاته.
والزمخشري يقرر ذلك في أساس البلاغة ولكنه يقرر أن المصدر هو الذي مات، وليس الماضي، ولذا قال في أساس البلاغة: (ذره واحذره، والعرب أماتت المصدر منه، فيقولون: ذر تركًا، وإذا قيل لهم ذروه قالوا وذرناه). وهذا معنى جديد أتى به الإمام الزمخشري في معنى ذره، لأنه يدل على ترك الشيء مع الحذر منه، فكأن معنى (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ): اتركوه غير معتدين به حذرين من أن تنالوا منه شيئًا فإنه إثم كله.
1056
هذا هو البحث اللغوي الذي يظهر لنا بعض ما في النص الكريم من دقة وإحكام وإشارات بينة محكمة.
أما البحث الموضوعي، فهو (مَا بَقِيَ) الذي أوجب الله تركه في قوله: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) ما المراد منه: أهو الجزء الباقي من الربا الواجب التنفيذ بمقتضى العقد؛ وهل الجزء الذي تسلموه من قبل مباح أو في موضع العفو؟ قال العلماء ذلك؛ أي أن الآية خاصة بالذين كانوا يتعاملون بالربا، ولهم عقود ربوية قد قبضوا بعضها، فإن لهم ما سلف، أما الباقي فليس لهم أن يقبضوه، وإن كان بعقود ربوية عقدت قبل التحريم. ويزكي هذا المعنى قوله تعالى من قبل: (فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ من رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ...).
ولقد روي في سبب نزول هذه الآية أنه كان بين قوم من ثقيف، وبني المغيرة من بني مخزوم عقود ربًا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام وحرم الربا ودخلت ثقيف في الإسلام طالبوا بني مخروم بالربا الذي تعاقدوا عليه من قبل، فقال أولئك؛ لا نؤدي الربا في الإسلام بكسب الإسلام، فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله - ﷺ -، فنزلت هذه الآية (١).
وترى من هذا أن ما أخذ قبل التحريم فأمره إلى الله تعالى، وما كان بعد التحريم لَا يحل، ولو كان العقد قبله، ولذلك كانت الأحكام الإسلامية واجبة التطبيق على العقود التي تعقد قبل الإسلام إذا كانت مستمرة التنفيذ بعده وأحكامها تشتمل على أمر منهي عنه في الإسلام.
هذا حكم الله، ومن امتنع عن تنفيذه فإنه يحاد الله ورسوله، ولذا قال تعالى بعد ذلك:
________
(١) راجع: أسباب النزول - الواحدي - سورة البقرة من الآية (٢٧٨) إلى الآية (٢٧٩). وراجع تفسير الطبري، والدر المثور للسيوطي ج ١ ص ٣٦٦.
أما البحث الموضوعي، فهو (مَا بَقِيَ) الذي أوجب الله تركه في قوله: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) ما المراد منه: أهو الجزء الباقي من الربا الواجب التنفيذ بمقتضى العقد؛ وهل الجزء الذي تسلموه من قبل مباح أو في موضع العفو؟ قال العلماء ذلك؛ أي أن الآية خاصة بالذين كانوا يتعاملون بالربا، ولهم عقود ربوية قد قبضوا بعضها، فإن لهم ما سلف، أما الباقي فليس لهم أن يقبضوه، وإن كان بعقود ربوية عقدت قبل التحريم. ويزكي هذا المعنى قوله تعالى من قبل: (فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ من رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ...).
ولقد روي في سبب نزول هذه الآية أنه كان بين قوم من ثقيف، وبني المغيرة من بني مخزوم عقود ربًا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام وحرم الربا ودخلت ثقيف في الإسلام طالبوا بني مخروم بالربا الذي تعاقدوا عليه من قبل، فقال أولئك؛ لا نؤدي الربا في الإسلام بكسب الإسلام، فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله - ﷺ -، فنزلت هذه الآية (١).
وترى من هذا أن ما أخذ قبل التحريم فأمره إلى الله تعالى، وما كان بعد التحريم لَا يحل، ولو كان العقد قبله، ولذلك كانت الأحكام الإسلامية واجبة التطبيق على العقود التي تعقد قبل الإسلام إذا كانت مستمرة التنفيذ بعده وأحكامها تشتمل على أمر منهي عنه في الإسلام.
هذا حكم الله، ومن امتنع عن تنفيذه فإنه يحاد الله ورسوله، ولذا قال تعالى بعد ذلك:
________
(١) راجع: أسباب النزول - الواحدي - سورة البقرة من الآية (٢٧٨) إلى الآية (٢٧٩). وراجع تفسير الطبري، والدر المثور للسيوطي ج ١ ص ٣٦٦.
1057
(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ... (٢٧٩) أي فإن لم تفعلوا وأخذتم ما بقي من الربا فأنتم معاندون لله ولرسوله، وأنتم في حرب معهما، ومن حارب الله فإن الله غالبه، وهو مهزوم لَا محالة، وإن الله سيعاقبه على عظيم ما ارتكب.
وهنا عدة كلمات فيها إشارات بيانية تبين عظيم ما يتعرض له من يعاند الله ورسوله، ويخالف أحكامه التي يقررها الله تعالى لتنظيم المجتمع الإسلامي، وتبين أيضًا عظيم عمل من يحترم أحكام الله تعالى:
أولى هذه الكلمات: إن الله تعالى يقول: (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوأ أي لم تتركوا ما بقى من الربا؛ فعبر عن الترك هنا بالفعل، فلم يقل: فإن لم تتركوا، بل قال: (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا) وذلك لأن الذين يتركون ما بقي من عقود عقدوها، يقاومون رغباتهم ويقاومون أهواءهم وشهواتهم، فهذه المقاومة، وذلك الكف فعل نفسي جليل يحرِّضهم سبحانه وتعالى عليه، ويدعوهم إليه، فإن فعلوه كان لهم الثواب المقيم والرضا الكريم، وإن لم يفعلوا فقد أعلنوا الحرب على الله ورسوله. والكلمة الثانية: أن الله سبحانه وتعالى يقول للذين لَا يتركون ما حرم الله من ربا (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ) أي فاعلموا بأنكم في حرب؛ وذلك لأن أذن هنا بمعنى علم، وفي قراءة " فآذنوا " بحرب. ويقول الزمخشري في هذه القراءة إن معناها " فأعلموا بها غيركم " وعلى ذلك يكون آذنوا بالحرب معناها الإعلام بها، وأما أذنوا بحرب فمعناها العلم بها؛ ولكن الراغب الأصفهاني يقول: " إن الإذن بالحرب والإيذان بها بمعنى واحد "، ولماذا عبر عن معاندتهم لله وحربهم لشريعته بقوله: (فَأذَنُوا بِحَرْبٍ) ولم يقل فأنتم في حرب؛ للإشارة إلى أن الجهالة توهمهم أنهم ليسوا بخارجين عن إرادة الله تعالى إن طالبوا بأحكام العقود التي عقدوها من قبل، فالله سبحانه وتعالى أعلمهم بأنهم في أخطر مخالفة وأشد معاندة.
والكلمة الثالثة: إنه تعالى قال في الحرب: (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه) ولم يقل في حرب الله ورسوله، وقد بين السر في ذلك الزمخشري في الكشاف بقوله: " كان هذا أبلغ؛ لأن المعنى فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله
وهنا عدة كلمات فيها إشارات بيانية تبين عظيم ما يتعرض له من يعاند الله ورسوله، ويخالف أحكامه التي يقررها الله تعالى لتنظيم المجتمع الإسلامي، وتبين أيضًا عظيم عمل من يحترم أحكام الله تعالى:
أولى هذه الكلمات: إن الله تعالى يقول: (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوأ أي لم تتركوا ما بقى من الربا؛ فعبر عن الترك هنا بالفعل، فلم يقل: فإن لم تتركوا، بل قال: (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا) وذلك لأن الذين يتركون ما بقي من عقود عقدوها، يقاومون رغباتهم ويقاومون أهواءهم وشهواتهم، فهذه المقاومة، وذلك الكف فعل نفسي جليل يحرِّضهم سبحانه وتعالى عليه، ويدعوهم إليه، فإن فعلوه كان لهم الثواب المقيم والرضا الكريم، وإن لم يفعلوا فقد أعلنوا الحرب على الله ورسوله. والكلمة الثانية: أن الله سبحانه وتعالى يقول للذين لَا يتركون ما حرم الله من ربا (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ) أي فاعلموا بأنكم في حرب؛ وذلك لأن أذن هنا بمعنى علم، وفي قراءة " فآذنوا " بحرب. ويقول الزمخشري في هذه القراءة إن معناها " فأعلموا بها غيركم " وعلى ذلك يكون آذنوا بالحرب معناها الإعلام بها، وأما أذنوا بحرب فمعناها العلم بها؛ ولكن الراغب الأصفهاني يقول: " إن الإذن بالحرب والإيذان بها بمعنى واحد "، ولماذا عبر عن معاندتهم لله وحربهم لشريعته بقوله: (فَأذَنُوا بِحَرْبٍ) ولم يقل فأنتم في حرب؛ للإشارة إلى أن الجهالة توهمهم أنهم ليسوا بخارجين عن إرادة الله تعالى إن طالبوا بأحكام العقود التي عقدوها من قبل، فالله سبحانه وتعالى أعلمهم بأنهم في أخطر مخالفة وأشد معاندة.
والكلمة الثالثة: إنه تعالى قال في الحرب: (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه) ولم يقل في حرب الله ورسوله، وقد بين السر في ذلك الزمخشري في الكشاف بقوله: " كان هذا أبلغ؛ لأن المعنى فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله
1058
ورسوله " أي أن في هذا التعبير الكريم تهويلا لشأن هذه الحرب من ناحيتين: ناحية التنكير، فهي حرب هائلة لم يدركوا كنهها، والناحية الثانية ناحية التصريح بإضافتها إلى الله ورسوله، فهي حرب معهما، والنتيجة في هذا مؤكدة محتومة.
وهذه الحرب أهي مجازية، أم حقيقية؟ يبدو بادي الرأي أنها مجازية من حيث إن كل معاندة لله ولرسوله عن عمد وبسبق إصرار، فيها معاندة لأحكامه سبحانه، ومصادمة لأوامره ونواهيه، وكل مصادمة لأوامر الله تعالى ونواهيه نوع من الحرب والمحادة له سبحانه.
ولكن بعض المفسرين يقول: إن ذلك كان إيذانًا فعلًا بالحرب؛ كما حارب أبو بكر أهل الردة عندما منعوا الزكاة، وزكّوا ذلك بأن النبي - ﷺ - عندما بلغه صنيع ثقيف من مطالبتهم بربا كان ثمرة لعقود عقدوها من قبل، قد آذنهم بحرب، وكتب إلى عتاب بن أسيد والي مكة من قبله يقول له: " إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب " (١)
أي أنه - ﷺ - اعتبرهم مرتدين يقاتلون باستمرارهم على أكل الربا؛ وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام عندما صالح ثقيفًا بعد حرب كان مما نص عليه في هذا الصلح أن ما لهم من ربا على الناس، وما كان للناس عليهم من ربا موضوع.
وما أجدر بعض الذين يتكلمون في هذا اليوم مستحلين الفوائد على أنها ليست من الربا أن يعتبروا ببني ثقيف وبني مخروم!! فإن أولئك كانوا يأخذون من الثقفيين ليتجروا، وليربوا، فوضع الله الربا الجاهلي كله، واعتبر المطالبة بما بقي حربا لله ولرسوله.. ألا فليمتنع هؤلاء عن قولهم حتى لَا يخاطبوا بقول الله: (فَأذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ).
(وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) أي أن من يقع في الربا وأراد أن يتوب إلى الله ويرجع إليه، فليعلم أنه ليس له أن يأخذ بعد تحريم الربا إلا رأس المال. وإن الاقتصار على رأس المال لَا يكون فيه ظلم للدائن، لأنه
________
(١) رواه الطبري في جامع البيان: ج ٣/ ٧١، والسيوطي في الدر المنثور ج ١/ ٣٦٦.
وهذه الحرب أهي مجازية، أم حقيقية؟ يبدو بادي الرأي أنها مجازية من حيث إن كل معاندة لله ولرسوله عن عمد وبسبق إصرار، فيها معاندة لأحكامه سبحانه، ومصادمة لأوامره ونواهيه، وكل مصادمة لأوامر الله تعالى ونواهيه نوع من الحرب والمحادة له سبحانه.
ولكن بعض المفسرين يقول: إن ذلك كان إيذانًا فعلًا بالحرب؛ كما حارب أبو بكر أهل الردة عندما منعوا الزكاة، وزكّوا ذلك بأن النبي - ﷺ - عندما بلغه صنيع ثقيف من مطالبتهم بربا كان ثمرة لعقود عقدوها من قبل، قد آذنهم بحرب، وكتب إلى عتاب بن أسيد والي مكة من قبله يقول له: " إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب " (١)
أي أنه - ﷺ - اعتبرهم مرتدين يقاتلون باستمرارهم على أكل الربا؛ وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام عندما صالح ثقيفًا بعد حرب كان مما نص عليه في هذا الصلح أن ما لهم من ربا على الناس، وما كان للناس عليهم من ربا موضوع.
وما أجدر بعض الذين يتكلمون في هذا اليوم مستحلين الفوائد على أنها ليست من الربا أن يعتبروا ببني ثقيف وبني مخروم!! فإن أولئك كانوا يأخذون من الثقفيين ليتجروا، وليربوا، فوضع الله الربا الجاهلي كله، واعتبر المطالبة بما بقي حربا لله ولرسوله.. ألا فليمتنع هؤلاء عن قولهم حتى لَا يخاطبوا بقول الله: (فَأذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ).
(وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) أي أن من يقع في الربا وأراد أن يتوب إلى الله ويرجع إليه، فليعلم أنه ليس له أن يأخذ بعد تحريم الربا إلا رأس المال. وإن الاقتصار على رأس المال لَا يكون فيه ظلم للدائن، لأنه
________
(١) رواه الطبري في جامع البيان: ج ٣/ ٧١، والسيوطي في الدر المنثور ج ١/ ٣٦٦.
1059
وصل إليه مثل ما أعطى وليس له وراء ذلك حق، ولا ظلم فيه على المدين لأن أداء الحق لَا ظلم فيه، وإن امتنع عن إعطاء رأس المال كان ظالمًا، ما دام يمتنع عن قدرة، لأن النبي - ﷺ - قال: " مطل الغني ظلم " (١).
وفى النص الكريم إشارة إلى أمرين:
أحدهما: أن من يعطي الربا ليس له إلا رأس المال، وأن الزيادة أكل لمال الناس بالباطل أيا كانت هذه الزيادة قليلة كانت أو كثيرة، فلا عبرة بالمقدار مهما يكن ضئيلا، ولا عبرة بالدين أيا كان نوعه. والتعبير عن أصل الدين برأس المال نص في أن الربا يكون إذا كان الدين قد اتخذ أصلا للاتجار والكسب؛ أي أن الدين الذي يؤخذ للاستغلال الربا فيه حرام، وبالأولى الدين الذي يؤخذ للاستهلاك واختيار ذلك اللفظ بالذات يومئ إلى أن الربا كان يتخذ سبيلا للاستغلال. والتعبير بـ " رأس " أيضًا يحسم الخلاف، لأنه لو عبر بالدين فربما يدعي الربوي أن الدين هو الأصل والزيادة معًا.
ثانيهما: الذي يدل عليه النص الكريم: أن طريق التوبة دائمًا أن ينقي التائب ماله من كل مال خبيث، فكل زيادة عليه ترد إلى أصحابها، وإلا يتصدق بها.
* * *
________
(١) متفق عليه، رواه البخاري: الاستقراض - مطل الغني ظلم (٢٢٢٥)، ومسلم: المساقاة - تحريم مطل الغنى (٢٩٢٤) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وفى النص الكريم إشارة إلى أمرين:
أحدهما: أن من يعطي الربا ليس له إلا رأس المال، وأن الزيادة أكل لمال الناس بالباطل أيا كانت هذه الزيادة قليلة كانت أو كثيرة، فلا عبرة بالمقدار مهما يكن ضئيلا، ولا عبرة بالدين أيا كان نوعه. والتعبير عن أصل الدين برأس المال نص في أن الربا يكون إذا كان الدين قد اتخذ أصلا للاتجار والكسب؛ أي أن الدين الذي يؤخذ للاستغلال الربا فيه حرام، وبالأولى الدين الذي يؤخذ للاستهلاك واختيار ذلك اللفظ بالذات يومئ إلى أن الربا كان يتخذ سبيلا للاستغلال. والتعبير بـ " رأس " أيضًا يحسم الخلاف، لأنه لو عبر بالدين فربما يدعي الربوي أن الدين هو الأصل والزيادة معًا.
ثانيهما: الذي يدل عليه النص الكريم: أن طريق التوبة دائمًا أن ينقي التائب ماله من كل مال خبيث، فكل زيادة عليه ترد إلى أصحابها، وإلا يتصدق بها.
* * *
________
(١) متفق عليه، رواه البخاري: الاستقراض - مطل الغني ظلم (٢٢٢٥)، ومسلم: المساقاة - تحريم مطل الغنى (٢٩٢٤) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
1060
(وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ... (٢٨٠)
* * *
أي إن كان المدين غير قادر على الأداء لعسرة ملازمة له كملازمة الصاحب لصاحبه فانتظار إلى وقت يتيسر فيه، فلا يزيد عليه ليرهقه، فيعجز عن الوفاء، بل ينتظر حتى يجيء الوقت الذي يستطيع الأداء وهنا بعض عبارات فيها إشارات بيانية جديرة بالتنبيه:
أولها: التعبير بذو عسرة في قوله (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ) أي كان صاحب عسرة وضيق شديد يلازمه كملازمة الصاحب، لأن كلمة ذو تدل على المصاحبة؛
* * *
أي إن كان المدين غير قادر على الأداء لعسرة ملازمة له كملازمة الصاحب لصاحبه فانتظار إلى وقت يتيسر فيه، فلا يزيد عليه ليرهقه، فيعجز عن الوفاء، بل ينتظر حتى يجيء الوقت الذي يستطيع الأداء وهنا بعض عبارات فيها إشارات بيانية جديرة بالتنبيه:
أولها: التعبير بذو عسرة في قوله (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ) أي كان صاحب عسرة وضيق شديد يلازمه كملازمة الصاحب، لأن كلمة ذو تدل على المصاحبة؛
1060
وفرض أن بعض المدينين ذو عسرة يدل على أن مدينين آخرين يستطيعون الوفاء، ومنهم الذين يقترضون للاستغلال.
ثانيها: قوله تعالى: (فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) معناها: فالحكم أو الأمر انتظار إلى ميسرة، وهناك قراءة أخرى، وهي (فنَاظِرُهُ إِلَى مَيْسَرَة) أي فمنتظره إلى ميسرة.
ثالثها: قوله (إِلَى مَيْسَرَةٍ) فالميسرة بفتح السين وضمها كمَقبَرة ومقبُرة: هي حال اليسر، فليست الميسرة هي مجرد اليسار، بل هي اليسار المستقر الثابت الذي يتمكن فيه المدين من وفاء دينه كله مقدما القوي على الضعيف، أي أن الدائن ينتظر المدين حتى يقف من عثرة العسرة ويستقيم أمره، لَا أن يترقب أي مال حتى يأخذه كما يأخذ الصائد قنيصته.
(وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْر لَّكمْ إِن كُنتمْ تَعْلَمُونَ) أي أنه إذا ثبت العجز وتقرر، وأصبح احتمال اليسار غير قريب فتصدقوا بالدين على صاحبه وأبرئوه منه؛ فإن ذلك يكون خيرًا لكم في الدنيا والآخرة؛ أما في الدنيا فلأنكم إذا فقدتم الأمل في الاستيفاء فكل جهد في سبيله ضائع، وكل تعقب في سبيله يورث الإحن من غير جدوى؛ ويثير الأحقاد المستمرة من غير فائدة، فيكون من الخير العفو والإبراء، والإبقاء على الأخوة، والعلاقات الاجتماعية، وأما في الآخرة فالنعيم المقيم.
وهذا الجزء من النص الكريم فيه إشعار للدائنين بأنه إذا ذهب دينهم بالتَّوى (١)
وعجز المدين عن الوفاء فلا تذهب أنفسهم حسرات، وليعلموا أن التصدق أجدى إن كانوا يعلمون. وذكر سبحانه هذه الجملة السامية: (إِن كنتُمْ تَعْلَمُونَ) لأن غمرة الألم لفقد الدين قد تنسيهم ما ينبغي في مثل هذه الحال فنبههم إلى ما ينبغي ليكونوا في حال وعي نفسي دائم، ولا ينسيهم المال الحال والآل.
* * *
________
(١) التَّوَى: الهلاك والخسارة - الوسيط.
