هذه السورة مكية في قول الجمهور، مدنية في قول ابن مسعود. وعن ابن عباس : القولان، وعنه : سوى آية هي مدنية، وهي :﴿ يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ ﴾ الآية. وسبب نزولها فيما قال مقاتل : أنه لما نزل
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ ﴾
الآية، قالوا : ما نعرف الرحمن، فنزلت :﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْءانَ ﴾. وقيل : لما قالوا
﴿ إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ ﴾
، أكذبهم الله تعالى وقال :﴿ الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ﴾. وقيل : مدنية نزلت، إذ أبى سهيل بن عمرو وغيره أن يكتب في الصلح :﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾. ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أنه لما ذكر مقر المتقين في جنات ونهر عند مليك مقتدر، ذكر شيئاً من آيات الملك وآثار القدرة، ثم ذكر مقر الفريقين على جهة الإسهاب، إذ كان في آخر السورة ذكره على جهة الاختصار والإيجاز.
ولما ذكر قوله :﴿ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ﴾
فأبرز هاتين الصفتين بصورة التنكير، فكأنه قيل : من المتصف بذلك ؟ فقال :﴿ الرَّحْمَـنُ * عَلَّمَ الْقُرْءانَ ﴾، فذكر ما نشأ عن صفة الرحمة، وهو تعلم القرآن الذي هو شفاء للقلوب.
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ١ الى ٧٨]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤)الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤)
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩)
بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤)
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩)
فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩)
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩)
فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨)
الْخُرُوجُ مِنَ الشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ. الشُّوَاظُ: اللَّهَبُ الْخَالِصُ بِغَيْرِ دُخَانٍ. وَقَالَ حَسَّانُ:
هَجَوْتُكَ فَاخْتَضَعْتُ لَهَا بِذُلٍّ | بِقَافِيَةٍ تَأَجَّجُ كَالشُّوَاظِ |
وَنَارُ حَرْبٍ تُسْعِرُ الشُّوَاظَا وَتُضَمُّ شِينُهُ وَتُكْسَرُ. النُّحَاسُ، قَالَ الْخَلِيلُ: وَالنُّحَاسُ هُوَ الدُّخَانُ الَّذِي لَا لَهَبَ لَهُ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ نَابِغَةُ بَنِي جَعْدَةَ:
تُضِيءُ كَضَوْءِ سِرَاجِ السَّلِيطِ | لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِيهِ نُحَاسَا |
تَبِعْنَ الدِّهَانَ الْحُمْرَ كُلَّ عَشِيَّةٍ | بِمَوْسِمِ بَدْرٍ أَوْ بِسُوقِ عُكَاظِ |
وَمِنْ كُلِّ أَفْنَانِ اللَّذَاذَةِ وَالصِّبَى | لَهَوْتُ بِهِ وَالْعَيْشُ أَخْضَرُ نَاضِرُ |
بُكَاءُ حَمَامَةٍ تَدْعُو هذيلا | مُفْجَعَةٍ عَلَى فَنَنٍ تُغَنِّي |
قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ: قَصَرَتْ أَلْحَاظُهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ. قَالَ الشَّاعِرُ:
مِنَ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ | مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الْإِتْبِ مِنْهَا لَأَثَّرَا |
وَطَالَمَا أُصْلِيَ الْيَاقُوتُ جَمْرَ غَضَى | ثُمَّ انْطَفَى الْجَمْرُ وَالْيَاقُوتُ يَاقُوتُ |
وَأَنْتِ الَّتِي حَبَّبْتِ كُلَّ قَصِيرَةٍ | إِلَيَّ وَلَمْ تَشْعُرْ بِذَاكَ الْقَصَائِرُ |
عَنَيْتُ قَصِيرَاتِ الْحِجَالِ وَلَمْ أُرِدْ | قِصَارَ الْخُطَا شَرُّ النِّسَاءِ الْبَحَاتِرُ |
مَتَى كَانَ الْخِيَامُ بِذِي طُلُوحٍ | سُقِيتِ الْغَيْثَ أَيَّتُهَا الْخِيَامُ |
بَخِيلٍ عَلَيْهَا جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ | جَدِيرُونَ يَوْمًا أَنْ يَنَالُوا فَيَسْتَعْلُوا |
كَأَنَّ صَلِيلَ المرء حين يسده | صَلِيلُ زُيُوفٍ يُنْتَقَدْنَ بِعَبْقَرَا |
حي كأن رياض العف أَلْبَسَهَا | مِنْ وَشْيِ عَبْقَرٍ تحليل وَتَنْجِيدٌ |
قَالَ الشَّاعِرُ:
خَبَرُ مَا قَدْ جَاءَنَا مُسْتَعْمَلٌ | جَلَّ حَتَّى دَقَّ فِيهِ الْأَجَلُّ |
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
الْقَوْلَانِ، وَعَنْهُ: سِوَى آيَةٍ هِيَ مدنية، وهي: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ.
