تفسير سورة الرحمن

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن

تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن
لمؤلفه زكريا الأنصاري . المتوفي سنة 926 هـ

قوله تعالى :﴿ والسماء رفعها ووضع الميزان ﴾ [ الرحمن : ٧ ].
قرنه برفع السّماء، لأنه تعالى عدّد نِعمه على عباده، ومن أجلّها الميزان، الذي هو العدل، الذي به نظام العالم وقِوامه.
وقيل : هو القرآن، وقيل : هو العقل، وقيل : ما يُعرف به المقادير، كالميزان المعروف، والميكال، والذراع( ١ ).
إن قلتَ : ما فائدة تكرار لفظ الميزان ثلاث مرات، مع أن القياس بعد الأولى الإضمار( ٢ ) ؟
قلتُ : فائدته بيان أنّ كلا من الآيات مستقلة بنفسها، أو أن كلا من الألفاظ الثلاثة، مغاير لكلّ من الآخرين، إذِ الأول ميزان الدنيا، والثاني ميزان الآخرة، والثالث ميزان العدل( ٣ ).
فإن قلتَ : قوله ﴿ ألا تطغوا في الميزان ﴾ [ الرحمن : ٨ ] أي لا تجاوزوا فيه العدل، مُغْن عن الجملتين المذكورتين بعد ؟   !
قلتُ : الطغيان فيه : أخذ الزائد، والإخسار : إعطاء الناقص، والقسط : التوسط بين الطرفين المذمومين.
١ - هذا القول هو الأظهر، أي أمر بالميزان عند الأخذ والإعطاء، لينال الإنسان حقه وافيا كاملا، فالميزان أساس التعامل بين البشر..
٢ - ذكر تعالى الميزان ثلاث مرات، وفي كل مرة له معنى جديد، فالأول يراد به (العدل) والثاني يراد به (الآلة) والثالث يراد به (الشيء الموزون) والمراد من وراء ذلك كله: مراعاة العدل في جميع الأمور، العدل بين الناس، والعدل في الميكال، والعدل في الميزان، فمن انتهك الحدود وظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة. اﻫ من التفسير الواضح الميسّر..
٣ - في مخطوطة الجامعة (العقل) والأظهر أن المراد به العدل، فهو الأليق بذكر الميزان..
قوله تعالى :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ [ الرحمن : ١٣ ].
ذُكر هنا إحدى وثلاثين مرة( ١ )، ثمانية منها ذُكرت عقب آيات، فيها تعداد عجائب خلق الله، وبدائع صنعه، ومبدأ الخلق ومعادهم.
ثم سبعة منها عقب آيات، فيها ذكر النار وشدائدها، بعدد أبواب جهنم( ٢ )، وحَسُن ذكر الآلاء عقِبها، لأن من جملة الآلاء، دفع البلاء وتأخير العقاب، وبعد هذه السبعة ثمانية، في وصف الجنتين وأهلهما، بعدد أبواب الجنة.
وثمانية أخرى بعدها في الجنتين، اللتين هما دون الجنتين الأوليين، أخذا من قوله تعالى :﴿ ومن دونهما جنّتان ﴾ [ الرحمن : ٦٢ ]. فمن اعتقد الثمانية الأولى، وعمل بموجبها، استحقّ هاتين الثمانيتين من الله، ووقاه السبعة السابقة.
١ - إنما كرّرت الآية ﴿فبأي آلاء ربكما تكذبان﴾ في هذه السورة إحدى وثلاين مرة، تذكيرا للعباد بنعم الرحمن عليهم، ليحمدوه ويشكروه، فعقب كلّ نعمة يخاطب تعالى العباد بقوله: ﴿فبأي آلاء ربكما تكذبان﴾ تنبيها لهم إلى نعمه تعالى الجليلة التي لا تُحصى..
٢ - أبواب جهنم سبعة، لقوله تعالى: ﴿وإن جهنم لموعدهم أجمعين. لها سبعة أبواب لكلّ باب منهم جزء مقسوم﴾..
قوله تعالى :﴿ خلق الإنسان من صلصال كالفخّار ﴾ [ الرحمن : ١٤ ] أي من طين يابس لم يُطبخ، له صلصلة أي صوت إذا نُقِر.
فإن قلتَ : كيف قال ذلك هنا، وقال في الحجر :﴿ من صلصال من حمإ مسنون ﴾ [ الحجر : ٢٦ ] أي من طين أسود متغيّر، وقال في الصافات ﴿ من طين لازب ﴾ [ الصافات : ١١ ] أي لازم يلصق باليد، وقال في آل عمران ﴿ كمثل آدم خلقه من تراب ﴾ ؟   ! [ آل عمران : ٥٩ ]