ثانيها: قوله تعالى: (فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) معناها: فالحكم أو الأمر انتظار إلى ميسرة، وهناك قراءة أخرى، وهي (فنَاظِرُهُ إِلَى مَيْسَرَة) أي فمنتظره إلى ميسرة.
ثالثها: قوله (إِلَى مَيْسَرَةٍ) فالميسرة بفتح السين وضمها كمَقبَرة ومقبُرة: هي حال اليسر، فليست الميسرة هي مجرد اليسار، بل هي اليسار المستقر الثابت الذي يتمكن فيه المدين من وفاء دينه كله مقدما القوي على الضعيف، أي أن الدائن ينتظر المدين حتى يقف من عثرة العسرة ويستقيم أمره، لَا أن يترقب أي مال حتى يأخذه كما يأخذ الصائد قنيصته.
(وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْر لَّكمْ إِن كُنتمْ تَعْلَمُونَ) أي أنه إذا ثبت العجز وتقرر، وأصبح احتمال اليسار غير قريب فتصدقوا بالدين على صاحبه وأبرئوه منه؛ فإن ذلك يكون خيرًا لكم في الدنيا والآخرة؛ أما في الدنيا فلأنكم إذا فقدتم الأمل في الاستيفاء فكل جهد في سبيله ضائع، وكل تعقب في سبيله يورث الإحن من غير جدوى؛ ويثير الأحقاد المستمرة من غير فائدة، فيكون من الخير العفو والإبراء، والإبقاء على الأخوة، والعلاقات الاجتماعية، وأما في الآخرة فالنعيم المقيم.
وهذا الجزء من النص الكريم فيه إشعار للدائنين بأنه إذا ذهب دينهم بالتَّوى (١)
وعجز المدين عن الوفاء فلا تذهب أنفسهم حسرات، وليعلموا أن التصدق أجدى إن كانوا يعلمون. وذكر سبحانه هذه الجملة السامية: (إِن كنتُمْ تَعْلَمُونَ) لأن غمرة الألم لفقد الدين قد تنسيهم ما ينبغي في مثل هذه الحال فنبههم إلى ما ينبغي ليكونوا في حال وعي نفسي دائم، ولا ينسيهم المال الحال والآل.
* * *
________
(١) التَّوَى: الهلاك والخسارة - الوسيط.
1061
(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٨١)
* * *
ترقبوا وخافوا يومًا يردكم الله سبحانه وتعالى إليه فلا تملكون من أموركم شيئا فيه؛ فإذا ملكتم المال في الدنيا، ففي هذا اليوم لَا تملكون شيئا، وإذا ملكتم المنح والمنع اليوم ففي اليوم الآخر لَا تملكون شيئا. وفي هذا اليوم (تُوَفَّى كلُّ نَفْسٍ ما كسَبَتْ) أي جزاء ما كسبت إن خيرًا فخير، وإن شرا فشر، وكأن ما توفاه عين ما كسبت للمماثلة بين الجزاء والعمل (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) أي لَا ينقصون شيئا من ثواب ما عملوا، ولا يعاقبون على ما لم يعملوا.
وتمت آيات الربا بهذه الآية ترغيبًا وترهيبًا، ترغيبا في القرض الحسن، وترهيبًا من أكل الربا.
ومن الحق علينا أن نختم الكلام في هذه الآيات بكلمات ننقلها عن الأستاذ الإمام محمد عبده، لقد قال رحمه الله:
" يقول كثير من الذين تعلموا وتربوا تربية عصرية، وأخذوا الشهادات من المدارس، ومن هو أكبر من هؤلاء: إن المسلمين مُنوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدي الأجانب، وفقدوا الثروة والقوة بسبب تحريم الربا، فإنهم لاحتياجهم للأموال يأخذونها بالربا من الأجانب، ومن كان غنيا منهم لَا يعطي بالربا، فمال الفقير يذهب، ومال الغني لَا ينمو.. وهذه أوهام لم تُقل عن اختبار؛ فإن المسلمين في هذه الأيام لَا يُحكمُون الدين في شيء من أعمالهم ومكاسبهم ولو حكموه في هذه المسألة ما استدانوا بالربا وجعلوا أموالهم غنائم لغيرهم، فإن سلمنا أنهم تركوا أكل الربا لأجل الدِّين فهل يقول المشتبهون إنهم تركوا الصناعة والتجارة والزراعة لأجل الدِّين ".
هذه كلمة الأستاذ الإمام الذي تجنَّى عليه المنحرفون، وقالوا عليه ما لم يقل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
* * *
* * *
ترقبوا وخافوا يومًا يردكم الله سبحانه وتعالى إليه فلا تملكون من أموركم شيئا فيه؛ فإذا ملكتم المال في الدنيا، ففي هذا اليوم لَا تملكون شيئا، وإذا ملكتم المنح والمنع اليوم ففي اليوم الآخر لَا تملكون شيئا. وفي هذا اليوم (تُوَفَّى كلُّ نَفْسٍ ما كسَبَتْ) أي جزاء ما كسبت إن خيرًا فخير، وإن شرا فشر، وكأن ما توفاه عين ما كسبت للمماثلة بين الجزاء والعمل (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) أي لَا ينقصون شيئا من ثواب ما عملوا، ولا يعاقبون على ما لم يعملوا.
وتمت آيات الربا بهذه الآية ترغيبًا وترهيبًا، ترغيبا في القرض الحسن، وترهيبًا من أكل الربا.
ومن الحق علينا أن نختم الكلام في هذه الآيات بكلمات ننقلها عن الأستاذ الإمام محمد عبده، لقد قال رحمه الله:
" يقول كثير من الذين تعلموا وتربوا تربية عصرية، وأخذوا الشهادات من المدارس، ومن هو أكبر من هؤلاء: إن المسلمين مُنوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدي الأجانب، وفقدوا الثروة والقوة بسبب تحريم الربا، فإنهم لاحتياجهم للأموال يأخذونها بالربا من الأجانب، ومن كان غنيا منهم لَا يعطي بالربا، فمال الفقير يذهب، ومال الغني لَا ينمو.. وهذه أوهام لم تُقل عن اختبار؛ فإن المسلمين في هذه الأيام لَا يُحكمُون الدين في شيء من أعمالهم ومكاسبهم ولو حكموه في هذه المسألة ما استدانوا بالربا وجعلوا أموالهم غنائم لغيرهم، فإن سلمنا أنهم تركوا أكل الربا لأجل الدِّين فهل يقول المشتبهون إنهم تركوا الصناعة والتجارة والزراعة لأجل الدِّين ".
هذه كلمة الأستاذ الإمام الذي تجنَّى عليه المنحرفون، وقالوا عليه ما لم يقل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢)
* * *
وجه المناسبة بين هذه الآية وما قبلها أن الآيات كلها موضوعها المال، فالآيات الأولى كانت في بيان الحقوق المتعلقة بالمال، وهي الإنفاق في سبيل الله، وإعطاء السائل والمحروم؛ وآيات الربا كانت في الحدود المحرمة التي لَا يصح لصاحب المال أن يرتع فيها، وهي أكل أموال الناس بالباطل؛ وهذه الآية في بيان حق صاحب المال
* * *
وجه المناسبة بين هذه الآية وما قبلها أن الآيات كلها موضوعها المال، فالآيات الأولى كانت في بيان الحقوق المتعلقة بالمال، وهي الإنفاق في سبيل الله، وإعطاء السائل والمحروم؛ وآيات الربا كانت في الحدود المحرمة التي لَا يصح لصاحب المال أن يرتع فيها، وهي أكل أموال الناس بالباطل؛ وهذه الآية في بيان حق صاحب المال
1063
إن خرج من يده، وهو الاستيثاق من الوفاء، وذلك بكتابة الدين والإشهاد عليه، ويشمل الإشهاد على المعاملات المالية ذات الأثر الباقي بين المتعاملين.
وثمة مناسبة خاصة بين هذه الآية وآيات الربا؛ فإن الربا استغلال آثم غير حلال ويؤدي إلى الأكل لأموال الناس بالباطل؛ إذ إنه كسب لَا يتعرض للخسارة، فهو غنم لَا غرم فيه، بل لَا تعرض فيه للغرم؛ وفي آية الديون إشارة إلى طريق كسب حلال؛ فإن من الديون ما يكون سَلَمًا وهو أن يبيع شخص لآخر شيئًا غير حاضر، ولكنه معرف بجنسه ونوعه ووصفه، ويكون التسليم مؤجلا إلى أجل معلوم على أن يقبض البائع الثمن معجلا فيكون البائع مدينًا بذلك المبيع المعرف بالأوصاف، فقد ثبت دينًا في الذمة؛ وإن هذا السلم باب حلال من أبواب الاستغلال، فدافع النقود ينتفع لأنه سينتفع من فرق السعر بين العقد وبين التسليم، وفى غالب الأحوال يكون علو السعر متوقعًا، وينتفع البائع من أخذ الثمن يستغله في أي باب من أبواب الاستغلال؛ فالدافع ينتفع مع التعرض للخسارة. وهذا هو الفرق بين الربا والسلم في المعنى.
وثمة وجه خاص للمناسبة بين هذه الآية وآخر آية الربا؛ فإن آخر آية الربا (وَإِن كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) وقد بين سبحانه وتعالى طريق الاستيثاق من وفاء الدين وعدم جحوده، وهو كتابته والإشهاد عليه، وإن الدين المؤجل يحتاج دائمًا إلى الاستيثاق من الوفاء.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) التداين معناه: التعامل بالدين، أي أن يستدين بعضهم من بعض على نية الجزاء. والدَّين يطلق على المال الثابت في الذمة الذي يكون معرفًا بالجنس والوصف والنوع، فهو يشمل اقتراض النقود، واقتراض المثليات بشكل عام، كما يشمل الدَّين الذي يكون مبيعًا في باب السلم؛ بل روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في سَلَم أهل المدينة.
ولقد يرد سؤال: لماذا صرح بقوله (بِدَيْنٍ) مع أن (تَدَايَنتُم) لَا يتحقق معناها إلا في الديون؟
وثمة مناسبة خاصة بين هذه الآية وآيات الربا؛ فإن الربا استغلال آثم غير حلال ويؤدي إلى الأكل لأموال الناس بالباطل؛ إذ إنه كسب لَا يتعرض للخسارة، فهو غنم لَا غرم فيه، بل لَا تعرض فيه للغرم؛ وفي آية الديون إشارة إلى طريق كسب حلال؛ فإن من الديون ما يكون سَلَمًا وهو أن يبيع شخص لآخر شيئًا غير حاضر، ولكنه معرف بجنسه ونوعه ووصفه، ويكون التسليم مؤجلا إلى أجل معلوم على أن يقبض البائع الثمن معجلا فيكون البائع مدينًا بذلك المبيع المعرف بالأوصاف، فقد ثبت دينًا في الذمة؛ وإن هذا السلم باب حلال من أبواب الاستغلال، فدافع النقود ينتفع لأنه سينتفع من فرق السعر بين العقد وبين التسليم، وفى غالب الأحوال يكون علو السعر متوقعًا، وينتفع البائع من أخذ الثمن يستغله في أي باب من أبواب الاستغلال؛ فالدافع ينتفع مع التعرض للخسارة. وهذا هو الفرق بين الربا والسلم في المعنى.
وثمة وجه خاص للمناسبة بين هذه الآية وآخر آية الربا؛ فإن آخر آية الربا (وَإِن كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) وقد بين سبحانه وتعالى طريق الاستيثاق من وفاء الدين وعدم جحوده، وهو كتابته والإشهاد عليه، وإن الدين المؤجل يحتاج دائمًا إلى الاستيثاق من الوفاء.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) التداين معناه: التعامل بالدين، أي أن يستدين بعضهم من بعض على نية الجزاء. والدَّين يطلق على المال الثابت في الذمة الذي يكون معرفًا بالجنس والوصف والنوع، فهو يشمل اقتراض النقود، واقتراض المثليات بشكل عام، كما يشمل الدَّين الذي يكون مبيعًا في باب السلم؛ بل روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في سَلَم أهل المدينة.
ولقد يرد سؤال: لماذا صرح بقوله (بِدَيْنٍ) مع أن (تَدَايَنتُم) لَا يتحقق معناها إلا في الديون؟
1064
ولقد أجيب عن ذلك بجوابين:
أحدهما: بأن معنى تداينتم هو تعاملتم، والتعامل يكون بالدين وغيره، فلما ذكرت كلمة (بِدَيْنٍ) كانت صريحة في أن التعامل كان بالدين. وعندي أن استعمال تداين بمعنى تعامل هو توسع، وإن التفسير الخاص لها هو أن التداين معناه التعامل بالدين، لَا مطلق تعامل.
والجواب الثاني: هو ما أجاب به الزمخشري في الكشاف بقوله: (ذكر الدين ليرجع الضمير إليه في قوله: (فاكتبوه) إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن، ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحالّ). ومقتضى هذا الكلام أنه صرح بالدين لأنه موضوع القول لَا مجرد التعامل به؛ وإن هذا التخريج أوجه من قول غيره إن ذكره لمجرد التأكيد، مثل قوله تعالى: (وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ... ).
وعبر سبحانه وتعالى بـ تداينتم بدل استدنتم، أو أدنتم، لأن تداينتم تعم الفريقين: الدائن والمدين، فكلاهما متداين؛ ذلك بالعطاء، وهذا بالأخذ. أما استدنتم فإنها تطلق على المدين فقط، والثانية تطلق على الدائن، والمطالبة بالكتابة موجهة إلى الدائن والمدين معًا، فالكتابة ليست حقا للدائن، بل هي واجب عليه، وإن كان الذي يتولاها هو المدين.
ووصف الأجل بالمسمى، للإشارة إلى وجوب إعلام الأجل، فيذكر الشهر الفلاني، أو إلى وقت الحصاد، ونحو ذلك مما يكون معرفًا تعريفًا يمنع من الجهالة.
والدين يشمل دين القرض، ويشمل أثمان المبيعات إذا كانت مؤجلة، ويشمل المبيع في السَلم إذا كان الثمن معجلا والمبيع مؤجلا ومعرفا بالوصف والنوع والجنس؛ فكل هذه ديون مؤجلة إلى آجال مسماة، على خلاف في القرض، فإن الحنفية والشافعية قالوا: إنه لَا يصح أن يسمى له أجل، وذلك لأن القرض تبرع، والأجل شرط، والشروط لَا تلزم في عقود التبرعات، ولأن القرض عارية، ولا ينقلب مضمونًا إلا باستهلاكه على رأى البعض، ولذلك يقول فقهاء هذين المذهبين:
أحدهما: بأن معنى تداينتم هو تعاملتم، والتعامل يكون بالدين وغيره، فلما ذكرت كلمة (بِدَيْنٍ) كانت صريحة في أن التعامل كان بالدين. وعندي أن استعمال تداين بمعنى تعامل هو توسع، وإن التفسير الخاص لها هو أن التداين معناه التعامل بالدين، لَا مطلق تعامل.
والجواب الثاني: هو ما أجاب به الزمخشري في الكشاف بقوله: (ذكر الدين ليرجع الضمير إليه في قوله: (فاكتبوه) إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن، ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحالّ). ومقتضى هذا الكلام أنه صرح بالدين لأنه موضوع القول لَا مجرد التعامل به؛ وإن هذا التخريج أوجه من قول غيره إن ذكره لمجرد التأكيد، مثل قوله تعالى: (وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ... ).
وعبر سبحانه وتعالى بـ تداينتم بدل استدنتم، أو أدنتم، لأن تداينتم تعم الفريقين: الدائن والمدين، فكلاهما متداين؛ ذلك بالعطاء، وهذا بالأخذ. أما استدنتم فإنها تطلق على المدين فقط، والثانية تطلق على الدائن، والمطالبة بالكتابة موجهة إلى الدائن والمدين معًا، فالكتابة ليست حقا للدائن، بل هي واجب عليه، وإن كان الذي يتولاها هو المدين.
ووصف الأجل بالمسمى، للإشارة إلى وجوب إعلام الأجل، فيذكر الشهر الفلاني، أو إلى وقت الحصاد، ونحو ذلك مما يكون معرفًا تعريفًا يمنع من الجهالة.
والدين يشمل دين القرض، ويشمل أثمان المبيعات إذا كانت مؤجلة، ويشمل المبيع في السَلم إذا كان الثمن معجلا والمبيع مؤجلا ومعرفا بالوصف والنوع والجنس؛ فكل هذه ديون مؤجلة إلى آجال مسماة، على خلاف في القرض، فإن الحنفية والشافعية قالوا: إنه لَا يصح أن يسمى له أجل، وذلك لأن القرض تبرع، والأجل شرط، والشروط لَا تلزم في عقود التبرعات، ولأن القرض عارية، ولا ينقلب مضمونًا إلا باستهلاكه على رأى البعض، ولذلك يقول فقهاء هذين المذهبين:
1065
عارية الدراهم والدنانير قرض ويقول القانونيون في مثل هذا إنه عارية استهلاك، أي عارية لَا ينتفع بالعين فيها إلا باستهلاكها والتصرف فيها.
وقال المالكية وأكثر الحنابلة: إنه يصح الأجل في القرض وتجب تسميته وتعريفه، لنص هذه الآية، إذ هو دين داخل في عموم الدين في الآية الكريمة، ولأن القرض لَا فائدة فيه للمدين إلا إذا كان مؤجلا، فكانت المصلحة في أن يعين الأجل ويتفق عليه بينهما دفعا للمشاحة، ومنعًا للنزاع وإن ذلك الرأي هو الأظهر وهو الذي يشمله عموم النص، وهو الأقرب إلى عرف الناس، والمصلحة فيه.
والأمر بالكتابة هنا أهو للطلب الملزم الذي لَا محيص للمكلف عنه، أم للإرشاد أو الندب؟ قال جمهور العلماء: إنه للندب؛ وذلك لأن النبي - ﷺ - ما ألزم الدائنين بكتابة ديونهم، ولا المدينين بأن يكتبوها، لأن النبي - ﷺ - قال: " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " (١) ولأن الله سبحانه وتعالى قال بعد ذلك: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانتَهُ...)، وإن ذلك بلا ريب تسويغ لعدم الكتابة، والاعتماد على مجرد الأمانة، فإنه مع الكتابة لَا ائتمان، أو لَا اعتماد على الأمانة.
وقال الظاهرية: إن الأمر هنا للوجوب، ومن لم يفعل كان آثمًا، ذلك لأن الأصل في الأمر أنه للوجوب، ولا يخرج عن الوجوب إلى غيره إلا بدليل من النصوص، ولم يوجد الدليل؛ ولأن طلب الكتابة تأكد بطرق عدة؛ منها النص على الكتابة في الصغير والكبير من الديون بقوله تعالى: (وَلا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ) ومنها النص على أنه الأقسط والأقوم للشهادة، والأدنى للمنع من الارتياب؛ ومنها التعميم واستثناء صورة واحدة، وهي حال التجارة الدائرة بين التجار، وقصر نفي الإثم عليها دون غيرها، فإنه إذا كان نفي الإثم مقصورًا على هذه الحال فمعنى ذلك أن الإثم ثابت في غيرها، وإن الائتمان لَا يتنافى مع الكتابة،
________
(١) رواه البخاري: الصوم - قول النبي - ﷺ -: " لا نكتب " (١٧٨٠)، ومسلم: الصيام - وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال (١٨٠٦).
وقال المالكية وأكثر الحنابلة: إنه يصح الأجل في القرض وتجب تسميته وتعريفه، لنص هذه الآية، إذ هو دين داخل في عموم الدين في الآية الكريمة، ولأن القرض لَا فائدة فيه للمدين إلا إذا كان مؤجلا، فكانت المصلحة في أن يعين الأجل ويتفق عليه بينهما دفعا للمشاحة، ومنعًا للنزاع وإن ذلك الرأي هو الأظهر وهو الذي يشمله عموم النص، وهو الأقرب إلى عرف الناس، والمصلحة فيه.
والأمر بالكتابة هنا أهو للطلب الملزم الذي لَا محيص للمكلف عنه، أم للإرشاد أو الندب؟ قال جمهور العلماء: إنه للندب؛ وذلك لأن النبي - ﷺ - ما ألزم الدائنين بكتابة ديونهم، ولا المدينين بأن يكتبوها، لأن النبي - ﷺ - قال: " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " (١) ولأن الله سبحانه وتعالى قال بعد ذلك: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانتَهُ...)، وإن ذلك بلا ريب تسويغ لعدم الكتابة، والاعتماد على مجرد الأمانة، فإنه مع الكتابة لَا ائتمان، أو لَا اعتماد على الأمانة.