وَسَبَبُ نُزُولِهَا فِيمَا قَالَ مُقَاتِلٌ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ «١» الْآيَةَ، قَالُوا: مَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، فَنَزَلَتْ: الرَّحْمنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ. وَقِيلَ: لَمَّا قَالُوا إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ «٢»، أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ: الرَّحْمنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ. وَقِيلَ: مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ، إِذْ أَبَى سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَغَيْرُهُ أَنْ يَكْتُبَ فِي الصُّلْحِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَقَرَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ آيَاتِ الْمُلْكِ وَآثَارِ الْقُدْرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَقَرَّ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى جِهَةِ الْإِسْهَابِ، إِذْ كَانَ فِي آخِرِ السُّورَةِ ذِكْرُهُ عَلَى جِهَةِ الِاخْتِصَارِ وَالْإِيجَازِ. وَلَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ «٣»، فَأَبْرَزَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِصُورَةِ التَّنْكِيرِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَنِ الْمُتَّصِفُ بِذَلِكَ؟ فَقَالَ:
الرَّحْمنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، فَذَكَرَ مَا نَشَأَ عَنْ صِفَةِ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ شِفَاءٌ لِلْقُلُوبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّحْمنُ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وعَلَّمَ الْقُرْآنَ خَبَرُهُ. وَقِيلَ:
الرَّحْمنُ آيَةٌ بِمُضْمَرٍ، أَيِ اللَّهُ الرَّحْمَنُ، أَوِ الرَّحْمَنُ ربنا، وذلك آية وعَلَّمَ الْقُرْآنَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ. وَلَمَّا عَدَّدَ نِعَمَهُ تَعَالَى، بَدَأَ مِنْ نِعَمِهِ بِمَا هُوَ أَعْلَى رُتَبِهَا، وَهُوَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ، إِذْ هُوَ عِمَادُ الدِّينِ وَنَجَاةُ مَنِ اسْتَمْسَكَ بِهِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُعَلَّمَ، ذَكَرَهُ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسانَ، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالتَّعْلِيمِ. وَلَمَّا كَانَ خَلْقُهُ مِنْ أَجْلِ الدِّينِ وَتَعْلِيمِهِ الْقُرْآنَ، كَانَ كَالسَّبَبِ فِي خَلْقِهِ تَقَدَّمَ عَلَى خَلْقِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى الْوَصْفَ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَنْطِقِ الْمُفْصِحِ عَنِ الضَّمِيرِ، وَالَّذِي بِهِ يُمْكِنُ قَبُولُ التَّعْلِيمِ، وَهُوَ الْبَيَانُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَخْرَسَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّمَ شَيْئًا مِمَّا يُدْرَكُ بِالنُّطْقِ؟ وَعَلَّمَ مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى اثْنَيْنِ، حُذِفَ أَوَّلُهُمَا لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ، أَوْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوِ الْإِنْسَانُ، أَقْوَالٌ. وتوهم
(٢) سورة النحل: ١٦/ ١٠٣. [.....]
(٣) سورة القمر: ٥٤/ ٥٥.
وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَعْنَى عَلَّمَ الْقُرْآنَ: جَعَلَهُ عَلَامَةً وَآيَةً يُعْتَبَرُ بِهَا، وَهَذِهِ جُمَلٌ مُتَرَادِفَةٌ، أَخْبَارٌ كُلُّهَا عَنِ الرَّحْمَنِ، جُعِلَتْ مُسْتَقِلَّةً لَمْ تُعْطَفْ، إِذْ هِيَ تَعْدَادٌ لِنِعَمِهِ تَعَالَى. كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ أَحْسَنَ إِلَيْكَ، خَوَّلَكَ: أَشَارَ بِذِكْرِكَ، وَالْإِنْسَانُ اسْمُ جِنْسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ الْإِنْسَانُ: آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالْجُمْهُورُ:
الْبَيانَ: الْمَنْطِقُ، وَالْفَهْمُ: الْإِبَانَةُ، وَهُوَ الَّذِي فُضِّلَ بِهِ الْإِنْسَانُ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ بَيَانُ الْحَلَالِ وَالشَّرَائِعِ، وَهَذَا جُزْءٌ مِنَ الْبَيَانِ الْعَامِّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ:
مَا يَقُولُ وَمَا يُقَالُ لَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْخَيْرُ وَالشَّرُّ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْهُدَى. وَقَالَ يَمَانٌ:
الْكِتَابَةُ. وَمَنْ قَالَ: الْإِنْسَانُ آدَمُ، فَالْبَيَانُ أَسْمَاءُ كُلِّ شَيْءٍ، أَوِ التَّكَلُّمُ بِلُغَاتٍ كَثِيرَةٍ أَفْضَلُهَا الْعَرَبِيَّةُ، أَوِ الْكَلَامُ بَعْدَ أَنْ خَلَقَهُ، أَوْ عِلْمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَوِ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ الَّذِي عَلِمَ بِهِ كُلَّ شَيْءٍ، أَقْوَالٌ، آخِرُهَا مَنْسُوبٌ لِجَعْفَرٍ الصَّادِقِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ تَعْلِيمِهِ الْبَيَانَ، ذَكَرَ مَا امْتَنَّ بِهِ مِنْ وُجُودِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ لِلْإِنْسَانِ، إِذْ هُمَا يَجْرِيَانِ عَلَى حِسَابٍ مَعْلُومٍ وَتَقْدِيرٍ سَوِيٍّ فِي بُرُوجِهِمَا وَمَنَازِلِهِمَا. وَالْحُسْبَانُ مَصْدَرٌ كَالْغُفْرَانِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْحِسَابِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: جَمْعُ حِسَابٍ، كَشِهَابٍ وَشُهْبَانٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو مَالِكٍ وَقَتَادَةُ: لَهُمَا فِي طُلُوعِهِمَا وَغُرُوبِهِمَا وَقَطْعِهِمَا الْبُرُوجَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ حُسْبَانَاتٌ شَتَّى.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَوْلَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ لَمْ يَدْرِ أَحَدٌ كَيْفَ يَحْسِبُ شَيْئًا يُرِيدُ مِنْ مَقَادِيرِ الزَّمَانِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحُسْبَانُ: الْفَلَكُ الْمُسْتَدِيرُ، شَبَّهَهُ بِحُسْبَانِ الرَّحَى، وَهُوَ الْعُودُ الْمُسْتَدِيرُ الَّذِي بِاسْتِدَارَتِهِ تَسْتَدِيرُ الْمِطْحَنَةُ. وَارْتَفَعَ الشَّمْسُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ بِحُسْبَانٍ، فَأَمَّا عَلَى حَذْفِ، أَيْ جَرْيِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ كَائِنٌ بِحُسْبَانٍ. وَقِيلَ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ يَجْرِيَانِ بِحُسْبَانٍ، وَبِحُسْبَانٍ متعلق بيجريان، وَعَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ: تَكُونُ الْبَاءُ فِي بِحُسْبَانٍ ظَرْفِيَّةً، لِأَنَّ الْحُسْبَانَ عِنْدَهُ الْفَلَكُ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْعُلْوِيَّةِ، ذَكَرَ فِي مُقَابَلَتِهِمَا مِنَ الْآثَارِ السُّفْلِيَّةِ النَّجْمَ وَالشَّجَرَ، إِذْ كَانَا رِزْقًا لِلْإِنْسَانِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمَا
وَالسَّماءَ رَفَعَها: أَيْ خَلَقَهَا مَرْفُوعَةً، حَيْثُ جَعَلَهَا مَصْدَرَ قَضَايَاهُ وَمَسْكَنَ مَلَائِكَتِهِ الَّذِينَ يَنْزِلُونَ بِالْوَحْيِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى عِظَمِ شَأْنِهِ وَمِلْكِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
وَالسَّماءَ، بِالنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ، رُوعِيَ مُشَاكَلَةُ الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهِ وَهِيَ يَسْجُدانِ.
وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ: وَالسَّمَاءُ بِالرَّفْعِ، رَاعَى مُشَاكَلَةَ الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
وَوَضَعَ الْمِيزانَ، فِعْلًا مَاضِيًا نَاصِبًا الْمِيزَانَ، أَيْ أَقَرَّهُ وَأَثْبَتَهُ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ: وَوَضْعِ الْمِيزَانِ، بِالْخَفْضِ وَإِسْكَانِ الضَّادِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كُلُّ مَا يُوزَنُ بِهِ الْأَشْيَاءُ وَتُعْرَفُ مَقَادِيرُهَا، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْآلَاتُ، قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، جَعَلَهُ تَعَالَى حَاكِمًا بِالسَّوِيَّةِ فِي الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالطَّبَرِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ: الْمِيزَانُ: الْعَدْلُ، وَتَكُونُ الْآلَاتُ مِنْ بَعْضِ مَا يَنْدَرِجُ فِي الْعَدْلِ. بَدَأَ أَوَّلًا بِالْعِلْمِ، فَذَكَرَ مَا فِيهِ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَهُوَ الْقُرْآنُ ثُمَّ ذَكَرَ مَا بِهِ التَّعْدِيلُ فِي الْأُمُورِ، وَهُوَ الْمِيزَانُ، كَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ «١»، لِيُعَلِّمُوا الْكِتَابَ وَيَفْعَلُوا مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ الكتاب. أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ:
أَيْ لِأَنْ لَا تَطْغَوْا، فَتَطْغَوْا مَنْصُوبٌ بِأَنْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ هِيَ أَنِ الْمُفَسِّرَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَنْ مُفَسِّرَةً، فَيَكُونُ تَطْغَوْا جَزْمًا بِالنَّهْيِ. انْتَهَى، وَلَا يَجُوزُ مَا قَالَاهُ مِنْ أَنَّ أَنْ مُفَسِّرَةٌ، لِأَنَّهُ فَاتَ أَحَدُ شَرْطَيْهَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهَا جُمْلَةً فيها معنى القول.
وَلَمَّا كَانَتِ التَّسْوِيَةُ مَطْلُوبَةً جِدًّا، أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا تُخْسِرُوا، مِنْ أَخْسَرَ: أَيْ أَفْسَدَ وَنَقَصَ، كَقَوْلِهِ: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ «١» أَيْ يَنْقُصُونَ. وَبِلَالُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: تَخْسَرُ بِفَتْحِ التَّاءِ، يُقَالُ: خَسِرَ يَخْسَرُ، وَأَخْسَرَ يُخْسِرُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَجَبَرَ وَأَجْبَرَ. وَحَكَى ابْنُ جِنِّي وَصَاحِبُ اللَّوَامِحِ، عَنْ بِلَالٍ: فَتْحَ التَّاءِ وَالسِّينِ مُضَارِعُ خَسِرَ بِكَسْرِ السِّينِ، وَخَرَّجَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: فِي الْمِيزَانِ، فَحَذَفَ الْجَارَّ وَنَصَبَ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّخْرِيجِ. أَلَا تَرَى أَنَّ خَسِرَ جَاءَ مُتَعَدِّيًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ «٢»، وخَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ «٣» ؟ وقرىء أَيْضًا: تَخْسُرُوا، بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ السِّينِ. لِمَا مُنِعَ مِنَ الزِّيَادَةِ، وَهِيَ الطُّغْيَانُ، نَهَى عَنِ الْخُسْرَانِ الَّذِي هُوَ نُقْصَانٌ، وَكَرَّرَ لَفْظَ الْمِيزَانِ، تَشْدِيدًا لِلتَّوْصِيَةِ بِهِ وَتَقْوِيَةً لِلْأَمْرِ بِاسْتِعْمَالِهِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ السَّمَاءَ، ذَكَرَ مُقَابِلَتَهَا فَقَالَ: وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ: أَيْ خَفَضَهَا مَدْحُوَّةً عَلَى الْمَاءِ لِيُنْتَفَعَ بِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْأَرْضَ بِالنَّصْبِ وَأَبُو السَّمَّالِ: بِالرَّفْعِ.
وَالْأَنَامُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَنُو آدَمَ فَقَطْ. وَقَالَ أَيْضًا هُوَ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَالشَّعْبِيُّ: الْحَيَوَانُ كُلُّهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الثَّقَلَانِ، الْجِنُّ وَالْإِنْسُ. فِيها فاكِهَةٌ: ضُرُوبٌ مِمَّا يُتَفَكَّهُ بِهِ. وَبَدَأَ بِقَوْلِهِ: فاكِهَةٌ، إِذْ هُوَ مِنْ بَابِ الِابْتِدَاءِ بِالْأَدْنَى وَالتَّرَقِّي إِلَى الْأَعْلَى، وَنَكَّرَ لَفْظَهَا، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا دُونَ الِانْتِفَاعِ بِمَا يُذْكَرُ بَعْدَهَا. ثُمَّ ثَنَّى بِالنَّخْلِ، فَذَكَرَ الْأَصْلَ وَلَمْ يَذْكُرْ ثَمَرَتَهَا، وَهُوَ الثَّمَرُ لِكَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ بِهَا مِنْ لِيفٍ وَسَعَفٍ وَجَرِيدٍ وَجُذُوعٍ وَجُمَّارٍ وَثَمَرٍ. ثُمَّ أَتَى ثَالِثًا بِالْحَبِّ الَّذِي هُوَ قِوَامُ عَيْشِ الْإِنْسَانِ فِي أَكْثَرِ الْأَقَالِيمِ، وَهُوَ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَكُلُّ مَا لَهُ سُنْبُلٌ وَأَوْرَاقٌ مُتَشَعِّبَةٌ عَلَى سَاقِهِ، وَوَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: ذُو الْعَصْفِ تَنْبِيهًا عَلَى إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا يَقُوتُهُمْ مِنَ الْحَبِّ، وَيَقُوتُ بَهَائِمَهُمْ مِنْ وَرَقِهِ الَّذِي هُوَ التِّبْنُ. وَبَدَأَ بِالْفَاكِهَةِ وَخَتَمَ بِالْمَشْمُومِ، وَبَيْنَهُمَا النَّخْلُ وَالْحَبُّ، لِيَحْصُلَ مَا بِهِ يُتَفَكَّهُ، وَمَا بِهِ يُتَقَوَّتُ، وَمَا بِهِ تَقَعُ اللَّذَاذَةُ مِنَ الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ. وَذَكَرَ النَّخْلَ بِاسْمِهَا، وَالْفَاكِهَةَ دُونَ شَجَرِهَا، لِعِظَمِ الْمَنْفَعَةِ بالنخل من
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ٩- ٥٣، وسورة هود: ١١/ ٢١، وسورة المؤمنون: ٢٣/ ١٠٣، وسورة الزمر:
٣٩/ ١٥.
(٣) سورة الحج: ٢٢/ ١١.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ، بِرَفْعِ الثَّلَاثَةِ عَطْفًا عَلَى الْمَرْفُوعِ قَبْلَهُ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عبلة: بِنَصْبِ الثَّلَاثَةِ، أَيْ وَخَلَقَ الْحَبَّ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ وَالرَّيْحانُ حَالَةَ الرَّفْعِ وَحَالَةَ النَّصْبِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَذُو الرَّيْحَانِ حَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَصْمَعِيِّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو:
وَالرَّيْحَانُ بِالْجَرِّ، وَالْمَعْنَى: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ الَّذِي هُوَ عَلَفُ الْبَهَائِمِ، وَالرَّيْحَانُ الَّذِي هُوَ مَطْعَمُ النَّاسِ، وَيَبْعُدُ دُخُولُ الْمَشْمُومِ فِي قِرَاءَةِ الْجَرِّ، وَرَيْحَانُ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ. وَأَجَازَ أَبُو عَلِيٍّ أَنْ يَكُونَ اسْمًا، وَوُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ، وَأَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا عَلَى وَزْنِ فَعْلَانَ كَاللَّبَّانِ.
وَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً، كَمَا أَبْدَلُوا الْيَاءَ وَاوًا فِي أَشَاوَى، أَوْ مَصْدَرًا شَاذًّا فِي الْمُعْتَلِّ، كَمَا شَذَّ كَبَنُونَةٍ وَبَيْنُونَةٍ، فَأَصْلُهُ رَيْوِحَانُ، قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ فَصَارَ رَيِّحَانَ، ثُمَّ حُذِفَتْ عَيْنُ الْكَلِمَةِ، كَمَا قَالُوا: مَيْتٌ وَهَيْنٌ.
وَلَمَّا عَدَّدَ تَعَالَى نِعَمَهُ، خَاطَبَ الثَّقَلَيْنِ بِقَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، أَيْ أَنَّ نِعَمَهُ كَثِيرَةٌ لَا تُحْصَى، فَبِأَيِّهَا تُكَذِّبَانِ؟ أَيْ مَنْ هَذِهِ نِعَمُهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُكَذَّبَ بِهَا. وَكَانَ هَذَا الْخِطَابُ لِلثَّقَلَيْنِ، لِأَنَّهُمَا دَاخِلَانِ فِي الْأَنَامِ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ. وَلِقَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسانَ، وخَلَقَ الْجَانَّ وَلِقَوْلِهِ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ، وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ جَعَلَهُ خِطَابًا لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ بَنِي آدَمَ. وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ خِطَابٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ «١»، وَيَا حَرَسِي اضْرِبَا عُنُقَهُ، يَعْنِي أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْوَاحِدِ بِصُورَةِ الِاثْنَيْنِ، فَبِأَيِّ مُنَوَّنًا فِي جَمِيعِ السُّورَةِ، كَأَنَّهُ حُذِفَ مِنْهُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ وَأُبْدِلَ مِنْهُ آلاءِ رَبِّكُما بَدَلُ مَعْرِفَةٍ مِنْ نَكِرَةٍ، وَآلَاءُ تَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَافِ أَنَّهَا النِّعَمُ، وَاحِدُهَا إِلْيٌ وَأَلًا وَإِلًى وَأَلْيٌ.