قلتُ : الآيات كلّها متفقة المعنى، لأنه تعالى خلقه من تراب، ثم جعله طينا، ثم حمأ مسنونا، ثم صلصالا( ١ ).
١ - هذه مراحل وأطوار في خلق الإنسان، وفي كل سورة إشارة إلى بعض هذه الأطوار، فإنه تعالى خلقه من تراب الأرض، ثم عُجن بالماء فصار طينا لازبا، أي متلاصقا يلصق باليد، ثم تركه حتى صار حمأ مسنونا، أي طينا أسود منتنا، ثم يبس فصار كالفخار له صوت وصلصلة..
قوله تعالى :﴿ ربّ المشرقين وربّ المغربين ﴾ [ الرحمن : ١٧ ].
إن قلتَ : لم كرّر ذكر الربّ هنا، دون سورتي : المعارج، والمزمّل ؟
قلتُ : كرّره هنا تأكيدا، وخُصّ ما هنا بالتأكيد لأنه موضع الامتنان، وتعديد النّعم، ولأن الخطاب فيه من جنسين هما : الإنس، والجن، بخلاف ذَيْنِك.
قوله تعالى :﴿ سنفرغ لكم أيها الثقلان ﴾( ١ ) [ الرحمن : ٣١ ]. أي سنقصد لحسابكم، فهو وعيد وتهديد لهم، فالفراغ هنا بمعنى القصد للشيء، لا بمعنى الفراغ منه، إذ معنى الفراغ من الشيء، بذل المجهود فيه، وهذا لا يُقال في حقه تعالى.
١ - الآية وردت مورد الوعيد والتهديد أي سنفرغ لكم ونتجرد لحسابكم يا معشر الإنس والجن، وهذا على طريقة العرب في أسلوب التهديد، يقول الرجل لمن يتوعده: سأفرغ لك أي سأتجرد للانتقام منك من كل ما يشغلني، قال ابن عباس: هذا وعيد، وليس بالله تعالى شُغل وهو فارغ، وانظر ابن كثير ٣/٤١٩..
قوله تعالى :﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان ﴾ [ الرحمن : ٤٦ ]. أي ولمن خاف قيامه بين يدي ربه، والمعنى لكل خائف من الفريقين جنتان : جنة للخائف الإنسيّ، وجنة للخائف الجنيّ، أو المعنى لكل خائف جنتان : جنة لعقيدته، وجنة لعمله، أو جنة لفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصي، أو جنة يُثاب بها، وجنة يتفضَّل بها عليه، أو المراد بالجنّتين جنة واحدة، وإنما ثنّى مراعاة للفواصل.
قوله تعالى :﴿ فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ﴾( ١ ) [ الرحمن : ٥٦ ] جمع الضمير( ٢ ) مع أن قبله جنتان، لرجوعه إلى الآلاء المعدودة في الجنتين، أو إلى الجنتين، لكن جَمَعه لاشتمالهما على قصور ومنازل، أو إلى المنازل والقصور التي دلّ عليها ذكر الحنّتين، أو إلى الفُرش لقربها، وتكون " في " بمعنى " على " كما في قوله تعالى :﴿ أم لهم سلّم يستمعون فيه ﴾ [ الطور : ٣٨ ] أي عليه، وقوله تعالى :﴿ لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ﴾ أي لم يفتضّ الإنسيّات إنسيّ، ولا الجنيات جنيّ.
١ - الأظهر أن المعنى: لكل عبد منيب خائف من الله جنان: جنة لسكنه، وجنة لزوجاته وخدمه، كما هو حال الملوك والعظماء في الدنيا، حيث يكون له قصر، ولزوجاته قصر، زيادة في الرفاهية والتنعم..
٢ - المراد بالضمير قوله: ﴿فيهنّ﴾ فقد جاء بصيغة الجمع، لا التثنية مثل قوله: فيهما، مع أن ما قبله مثنّى..
سورة الرحمن
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الرَّحْمن) من السُّوَر المكية، وقد أبانت عن مقصدٍ عظيم؛ وهو إثباتُ عموم الرحمة لله عز وجل، وقد ذكَّر اللهُ عبادَه بنِعَمه وآلائه التي لا تُحصَى عليهم، وفي ذلك دعوةٌ لاتباع الإله الحقِّ المستحِق للعبودية، وقد اشتملت السورةُ الكريمة على آياتِ ترهيب وتخويف من عقاب الله، كما اشتملت على آياتٍ تُطمِع في رحمةِ الله ورضوانه وجِنانه.