وقال الظاهرية: إن الأمر هنا للوجوب، ومن لم يفعل كان آثمًا، ذلك لأن الأصل في الأمر أنه للوجوب، ولا يخرج عن الوجوب إلى غيره إلا بدليل من النصوص، ولم يوجد الدليل؛ ولأن طلب الكتابة تأكد بطرق عدة؛ منها النص على الكتابة في الصغير والكبير من الديون بقوله تعالى: (وَلا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ) ومنها النص على أنه الأقسط والأقوم للشهادة، والأدنى للمنع من الارتياب؛ ومنها التعميم واستثناء صورة واحدة، وهي حال التجارة الدائرة بين التجار، وقصر نفي الإثم عليها دون غيرها، فإنه إذا كان نفي الإثم مقصورًا على هذه الحال فمعنى ذلك أن الإثم ثابت في غيرها، وإن الائتمان لَا يتنافى مع الكتابة،
________
(١) رواه البخاري: الصوم - قول النبي - ﷺ -: " لا نكتب " (١٧٨٠)، ومسلم: الصيام - وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال (١٨٠٦).
1066
بل إنه مع الكتابة الائتمان قائم، على أن قوله تعالى: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ...)، سيق في حال السفر عند تعذر الكتابة.
هذا وإن تصدير الآية الكريمة بالنداء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا) يشير إلى أمرين:
أحدهما: أنه ليس من مقتضى الإيمان أن تلزموا المساجد والصوامع، بل إن الإيمان أن تهذبوا نفوسكم، وترهفوا وجدانكم وتشعروا بمراقبة ربكم، لتكون دنياكم فاضلة، ويكون تعاملكم، وإدارة المال بينكم على نهج ديني فاضل، فالمال ليس طلبه ممنوعا، بل إنه من طريقه الحلال مشروع ومطلوب.
الأمر الثاني: أن الإسلام ليست أوامره مقصورة على العبادات، بل جاء لتنظيم المعاملات، بل إن العبادات فيه طريق لإصلاح التعامل الإنساني؛ وكذلك كل الأديان السماوية، فإنه من الجهل الادعاء بأن الأديان جاءت لتنظيم العلاقة بين العبد والرب فقط، ولا تتدخل في العلاقة بين الإنسان والإنسان.
(وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) في النص السابق أمر بالكتابة وحث عليها، وفى هذا النص يبين الكاتب، فبين أن الذي يكتب شخص يجيد الكتابة، وعنده فقهها وعلمها، بأن يكون على علم بشروط العقود وتوثيقها، وما يكون من الشروط سائغا في الشرع وما يكون غير سائغ؛ وقيَّد كتابته بأن تكون بالعدل بألا يزيد ولا ينقص في الدين الذي يكتبه، ولا يقيد أحد العاقدين بشروط شديدة، ويحل الآخر من كل القيود والشروط، بل يكون مراعيًا العدل في كتابة أصل الدين، ومراعيًا العدل في الالتزامات بين الفريقين، ثم إن العدل يتقاضى مع هذين أيضًا أن يكون الكاتب خبيرًا بمعاملات الناس، وما يقع بينهم، وما يمكن تنفيذه من الشروط وما لا يمكن.
وهكذا فالكاتب الذي يتولى ميزان العدل بين العاقدين يمنعهما من الشطط، ويمنعهما من التجانف لإثم. وقد ذكر في النص السامي بوصف " كاتب " للدلالة على مهارته في الكتابة، وكونها له كالملكة.
هذا وإن تصدير الآية الكريمة بالنداء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا) يشير إلى أمرين:
أحدهما: أنه ليس من مقتضى الإيمان أن تلزموا المساجد والصوامع، بل إن الإيمان أن تهذبوا نفوسكم، وترهفوا وجدانكم وتشعروا بمراقبة ربكم، لتكون دنياكم فاضلة، ويكون تعاملكم، وإدارة المال بينكم على نهج ديني فاضل، فالمال ليس طلبه ممنوعا، بل إنه من طريقه الحلال مشروع ومطلوب.
الأمر الثاني: أن الإسلام ليست أوامره مقصورة على العبادات، بل جاء لتنظيم المعاملات، بل إن العبادات فيه طريق لإصلاح التعامل الإنساني؛ وكذلك كل الأديان السماوية، فإنه من الجهل الادعاء بأن الأديان جاءت لتنظيم العلاقة بين العبد والرب فقط، ولا تتدخل في العلاقة بين الإنسان والإنسان.
(وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) في النص السابق أمر بالكتابة وحث عليها، وفى هذا النص يبين الكاتب، فبين أن الذي يكتب شخص يجيد الكتابة، وعنده فقهها وعلمها، بأن يكون على علم بشروط العقود وتوثيقها، وما يكون من الشروط سائغا في الشرع وما يكون غير سائغ؛ وقيَّد كتابته بأن تكون بالعدل بألا يزيد ولا ينقص في الدين الذي يكتبه، ولا يقيد أحد العاقدين بشروط شديدة، ويحل الآخر من كل القيود والشروط، بل يكون مراعيًا العدل في كتابة أصل الدين، ومراعيًا العدل في الالتزامات بين الفريقين، ثم إن العدل يتقاضى مع هذين أيضًا أن يكون الكاتب خبيرًا بمعاملات الناس، وما يقع بينهم، وما يمكن تنفيذه من الشروط وما لا يمكن.
وهكذا فالكاتب الذي يتولى ميزان العدل بين العاقدين يمنعهما من الشطط، ويمنعهما من التجانف لإثم. وقد ذكر في النص السامي بوصف " كاتب " للدلالة على مهارته في الكتابة، وكونها له كالملكة.
1067
(وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ) هذا نهي لمن كان قادرًا على الكتابة من أن يمتنع عن الكتابة، فلا يصح لمن يحسن الكتابة من حيث جودة الخط واستبانته، ومن حيث العلم بفقه العقود، والقدرة على تحقيق العدالة بين العاقدين في وثيقة العقد؛ لَا يصح له أن يمتنع عن الكتابة إذا دعي إليها وإنه ليأثم إن تعين للكتابة ولم يوجد موثوق به فيها سواه، وامتنع عن الكتابة، ولقد قال الفقهاء: إن الكتابة فرض كفاية بمعنى أنه إذا امتنع كُتَّاب أهل قرية عن الكتابة أثموا، بل إنه يجب على أهل كل قرية أن يخصصوا ناسًا لكتابة الوثائق فيها.
وإنه على هذا يجب أن تعمل الدولة على تهيئة ناس لتوثيق العقود وكتابتها.
وإن الكتابة لطلابها من التعاون على البر والتقوى، فهي صناعة، وهي علم، وواجب على الصانع أن يُعِين من لَا يحسن، فقد قال - ﷺ -: " إن من الصدقة أن تعين صانعًا، أو تصنع لأخرق " (١) والامتناع عن الكتابة ككتمان العلم، وقد قال - ﷺ -: " من كتم علمًا يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " (٢).
وقوله تعالى: (كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ) فيه بحثان لغويان:
أولهما: في التشبيه بالكاف في قوله: (كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ) ما المعنى الذي يفيده؟ ذكر الزمخشري أن معناه إما أن يكون تشبيها بين علم الكتابة والواجب على الكاتب، أي أنه كما أن الله علمه الكتابة ويسَّرها له، وجعله أهل خبرة، عليه واجب المعاونة بالكتابة لغيره، فالتشبيه تشبيه بين نعمة الكتابة، والواجب المتعلق بها، فما من نعمة إلا تتولد عنها واجبات مساوية لها، فنعمة الكتابة يقابلها ويشابهها ويماثلها واجب معاونة غيره بها، وهو بقدرها، ويأثم عند الترك بمقدار علمه.
هذا أحد وجهي التشبيه، أما الوجه الآخر، فهو أن التماثل بين ما يكتب على القرطاس وما آتاه الله الكاتب من فقه وعلم بالعقود والالتزامات؛ والمعنى على
________
(١) رواه مسلم: الإيمان - كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (١١٩)، والبخاري: العتق - أي الرقاب أفضل (٢٣٣٤) غير أن روايته بلفظ: " ضايعا " بدلا من: " صانعا ".
(٢) رواه بهذا اللفظ أحمد (١٠٠٨٢) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وإنه على هذا يجب أن تعمل الدولة على تهيئة ناس لتوثيق العقود وكتابتها.
وإن الكتابة لطلابها من التعاون على البر والتقوى، فهي صناعة، وهي علم، وواجب على الصانع أن يُعِين من لَا يحسن، فقد قال - ﷺ -: " إن من الصدقة أن تعين صانعًا، أو تصنع لأخرق " (١) والامتناع عن الكتابة ككتمان العلم، وقد قال - ﷺ -: " من كتم علمًا يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " (٢).
وقوله تعالى: (كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ) فيه بحثان لغويان:
أولهما: في التشبيه بالكاف في قوله: (كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ) ما المعنى الذي يفيده؟ ذكر الزمخشري أن معناه إما أن يكون تشبيها بين علم الكتابة والواجب على الكاتب، أي أنه كما أن الله علمه الكتابة ويسَّرها له، وجعله أهل خبرة، عليه واجب المعاونة بالكتابة لغيره، فالتشبيه تشبيه بين نعمة الكتابة، والواجب المتعلق بها، فما من نعمة إلا تتولد عنها واجبات مساوية لها، فنعمة الكتابة يقابلها ويشابهها ويماثلها واجب معاونة غيره بها، وهو بقدرها، ويأثم عند الترك بمقدار علمه.
هذا أحد وجهي التشبيه، أما الوجه الآخر، فهو أن التماثل بين ما يكتب على القرطاس وما آتاه الله الكاتب من فقه وعلم بالعقود والالتزامات؛ والمعنى على
________
(١) رواه مسلم: الإيمان - كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (١١٩)، والبخاري: العتق - أي الرقاب أفضل (٢٣٣٤) غير أن روايته بلفظ: " ضايعا " بدلا من: " صانعا ".
(٢) رواه بهذا اللفظ أحمد (١٠٠٨٢) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
1068
ذلك: لتكن كتابة وثيقة الدين على مقتضى العلم والفقه الذي فقَّه الله به الكاتب، أي تكون الكتابة على مقتضى أحكام الشرع، فلا تكون فيها شروط ليست في كتاب الله، أو لَا يسوغها الشرع، أو لَا يمكن تنفيذها.
الأمر الثاني: إن قوله: (كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ) ما مُتعلقه؟ أهو متعلق بـ " يكتب " الأولى، أو " فليكتب " الثانية؟ يجوز الأمران، وعلى الأول يكون المعنى: لَا يمتنع أن يكتب كما علمه الله؛ ثم أكد المعنى بعد ذلك بتكرار الأمر بالكتابة، فقال سبحانه: (فَلْيَكْتُبْ)؛ وعلى الثاني وهو أن يتعلق بقوله (فَلْيَكْتبْ) يكون المعنى: لَا يأب كاتب أن يكتب؛ فهذا نهي عن الامتناع؛ ثم قال ذلك في كيفية الكتابة (كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ) أي لتكن على قدر علمه وفقهه، ومساوية في روحها لنعمة العلم بها.
(وَلْيمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْة شَيْئًا) في الجمل السامية السابقة بيان طلب الكتابة والكاتب، وفي هذه الجملة بيان من يتولى الإملاء؛ فقال سبحانه: (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) أي ليُمْلِ على الكاتب الذي عليه الدين ويلتزم بأدائه، وذلك ليكون إملاؤه إقرارًا بالدين وبالحقوق التي يجب عليه الوفاء بها.
والإملال معناه الإملاء، وهما لغتان في الإملاء. وقال بعض اللغويين: إن الأصل هو الإملال، وعلى أي حال قد وردت اللغتان في القرآن، فقد قال تعالى: (اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا).
وإذا كانت تبعة الإملاء قد وضعت في عنق من عليه الحق فإن عليه عند الإملاء واجبين: تقوى الله، وعدم البخس؛ ولذا قال تعالى: (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ) أي لَا ينقص (مِنْهُ شَيْئًا) وقد وثق سبحانه الأمر بالتقوى بأن جعل التقوى من الله، وهو رب كل شيء ورب من عليه الحق، أي عليه عند الإملاء أن يراقب الله جل جلاله الواحد القهار الغالب على كل شيء المسيطر على كل شيء الذي يغلب ولا يغلب، فلا يتلاعب بالعبارات حتى لَا يذهب بحق صاحب الحق؛ ثم
الأمر الثاني: إن قوله: (كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ) ما مُتعلقه؟ أهو متعلق بـ " يكتب " الأولى، أو " فليكتب " الثانية؟ يجوز الأمران، وعلى الأول يكون المعنى: لَا يمتنع أن يكتب كما علمه الله؛ ثم أكد المعنى بعد ذلك بتكرار الأمر بالكتابة، فقال سبحانه: (فَلْيَكْتُبْ)؛ وعلى الثاني وهو أن يتعلق بقوله (فَلْيَكْتبْ) يكون المعنى: لَا يأب كاتب أن يكتب؛ فهذا نهي عن الامتناع؛ ثم قال ذلك في كيفية الكتابة (كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ) أي لتكن على قدر علمه وفقهه، ومساوية في روحها لنعمة العلم بها.
(وَلْيمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْة شَيْئًا) في الجمل السامية السابقة بيان طلب الكتابة والكاتب، وفي هذه الجملة بيان من يتولى الإملاء؛ فقال سبحانه: (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) أي ليُمْلِ على الكاتب الذي عليه الدين ويلتزم بأدائه، وذلك ليكون إملاؤه إقرارًا بالدين وبالحقوق التي يجب عليه الوفاء بها.
والإملال معناه الإملاء، وهما لغتان في الإملاء. وقال بعض اللغويين: إن الأصل هو الإملال، وعلى أي حال قد وردت اللغتان في القرآن، فقد قال تعالى: (اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا).
وإذا كانت تبعة الإملاء قد وضعت في عنق من عليه الحق فإن عليه عند الإملاء واجبين: تقوى الله، وعدم البخس؛ ولذا قال تعالى: (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ) أي لَا ينقص (مِنْهُ شَيْئًا) وقد وثق سبحانه الأمر بالتقوى بأن جعل التقوى من الله، وهو رب كل شيء ورب من عليه الحق، أي عليه عند الإملاء أن يراقب الله جل جلاله الواحد القهار الغالب على كل شيء المسيطر على كل شيء الذي يغلب ولا يغلب، فلا يتلاعب بالعبارات حتى لَا يذهب بحق صاحب الحق؛ ثم
1069
ليعلم أن الذي عليه أن يتقيه هو ربه الذي ذرأه ورباه ونماه، ووهب له المواهب التي توجب الشكر، ولا تسوغ التلاعب بالحقوق.
وإذا كان لَا يسوغ أن يتلاعب بالعبارات فلا يسوغ أن ينقص من الدين أو يزيد في الأجل، أو يضع شروطا في مصلحته وليست في مصلحة الدائن، فإن ذلك وغيره بخس لحق صاحب الحق.
(فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) في هذه الجملةَ السامية بيان الحكم إذا كان من عليه الحق لَا يحسن الإملاء، وقد أظهر في موضع الإضمار فلم يقل تعالت كلماته: (فإن كان سفيها) وإنما أظهر للتوضيح؛ ولأن الذي عليه الحق المبين الفاهم المتكلم القادر وهو المذكور أولا، غير الذي عليه الحق السفيه أو الضعيف أو الذي لَا يستطيع.
وقد ذكر سبحانه في هذا النص ثلاثة لَا يحسنون الإملاء، وهم: أولا: السفيه، وهو الجاهل بالعقود والتصرفات، أو الذي لَا رأي له، أو المبذر المتلاف الذي لَا يحسن تدبير أموره وإدارة أمواله؛ وكل هذه معانٍ تدور حول الجهل بالعقود، أو فساد الرأي في التصرفات.
وثانيا: الضعيف وهو الصبي والشيخ الهرم.
ثالثا: من لَا يستطيع، وهو معقود اللسان، أو من لَا خبرة له بهذه العقود.
والولي: هو النصير الموالي ذو الصلة بمن عليه الحق الذي يهمه أمره، ويهمه ألا يضيع حقه، سواء أكان النصير وليا بالمعنى الشرعي، أو قيما أقامه القاضي المختص، أم كان وكيلا أقامه صاحب الشأن معبرًا عن إرادته مصورًا لما يعتزم عليه.
وذكرت كلمة العدل في هذا المقام، للإشارة إلى أن ذلك الولي عليه العدل، ويجب أن يلاحظه من ثلاث نواح: من ناحية صاحب الحق، فلا يبخسه ولا ينقصه، ومن ناحية من عليه الحق الذي يتكلم باسمه ويملي عنه، فعليه ألا يمالئ
وإذا كان لَا يسوغ أن يتلاعب بالعبارات فلا يسوغ أن ينقص من الدين أو يزيد في الأجل، أو يضع شروطا في مصلحته وليست في مصلحة الدائن، فإن ذلك وغيره بخس لحق صاحب الحق.
(فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) في هذه الجملةَ السامية بيان الحكم إذا كان من عليه الحق لَا يحسن الإملاء، وقد أظهر في موضع الإضمار فلم يقل تعالت كلماته: (فإن كان سفيها) وإنما أظهر للتوضيح؛ ولأن الذي عليه الحق المبين الفاهم المتكلم القادر وهو المذكور أولا، غير الذي عليه الحق السفيه أو الضعيف أو الذي لَا يستطيع.
وقد ذكر سبحانه في هذا النص ثلاثة لَا يحسنون الإملاء، وهم: أولا: السفيه، وهو الجاهل بالعقود والتصرفات، أو الذي لَا رأي له، أو المبذر المتلاف الذي لَا يحسن تدبير أموره وإدارة أمواله؛ وكل هذه معانٍ تدور حول الجهل بالعقود، أو فساد الرأي في التصرفات.
وثانيا: الضعيف وهو الصبي والشيخ الهرم.
ثالثا: من لَا يستطيع، وهو معقود اللسان، أو من لَا خبرة له بهذه العقود.
والولي: هو النصير الموالي ذو الصلة بمن عليه الحق الذي يهمه أمره، ويهمه ألا يضيع حقه، سواء أكان النصير وليا بالمعنى الشرعي، أو قيما أقامه القاضي المختص، أم كان وكيلا أقامه صاحب الشأن معبرًا عن إرادته مصورًا لما يعتزم عليه.
وذكرت كلمة العدل في هذا المقام، للإشارة إلى أن ذلك الولي عليه العدل، ويجب أن يلاحظه من ثلاث نواح: من ناحية صاحب الحق، فلا يبخسه ولا ينقصه، ومن ناحية من عليه الحق الذي يتكلم باسمه ويملي عنه، فعليه ألا يمالئ
1070
الطرف الثاني في أمره، ومن ناحية الشرع فلا يذكر شرطًا أو التزامًا يخالف الشرع الشريف.
(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ) احتاط الشارع الحكيم للديون المؤجلة، فأمر سبحانه وتعالى بكتابتها، ولم يكتف بذلك، بل أمر بالإشهاد عليها حتى لا تتعرض للضياع، ودعا المتداينين إلى أن يطلبوا شهودًا عدولا يشهدون عند كتابة الدين، توثيقا للدين وتوثيقا للكتابة، ولذا قال تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا) أي اطلبوا وابحثوا وتحروا، فالسين والتاء للطلب. (شَهِيدَينِ) أي شاهدين عدلين؛ لأن " شهيد " صيغة مبالغة من شاهد، والمبالغة في معنى الشهادة تحري معنى العدالة فيها، وأسباب المعاينة، وأن يكون التحمل على وجه التعيين والجزم، فالتعبير بشهيد دون شاهد إشارة إلى ضرورة العدالة وقوة الضبط وقوة الصدق والمروءة فيهما. (مِن رِّجَالِكمْ) خرج به شهادة النساء من غير حضور الرجال، وشهادة غير المسلمين.
وقال بعض المفسرين: إنه خرج به أيضا شهادة العبيد؛ لأن (مِن رِّجَالِكُمْ) أي من أحراركم، وبنوا على ذلك بطلان شهادة العبيد من المسلمين، وهو قول الجمهور؛ وخالف في ذلك الإمام أحمد بن حنبل وقرر أن شهادة العبيد من المسلمين، جائزة تلزم القضاء، وإنما نميل إلى ذلك الرأي من بين آراء الفقهاء، فإذا كان الموالي تقبل روايتهم عن رسول الله - ﷺ -، فكيف لَا تقبل شهادتهم في أمور الناس؟
ولأن (مِن رِّجَالِكُمْ) يدخل في عمومها العبيد؛ لأن الخطاب للمؤمنين، وهم من الرجال المؤمنين، وإخراجهم يقتضي إخراجهم من الخطاب بـ يَا أيُّهَا الذين آمنوا، فكيف يخرجهم مفسر من ذلك الخطاب؟
(فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) في هذا بيان لشهادة النساء مع الرجال، وهو أنه إذا لم يكن رجلان يشهدان، يقوم مقامهما رجل وامرأتان؛ والمعنى: فإن لم يكن الشاهدان رجلين فرجل وامرأتان يشهدان. واشترط فيهما ما هو الشرط في كل شهادة، وهو أن يكونوا (مِمَن تَرْضَوْنَ مِنَ الشّهَدَاءِ) أي
(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ) احتاط الشارع الحكيم للديون المؤجلة، فأمر سبحانه وتعالى بكتابتها، ولم يكتف بذلك، بل أمر بالإشهاد عليها حتى لا تتعرض للضياع، ودعا المتداينين إلى أن يطلبوا شهودًا عدولا يشهدون عند كتابة الدين، توثيقا للدين وتوثيقا للكتابة، ولذا قال تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا) أي اطلبوا وابحثوا وتحروا، فالسين والتاء للطلب. (شَهِيدَينِ) أي شاهدين عدلين؛ لأن " شهيد " صيغة مبالغة من شاهد، والمبالغة في معنى الشهادة تحري معنى العدالة فيها، وأسباب المعاينة، وأن يكون التحمل على وجه التعيين والجزم، فالتعبير بشهيد دون شاهد إشارة إلى ضرورة العدالة وقوة الضبط وقوة الصدق والمروءة فيهما. (مِن رِّجَالِكمْ) خرج به شهادة النساء من غير حضور الرجال، وشهادة غير المسلمين.