خَلَقَ الْإِنْسانَ: لَمَّا ذَكَرَ الْعَالَمَ الْأَكْبَرَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَوْجَدَ فِيهَا مِنَ النِّعَمِ، ذَكَرَ مَبْدَأَ مَنْ خُلِقَتْ لَهُ هَذِهِ النِّعَمُ، وَالْإِنْسَانُ هُوَ آدَمُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ:
لِلْجِنْسِ، وَسَاغَ ذَلِكَ لِأَنَّ أَبَاهُمْ مَخْلُوقٌ مِنَ الصَّلْصَالِ. وَإِذَا أُرِيدَ بِالْإِنْسَانِ آدَمُ، فَقَدْ جَاءَتْ غَايَاتٌ لَهُ مُخْتَلِفَةٌ، وَذَلِكَ بِتَنَقُّلِ أَصْلِهِ فَكَانَ أَوَّلًا تُرَابًا، ثُمَّ طِينًا، ثُمَّ حَمَأً مَسْنُونًا، ثُمَّ صَلْصَالًا، فَنَاسَبَ أَنْ يُنْسَبَ خَلْقُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا. وَالْجَانُّ هُوَ أَبُو الْجِنِّ، وَهُوَ إِبْلِيسُ، قَالَهُ
مَا اخْتَلَطَ مِنْ أَصْفَرَ وَأَحْمَرَ وَأَخْضَرَ، أَوِ اللَّهَبُ، أَوِ الْخَالِصُ، أَوِ الْحُمْرَةُ فِي طَرَفِ النَّارِ، أَوِ الْمُخْتَلِطُ بِسَوَادٍ، أَوِ الْمُضْطَرِبُ بِلَا دُخَانٍ، أَقْوَالٌ، وَمِنْ الْأُولَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالثَّانِيَةَ فِي مِنْ نارٍ لِلتَّبْعِيضِ. وَقِيلَ لِلْبَيَانِ وَالتَّكْرَارُ فِي هَذِهِ الْفَوَاصِلِ: لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّنْبِيهِ وَالتَّحْرِيكِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْهُمُ ابْنُ قُتَيْبَةَ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّكْرَارَ إِنَّمَا هُوَ لِاخْتِلَافِ النِّعَمِ، فَكَرَّرَ التَّوْقِيفَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا.
وَقَرَأَ الجمهور: رَبُّ، ورَبُّ بِالرَّفْعِ، أَيْ هُوَ رَبٌّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ:
بِالْخَفْضِ بَدَلًا مِنْ رَبِّكُمَا، وَثَنَّى الْمُضَافَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُمَا مَشْرِقَا الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ وَمَغْرِبَاهُمَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: مَشْرِقَا الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَغْرِبَاهُمَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لِلشَّمْسِ مَشْرِقٌ فِي الصَّيْفِ مُصْعِدٌ، وَمَشْرِقٌ فِي الشِّتَاءِ مُنْحَدِرٌ، تَنْتَقِلُ فِيهِمَا مُصْعِدَةً وَمُنْحَدِرَةً. انْتَهَى.