ترتيبها المصحفي
55
نوعها
مكية
ألفاظها
352
ترتيب نزولها
97
العد المدني الأول
77
العد المدني الأخير
77
العد البصري
76
العد الكوفي
78
العد الشامي
78

* سورة (الرَّحْمن):

سُمِّيت سورة (الرَّحْمن) بهذا الاسم؛ لافتتاحها باسم (الرَّحْمن)، وهو اسمٌ من أسماءِ الله تعالى.

* ذكَرتْ سورةُ (الرحمن) كثيرًا من فضائلِ الله على عباده:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: «خرَجَ رسولُ اللهِ ﷺ على أصحابِه، فقرَأَ عليهم سورةَ الرَّحْمنِ، مِن أوَّلِها إلى آخِرِها، فسكَتوا، فقال: «لقد قرَأْتُها على الجِنِّ ليلةَ الجِنِّ فكانوا أحسَنَ مردودًا منكم! كنتُ كلَّما أتَيْتُ على قولِه: {فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، قالوا: لا بشيءٍ مِن نِعَمِك رَبَّنا نُكذِّبُ؛ فلك الحمدُ!»». أخرجه الترمذي (٣٢٩١).

1. من نِعَم الله الظاهرة (١-١٣).

2. نعمة الخَلْق (١٤-١٦).

3. نِعَم الله في الآفاق (١٧-٢٥).

4. من لطائف النِّعَم (٢٦-٣٢).

5. تحدٍّ وإعجاز (٣٣-٣٦).

6. عاقبة المجرمين (٣٧-٤٥).

7. نعيم المتقين (٤٦-٧٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /550).

مقصدُ سورة (الرَّحْمن) هو إثباتُ الرحمةِ العامة لله عز وجل، الظاهرةِ في إنعامه على خَلْقه، وأعظمُ هذه النِّعَم هو نزول القرآن، وما تبع ذلك من نِعَم كبيرة في هذا الكون.

يقول الزَّمَخْشريُّ: «عدَّد اللهُ عز وعلا آلاءه، فأراد أن يُقدِّم أولَ شيءٍ ما هو أسبَقُ قِدْمًا من ضروب آلائه وأصناف نَعْمائه؛ وهي نعمة الدِّين، فقدَّم من نعمة الدِّين ما هو في أعلى مراتبِها وأقصى مَراقيها؛ وهو إنعامُه بالقرآن وتنزيلُه وتعليمه؛ لأنه أعظَمُ وحيِ الله رتبةً، وأعلاه منزلةً، وأحسنه في أبواب الدِّين أثرًا، وهو سَنامُ الكتب السماوية ومِصْداقها والعِيارُ عليها.

وأخَّر ذِكْرَ خَلْقِ الإنسان عن ذكرِه، ثم أتبعه إياه؛ ليعلمَ أنه إنما خلَقه للدِّين، وليحيطَ علمًا بوحيِه وكتبِه وما خُلِق الإنسان من أجله، وكأنَّ الغرض في إنشائه كان مقدَّمًا عليه وسابقًا له، ثم ذكَر ما تميَّز به من سائر الحيوان من البيان؛ وهو المنطقُ الفصيح المُعرِب عما في الضمير». "الكشاف" للزمخشري (4 /443).