وقال بعض المفسرين: إنه خرج به أيضا شهادة العبيد؛ لأن (مِن رِّجَالِكُمْ) أي من أحراركم، وبنوا على ذلك بطلان شهادة العبيد من المسلمين، وهو قول الجمهور؛ وخالف في ذلك الإمام أحمد بن حنبل وقرر أن شهادة العبيد من المسلمين، جائزة تلزم القضاء، وإنما نميل إلى ذلك الرأي من بين آراء الفقهاء، فإذا كان الموالي تقبل روايتهم عن رسول الله - ﷺ -، فكيف لَا تقبل شهادتهم في أمور الناس؟
ولأن (مِن رِّجَالِكُمْ) يدخل في عمومها العبيد؛ لأن الخطاب للمؤمنين، وهم من الرجال المؤمنين، وإخراجهم يقتضي إخراجهم من الخطاب بـ يَا أيُّهَا الذين آمنوا، فكيف يخرجهم مفسر من ذلك الخطاب؟
(فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) في هذا بيان لشهادة النساء مع الرجال، وهو أنه إذا لم يكن رجلان يشهدان، يقوم مقامهما رجل وامرأتان؛ والمعنى: فإن لم يكن الشاهدان رجلين فرجل وامرأتان يشهدان. واشترط فيهما ما هو الشرط في كل شهادة، وهو أن يكونوا (مِمَن تَرْضَوْنَ مِنَ الشّهَدَاءِ) أي
1071
من الذين يرتضى قولهم ويقبل، أي من العدول الذين يمارسون الشهادة ويقولون الحق، ويقيمونها على وجهها الحق، ويشهدون ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين. والتعبير بقوله: (مِمَّن تَرْضَوْنَ) أدق في الدلالة على صدق الشهادة من العدالة؛ لأنَّ العدل قد يكون مرضيًا في دينه وخلقه ولكنه ممن يتأثرون بالمشاهد المؤثرة، فتخونهم ذاكرتهم في وقت الحاجة إليها، وقد يكون في الناس ذوو مروءات يمنعهم جاههم ومقامهم في الناس من أن يكذبوا، وإن كان منهم بعض العاصي.
(أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) هذا بيان العلة في أن المرأتين تقومان مقام الرجل؛ فالمعنى كانت المرأتان بدل رجل لتوقع أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى؛ فإن المرأة لقوة عاطفتها، وشدة انفعال نفسها بالحوادث، قد تتوهم ما لم تر، وهذا هو الضلال؛ فهو نسيان مع اعتقاد غير الواقع، أو ظن غير الواقع، وهذا النوع من الضلال يكثر في النساء والأطفال؛ فالحوادث تفعل في نفوس هؤلاء ما يجعلهم يتخيلون ما لم يقع واقعيا؛ ولهذا الضلال كان لابد أن يكون مع المرأة أخرى بحيث يتذاكران الحق فيما بينهما، وليس من المعقول أن يتحد الضلال؛ ولذلك كان من المقررات الفقهية أن الرجال تسمع شهاداتهم على انفراد بحيث يسمع كل شاهد منفردًا من غير أن يسمعه الآخرون من الشهود؛ أما المرأتان فتسمعان معًا، لتتذاكرا إن كان ضلال من إحداهما أو منهما بحيث تذكِّر كل واحدة الأخرى بما غاب عنها متوهمة سواه.
وهنا سؤال وهو: لماذا أظهر في موضع الإضمار، فقال سبحانه: (أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) ولم يقل فتذكرها الأخرى؟ والجواب عن ذلك فيما يبدو لي: أن إحداهما معناها واحدة منهما فالمعنى فيه: أن تضل واحدة منهما؛ فتذكر كل واحدة تضل الأخرى، فهما يتبادلان الخطأ ويتبادلان التذكير، فكان في إظهار المضمر إشارة إلى هذا المعنى، وإشارة إلى أنهما معًا فيهما شهادة رجل متذكر غير ناس، إذ إن التصريح بـ (إِحْدَاهُمَا) ثانية تصريح بأن إحداهما والأخرى شهادة لا نسيان فيها، فهي شهادة رجل متذكر.
(أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) هذا بيان العلة في أن المرأتين تقومان مقام الرجل؛ فالمعنى كانت المرأتان بدل رجل لتوقع أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى؛ فإن المرأة لقوة عاطفتها، وشدة انفعال نفسها بالحوادث، قد تتوهم ما لم تر، وهذا هو الضلال؛ فهو نسيان مع اعتقاد غير الواقع، أو ظن غير الواقع، وهذا النوع من الضلال يكثر في النساء والأطفال؛ فالحوادث تفعل في نفوس هؤلاء ما يجعلهم يتخيلون ما لم يقع واقعيا؛ ولهذا الضلال كان لابد أن يكون مع المرأة أخرى بحيث يتذاكران الحق فيما بينهما، وليس من المعقول أن يتحد الضلال؛ ولذلك كان من المقررات الفقهية أن الرجال تسمع شهاداتهم على انفراد بحيث يسمع كل شاهد منفردًا من غير أن يسمعه الآخرون من الشهود؛ أما المرأتان فتسمعان معًا، لتتذاكرا إن كان ضلال من إحداهما أو منهما بحيث تذكِّر كل واحدة الأخرى بما غاب عنها متوهمة سواه.
وهنا سؤال وهو: لماذا أظهر في موضع الإضمار، فقال سبحانه: (أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) ولم يقل فتذكرها الأخرى؟ والجواب عن ذلك فيما يبدو لي: أن إحداهما معناها واحدة منهما فالمعنى فيه: أن تضل واحدة منهما؛ فتذكر كل واحدة تضل الأخرى، فهما يتبادلان الخطأ ويتبادلان التذكير، فكان في إظهار المضمر إشارة إلى هذا المعنى، وإشارة إلى أنهما معًا فيهما شهادة رجل متذكر غير ناس، إذ إن التصريح بـ (إِحْدَاهُمَا) ثانية تصريح بأن إحداهما والأخرى شهادة لا نسيان فيها، فهي شهادة رجل متذكر.
1072
(وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) أي لَا يأب الذين اشتهروا بالعدالة ووثق الناس بهم واطمأنوا إليهم عن الشهادة إذا دعوا إليها، سواء أكانت الدعوة للحضور وتحمل الشهادة كالشهادة في التوثيق بالكتابة، أم كانت الدعوة لأداء الشهادة عند الإنكار في مجالس القضاء، وإن هذا يدل على أن الشهادة إذا تعين الشاهد فرض أداؤها، وهذا تطبيق لقوله تعالى: (وَلا تَكْتمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ...).
وقال بعض العلماء: إن أداء الشهادة عند الدعوة واجب، ولكن ليست إجابة الدعوة إلى تحمل الشهادة بحضور الكتابة ونحوها فرضًا.
(وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ) أي لَا تملوا من كتاب الدين إلى أجله بأن تحدُّوه وتبينوا أجله، سواء أكان الدين كبيرًا أم كان الدين صغيرًا، فلا يذهب بكم احتقار الصغر إلى إهماله وعدم كتابته؛ لأن الصغر والكبر لَا حدود لهما، فقد يكون صغيرًا في نظر غني مليء، ويكون كبيرا خطيرا عند غيره؛ ولأن إهمال الصغير يؤدي إلى جحوده، وعندئذ تذهب الثقة، وإذا ذهبت ساد التناحر والتنازع؛ ولأن التهاون في الصغير قد يؤدي إلى التهاون في الكبير؛ وإن التشديد في كتابة الصغير والكبير يدل على أن الأمر بالكتابة للوجوب كما بينا.
(ذَلِكمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا) الإشارة هنا إلى كل ما ذكر من الأمر بالكتابة، والنهي عن الامتناع عنها، والأمر بالاستشهاد، والنهي عن الامتناع عن الشهادة، والأمر بكتابة الصغير والكبير؛ وإن هذه الجملة السامية فيها تعليل للتشديد في الأوامر السابقة، وقد تعللت هذه الأوامر والوصايا بثلاثة أمور: أولها: أنها أقسط عند الله، أي أنها أعدل في ذاتها، لأنها أعدل عند الله تعالى، وكل ما يكون أعدل في علم الله تعالى فهو الأعدل في ذاته، وكانت الأعدل في ذاتها؛ لأنها حماية لنفس المدين من الجحود، وحماية لحق الدائن من الضياع، فهي حماية للفريقين.
والأمر الثاني: أنها (أَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ) أي أن الكتابة والشهادة على الكتابة أشد تقويمًا للشهادة والإتيان بها مقومة عادلة ثابتة لَا زيف فيها ولا اضطراب؛ والمراد
وقال بعض العلماء: إن أداء الشهادة عند الدعوة واجب، ولكن ليست إجابة الدعوة إلى تحمل الشهادة بحضور الكتابة ونحوها فرضًا.
(وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ) أي لَا تملوا من كتاب الدين إلى أجله بأن تحدُّوه وتبينوا أجله، سواء أكان الدين كبيرًا أم كان الدين صغيرًا، فلا يذهب بكم احتقار الصغر إلى إهماله وعدم كتابته؛ لأن الصغر والكبر لَا حدود لهما، فقد يكون صغيرًا في نظر غني مليء، ويكون كبيرا خطيرا عند غيره؛ ولأن إهمال الصغير يؤدي إلى جحوده، وعندئذ تذهب الثقة، وإذا ذهبت ساد التناحر والتنازع؛ ولأن التهاون في الصغير قد يؤدي إلى التهاون في الكبير؛ وإن التشديد في كتابة الصغير والكبير يدل على أن الأمر بالكتابة للوجوب كما بينا.
(ذَلِكمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا) الإشارة هنا إلى كل ما ذكر من الأمر بالكتابة، والنهي عن الامتناع عنها، والأمر بالاستشهاد، والنهي عن الامتناع عن الشهادة، والأمر بكتابة الصغير والكبير؛ وإن هذه الجملة السامية فيها تعليل للتشديد في الأوامر السابقة، وقد تعللت هذه الأوامر والوصايا بثلاثة أمور: أولها: أنها أقسط عند الله، أي أنها أعدل في ذاتها، لأنها أعدل عند الله تعالى، وكل ما يكون أعدل في علم الله تعالى فهو الأعدل في ذاته، وكانت الأعدل في ذاتها؛ لأنها حماية لنفس المدين من الجحود، وحماية لحق الدائن من الضياع، فهي حماية للفريقين.
والأمر الثاني: أنها (أَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ) أي أن الكتابة والشهادة على الكتابة أشد تقويمًا للشهادة والإتيان بها مقومة عادلة ثابتة لَا زيف فيها ولا اضطراب؛ والمراد
1073
بالشهادة الإثبات، أي أن الكتابة والإشهاد عليها أقوم طريق للإثبات والحكم. وقد فهم بعض العلماء من هذا أنه يجوز أن يستعين الشاهد بما كتب وقت المعاينة عند تحمل الشهادة.
والأمر الثالث: أنها (أَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا) أي الأوامر السابقة والوصايا إذا نفذت على وجهها أقرب إلى ألا يكون ريبا وتظننا في التعامل، والريب والتظنن ونحوهما يفقد الثقة، وإذا فقدت الثقة بين المتعاملين فسد التعامل، وانحلت عرى التضافر الاجتماعي، والتعاون الإسلامي، والاقتصادي.
(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا) التجارة الحاضرة التي تدور بين التجار، هي التي يجري فيها التقابض في المجالس، أو التي يتأخر فيها الأداء ساعة أو بعض يوم أو نحو ذلك، ووصفت بأنها تدور، لأن هذا يعطي وذاك يأخذ، وقد يطلب هذا بضاعة ويدفع ثمنا مرة، ثم يعطي بضاعة أحيانا، وسميت حاضرة، لأن المبيع والثمن كلاهما حاضر؛ فهذا النوع من التعامل ليس هناك جناح أو إثم في ألَّا يكتب؛ وإن الاستثناء على هذا يكون استثناءً منقطعا؛ لأنه إذا كانت التجارة حاضرة بمعنى أن الثمن والمبيع كلاهما حاضر مهيأ للدفع، وإن تأخر أحدهما قليلا من الزمن لَا يعد تأجيلا، فإنه ليس ثمة دين داخل فلا أمر بالكتابة حتى يكون الاستثناء منه، فـ " إلا " هنا بمعنى " لكن ". وفي نفي الجناح والإثم إشارة إلى أمرين: أولهما - أن الأولى الكتابة، وثانيهما - أن غير ذلك يأثم فيه من لَا يكتب؛ فالكتابة واجبة في غير موضع الاستثناء، لأن الامتناع عن موضع الإثم واجب.
(وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) هذه وصية جديدة من وصايا التعامل، وهو الإشهاد على البيع. وقد قرر الظاهرية أن الإشهاد على البيع واجب بحيث لو لم يُشهد المتبايعان على البيع يأثمان، وإن كان البيع يقع صحيحًا، وذلك لأن الظاهرية قرروا أن الأمر للوجوب حتى يوجد دليل يمنع الوجوب، ولم يوجد عندهم الدليل. وقال الجمهور: إن الإشهاد في البيع غير واجب، وإنما هذا إرشاد وتعليم مجرد؛ وذلك
والأمر الثالث: أنها (أَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا) أي الأوامر السابقة والوصايا إذا نفذت على وجهها أقرب إلى ألا يكون ريبا وتظننا في التعامل، والريب والتظنن ونحوهما يفقد الثقة، وإذا فقدت الثقة بين المتعاملين فسد التعامل، وانحلت عرى التضافر الاجتماعي، والتعاون الإسلامي، والاقتصادي.
(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا) التجارة الحاضرة التي تدور بين التجار، هي التي يجري فيها التقابض في المجالس، أو التي يتأخر فيها الأداء ساعة أو بعض يوم أو نحو ذلك، ووصفت بأنها تدور، لأن هذا يعطي وذاك يأخذ، وقد يطلب هذا بضاعة ويدفع ثمنا مرة، ثم يعطي بضاعة أحيانا، وسميت حاضرة، لأن المبيع والثمن كلاهما حاضر؛ فهذا النوع من التعامل ليس هناك جناح أو إثم في ألَّا يكتب؛ وإن الاستثناء على هذا يكون استثناءً منقطعا؛ لأنه إذا كانت التجارة حاضرة بمعنى أن الثمن والمبيع كلاهما حاضر مهيأ للدفع، وإن تأخر أحدهما قليلا من الزمن لَا يعد تأجيلا، فإنه ليس ثمة دين داخل فلا أمر بالكتابة حتى يكون الاستثناء منه، فـ " إلا " هنا بمعنى " لكن ". وفي نفي الجناح والإثم إشارة إلى أمرين: أولهما - أن الأولى الكتابة، وثانيهما - أن غير ذلك يأثم فيه من لَا يكتب؛ فالكتابة واجبة في غير موضع الاستثناء، لأن الامتناع عن موضع الإثم واجب.
(وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) هذه وصية جديدة من وصايا التعامل، وهو الإشهاد على البيع. وقد قرر الظاهرية أن الإشهاد على البيع واجب بحيث لو لم يُشهد المتبايعان على البيع يأثمان، وإن كان البيع يقع صحيحًا، وذلك لأن الظاهرية قرروا أن الأمر للوجوب حتى يوجد دليل يمنع الوجوب، ولم يوجد عندهم الدليل. وقال الجمهور: إن الإشهاد في البيع غير واجب، وإنما هذا إرشاد وتعليم مجرد؛ وذلك
1074
لأن النبي - ﷺ - كان يتبايع ولا يشهد، حتى لقد جحد البائع العقد مرة فشهد له خزيمة (١)..
وعندي أن الإشهاد في بيع الأشياء التي تبقى يجب، حتى يعلم الناس انتقال اليد فيه، وانتقال الحوزة، وليمنع الجحود.
(وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) كلمة " يُضَارَّ " تحتمل أن تكون للفاعل، ويحتمل أن تكون بالبناء للمجهول، والمعنى على الأول نهي الكاتب والشاهد عن أن ينزلا ضررا بأحد المتعاملين، بأن يبخس الكاتب أحدهما، أو يشهد الشاهد بغير الحق " والمعنى على الثاني - وهو الظاهر - لَا يصح أن ينزل ضرر بالكاتب أو الشاهد لحملهما على كتابة غير الحق أو قول غير الحق، فإنهما أمينان، وإضرار الأمناء يحملهم على الخيانة وفي ذلك ضياع للأمانة، وذهاب للثقة؛ ولذا قال تعالى بعد ذلك: (وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) أي إن تفعلوا الضرر بالشاهد والكاتب، وتنزلوا الأذى بهما فإن ذلك يكون فسوقًا بكم، أي معصية وخروجًا عن جادة العدل يحل بكم، وينزل في جماعتكم فتضيع الحقوق، وتذهب الأمانات، وتمحى الثقة في التعامل، ولا يمكن إقامة حق وخفض باطل، فخير الجماعة في حماية الذين يوثقون الحقوق من كاتبين وشاهدين.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهً بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ختم الله سبحانه وتعالى هذه الآية بما يربي المهابة للأوامر العلية والوصايا الإلهية؛ وقد اشتمل ذلك الختام الكريم على ثلاثة أمور:
أولها: تقوى الله، فإنها نور القلب، وهي الشعور بمراقبة الله، وفي ذلك إشارة إلى وجوب مراقبة الله عند التعامل، ونية الأداء، ثانيها: الإشعار بأن هذا تعليم من الله اللطيف الخبير، ليحسن التعامل، ويقوم على أسس من الثقة والاطمئنان ومنع الريب.
________
(١) رواه النسائي: البيوع - التسهيل في الإشهاد على البيع (٤٥٦٨)، وأبو داود في الأقضية - إذا علم الحاكم صدق شهادة الواحد (٣١٣٠)، وأحمد: مسند الأنصار (٢٠٨٧٨)، عن عمارة بن ثابت رضي الله عنه.
وعندي أن الإشهاد في بيع الأشياء التي تبقى يجب، حتى يعلم الناس انتقال اليد فيه، وانتقال الحوزة، وليمنع الجحود.
(وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) كلمة " يُضَارَّ " تحتمل أن تكون للفاعل، ويحتمل أن تكون بالبناء للمجهول، والمعنى على الأول نهي الكاتب والشاهد عن أن ينزلا ضررا بأحد المتعاملين، بأن يبخس الكاتب أحدهما، أو يشهد الشاهد بغير الحق " والمعنى على الثاني - وهو الظاهر - لَا يصح أن ينزل ضرر بالكاتب أو الشاهد لحملهما على كتابة غير الحق أو قول غير الحق، فإنهما أمينان، وإضرار الأمناء يحملهم على الخيانة وفي ذلك ضياع للأمانة، وذهاب للثقة؛ ولذا قال تعالى بعد ذلك: (وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) أي إن تفعلوا الضرر بالشاهد والكاتب، وتنزلوا الأذى بهما فإن ذلك يكون فسوقًا بكم، أي معصية وخروجًا عن جادة العدل يحل بكم، وينزل في جماعتكم فتضيع الحقوق، وتذهب الأمانات، وتمحى الثقة في التعامل، ولا يمكن إقامة حق وخفض باطل، فخير الجماعة في حماية الذين يوثقون الحقوق من كاتبين وشاهدين.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهً بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ختم الله سبحانه وتعالى هذه الآية بما يربي المهابة للأوامر العلية والوصايا الإلهية؛ وقد اشتمل ذلك الختام الكريم على ثلاثة أمور:
أولها: تقوى الله، فإنها نور القلب، وهي الشعور بمراقبة الله، وفي ذلك إشارة إلى وجوب مراقبة الله عند التعامل، ونية الأداء، ثانيها: الإشعار بأن هذا تعليم من الله اللطيف الخبير، ليحسن التعامل، ويقوم على أسس من الثقة والاطمئنان ومنع الريب.
________
(١) رواه النسائي: البيوع - التسهيل في الإشهاد على البيع (٤٥٦٨)، وأبو داود في الأقضية - إذا علم الحاكم صدق شهادة الواحد (٣١٣٠)، وأحمد: مسند الأنصار (٢٠٨٧٨)، عن عمارة بن ثابت رضي الله عنه.
1075
ثالثها: الإشعار بإحاطة علم الله، فما يأمر به هو أمر عليم حكيم يعلم وجه المصلحة، وهو عليم بالضمائر، وهو الذي يتولى السرائر.
* * *
(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)
* * *
في الآية السابقة بين سبحانه وتعالى وجوب الكتابة، عند من يقول: إن الأمر للوجوب، أو وصى سبحانه وتعالى بالكتابة وأرشد إليها، وفي هذه الآية يبين سبحانه حال الترخص من الكتابة، وهي الحال التي لَا تكون الكتابة فيها ممكنة، إذ يكون المتداينان على سفر، ولا يوجد كاتب؛ فإنه في هذه الحال يترخص في عدم الكتابة، ويعوض عن الكتابة والشهادة في الاستيثاق بالرهن، وإن لم يكن رهن فإنه يكون الاعتماد على الأمانة المطلقة حيث تعذر الاستيثاق بالأمور المادية، وهي: الكتابة والشهادة عليها، ثم الرهان المقبوضة، فيقوم مقام هذه الأمور الأمانة والذمة.
* * *
(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)
* * *
في الآية السابقة بين سبحانه وتعالى وجوب الكتابة، عند من يقول: إن الأمر للوجوب، أو وصى سبحانه وتعالى بالكتابة وأرشد إليها، وفي هذه الآية يبين سبحانه حال الترخص من الكتابة، وهي الحال التي لَا تكون الكتابة فيها ممكنة، إذ يكون المتداينان على سفر، ولا يوجد كاتب؛ فإنه في هذه الحال يترخص في عدم الكتابة، ويعوض عن الكتابة والشهادة في الاستيثاق بالرهن، وإن لم يكن رهن فإنه يكون الاعتماد على الأمانة المطلقة حيث تعذر الاستيثاق بالأمور المادية، وهي: الكتابة والشهادة عليها، ثم الرهان المقبوضة، فيقوم مقام هذه الأمور الأمانة والذمة.
1076
(وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَانِبًا فَرِهَانٌ مقْبُوضَةٌ) الرهان: جمع رهن بمعنى مرهون، فرهن ليس معناها المصدر، بل معناها العين المرهونة، وقرئ (فَرُهُنٌ مقبوضة). وقد خرج بعضهم هذه القراءة على أن (رُهُن) جمع رهان بمعنى رهن.
1076
وخرجه بعضهم على أنه جمع رَهْن كسقْف وسُقُف، وفَرْشٍ وفُرُش، وحَلْقٍ وحُلُق، وهكذا. وقرئ بدل (وَلَمْ تَجِدوا كَاتِبًا): (ولم تجدوا كتابا).
والمعنى فيما يظهر: إذا كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتبا يكتب، أو قرطاسا يكتب فيه، أو لم تتيسر أسباب الكتابة لأي سبب من الأسباب، فإنه يقوم مقام الكتابة رهن يستوثق به في أداء الدين، وإنه لَا يقوم مقام الكتابة فقط بل يقوم أيضًا مقام الشهادة.
وهنا إشارتان بيانيتان ويجب التنبيه عليهما:
أولهما: أن الله سبحانه وتعالى يعبر عن المسافر في حال بيان الرخصة التي ترخص له بسبب السفر بقوله تعالى: (عَلَى سَفَرٍ) وقد عبر سبحانه بذلك في حال رخصة الإفطار، ورخصة ترك الكتابة، ورخصة التيمم عند عدم وجود الماء؛ وذلك لأن معنى (عَلَى سَفَرٍ) ي تضمن معنى الركوب، أي راكبين فوق سفر؛ وذلك يشير إلى اضطراب الحال والقلق والانزعاج، فليست الحال حال استقرار، إذ من كان مركبه سفرا وانتقالا مستمرا، فهو غير مستقر ولا مطمئن. وتلك الإشارة تتناسب مع الترخيص في الإفطار، والترخيص في ترك الكتابة، والترخيص في التيمم.
ثانيهما؛ أن في الآية قراءتين متواترتين كما بينا، إحداهما: (وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا) والأخرى (وَلَمْ تَجِدُوا كِتَابًا) وإذا كانت القراءتان متواترتين فكلتاهما قرآن مقروء مفهوم بمعناها، ومجموع القراءتين يؤدي معنى تتضافران في أدائه، وهو أنه في حال السفر يقوم الرهن مقام الكتابة والشهادة إذا لم يوجد كاتب، أو وجد الكاتب ولم يوجد الكتاب، أو أي أداة من أدوات الكتابة.
والفقهاء في ظل هذا النص الكريم يتكلمون في مسائل فقهية، ويقتبسون معانيها من إشاراته وعباراته؛ وإنا نوجز المسائل التي يتكلمون فيها في ثلاث: أولها: إن الذين يقولون: إن الأمر في الكتابة والاستشهاد على الدين للوجوب يقول بعضهم: إن الترخص في الرهن بدل الكتابة والشهادة إنما يكون في
والمعنى فيما يظهر: إذا كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتبا يكتب، أو قرطاسا يكتب فيه، أو لم تتيسر أسباب الكتابة لأي سبب من الأسباب، فإنه يقوم مقام الكتابة رهن يستوثق به في أداء الدين، وإنه لَا يقوم مقام الكتابة فقط بل يقوم أيضًا مقام الشهادة.
وهنا إشارتان بيانيتان ويجب التنبيه عليهما:
أولهما: أن الله سبحانه وتعالى يعبر عن المسافر في حال بيان الرخصة التي ترخص له بسبب السفر بقوله تعالى: (عَلَى سَفَرٍ) وقد عبر سبحانه بذلك في حال رخصة الإفطار، ورخصة ترك الكتابة، ورخصة التيمم عند عدم وجود الماء؛ وذلك لأن معنى (عَلَى سَفَرٍ) ي تضمن معنى الركوب، أي راكبين فوق سفر؛ وذلك يشير إلى اضطراب الحال والقلق والانزعاج، فليست الحال حال استقرار، إذ من كان مركبه سفرا وانتقالا مستمرا، فهو غير مستقر ولا مطمئن. وتلك الإشارة تتناسب مع الترخيص في الإفطار، والترخيص في ترك الكتابة، والترخيص في التيمم.
ثانيهما؛ أن في الآية قراءتين متواترتين كما بينا، إحداهما: (وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا) والأخرى (وَلَمْ تَجِدُوا كِتَابًا) وإذا كانت القراءتان متواترتين فكلتاهما قرآن مقروء مفهوم بمعناها، ومجموع القراءتين يؤدي معنى تتضافران في أدائه، وهو أنه في حال السفر يقوم الرهن مقام الكتابة والشهادة إذا لم يوجد كاتب، أو وجد الكاتب ولم يوجد الكتاب، أو أي أداة من أدوات الكتابة.
والفقهاء في ظل هذا النص الكريم يتكلمون في مسائل فقهية، ويقتبسون معانيها من إشاراته وعباراته؛ وإنا نوجز المسائل التي يتكلمون فيها في ثلاث: أولها: إن الذين يقولون: إن الأمر في الكتابة والاستشهاد على الدين للوجوب يقول بعضهم: إن الترخص في الرهن بدل الكتابة والشهادة إنما يكون في
1077
حال السسفر، وكل حال يتحقق فيها المعنى المسوغ للترخيص في السفر، وهو عدم وجود الكاتب الذي يكتب، أو الأداة التي يكتب بها، أو القرطاس الذي يكتب عليه، ولو كان في حضر لَا في سفر، لأن المعنى وهو تعذر أو تعسر وجود الكاتب أو ما يكتب به يتحقق في هذه الحال كما يتحقق في السفر، ولكن ذكر السفر، لأنه مظنة لذلك التعذر، وهو فيه كثير عند العرب لغلبة الأمية عندهم، أما في الحضر فذلك نادر، وإن وجد فإنه يطبق عليه حكم السفر. وبعض هؤلاء الذين قالوا إن الكتابة واجبة والشهادة عليها مثلها قالوا: إن الترخص مقيد بالسفر، ولا ترخص بغير الكتابة في الحضر. وكأنهم بهذا يرون أن من الضروري أن يكون في كل قرية أو حي كاتب وأدوات كتابة، وأن على أهل هذه القرية أن يهيئوا الأسباب لذلك؛ لأنه فرض كفاية إن تركه الجميع أثموا، وإن قام به بعضهم سقط الحرج عن كلهم.
الثانية: أن الرهن يقوم مقام الشهادة والكتابة في الاستيثاق من أداء الدين، ولذلك فإن المعقول أن يكون قريبًا من الدين في قيمته. وقد استنبط مالك رضي الله عنه من هذا أنه إذا اختلف الدائن والمدين في مقدار دين موثق برهن ولم يكن للدائن بينة تثبت مقداره فإنه لَا تُوَجَّه اليمين إلى المدين، بل يُحكَّم الرهن، فما يشهد له الرهن يكون القول قوله، فإن كان مثل ما يقول المدين أو أقل فالقول قول المدين، وإن كان مثل ما يقول الدائن أو أكثر فالقول قول الدائن، وقال أبو حنيفة والشافعي: إن اليمين في كل الأحوال على المدين ما لم تكن بينة للمدعي. وحجة مالك أن الرهن قائم مقام الشهادة والكتابة فهو شهادة وكتابة معا، فما يشهد به يكون الحكم على مقتضاه.
الثالثة: قوله تعالى: (فَرِهَانٌ مقْبُوضَةٌ) فقد أخذ بنص الآية الكريمة أبو حنيفة وأصحابه، وقرروا أن الرهن لَا يتم إلا بالقبض فإن لم يكن قبض لَا يتم، فإذا افترق العاقدان من غير قبض فالرهن غير صحيح. وقال مالك رضي الله عنه: إن الرهن يتم من غير القبض، ولكن القبض حكم من أحكامه، فمن حق المرتهن وهو الدائن بعد تمام عقد الرهن أن يطالب بقبض العين المرهونة، فالقبض حكم للعقد،
الثانية: أن الرهن يقوم مقام الشهادة والكتابة في الاستيثاق من أداء الدين، ولذلك فإن المعقول أن يكون قريبًا من الدين في قيمته. وقد استنبط مالك رضي الله عنه من هذا أنه إذا اختلف الدائن والمدين في مقدار دين موثق برهن ولم يكن للدائن بينة تثبت مقداره فإنه لَا تُوَجَّه اليمين إلى المدين، بل يُحكَّم الرهن، فما يشهد له الرهن يكون القول قوله، فإن كان مثل ما يقول المدين أو أقل فالقول قول المدين، وإن كان مثل ما يقول الدائن أو أكثر فالقول قول الدائن، وقال أبو حنيفة والشافعي: إن اليمين في كل الأحوال على المدين ما لم تكن بينة للمدعي. وحجة مالك أن الرهن قائم مقام الشهادة والكتابة فهو شهادة وكتابة معا، فما يشهد به يكون الحكم على مقتضاه.
الثالثة: قوله تعالى: (فَرِهَانٌ مقْبُوضَةٌ) فقد أخذ بنص الآية الكريمة أبو حنيفة وأصحابه، وقرروا أن الرهن لَا يتم إلا بالقبض فإن لم يكن قبض لَا يتم، فإذا افترق العاقدان من غير قبض فالرهن غير صحيح. وقال مالك رضي الله عنه: إن الرهن يتم من غير القبض، ولكن القبض حكم من أحكامه، فمن حق المرتهن وهو الدائن بعد تمام عقد الرهن أن يطالب بقبض العين المرهونة، فالقبض حكم للعقد،
1078
وليس ركنا من أركانه، ولاشرطا لتمامه. وقال الشافعي: إن الرهن يتم من غير حاجة إلى القبض، وإنما الرهن للاستيثاق من الوفاء بالدين، ووصف " مقبوضة " جرى مجرى العرف، وليس وصفًا له مفهوم يعطي تخلفه غير حكمه، بل يكون الرهن مقبوضًا أو يكون غير مقبوض، وأثره في حال عدم القبض أن يتعلق حق الدائن بالعين بحيث يمنع صاحب العين من التصرف فيها حتى يستوفى الدين، وأنه إذا حل الأجل من غير أن يوفي المدين فإنه تباع العين في سبيل أداء الدين. وكأنه في المذهب الشافعي كما هو في القانون المدني المصري الرهن ينقسم إلى قسمين: رهن حيازة، وهو الذي يتم فيه القبض، ويكون أكثر ما يكون في المنقول؛ ورهن تأميني، وهو الذي يستمر تحت يد المدين، ولكن يؤمن به الدين ويوثق، وهو أكثر ما يكون في العقار.
(فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) هذا تدرج حكيم؛ الكتابة في الديون والإشهاد عليها مطلوبان، فإن تعذرت الكتابة والشهادة فإنه يترخص حينئذ بالرهن المقبوض، ولكن إذا كان طالب الدين ليس عنده رهن يوثق به الدين، وهما في سفر ولا كاتب ولا شهيد أيمتنع القرض ويكون الحرج على المدين، وقد يكون في ضرورة للاستدانة وهو مليء في دياره يستطيع الأداء عند عودته؛ إنه لم يبق إذن إلا الاعتماد على أمانته، وهذا هو الذي يتبين في ذلك النص الكريم؛ والمعنى: إذا أمن الدائن المدين، واعتمد على ذمته ومقدار أمانته، فليؤد الدين في ميعاده؛ لأنه أمانة في عنقه، ولأن الدائن اعتمد على حسن أدائه وعلى مقدار ما عنده من أمانة، فلا يضيع رجاء الخير فيه؛ ولأن الله سبحانه عليم بما في الصدور، فليتق الله ربه. وإذا كان النص الكريم قد جاء في مساق الدين وتوثيقه، فإن اللفظ عام يعم وجوب أداء الأمانات كلها سواء أكانت ديونًا في الذمة، أم كانت ودائع مقبوضة، أم كانت أمانات مرسلة حمل المؤتمن أداءها.
وفى النص الكريم عدة إشارات بيانية، تتضافر في مجموعها، وتؤكد وجوب أداء الأمانة.
(فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) هذا تدرج حكيم؛ الكتابة في الديون والإشهاد عليها مطلوبان، فإن تعذرت الكتابة والشهادة فإنه يترخص حينئذ بالرهن المقبوض، ولكن إذا كان طالب الدين ليس عنده رهن يوثق به الدين، وهما في سفر ولا كاتب ولا شهيد أيمتنع القرض ويكون الحرج على المدين، وقد يكون في ضرورة للاستدانة وهو مليء في دياره يستطيع الأداء عند عودته؛ إنه لم يبق إذن إلا الاعتماد على أمانته، وهذا هو الذي يتبين في ذلك النص الكريم؛ والمعنى: إذا أمن الدائن المدين، واعتمد على ذمته ومقدار أمانته، فليؤد الدين في ميعاده؛ لأنه أمانة في عنقه، ولأن الدائن اعتمد على حسن أدائه وعلى مقدار ما عنده من أمانة، فلا يضيع رجاء الخير فيه؛ ولأن الله سبحانه عليم بما في الصدور، فليتق الله ربه. وإذا كان النص الكريم قد جاء في مساق الدين وتوثيقه، فإن اللفظ عام يعم وجوب أداء الأمانات كلها سواء أكانت ديونًا في الذمة، أم كانت ودائع مقبوضة، أم كانت أمانات مرسلة حمل المؤتمن أداءها.
وفى النص الكريم عدة إشارات بيانية، تتضافر في مجموعها، وتؤكد وجوب أداء الأمانة.
1079
أولها في قوله تعالى (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) فإن التعبير بـ (أَمِنَ) بدل أعطى أو أودع، إشارة إلى الجانب الذي أعتمد عليه وهو خلق الأمانة في صاحبه، فهو لَا يرى فيه إلا جانبًا مأمونا لَا يتوقع منه شرا من جحود أو خيانة.
ثانيها: ذكر الظاهر بدل الضمير في قوله تعالى: (فَلْيؤَدِّ الَّذِي اؤْتمِنَ) فإن التعبير بالموصول هنا يشير إلى علة وجوب الأداء، أو إلى توثيق الأداء؛ لأنه ائتمنه، فحق عليه أن يؤدي الأمانة.
ثالثها: في إضافة الأمانة في قوله تعالى: (أَمَانَتَهُ) فإن الأمانة هي في الواقع للدائن أو المعطي من حيث إنه مالك للدين وللوديعة ونحوها، ولكن أضيفت إلى المدين من حيث إنها عبء عليه يجب أن يُؤدى، وبأدائه يزيل ما عليه من عبء فإن الأمانة عبء ثقيل لمن عرف حقها.
رابعها: قوله تعالى: (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) فإذا كان صاحب الحق لم يوثق حقه بكتاب أو شهادة أو رهن، فإن التقوى هي الوثيقة الكبرى التي لَا تعدلها وثيقة.
وقوله تعالى: (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) فيه طلب للتقوى مؤكد بالأمر، وبالتعبير بلفظ الجلالة الذي يربي ذكره الهابة في النفس، إذ يحس القارئ بعظمة الخالق وجبروته وألوهيته، ومؤكد أيضًا بالتعبير بربه؛ إذ فيه إشارة إلى أنه خالقه وبارئه ومربيه، والمهيمن الدائم عليه.
(وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) بيَّن سبحانه في النص السابق وجوب أداء الأمانة عامة، ولأن الكلام في الديون وطرق توثيقها كانت دالة على وجوب أداء الأمانة في الديون خاصة. وفي هذا النص الكريم يبين نوعا من الأمانات يجب أداؤه، وأداؤه أشد وجوبا، وأغلظ تكليفا، وهو أمانة الشهادة؛ فإن العلم بصاحب الحق أمانة في عنق العالم به يجب عليه أداؤها عند طلب ذلك منه أمام القضاء أو أمام غير القضاء؛ وإن هذه الأمانة كانت أغلظ الأمانات لأنها تُناط بها الحقوق، وانتظام المعاملات، وقيام المجتمع على أساس من الثقة وتبادل المنافع؛ ولهذا قال تعالى: (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ) وكتمان الشهادة ألا يقول ما عاين، بأن
ثانيها: ذكر الظاهر بدل الضمير في قوله تعالى: (فَلْيؤَدِّ الَّذِي اؤْتمِنَ) فإن التعبير بالموصول هنا يشير إلى علة وجوب الأداء، أو إلى توثيق الأداء؛ لأنه ائتمنه، فحق عليه أن يؤدي الأمانة.
ثالثها: في إضافة الأمانة في قوله تعالى: (أَمَانَتَهُ) فإن الأمانة هي في الواقع للدائن أو المعطي من حيث إنه مالك للدين وللوديعة ونحوها، ولكن أضيفت إلى المدين من حيث إنها عبء عليه يجب أن يُؤدى، وبأدائه يزيل ما عليه من عبء فإن الأمانة عبء ثقيل لمن عرف حقها.
رابعها: قوله تعالى: (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) فإذا كان صاحب الحق لم يوثق حقه بكتاب أو شهادة أو رهن، فإن التقوى هي الوثيقة الكبرى التي لَا تعدلها وثيقة.
وقوله تعالى: (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) فيه طلب للتقوى مؤكد بالأمر، وبالتعبير بلفظ الجلالة الذي يربي ذكره الهابة في النفس، إذ يحس القارئ بعظمة الخالق وجبروته وألوهيته، ومؤكد أيضًا بالتعبير بربه؛ إذ فيه إشارة إلى أنه خالقه وبارئه ومربيه، والمهيمن الدائم عليه.
(وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) بيَّن سبحانه في النص السابق وجوب أداء الأمانة عامة، ولأن الكلام في الديون وطرق توثيقها كانت دالة على وجوب أداء الأمانة في الديون خاصة. وفي هذا النص الكريم يبين نوعا من الأمانات يجب أداؤه، وأداؤه أشد وجوبا، وأغلظ تكليفا، وهو أمانة الشهادة؛ فإن العلم بصاحب الحق أمانة في عنق العالم به يجب عليه أداؤها عند طلب ذلك منه أمام القضاء أو أمام غير القضاء؛ وإن هذه الأمانة كانت أغلظ الأمانات لأنها تُناط بها الحقوق، وانتظام المعاملات، وقيام المجتمع على أساس من الثقة وتبادل المنافع؛ ولهذا قال تعالى: (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ) وكتمان الشهادة ألا يقول ما عاين، بأن
1080
يمتنع عن الذهاب إلى مجلس القضاء مطلقا، أو يذهب ويقول لَا أعلم؛ فإن ذلك فوق أنه كتمان كذب، أو يقول بعض ما يعلم. والأداء أن يقول كل ما يعلم حيث طلب إليه أن يقول، ولا يترك شيئًا مما يعلمه متصلا بموضوع الشهادة.
وقد وصف الله سبحانه من يكتم الشهادة بالإثم، وأسند الإثم إلى القلب، فقال سبحانه: (وَمَن يَكْتمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) وقد أسند الإثم إلى القلب خاصة مع أن الإثم يسند إلى الشخص، وهذا من قبيل المجاز، وهو تعبير عن الكل باسم الجزء؛ لأن لذلك الجزء مزيد اختصاص في موضع الحكم، لأنَّ الإثم في كتمان الشهادة عمل القلب لَا عمل الجوارح، ولأن القلب أساس كل خير وكل شر ولو كان الإثم من عمل الجوارح، فهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسم كله، وإذا فسدت فسد الجسم كله. ولقد قال الزمخشري في هذا المعنى: " كتمان الشهادة هو أن يضمرها، ولا يتكلم بها، فلما كان إثما مقترنا بالقلب أسند إليه؛ لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ؛ ألا تراك إذا أردت التوكيد تقول: هذا مما أبصرته عينى، ومما سمعته أذني، ومما عرفه قلبي؛ ولأن القلب رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله؛ فكأنه قيل: فقد تمكن الإثم في أصل نفسه، وملك أشرف مكان فيه، ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان، ولِيُعْلَمَ أن القلب أصل متعلقه، ومعدن اقترافه، واللسان ترجمان عنه؛ ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح، وهي لها كالأصول التي تشع منها، ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر، وهما من أفعال القلوب؛ فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب، فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب ".
وهنا يسأل سائل: إن ما يهم به القلب لَا يحاسب عليه الشخص؛ ألا ترى أن من هم بسيئة فلم يفعلها لم يكتب عليه شيء، فكيف يكون إثم في عدم أداء الشهادة، وهي ليست إلا عملا قلبيا لَا أثر له في الجوارح؟ والجواب عن ذلك: أن
وقد وصف الله سبحانه من يكتم الشهادة بالإثم، وأسند الإثم إلى القلب، فقال سبحانه: (وَمَن يَكْتمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) وقد أسند الإثم إلى القلب خاصة مع أن الإثم يسند إلى الشخص، وهذا من قبيل المجاز، وهو تعبير عن الكل باسم الجزء؛ لأن لذلك الجزء مزيد اختصاص في موضع الحكم، لأنَّ الإثم في كتمان الشهادة عمل القلب لَا عمل الجوارح، ولأن القلب أساس كل خير وكل شر ولو كان الإثم من عمل الجوارح، فهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسم كله، وإذا فسدت فسد الجسم كله. ولقد قال الزمخشري في هذا المعنى: " كتمان الشهادة هو أن يضمرها، ولا يتكلم بها، فلما كان إثما مقترنا بالقلب أسند إليه؛ لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ؛ ألا تراك إذا أردت التوكيد تقول: هذا مما أبصرته عينى، ومما سمعته أذني، ومما عرفه قلبي؛ ولأن القلب رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله؛ فكأنه قيل: فقد تمكن الإثم في أصل نفسه، وملك أشرف مكان فيه، ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان، ولِيُعْلَمَ أن القلب أصل متعلقه، ومعدن اقترافه، واللسان ترجمان عنه؛ ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح، وهي لها كالأصول التي تشع منها، ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر، وهما من أفعال القلوب؛ فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب، فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب ".
وهنا يسأل سائل: إن ما يهم به القلب لَا يحاسب عليه الشخص؛ ألا ترى أن من هم بسيئة فلم يفعلها لم يكتب عليه شيء، فكيف يكون إثم في عدم أداء الشهادة، وهي ليست إلا عملا قلبيا لَا أثر له في الجوارح؟ والجواب عن ذلك: أن
1081
أعمال القلب ليست معفاة من الإثم دائمًا، إنما الذي يعفى من العقاب ما يجول بخاطره ويتمناه من غير أن يكون له أثر في الجوارح، أما ما يعتزمه ويصمم عليه، ويتجه إليه، ولكن يفوت التمام لأمر خارج عن إرادته وليس له قبل به، كمن يعتزم قتل شخص ويذهب إليه ليفترسه، وقد عقد النية، واستحصد العزيمة، ولكن أفلت من يده، أفلا يكون ثمة إثم؛ وأحيانا تكون عزيمة القلب وحدها هي موضع المؤاخذة، وذلك إذا كان عمل القلب كف الجوارح عن العمل في موضع يجب فيه العمل، فترك الواجبات كلها موضع مؤاخذة، ومن ذلك ترك الشهادة. وفي الشرع الإسلامي جرائم تسمى جرائم الترك، وهي الجرائم التي يكون الجزاء فيها ليس على الفعل، ولكن على ترك واجب، كمن يرى شخصا يموت جوعا ومعه مال ولا يسد غائلة جوعه، وكمن يرى أعمى يتردى في بئر ويتركه قاصدًا بالترك أن يموت، وهكذا؛ ومن ذلك النوع كتمان الشهادة، فهو ترك الواجب، وهو إثم وجريمة بسبب ذلك الترك.
(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) ختمت الآية الكريمة بهذه الجملة السامية، للوعد والوعيد، ببيان علم الله ذي الجلال والإكرام المنتقم الجبار علمًا دقيقًا بما يعمله كل إنسان؛ يعلم الخير والشر، ويعلم ما تخفي الصدور، وما تكنه القلوب، وما يظهر على الجوارح، فيجازي على الإحسان إحسانًا، وعلى السوء سوءا؛ فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، ومن يأكل أموال الناس بالباطل إنما يأكلون في بطونهم نارَّاً ويصلون سعيرًا.
* * *
(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) ختمت الآية الكريمة بهذه الجملة السامية، للوعد والوعيد، ببيان علم الله ذي الجلال والإكرام المنتقم الجبار علمًا دقيقًا بما يعمله كل إنسان؛ يعلم الخير والشر، ويعلم ما تخفي الصدور، وما تكنه القلوب، وما يظهر على الجوارح، فيجازي على الإحسان إحسانًا، وعلى السوء سوءا؛ فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، ومن يأكل أموال الناس بالباطل إنما يأكلون في بطونهم نارَّاً ويصلون سعيرًا.
* * *
1082
(لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ... (٢٨٤)
* * *
في هذه الجملة السامية بيان لشمول ملك الله سبحانه وتعالى، وفي ذكر هذا الشمول بعد الآيات التي بينت أحكام الأموال ببيان مصارف البر، ومواضع التحريم، وطرق التعامل، وما يوجد الثقة - إشارة إلى معان عامة وخاصة: أما العامة فهي بيان أن ما في يد الإنسان عارية مُستردَّة، وأن المالك في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، فلا يغتر ذو مال بماله، ولا تذهب به النهمة إلى طلبه من غير حلال، فإن يده زائلة عنه لَا محالة، وعليه أن يجمل في الطلب، وأن ينتهز
* * *
في هذه الجملة السامية بيان لشمول ملك الله سبحانه وتعالى، وفي ذكر هذا الشمول بعد الآيات التي بينت أحكام الأموال ببيان مصارف البر، ومواضع التحريم، وطرق التعامل، وما يوجد الثقة - إشارة إلى معان عامة وخاصة: أما العامة فهي بيان أن ما في يد الإنسان عارية مُستردَّة، وأن المالك في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، فلا يغتر ذو مال بماله، ولا تذهب به النهمة إلى طلبه من غير حلال، فإن يده زائلة عنه لَا محالة، وعليه أن يجمل في الطلب، وأن ينتهز
1082
فرصة وجود المال بين يديه ليكثر من البر وفعل الخير، فهو الباقي والدائم، وأنه سبحانه وتعالى المسيطر على كل شيء المعطي الوهاب، فهو الذي أعطى ذا المال وبسط له الرزق، وهو الذي قدر رزق الفقير، فليس لغني أن يعتز بغناه، ولا ذي فقر أن يذل لفقره، فالعزة لله وحده، والخضوع له وحده؛ وإنه سبحانه إذا كان المالك لكل ما في السماوات والأرض، فله وحده العقاب والثواب، وليس لأحد من عباده إلا ما ينعم به عليه من نعم.
وأما الإشارة إلى المعنى الخاص، فهو أنه سبحانه وتعالى ذكر في الآية السابقة أنه عليم بكل ما يعملون؛ وإن من أسباب هذا العلم الدقيق أنه مالك لكل ما في السماوات والأرض، لأنه خالق ما في السماوات والأرض (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ)، وإذا كان الله سبحانه وتعالى عليما بكل ما يعمله الناس، ومالكا لكل ما في السماوات وما في الأرض فإنه سبحانه وتعالى يحاسب على كل ما يفعله الإنسان سواء أكان من حركات النفس أم كان من حركات الجوارح، ولذا قال سبحانه:
(وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ): في هذا النص الكريم يبين سبحانه أنه يعلم السر والعلن، ما ظهر وما بطن، وأنه يعلم حركات النفس وما تصر عليه وما تعزمه من فعل، سواء أعلنته أم لم تعلنه، وإن هذا النص كما يفيد علم الله بما ظهر وما بطن من أعمال النفوس، يفيد بصريحه أنه يحاسب الإنسان على النيات وما تكسبه القلوب، سواء أأخفاه الشخص أم أظهره، فما تكسبه القلوب موضع مؤاخذة بهذا النص؛ وقد قال تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بمَا كَسَبَتْ قلُوبُكُمْ...)، ولكن قد اعترض على ذلك بقول النبي - ﷺ -: " إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم يتكلموا أو يعملوا (١)
________
(١) رواه مسلم: الإيمان - تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقب (١٨١)، بهذا اللفظ، والبخاري: الأيمان والنذور - إذا حدث ناسيا في الأيمان (٦١٧١).
وأما الإشارة إلى المعنى الخاص، فهو أنه سبحانه وتعالى ذكر في الآية السابقة أنه عليم بكل ما يعملون؛ وإن من أسباب هذا العلم الدقيق أنه مالك لكل ما في السماوات والأرض، لأنه خالق ما في السماوات والأرض (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ)، وإذا كان الله سبحانه وتعالى عليما بكل ما يعمله الناس، ومالكا لكل ما في السماوات وما في الأرض فإنه سبحانه وتعالى يحاسب على كل ما يفعله الإنسان سواء أكان من حركات النفس أم كان من حركات الجوارح، ولذا قال سبحانه:
(وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ): في هذا النص الكريم يبين سبحانه أنه يعلم السر والعلن، ما ظهر وما بطن، وأنه يعلم حركات النفس وما تصر عليه وما تعزمه من فعل، سواء أعلنته أم لم تعلنه، وإن هذا النص كما يفيد علم الله بما ظهر وما بطن من أعمال النفوس، يفيد بصريحه أنه يحاسب الإنسان على النيات وما تكسبه القلوب، سواء أأخفاه الشخص أم أظهره، فما تكسبه القلوب موضع مؤاخذة بهذا النص؛ وقد قال تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بمَا كَسَبَتْ قلُوبُكُمْ...)، ولكن قد اعترض على ذلك بقول النبي - ﷺ -: " إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم يتكلموا أو يعملوا (١)
________
(١) رواه مسلم: الإيمان - تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقب (١٨١)، بهذا اللفظ، والبخاري: الأيمان والنذور - إذا حدث ناسيا في الأيمان (٦١٧١).
1083
ولقد ادعى بعضهم لهذا الحديث أن الآية منسوخة؛ لأن حديث النفس لا يمكن التخلص منه؛ وأنها نسخت بقوله تعالى: (لا يُكلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا...)، ولكن ذلك القول غير مقبول؛ لأنه لَا تعارض بين الآيتين، حتى تنسخ إحداهما الأخرى، كما أنه لَا تعارض بين الآية والحديث الشريف؛ لأن حديث النفس ليس هو ما تكسبه النفس، ويعزمه القلب، وينويه الشخص ويصر عليه؛ وإنما هو تلك الخواطر النفسية التي تعرض للإنسان فتوجهه نحو الهوى والشهوة؛ فإن سار وراءها حتى اعتزمها وأرادها وأصر عليها، ولكن عاقه عائق عن تنفيذها، لَا يكون حديث النفس، بل يكون كسب النفس، ولكل نفس ما كسبت، وعليها ما اكتسبت؛ فالمرتبة الأولى وهي تلك الخواطر ليست موضع مؤاخذة، بل إن التغلب عليها، وكفها بعد مكافحتها موضع ثواب؛ لأنه جهاد النفس، وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر، كما ورد في الأثر " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " (١) ويقصد به جهاد النفس؛ إنما موضع المؤاخذة الإصرار بعد الخواطر.
وعلى ذلك: نقول إن موضع التجاوز هو حديث النفس، وموضع الحساب هو الإصرار والنيات، والاتجاه القلبي إلى الأذى والانتقام وقد بينا ذلك من قبل.
(فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ) وإن هذه نتيجة الحساب، فيستر الله سبحانه وتعالى ذنوب من يشاء ويعفو عنه، وإنه ليعفو عن كثير كما ذكر سبحانه، ويعذب من يشاء جزاء ما اقترف من آثام؛ وإن مشيئة الله سبحانه وتعالى لَا قيد يقيدها، ولا شيء يحدها، ولكنه سبحانه يغفر لمن سار في طريق الهداية، ولم تركس نفسه في المعاصي، ولم تُحِط به خطاياه حتى تستغرق نفسه، وتستولي على حسه، ويغلب عليه حب الخير؛ وهذا معنى قوله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ). أما من استولت عليه الشهوات، وأحاطت به
________
(١) كشف الخفاء جـ ١ ص ٥١١) طبع مكتبة التراث الإسلامي تحقيق أحمد القراش).
وعلى ذلك: نقول إن موضع التجاوز هو حديث النفس، وموضع الحساب هو الإصرار والنيات، والاتجاه القلبي إلى الأذى والانتقام وقد بينا ذلك من قبل.
(فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ) وإن هذه نتيجة الحساب، فيستر الله سبحانه وتعالى ذنوب من يشاء ويعفو عنه، وإنه ليعفو عن كثير كما ذكر سبحانه، ويعذب من يشاء جزاء ما اقترف من آثام؛ وإن مشيئة الله سبحانه وتعالى لَا قيد يقيدها، ولا شيء يحدها، ولكنه سبحانه يغفر لمن سار في طريق الهداية، ولم تركس نفسه في المعاصي، ولم تُحِط به خطاياه حتى تستغرق نفسه، وتستولي على حسه، ويغلب عليه حب الخير؛ وهذا معنى قوله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ). أما من استولت عليه الشهوات، وأحاطت به
________
(١) كشف الخفاء جـ ١ ص ٥١١) طبع مكتبة التراث الإسلامي تحقيق أحمد القراش).
1084
الخطايا، وغلب عليه الشر والأذى، ولم يكن منه الخير إلا لماما، فإن الله محاسبه بما كان؛ لأنه لَا حسنات تذهب بالسيئات؛ والله سبحانه وتعالى هو المالك للإنسان وما يصنع الإنسان، فلا قيد يقيد إرادته تبارك وتعالى.
(وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) هذا ختام الآية الكريمة، وهو في بيان شمول قدرة الله تعالى وعموم إرادته سبحانه، فهو القادر على الثواب والعقاب، وهو القاهر فوق عباده، ولا سلطان فوق سلطانه، وهو الذي يلهم التوفيق لمن كتب له التوفيق، وهو الذي يترك من يقع في غواية الشيطان، وهو الذي يسهل التوبة لمن يتوب، غافر الذنب، قابل التوب، شديد العقاب؛ فالإنسان وما يملك، وخواطره وهواجسه، وأحاسيسه، ونياته واعتزاماته؛ كل ذلك تحت سلطان القادر، وقوة القاهر.
اللهم اجعلنا من عبادك الطائعين الخاضعين، الراضين بقضائك وقدرك، إنك أنت العزيز الحكيم.
* * *
(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٨٦)
* * *
(وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) هذا ختام الآية الكريمة، وهو في بيان شمول قدرة الله تعالى وعموم إرادته سبحانه، فهو القادر على الثواب والعقاب، وهو القاهر فوق عباده، ولا سلطان فوق سلطانه، وهو الذي يلهم التوفيق لمن كتب له التوفيق، وهو الذي يترك من يقع في غواية الشيطان، وهو الذي يسهل التوبة لمن يتوب، غافر الذنب، قابل التوب، شديد العقاب؛ فالإنسان وما يملك، وخواطره وهواجسه، وأحاسيسه، ونياته واعتزاماته؛ كل ذلك تحت سلطان القادر، وقوة القاهر.
اللهم اجعلنا من عبادك الطائعين الخاضعين، الراضين بقضائك وقدرك، إنك أنت العزيز الحكيم.
* * *
(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٨٦)
* * *
1085
بهاتين الآيتين الكريمتين ختصت هذه السورة، وهي أطول سورة في القرآن، وفيها لب الإسلام، ومغزاه ومرماه؛ فيها بيان أخلاق الناس، واختلاف تلقيهم للحق الذي يدعون إليه؛ فمن مؤمن يُذعن للحق بقلبه وجوارحه، ومن منافق يظهر الإذعان ويبطن الكفر، ومن معاند مشرك بالله يعرض عن الحق، وقد لاحت بيناته، وأضاءت الوجود آياته. ثم بينت أصل الخليقة، وبها تبيين الطبائع الإنسانية والطبائع الإبليسية، والإخلاص الملائكي ثم ضرب سبحانه الأمثال وقص سبحانه قصص النبيين: موسى وإبراهيم وإسماعيل، وبني إسرائيل، وفيهم يتمثل الإيمان أحيانًا، والطبائع الإنسانية يتسلط عليها الشيطان في أكثر الأحيان، ويتمثل الطبع الإنساني في قوته وضعفه. ثم ذكر سبحانه أحكاما للجماعة في القتال، وفي السلام، في الأسرة وفي المجتمع، وفي التعاون بين الآحاد بالإنفاق في سبيل الخير وإعلاء كلمة الحق والفضيلة، ثم في الأسباب المفرقة بين الجماعات كالربا، ثم في المعاملات الفاضلة التي تحفظ فيها الثقة المتبادلة بين آحاد الجماعات الإسلامية.
بيَّن سبحانه وتعالى ذلك، ثم ختم السورة ببيان أمرين:
أحدهما: أن رسالة محمد - ﷺ - هي امتداد للرسالات السابقة كلها، وأن لب الدين واحد في كل الرسالات الإلهية.
وثانيهما: بيان أن كل التكليفات الدينية يسر لَا عسر فيها، وأنها تهذيب روحي وتعاون اجتماعي. وقد بينت الآية الأولى من الآيتين الكريمتين الأمر الأول وبينت الثانية الأمر الثاني ولنبتدئ بالكلام فيما اشتملت عليه الآية الأولى:
بيَّن سبحانه وتعالى ذلك، ثم ختم السورة ببيان أمرين:
أحدهما: أن رسالة محمد - ﷺ - هي امتداد للرسالات السابقة كلها، وأن لب الدين واحد في كل الرسالات الإلهية.
وثانيهما: بيان أن كل التكليفات الدينية يسر لَا عسر فيها، وأنها تهذيب روحي وتعاون اجتماعي. وقد بينت الآية الأولى من الآيتين الكريمتين الأمر الأول وبينت الثانية الأمر الثاني ولنبتدئ بالكلام فيما اشتملت عليه الآية الأولى:
1086
(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) وفي هذا الجزء من الآية الكريمة يبين سبحانه وتعالى الأصل الأول من أصول الإيمان، وهو الإيمان بما جاء به وما نزل عليه؛ فهو - ﷺ - ومعه المؤمنون يؤمنون بما أنزل إليه من ربه - ﷺ -، الذي أنشأه ونماه وكمله، وخصه بالخصال التي تؤهله للرسالة، وتعده للنبوة: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ...).
1086
والإيمان بما أنزل الله يشمل الإيمان بالتوحيد المطلق للذات العلية وبكل ما اشتمل عليه القرآن من غيبيات، والإيمان بكل ما اشتمل عليه القرآن من تكليفات على أنها من عند الله اللطيف الخبير، سواء أكانت تتعلق بالعبادات أم كانت تتعلق بالمعاملات؛ فيؤمن النبي ومعه كل المؤمنين الصادقي الإيمان بأن الله حرم الربا كما حرم الشرك وكما حرم الاعتداء على النفس والمال، وحرم الزنا كما حرم الخمر والخنزير وأكل الميتة؛ وأمر بالزكاة كما أمر بالصلاة، وأمر بإقامة الحدود كما أمر بالحج؛ فالإيمان بما أنزل الله إيمان بكل ما اشتمل عليه الوحي المحمدي. ومن قال إن منه ما يناسب عصر النبي - ﷺ - ولا يناسب عصرنا فهو لم يؤمن بما أنزل إليه من ربه، ولم يكن من المؤمنين الذين اقترن إيمانهم بإيمانه - ﷺ -.
ونشير هنا إلى معنى سام تفضل به الله على المؤمنين، وهو أنه قرن إيمان المؤمنين بإيمان النبي - ﷺ - وجمعهما في نسبة واحدة، وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمنين الذين يصدقون في إيمانهم بما أنزل الله يقاربون في منزلتهم منزلة النبيين. وفى تأخيرهم في الذكر إشارة إلى تأخر التابع عن المتبوع، وإشارة إلى أن النبي - ﷺ - أول من يؤمن بما أوحي إليه، وأنه أقوى الناس إيمانا بوجوب طاعة الله، وأنه أول من أطاع الله؛ فكانت نبوته - ﷺ - تصديقًا منه وطاعة.
(كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرسُلِهِ) بهذا النص الكريم يبين سبحانه معنى الإيمان الجامع من حيث الاعتقاد، وذلك الإيمان يتضمن الإيمان بالله تعالى أولا، ثم بملائكته، وهم وسائط التبليغ لمن يختارهم لرسالته من خلقه، ثم بكتبه، وهي سجل شرائعه التي تنزل من السماء، ورسله، وهم المصطفون الأخيار من البشر الذين اختيروا لتبليغ ما اشتملت عليه الكتب. فهذا تدرج قويم؛ فابتدأ بالإيمان بالله المنعم بكل شيء في هذا الوجود؛ ثم ثنى بالملائكة الأطهار وهم غيب لَا يرى ولا نعرف شيئًا عنهم إلا بالإخبار منه سبحانه، وهو الذي أمرنا بالإيمان بهم، فالإيمان بهم نوع من الإيمان بالله سبحانه. وكذلك الكتب والرسل.
ونشير هنا إلى معنى سام تفضل به الله على المؤمنين، وهو أنه قرن إيمان المؤمنين بإيمان النبي - ﷺ - وجمعهما في نسبة واحدة، وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمنين الذين يصدقون في إيمانهم بما أنزل الله يقاربون في منزلتهم منزلة النبيين. وفى تأخيرهم في الذكر إشارة إلى تأخر التابع عن المتبوع، وإشارة إلى أن النبي - ﷺ - أول من يؤمن بما أوحي إليه، وأنه أقوى الناس إيمانا بوجوب طاعة الله، وأنه أول من أطاع الله؛ فكانت نبوته - ﷺ - تصديقًا منه وطاعة.
(كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرسُلِهِ) بهذا النص الكريم يبين سبحانه معنى الإيمان الجامع من حيث الاعتقاد، وذلك الإيمان يتضمن الإيمان بالله تعالى أولا، ثم بملائكته، وهم وسائط التبليغ لمن يختارهم لرسالته من خلقه، ثم بكتبه، وهي سجل شرائعه التي تنزل من السماء، ورسله، وهم المصطفون الأخيار من البشر الذين اختيروا لتبليغ ما اشتملت عليه الكتب. فهذا تدرج قويم؛ فابتدأ بالإيمان بالله المنعم بكل شيء في هذا الوجود؛ ثم ثنى بالملائكة الأطهار وهم غيب لَا يرى ولا نعرف شيئًا عنهم إلا بالإخبار منه سبحانه، وهو الذي أمرنا بالإيمان بهم، فالإيمان بهم نوع من الإيمان بالله سبحانه. وكذلك الكتب والرسل.
1087
وقد يقال لماذا ذكر الإيمان بهؤلاء بجوار الإيمان بالله تعالى؟ والجواب عن ذلك أن بعض المنحرفين من أهل الأديان السابقين كانوا يذكرون بغير الخير وبالعداوة بعض الملائكة كجبريل الأمين، فبين سبحانه أن الملائكة جميعا من غير استثناء يجب الإيمان بهم، والإذعان لكل ما ينزلون به من رسالات ربهم، وكذلك الكتب السابقة، والنبيون السابقون، فمن بني إسرائيل من قتلوا بعض النبيين، وكفروا ببعضهم وحرضوا على قتله، فبين سبحانه وجوب الإيمان بكل الرسل من غير استثناء، لأنهم المبلغون للناس رسالات الله، وفوق ذلك فإن هذا الذكر المفصل يفيد اشتراك المؤمنين جميعا في عناصر الإيمان، وأن الإسلام امتداد لسائر الأديان المنزلة؛ وهو الخطوة الأخيرة في شرائع السماء إلى الأرض، وأن من يؤمن بالإسلام يؤمن بكل الأديان والشرائع التي أنزلت على الرسل غير محرفة ولا مبدلة؛ فهو دين الوحدة الإنسانية، كما هو دين التوحيد الإلهي. والإيمان بالله تعالى هو الإيمان بوحدانيته تعالى في الذات، فليس لله سبحانه وتعالى مشابه له من الحوادث (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، وبوحدانية الله في الخلق والتكوين، فهو سبحانه الخالق لكل شيء، وليس لأحد مهما يكن شركة لله سبحانه في الخلق والتكوين؛ ووحدانية العبودية؛ فلا يعبد مع الله أحدًا؛ لأنه المنعم بهذا الوجود، وليس أحد يستحق معه العبادة؛ إذ لَا يماثله أحد؛ تعالى الله عما يقوله المشركون علوا كبيرا.
وهنا ملاحظة لفظية يجب أن نشير إليها، وهي لفظ " كل " وعدم إضافته، إذ قال سبحانه: (كلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ) و " كل " سواء أضيفت باللفظ أم لم تضف، على نية الإضافة؛ فالمعنى: كل فريق من هذين الفريقين، وهما الرسول والمؤمنون وذكر كل على هذا فيه إشارة إلى مرتبة النبيين، وأنها أعلى من مرتبة المؤمنين ولو كانوا صادقين، وإن جمعهما المولى القدير في نسبة واحدة، تعالت كلمات الله سبحانه.
(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ) هذا التفات في القول، وهو منهاج بلاغي، فبعد أن كان الكلام بصيغة الحكاية عن النبي - ﷺ - والمؤمنين، صار بصيغة المتحدثين عن أنفسهم هم، وهي أن حالهم في هذا الإيمان أنهم لايفرقون بين رسول ورسول،
وهنا ملاحظة لفظية يجب أن نشير إليها، وهي لفظ " كل " وعدم إضافته، إذ قال سبحانه: (كلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ) و " كل " سواء أضيفت باللفظ أم لم تضف، على نية الإضافة؛ فالمعنى: كل فريق من هذين الفريقين، وهما الرسول والمؤمنون وذكر كل على هذا فيه إشارة إلى مرتبة النبيين، وأنها أعلى من مرتبة المؤمنين ولو كانوا صادقين، وإن جمعهما المولى القدير في نسبة واحدة، تعالت كلمات الله سبحانه.
(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ) هذا التفات في القول، وهو منهاج بلاغي، فبعد أن كان الكلام بصيغة الحكاية عن النبي - ﷺ - والمؤمنين، صار بصيغة المتحدثين عن أنفسهم هم، وهي أن حالهم في هذا الإيمان أنهم لايفرقون بين رسول ورسول،
1088
فيؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض، وهناك قراءة أخرى، وهي: (لا يفرق بين أحد من رسله) والضمير في الفعل " يفرق " يعود في هذه القراءة على " كل " ولفظ " كل " مفرد، فيعود الضمير عليه مفردًا وإن كان معناه جمعًا، وقد يعود الضمير جمعًا ملاحظًا في ذلك المعنى لَا اللفظ. ومعنى هذه الجملة السامية هو تصريح بما تضمنه ما قبلها، لأن ما قبلها تضمن أنهم يؤمنون بكل الرسل، ومقتضى ذلك أنهم لايفرقون في الإيمان بهم وكونهم مبعوثين من عند الله بين رسول ورسول، وعدم التفرقة لَا صلة لها بالتفضيل في الدرجات؛ لأنَّ ذلك من فضل الله إذ يقول:
(وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) في هذه الجمل السامية يبين سبحانه وتعالى خواص الإيمان التي لَا تفارقه إلا إذا اعتراه نقص، وبمقدار نقصها يتخلف المؤمن عن مراتب الكمال، ودرجات الفوز.
وأول خاصة من خواص الإيمان، ومظهر من مظاهره - الاستماع لما يدعو إليه استماع متعرف طالب لحقيقته متقص لغاياته، متجرد من الأهواء والشهوات، حتى إذا عرف الحق في الشرع سائغًا أطاعه غير متململ، وصبر على تكليفه غير متضجر؛ فمن طلب الدين مؤولا نصوصه على غير وجهها خضوعًا لأهواء زمانه، أو خضوعا لهواه، فهو غير مستمع ولا طائع، نعوذ بالله العزيز الكريم. والخاصة الثانية - أن يحس المؤمن بالتقصير مهما يكن مؤديًا لواجب الطاعة، فإن ذلك الإحساس يرهف الوجدان، ويجعله على مخافة من الزلل، فيتجنب الشطط، ويلتزم الاعتدال؛ ولذلك قال في هذه الخاصة رب النفوس ومقلب القلوب: (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا) أي أنهم لفرط إحساسهم وخشية التقصير، لأن هذا الدين متين، يضرعون إلى الله دائمًا طالبين المغفرة، ويقولون: (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا) أي اغفر لنا غفرانك الذي هو من مقتضى رحمتك ونعمك التي تفيض علينا دائما، وأنت ربنا الذي خلقنا وربَّانا ونمانا، والعليم بأحوالنا.
(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ | )، ولأن موضوع التفرقة وعدم التفرقة هو في الإيمان. |
وأول خاصة من خواص الإيمان، ومظهر من مظاهره - الاستماع لما يدعو إليه استماع متعرف طالب لحقيقته متقص لغاياته، متجرد من الأهواء والشهوات، حتى إذا عرف الحق في الشرع سائغًا أطاعه غير متململ، وصبر على تكليفه غير متضجر؛ فمن طلب الدين مؤولا نصوصه على غير وجهها خضوعًا لأهواء زمانه، أو خضوعا لهواه، فهو غير مستمع ولا طائع، نعوذ بالله العزيز الكريم. والخاصة الثانية - أن يحس المؤمن بالتقصير مهما يكن مؤديًا لواجب الطاعة، فإن ذلك الإحساس يرهف الوجدان، ويجعله على مخافة من الزلل، فيتجنب الشطط، ويلتزم الاعتدال؛ ولذلك قال في هذه الخاصة رب النفوس ومقلب القلوب: (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا) أي أنهم لفرط إحساسهم وخشية التقصير، لأن هذا الدين متين، يضرعون إلى الله دائمًا طالبين المغفرة، ويقولون: (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا) أي اغفر لنا غفرانك الذي هو من مقتضى رحمتك ونعمك التي تفيض علينا دائما، وأنت ربنا الذي خلقنا وربَّانا ونمانا، والعليم بأحوالنا.
1089
وإن هذا هو مقام الخوف الذي يجب أن يُغلِّبه المؤمن؛ ولذا كان محمد - ﷺ - يقول: " إني أخشاكم لله " (١) ومقام الخوف من قوة الإيمان، والغرور من ضعف الإيمان، فلا يليق بمؤمن أن يغتر بعبادته، فإن هذا ينقصها أو دليل على نقصها، ويقول الصوفية: إن معصية أورثت ذلا واستخذاء خير من طاعة أورثت عزا وافتخارًا.
والخاصة الثالثة - التفويض إلى الله تعالى، والإيمان باليوم الآخر؛ ولذا قال تعالى عنهم: (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) وإن هذا مقام التفويض والإيمان بالقدر خيره وشره، وهو مع ذلك يتضمن الإيمان باليوم الآخر؛ فالمؤمن الحق يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ويذعن للحق ويعمل به غير مغتر بعمله؛ بل يرجو عفو ربه وغفرانه، ثم يفوض أموره إلى ربه، عالِمًا بأن المآل إليه ومصيره عنده سبحانه وتعالى.
* * *
________
(١) روى البخاري: الإيمان - أنا أعلمكم (١٩).
والخاصة الثالثة - التفويض إلى الله تعالى، والإيمان باليوم الآخر؛ ولذا قال تعالى عنهم: (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) وإن هذا مقام التفويض والإيمان بالقدر خيره وشره، وهو مع ذلك يتضمن الإيمان باليوم الآخر؛ فالمؤمن الحق يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ويذعن للحق ويعمل به غير مغتر بعمله؛ بل يرجو عفو ربه وغفرانه، ثم يفوض أموره إلى ربه، عالِمًا بأن المآل إليه ومصيره عنده سبحانه وتعالى.
* * *
________
(١) روى البخاري: الإيمان - أنا أعلمكم (١٩).
1090
(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا... (٢٨٦)
* * *
قال الزمخشري في تفسيره: " الوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، أي لَا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه، ويتيسر عليه دون مدى الطاقة والمجهود. وهذا إخبار عن عدله ورحمته كقوله تعالى: (يرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ... )، لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من الشهر، ويحج أكثر من حجة)، وهذا الكلام يستفاد منه أن الوسع غير الطاقة، فالطاقة هي غاية المجهود وأقصاه، وما يفعله الإنسان قادرا عليه ولكن في تعب وجهد، والوسع ما يكون في الإمكان، ولكن تكون بعد الأداء سعة من قدرة على أداء غيره، ولكن لَا يؤدي الزيادة إلا بجهد. ولا يفهم من هذا أن تكليف الوسع لَا تكون فيه مشقة قط، بل إن كل تكليف هو أمر بما فيه كلفة، وهي المشقة؛ وعلى ذلك تكون التكليفات الشرعية لها ثلاث خواص ملازمة: وهي أن فيها مشقة محتملة، وأنها تكون في الوسع والقدرة من غير حرج ولا ضيق، وأنها تكون من غير مجهود شديد يكون
* * *
قال الزمخشري في تفسيره: " الوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، أي لَا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه، ويتيسر عليه دون مدى الطاقة والمجهود. وهذا إخبار عن عدله ورحمته كقوله تعالى: (يرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ... )، لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من الشهر، ويحج أكثر من حجة)، وهذا الكلام يستفاد منه أن الوسع غير الطاقة، فالطاقة هي غاية المجهود وأقصاه، وما يفعله الإنسان قادرا عليه ولكن في تعب وجهد، والوسع ما يكون في الإمكان، ولكن تكون بعد الأداء سعة من قدرة على أداء غيره، ولكن لَا يؤدي الزيادة إلا بجهد. ولا يفهم من هذا أن تكليف الوسع لَا تكون فيه مشقة قط، بل إن كل تكليف هو أمر بما فيه كلفة، وهي المشقة؛ وعلى ذلك تكون التكليفات الشرعية لها ثلاث خواص ملازمة: وهي أن فيها مشقة محتملة، وأنها تكون في الوسع والقدرة من غير حرج ولا ضيق، وأنها تكون من غير مجهود شديد يكون
1090
أقصى الطاقة. تلك هي خواص تكليف الله تعالى لكل نفس كما تدل عليه الجملة السامية.
(لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) هذه الجملة السامية تبين أن كل تكليف قد اقترن بجزائه، وأن كل امرئٍ سيجزى على الخير خيرا، وعلى الشر شرا. وما تضمنه ذلك النص الكريم هو نتيجة لما تضمنه النص السابق؛ لأن النص السابق أفاد أن ثمة تكليفا، ولا ينتج التكليف نتائجه إلا إذا كان ثمة جزاء؛ والنص السابق أيضًا أفاد أن الله لَا يكلف إلا بما يكون في القدرة من غير إرهاق، بل بإرادة حرة ويسر لَا عسر فيه. وذلك أساس للقيام بالتكليف بإرادة حرة، ومقدرة غير مرهقة؛ وذلك يوجب الجزاء العادل.
وقد اتفق العلماء على أن قوله تعالى: (لَهَا مَا كَسَبَتْ) المراد بها الحسنات التي يثيب الله عليها؛ وقوله تعالى: (وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) المراد به السيئات التي التي يعاقب الله تعالى عليها. وقد أخذوا هذا من النص باللام في الجملة الأولى، والنص بعلى في الجملة الثانية؛ فإن التعبير باللام التي تفيد الملكية المفيدة في مقابل على التي تفيد التحميل، ووضع الشيء على الشخص، يجعل الأولى مفيدة للجزاء ثوابا، والثانية مفيدة للجزاء عقابًا؛ وإذا لم يكن ذلك التقابل، فإنه يعبر باللام في موضع الثواب والعقاب؛ فيقول سبحانه:
وهنا سؤال لفظي: لماذا عبر سبحانه عن هذا الخير بقوله: (لَهَا مَا كَسَبَتْ) وعن الشر بـ (اكْتَسَبَتْ) مع أن الكسب يكون للخير وللشر كما في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا...)؟ وقد أجاب عن ذلك الزمخشري بقوله: " فى الاكتساب اعتمال؛ فلما كان الشر مما تشتهيه النفس، وهي منجذبة إليه وأمَّارة به، كانت في تحصيله أعمل وأجد؛ فجعلت لذلك مكتسبة
(لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) هذه الجملة السامية تبين أن كل تكليف قد اقترن بجزائه، وأن كل امرئٍ سيجزى على الخير خيرا، وعلى الشر شرا. وما تضمنه ذلك النص الكريم هو نتيجة لما تضمنه النص السابق؛ لأن النص السابق أفاد أن ثمة تكليفا، ولا ينتج التكليف نتائجه إلا إذا كان ثمة جزاء؛ والنص السابق أيضًا أفاد أن الله لَا يكلف إلا بما يكون في القدرة من غير إرهاق، بل بإرادة حرة ويسر لَا عسر فيه. وذلك أساس للقيام بالتكليف بإرادة حرة، ومقدرة غير مرهقة؛ وذلك يوجب الجزاء العادل.
وقد اتفق العلماء على أن قوله تعالى: (لَهَا مَا كَسَبَتْ) المراد بها الحسنات التي يثيب الله عليها؛ وقوله تعالى: (وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) المراد به السيئات التي التي يعاقب الله تعالى عليها. وقد أخذوا هذا من النص باللام في الجملة الأولى، والنص بعلى في الجملة الثانية؛ فإن التعبير باللام التي تفيد الملكية المفيدة في مقابل على التي تفيد التحميل، ووضع الشيء على الشخص، يجعل الأولى مفيدة للجزاء ثوابا، والثانية مفيدة للجزاء عقابًا؛ وإذا لم يكن ذلك التقابل، فإنه يعبر باللام في موضع الثواب والعقاب؛ فيقول سبحانه:
(وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ...)، و (لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ | )، إذ لَا قرينة تدل على الملكية المفيدة؛ فتكون اللام لمطلق الاختصاص. |
1091
فيه " وهذا التعليل قد يشير إلى أن الشر الكبير الذي تعتمله النفس وتجد فيه، وتلح وتستمر عليه، هو موضع المؤاخذة، والضئيل قد يكون موضع العفو، أي ما تفعله النفس من خير فكله موضع ثواب، قلَّ أو جلَّ، وذلك معنى صحيح.
ولكن هناك تعليلًا آخر نراه، وهو أن التعبير بـ اكتسب يفيد معنى الاعتمال، وهو ما يفعله الإنسان غير منساق إليه، والطبيعة الإنسانية تنحو نحو الخير، والشر ضد الفطرة وضد الوجدان والضمير، ومن يفعله يغالب فطرته ثم لَا يلبث إلا قليلا حتى يذوق شجرة الشر فينساق، وإن الإنسان ليرى ذلك في كل من يرتكب الجرائم، فهو يبتدئ بالجريمة مغالبًا نفسه ثم تطاوعه ثم ينساق، فالقاتل كذلك، والسارق، والزاني، أول جريمة يرتكبها بتعمل، ثم يألف الارتكاب فيكون سهلا، لذلك عبر عن الشر بالاكتساب، لأنه ضد الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وضد الضمير، وعبر عن الخير هنا بالكسب لأنه الفطرة.
وبعد بيان سنة الله في التكليف وجزائه ذكر سبحانه حال المؤمن المخلص في ضراعته، وضراعته بالالتجاء إلى ربه ودعائه، وقد ذكر سبحانه ستة أدعية تفيد هذه الضراعة وتشير إلى رحمة الله تعالى وخواص شرعه الشريف. (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) هذا هو الدعاء الأول، وقد ابتدأ بنداء الله سبحانه بـ " ربنا " لكمال الضراعة والشعور بالربوبية، وكمال إنعام الله تعالى، وضعف المخلوق أمام الخالق، ووفاء المنعم عليه أمام المنعم، وللإشعار بأن ما تضمنه الدعاء من النعم التي أنعم بها، وكمال الربوبية التي ربَّ الناس بها.
والمؤاخذة معناها المجازاة، وأصلها من الأخذ. وفي التعبير عن المجازاة بالمؤاخذة إشارة إلى أن ما يستحقون من عقاب هو في نظير ما أخذوا من نعم لم يعرفوا حقها، فهم أخذوها وجحدوها، فأخذهم الله تعالى بحقها.
ولكن هناك تعليلًا آخر نراه، وهو أن التعبير بـ اكتسب يفيد معنى الاعتمال، وهو ما يفعله الإنسان غير منساق إليه، والطبيعة الإنسانية تنحو نحو الخير، والشر ضد الفطرة وضد الوجدان والضمير، ومن يفعله يغالب فطرته ثم لَا يلبث إلا قليلا حتى يذوق شجرة الشر فينساق، وإن الإنسان ليرى ذلك في كل من يرتكب الجرائم، فهو يبتدئ بالجريمة مغالبًا نفسه ثم تطاوعه ثم ينساق، فالقاتل كذلك، والسارق، والزاني، أول جريمة يرتكبها بتعمل، ثم يألف الارتكاب فيكون سهلا، لذلك عبر عن الشر بالاكتساب، لأنه ضد الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وضد الضمير، وعبر عن الخير هنا بالكسب لأنه الفطرة.
وبعد بيان سنة الله في التكليف وجزائه ذكر سبحانه حال المؤمن المخلص في ضراعته، وضراعته بالالتجاء إلى ربه ودعائه، وقد ذكر سبحانه ستة أدعية تفيد هذه الضراعة وتشير إلى رحمة الله تعالى وخواص شرعه الشريف. (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) هذا هو الدعاء الأول، وقد ابتدأ بنداء الله سبحانه بـ " ربنا " لكمال الضراعة والشعور بالربوبية، وكمال إنعام الله تعالى، وضعف المخلوق أمام الخالق، ووفاء المنعم عليه أمام المنعم، وللإشعار بأن ما تضمنه الدعاء من النعم التي أنعم بها، وكمال الربوبية التي ربَّ الناس بها.
والمؤاخذة معناها المجازاة، وأصلها من الأخذ. وفي التعبير عن المجازاة بالمؤاخذة إشارة إلى أن ما يستحقون من عقاب هو في نظير ما أخذوا من نعم لم يعرفوا حقها، فهم أخذوها وجحدوها، فأخذهم الله تعالى بحقها.
1092
وقد سأل سائل: لماذا ذكر الله سبحانه عن أحوالهم هذا الدعاء مع أنه مرفوع عن أمة محمد بقوله - ﷺ -: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "؟ (١) وقد أجاب عن ذلك الزمخشري فقال: " إنهم كانوا متقين الله حق تقاته، فما كانت تفرط منهم فرطة إلا على وجه النسيان والخطأ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذانًا ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به، كأنه قيل: إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به فما فيهم سبب المؤاخذة إلا الخطأ والنسيان ويجوز أن يدعو الإنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله لاستدامته والاعتداد بالنعمة فيه ". هذه إجابة قيمة، وأزيد عليها أن المتقين أرهفت ضمائرهم وقويت نفوسهم، واشتدت خشيتهم من الله، حتى لقد أحسوا من فرط حساسيتهم أنهم محاسبون على ما لَا حساب عليه؛ وإن المؤمن التقي يستكثر هفواته، ويستقل حسناته، وإن النسيان والخطأ قد توهموا فيهما أن يكون سببهما الإهمال وعدم العناية، وهما كذلك أحيانًا، فكان فرط إحساسهم مرجحًا لجانب المؤاخذة على جانب العفو، وجانب الخوف على جانب الرجاء، فكان الدعاء.
(رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) الإصر: هو العبء الكبير، مأخوذ من أصرَ بمعنى حبَس، فكأنه لثقله يحبس صاحبه في مكانه فيمنعه من الحركة، وحمل عليه بمعنى وضع عليه وألقى عليه. وهذا هو الدعاء الثاني، ومعناه أن أولئك المتقين حالهم حال ضراعة لربهم بألا يلقى عليهم آصارًا شدادًا من التكليفات تثقل عليهم حتى يعجزوا عن أدائها أو لَا يؤدوها إلا في حال من الشدة، كما حمل الله جلت قدرته وعلت حكمته على الذين من قبلهم. ولكن ما هذه الآصار، وتلك الأعباء؛ أهي أعباء من التكليفات تتعلق بالأوامر الشرعية والنواهي، أم هي ما يبتلى به المؤمن من شدائد واختبارات كما ابتلى الذين من قبلهم في قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتمْ أَن تَدْخلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ
________
(١) فتح الباري: الأيمان والنذور - (٦١٧١) وأخرَجَهُ اِبْن مَاجَه مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس - كتاب الطلاق - طلاق المكره والناسي (٢٠٣٥).
(رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) الإصر: هو العبء الكبير، مأخوذ من أصرَ بمعنى حبَس، فكأنه لثقله يحبس صاحبه في مكانه فيمنعه من الحركة، وحمل عليه بمعنى وضع عليه وألقى عليه. وهذا هو الدعاء الثاني، ومعناه أن أولئك المتقين حالهم حال ضراعة لربهم بألا يلقى عليهم آصارًا شدادًا من التكليفات تثقل عليهم حتى يعجزوا عن أدائها أو لَا يؤدوها إلا في حال من الشدة، كما حمل الله جلت قدرته وعلت حكمته على الذين من قبلهم. ولكن ما هذه الآصار، وتلك الأعباء؛ أهي أعباء من التكليفات تتعلق بالأوامر الشرعية والنواهي، أم هي ما يبتلى به المؤمن من شدائد واختبارات كما ابتلى الذين من قبلهم في قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتمْ أَن تَدْخلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ
________
(١) فتح الباري: الأيمان والنذور - (٦١٧١) وأخرَجَهُ اِبْن مَاجَه مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس - كتاب الطلاق - طلاق المكره والناسي (٢٠٣٥).
1093
وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤).
وإني أميل إلى أن الآصار هي من هذا النوع من الابتلاء، كأنهم لرغبتهم في نصر الله تعالى يضرعون إليه أن يمدهم بعونه في حمل عبء الجهاد في سبيل نشر الإسلام والدعوة إليه. ويزكي ذلك قوله تعالى في ختام السورة (فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) ولكن هل معنى ذلك أنهم لَا يريدون أن يختبروا كما اختبر أقوياء الإيمان ممن سبقوهم؟ وأقول في الإجابة عن ذلك: إن طالب الحق المؤمن به يستكثر فعل الخير من غيره، ويستقل حال نفسه وفعله، وكأنهم يعترفون بفضل من سبقوهم، ويحسبون أنهم دونهم، فيطلبون عون الله تعالى، وذلك دليل قوة الإيمان، وأنهم ليسوا أقل منهم، بل يزيدون بذلك الاعتراف الكريم.
(رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) الطاقة: قال فيها الراغب الأصفهاني ما نصه: " الطاقة اسم لمقدار ما يمكن الإنسان أن يفعله بمشقة؛ وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشيء؛ فقوله تعالى: (لا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) أي ما يصعب علينا مزاولته، وليس معناه لَا تحملنا ما لَا قدرة لنا به؛ فالطاقة على هذا تكون فيما يمكن فعله بأقصى القدرة. وهذا هو الدعاء الثالث وقد كررت فيه كلمة " ربنا " لكمال الضراعة ولبيان أن حالهم دائمًا يتجدد فيها الشعور بالربوبية، وحق الخالق المنعم عليهم. وهذا هو الدعاء هو تدرج مترتب على الدعاء السابق. لقد ضرعوا إلى الله ألا يختبرهم ذلك الاختبار الشديد الذي أُلقيَ على عاتق من سبقوهم أو يخشون ألا يقوموا بحقه كما قام من قبلهم ثم يضرعون الآن ألا يكلفوا إلا ما يطيقون، أي أنهم على أتم استعداد لأن يبذلوا أقصى قدرتهم، وغاية قوتهم؛ فإن الطاقة أقصى القدرة كما بينا ونقلنا. فمعنى الجملة السامية: لَا تحملنا ما فوق الطاقة ونحن على استعداد بعونكم لما هو كل الطاقة. وهذه حال من الإيمان سامية. وعبر هنا بالفعل المضعف " تحمِّلنا " وفي الأول من غير تضعيف؛ لأن الإصر نفسه والتعبير بعلى فيهما بيان شدة الاختبار، فلا حاجة إلى مبالغة في صيغة الحمل؛ أما هنا فالاختبار بما هو في الطاقة وإن كانت المشقة شديدة، فكان ثمة متسع في المبالغة في الصيغة.
وإني أميل إلى أن الآصار هي من هذا النوع من الابتلاء، كأنهم لرغبتهم في نصر الله تعالى يضرعون إليه أن يمدهم بعونه في حمل عبء الجهاد في سبيل نشر الإسلام والدعوة إليه. ويزكي ذلك قوله تعالى في ختام السورة (فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) ولكن هل معنى ذلك أنهم لَا يريدون أن يختبروا كما اختبر أقوياء الإيمان ممن سبقوهم؟ وأقول في الإجابة عن ذلك: إن طالب الحق المؤمن به يستكثر فعل الخير من غيره، ويستقل حال نفسه وفعله، وكأنهم يعترفون بفضل من سبقوهم، ويحسبون أنهم دونهم، فيطلبون عون الله تعالى، وذلك دليل قوة الإيمان، وأنهم ليسوا أقل منهم، بل يزيدون بذلك الاعتراف الكريم.
(رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) الطاقة: قال فيها الراغب الأصفهاني ما نصه: " الطاقة اسم لمقدار ما يمكن الإنسان أن يفعله بمشقة؛ وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشيء؛ فقوله تعالى: (لا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) أي ما يصعب علينا مزاولته، وليس معناه لَا تحملنا ما لَا قدرة لنا به؛ فالطاقة على هذا تكون فيما يمكن فعله بأقصى القدرة. وهذا هو الدعاء الثالث وقد كررت فيه كلمة " ربنا " لكمال الضراعة ولبيان أن حالهم دائمًا يتجدد فيها الشعور بالربوبية، وحق الخالق المنعم عليهم. وهذا هو الدعاء هو تدرج مترتب على الدعاء السابق. لقد ضرعوا إلى الله ألا يختبرهم ذلك الاختبار الشديد الذي أُلقيَ على عاتق من سبقوهم أو يخشون ألا يقوموا بحقه كما قام من قبلهم ثم يضرعون الآن ألا يكلفوا إلا ما يطيقون، أي أنهم على أتم استعداد لأن يبذلوا أقصى قدرتهم، وغاية قوتهم؛ فإن الطاقة أقصى القدرة كما بينا ونقلنا. فمعنى الجملة السامية: لَا تحملنا ما فوق الطاقة ونحن على استعداد بعونكم لما هو كل الطاقة. وهذه حال من الإيمان سامية. وعبر هنا بالفعل المضعف " تحمِّلنا " وفي الأول من غير تضعيف؛ لأن الإصر نفسه والتعبير بعلى فيهما بيان شدة الاختبار، فلا حاجة إلى مبالغة في صيغة الحمل؛ أما هنا فالاختبار بما هو في الطاقة وإن كانت المشقة شديدة، فكان ثمة متسع في المبالغة في الصيغة.
1094
(وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا) هذه هي الأدعية الثلاثة الأخيرة وكلها في باب واحد، وهو باب الإحساس بالمصير في القيام بالواجب، وهي مرتبة من الإيمان سامية؛ لأن المؤمن يفرض التقصير في نفسه ليسعى إلى الكمال، وليرجو رحمة الكبير المتعال، لَا يفرض في نفسه الكمال حتى لَا يدلى بغرور، ويكون ممن زُين له سوء عمله فرآه حسنًا. وحال الرسول مع المتقين حال الشاعرين بالتقصير مهما يكن مقدار ما قاموا به؛ وإذا ضرعوا بهذا الدعاء؛ طالبوا بالعفو بألا يحاسبهم على ما عساه يكون منهم من هفوات، أو ما تتحدث به نفوسهم من إصرار على شر ولا نية له، وما يكون موضع الحساب يضرعون إلى ربهم أن يكون موضع غفرانه، فيستر ذنوبهم ولا يفضحهم، ثم يضرعون إلى الله بعد ذلك أن يمنَّ عليهم برحمته في الدنيا والآخرة، وإنهم لفرط إحساسهم بالتقصير لَا يعتبرون الثواب جزاء، بل يعتبرونه رحمة ومنةً وفضلا من رب العالمين.
(أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) هذه هي الوثيقة الربانية، يستمسكون بها، وهي إحساسهم بأن الله مولاهم، أي معينهم وكالئهم وناصرهم وممدهم بفضله، وقد طلبوا منه النصرة الدائمة على القوم الكافرين. وإن هذا الدعاء الأخير يقوي المعنى الذي قررناه في تفسير قوله تعالى: (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا).
وإنا نضرع إلى المولى جلت قدرته أن يعفو عنا، ويغفر لنا، ويرحمنا، إنه الغفور الرحيم، والعفو القدير.
* * *
(أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) هذه هي الوثيقة الربانية، يستمسكون بها، وهي إحساسهم بأن الله مولاهم، أي معينهم وكالئهم وناصرهم وممدهم بفضله، وقد طلبوا منه النصرة الدائمة على القوم الكافرين. وإن هذا الدعاء الأخير يقوي المعنى الذي قررناه في تفسير قوله تعالى: (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا).
وإنا نضرع إلى المولى جلت قدرته أن يعفو عنا، ويغفر لنا، ويرحمنا، إنه الغفور الرحيم، والعفو القدير.
* * *
1095
(سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ)
بين يدي السورة
هذه أولى آيات سورة آل عمران، وهي مدنية، وقد سُميت بآل عمران لاشتمالها على قصتهم؛ إذ قال سبحانه (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)، إلى آخر كلامه العزيز في تلك العبرة التي ساقها.
موضوعات السورة:
وإن هذه السورة الكريمة:
(١) فيها تنويه بذكر القرآن وأقسامه، وإشارة إلى محكمه والمتشابه منه، وأقسام الناس في تلقي ذلك الهدى الإلهي الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
(٢) وفيها قصة آل عمران، وولادة مريم البتول، ويحيى النبي، وعيسى الرسول، وما اكتنف ولادتهم من آيات تدل على كمال إرادة الله تعالى في خلقه.
(٣) وفيها إشارات إلى معجزات عيسى عليه السلام، وكفر من دعاهم بعد هذه المعجزات الظاهرة القاطعة، وإن ذلك يدل على أن العناد يضع غشاءً على العين فلا تبصر، وعلى البصيرة فلا تدرك.
(٤) وفيها مجادلة النبي - ﷺ - مع النصارى واليهود، وبيان طائفة من أخلاق اليهود واعتقادهم أن الإيمان احتكار لذهب، وتغليق القلوب عن غيره؛ إذ قالوا:
(وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ -) إلى آخر كلامه العزيز في تلك العبرة.
(٥) وفيها بيان أن الإسلام في لُبِّه ومعناه هو دين كل الأنبياء السابقين؛ لأنه دين الله السرمدي، سبق بالدعوة إلى حقيقته النبيون، وختم الله الدعوة بخاتم النبيين محمد الأمين - ﷺ -.
بين يدي السورة
هذه أولى آيات سورة آل عمران، وهي مدنية، وقد سُميت بآل عمران لاشتمالها على قصتهم؛ إذ قال سبحانه (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)، إلى آخر كلامه العزيز في تلك العبرة التي ساقها.
موضوعات السورة:
وإن هذه السورة الكريمة:
(١) فيها تنويه بذكر القرآن وأقسامه، وإشارة إلى محكمه والمتشابه منه، وأقسام الناس في تلقي ذلك الهدى الإلهي الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
(٢) وفيها قصة آل عمران، وولادة مريم البتول، ويحيى النبي، وعيسى الرسول، وما اكتنف ولادتهم من آيات تدل على كمال إرادة الله تعالى في خلقه.
(٣) وفيها إشارات إلى معجزات عيسى عليه السلام، وكفر من دعاهم بعد هذه المعجزات الظاهرة القاطعة، وإن ذلك يدل على أن العناد يضع غشاءً على العين فلا تبصر، وعلى البصيرة فلا تدرك.
(٤) وفيها مجادلة النبي - ﷺ - مع النصارى واليهود، وبيان طائفة من أخلاق اليهود واعتقادهم أن الإيمان احتكار لذهب، وتغليق القلوب عن غيره؛ إذ قالوا:
(وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ -) إلى آخر كلامه العزيز في تلك العبرة.
(٥) وفيها بيان أن الإسلام في لُبِّه ومعناه هو دين كل الأنبياء السابقين؛ لأنه دين الله السرمدي، سبق بالدعوة إلى حقيقته النبيون، وختم الله الدعوة بخاتم النبيين محمد الأمين - ﷺ -.
1096
(٦) وفيها بيان فريضة الحج المحكمة وبيان الوحدة الإسلامية، وفي جمعها مع الحج في موضع واحد إشارة إلى أن الحج من وسائلها، وأعقب ذلك ببيان فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنها ركن الوحدة الإسلامية ودعامتها، والذريعة لجعل هذه الوحدة على ألسس فاضلة مشتقة من هَدْي الدين الحكيم.
(٧) وفيها بيان واجب قادة المؤمنين من ألا يتخذوا بطانة من غير المؤمنين؛ إذ هم في حقيقة أمرهم لَا يألون المؤمنين خبالا ويودون عنتهم، ثم فيها تفصيل محكم لغزوة أحد، وبيان سبب الهزيمة وأعقابها، والعبرة في هذه الغزوة التي كانت فيها هزيمة ولكن لم يكن فيها خذلان، بل كانت العبرة فيها والاعتبار بها باب الفتح المبين. وفي أثناء القصة وختامها بيان حال قتلى المؤمنين وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون.
(٨) وفيها إشارة إلى أعمال المنافقين في النصر والهزيمة، واتباع ضعاف
الإيمان لوسوستهم، وصيانة الله لأقوياء الإيمان من أعمالهم.
(٩) ثم فيها عزاء للنبي - ﷺ - بذكر ما كُذِّب به الأنبياء السابقون مع أنهم أتوا بالبينات والأدلة الحسية القاطعة إذ قال سبحانه: (فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِن قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ).
(١٠) وفيها بيان أن الله سبحانه سيبتلي المؤمنين ويختبرهم، وفي الابتلاء صقل إيمانهم.
(١١) وفيها بيان أخلاق المؤمنين وتفكرهم في خلق السماوات والأرض وما بينهما، وضراعتهم إلى ربهم، واستجابة الله تعالى لهم، وجزاؤهم يوم القيامة، والمقابلة بينه وبين جزاء الكافرين الذين اغتروا بالحياة الدنيا مع أن متاعها قليل، وفيها إنصاف كريم لبعض أهل الكتاب الذين آمنوا وصدقوا ولم يسرفوا على أنفسهم بالإنكار والتكذيب مع قيام الدلائل الواضحة القاطعة.
(٧) وفيها بيان واجب قادة المؤمنين من ألا يتخذوا بطانة من غير المؤمنين؛ إذ هم في حقيقة أمرهم لَا يألون المؤمنين خبالا ويودون عنتهم، ثم فيها تفصيل محكم لغزوة أحد، وبيان سبب الهزيمة وأعقابها، والعبرة في هذه الغزوة التي كانت فيها هزيمة ولكن لم يكن فيها خذلان، بل كانت العبرة فيها والاعتبار بها باب الفتح المبين. وفي أثناء القصة وختامها بيان حال قتلى المؤمنين وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون.
(٨) وفيها إشارة إلى أعمال المنافقين في النصر والهزيمة، واتباع ضعاف
الإيمان لوسوستهم، وصيانة الله لأقوياء الإيمان من أعمالهم.
(٩) ثم فيها عزاء للنبي - ﷺ - بذكر ما كُذِّب به الأنبياء السابقون مع أنهم أتوا بالبينات والأدلة الحسية القاطعة إذ قال سبحانه: (فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِن قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ).
(١٠) وفيها بيان أن الله سبحانه سيبتلي المؤمنين ويختبرهم، وفي الابتلاء صقل إيمانهم.
(١١) وفيها بيان أخلاق المؤمنين وتفكرهم في خلق السماوات والأرض وما بينهما، وضراعتهم إلى ربهم، واستجابة الله تعالى لهم، وجزاؤهم يوم القيامة، والمقابلة بينه وبين جزاء الكافرين الذين اغتروا بالحياة الدنيا مع أن متاعها قليل، وفيها إنصاف كريم لبعض أهل الكتاب الذين آمنوا وصدقوا ولم يسرفوا على أنفسهم بالإنكار والتكذيب مع قيام الدلائل الواضحة القاطعة.
1097
(١٢) ثم ختم سبحانه بدعوة المؤمنين إلى مجاهدة المشركين با لتقوى وبالصبر وبإعداد العدة، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اصْبِروا وَصَابِروا وَرَابطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكمْ تُفْلِحُونَ).
* * *
* * *
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٤) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)* * *
1098