فَالْمَشْرِقَانِ وَالْمَغْرِبَانِ لِلشَّمْسِ. وَقِيلَ: الْمَشْرِقَانِ: مَطْلَعُ الْفَجْرِ وَمَطْلَعُ الشَّمْسِ، وَالْمَغْرِبَانِ مَغْرِبُ الشَّفَقِ وَمَغْرِبُ الشَّمْسِ. وَلِسَهْلٍ التُّسْتَرِيِّ كَلَامٌ فِي الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ شَبِيهٌ بِكَلَامِ الْبَاطِنِيَّةِ الْمُحَرِّفِينَ مَدْلُولَ كَلَامِ اللَّهِ، ضَرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهِ صَفْحًا. وَكَذَلِكَ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ الْغُلَاةِ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ لِلصُّوفِيَّةِ، لِأَنَّا لَا نَسْتَحِلُّ نَقْلَ شَيْءٍ مِنْهُ. وَقَدْ أَوْلَغَ صَاحِبُ كِتَابِ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ بِحَسْبِ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الْغُلَاةُ فِي كُلِّ آيَةٍ آيَةٍ، وَيُسَمِّي ذَلِكَ الْحَقَائِقَ، وَأَرْبَابُ الْقُلُوبِ وَمَا ادَّعَوْا فَهْمَهُ فِي القرآن فأغلوا فِيهِ، لَمْ يَفْهَمْهُ عَرَبِيٌّ قَطُّ، وَلَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْفُرْقَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذِكْرُ الثَّعْلَبِيُّ فِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أَلْغَازًا وَأَقْوَالًا بَاطِنَةً لَا يُلْتَفَتُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا. انْتَهَى، والظاهر التقاؤهما، أي يتجاوزان، فَلَا فَصْلَ بَيْنَ الْمَاءَيْنِ فِي رُؤْيَةِ الْعَيْنِ. وَقِيلَ: يَلْتَقِيَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً. وَقِيلَ:
مُعَدَّانِ لِلِالْتِقَاءِ، فَحَقُّهُمَا أَنْ يَلْتَقِيَا لَوْلَا الْبَرْزَخُ بَيْنَهُمَا. بَرْزَخٌ: أَيْ حَاجِزٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا يَبْغِيانِ: لَا يَتَجَاوَزَانِ حَدَّهُمَا، وَلَا يَبْغِي أحدهما على الآخر بالممارجة.
وَقِيلَ: الْبَرْزَخُ: أَجْرَامُ الْأَرْضِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَقِيلَ: لَا يَبْغِيَانِ: أَيْ عَلَى النَّاسِ وَالْعُمْرَانِ، وَعَلَى هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ يَكُونُ مِنَ الْبَغْيِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَغَى، أَيْ طَلَبَ، فَالْمَعْنَى: لَا يَبْغِيَانِ حَالًا غَيْرَ الْحَالِ الَّتِي خُلِقَا عَلَيْهَا وَسُخِّرَا لَهَا. وَقِيلَ: مَاءُ الْأَنْهَارِ لَا يَخْتَلِطُ بِالْمَاءِ الْمِلْحِ، بَلْ هُوَ بِذَاتِهِ بَاقٍ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْعِيَانُ لَا يَقْتَضِيهِ. انْتَهَى، يَعْنِي أَنَّهُ يُشَاهِدُ الْمَاءَ الْعَذْبَ يَخْتَلِطُ بِالْمِلْحِ فَيَبْقَى كُلُّهُ مِلْحًا، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ بِالِاخْتِلَاطِ تَتَغَيَّرُ أَجْرَامُ الْعَذْبِ حَتَّى
وَمَمْزُوجَةُ الْأَمْوَاهِ لَا الْعَذْبُ غَالِبٌ | عَلَى الْمِلْحِ طِيبًا لَا وَلَا الْمِلْحُ يَعْذُبُ |
وَالظَّاهِرُ فِي مِنْهُمَا أَنَّ ذَلِكَ يَخْرُجُ مِنَ الْمِلْحِ وَالْعَذْبِ. وَقَالَ بِذَلِكَ قَوْمٌ، حَكَاهُ الْأَخْفَشُ. وَرَدَّ النَّاسُ هَذَا الْقَوْلَ، قَالُوا: وَالْحِسُّ يُخَالِفُهُ، إِذْ لَا يَخْرُجُ إِلَّا مِنَ الْمِلْحِ، وَعَابُوا قَوْلَ الشَّاعِرِ:
فَجَاءَ بِهَا مَا شِئْتَ مِنْ لَطِيمَةٍ | عَلَى وَجْهِهَا مَاءُ الْفُرَاتِ يَمُوجُ |
تَكُونُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي الْبَحْرِ بِنُزُولِ الْمَطَرِ، لِأَنَّ الصَّدَفَ وَغَيْرَهَا تَفْتَحُ أَفْوَاهَهَا لِلْمَطَرِ، فَلِذَلِكَ قَالَ مِنْهُمَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّمَا يَخْرُجُ مِنَ الْمِلْحِ، لَكِنَّهُ قَالَ مِنْهُمَا تَجَوُّزًا.
وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: الْعَذْبُ فِيهَا كَاللِّقَاحِ لِلْمِلْحِ، فَهُوَ كَمَا يُقَالُ الْوَلَدُ يَخْرُجُ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَتَبِعَ الزَّجَّاجَ مِنْ حَيْثُ هُمَا نَوْعٌ وَاحِدٌ، فَخُرُوجُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا هِيَ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ تَخْتَصُّ عِنْدَ التَّفْصِيلِ الْمَبَالَغِ بِأَحَدِهِمَا، كَمَا قَالَ: سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً «١»، وَإِنَّمَا هُوَ فِي إِحْدَاهُنَّ، وَهِيَ الدُّنْيَا إِلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ نَحْوًا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قَالَ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا يَخْرُجَانِ مِنَ الْمِلْحِ؟ قُلْتُ: لَمَّا الْتَقَيَا وَصَارَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، جَازَ أَنْ يُقَالَ: يَخْرُجَانِ مِنْهُمَا، كَمَا يُقَالُ:
يَخْرُجَانِ مِنَ الْبَحْرِ، وَلَا يَخْرُجَانِ مِنْ جَمِيعِ الْبَحْرِ، وَلَكِنْ مِنْ بَعْضِهِ. وَتَقُولُ: خَرَجْتُ مِنَ الْبَلَدِ، وَإِنَّمَا خَرَجْتَ مِنْ مَحَلَّةٍ مِنْ مَحَالِّهِ، بَلْ مِنْ دَارٍ وَاحِدَةٍ مِنْ دُورِهِ. وَقِيلَ: لَا يَخْرُجَانِ إِلَّا مِنْ مُلْتَقَى الْمِلْحِ وَالْعَذْبِ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَخْرُجُ مِنْ أحدهما، كقوله تعالى:
وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِهِ وَالْأُمُورُ الْأَرْضِيَّةُ الظَّاهِرَةُ خَفِيَتْ عَنِ التُّجَّارِ الَّذِينَ قَطَعُوا الْمَفَاوِزَ وَدَارُوا الْبِلَادَ، فَكَيْفَ لَا يَخْفَى أَمْرٌ مَا فِي قَعْرِ الْبَحْرِ عَلَيْهِمْ؟ وَاللُّؤْلُؤُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: كِبَارُ الْجَوْهَرِ وَالْمَرْجَانُ صِغَارُهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَعَلِيٍّ وَمُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَكْسَ هَذَا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو مَالِكٍ: الْمَرْجَانُ: الْحَجَرُ الْأَحْمَرُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: حَجَرٌ شَدِيدُ الْبَيَاضِ. وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى أَنَّهُ ضَرْبٌ من اللؤلؤ، كالقبضان، وَالْمَرْجَانُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ نَقْلَ مُتَصَرِّفٍ، وَقَالَ الْأَعْشَى:
مِنْ كُلِّ مَرْجَانَةٍ فِي الْبَحْرِ أَحْرَزَهَا | تَيَّارُهَا وَوَقَاهَا طِينَهَا الصَّدَفُ |
إِنَّ السِّبَاعَ لَتَهْدِيَ فِي مرابضها
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٥، وسورة النساء: ٤/ ٥٧.
أَيْ كَالْجِبَالِ وَالْآكَامِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كِبَرِ السُّفُنِ حَيْثُ شَبَّهَهَا بِالْجِبَالِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُنْشَآتُ تَنْطَلِقُ عَلَى السَّفِينَةِ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ. وَعَبَّرَ بِمَنْ فِي قَوْلِهِ: كُلُّ مَنْ عَلَيْها تَغْلِيبًا لِمَنْ يَعْقِلُ، وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْها قَلِيلٌ عَائِدٌ عَلَى الْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ، فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ لَفْظِهَا. وَالْفَنَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ إِعْدَامِ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ، وَالْوَجْهُ يُعَبَّرُ بِهِ عن حقيقة الشيء، والجارجة مُنْتَفِيَةٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَحْوَ: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. وَتَقُولُ صَعَالِيكُ مَكَّةَ: أَيْنَ وَجْهُ عَرَبِيٍّ كَرِيمٍ يَجُودُ عَلَيَّ؟ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ذُو بِالْوَاوِ، وَصِفَةً لِلْوَجْهِ وَأُبَيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ: ذِي بِالْيَاءِ، صِفَةً لِلرَّبِّ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: وَجْهُ رَبِّكَ لِلرَّسُولِ، وَفِيهِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ:
الْخِطَابُ لِكُلِّ سَامِعٍ. وَمَعْنَى ذُو الْجَلالِ: الَّذِي يُجِلُّهُ الْمُوَحِّدُونَ عَنِ التَّشْبِيهِ بِخَلْقِهِ وَعَنْ أَفْعَالِهِمْ، أَوِ الَّذِي يُتَعَجَّبُ مِنْ جَلَالِهِ، أَوِ الَّذِي عِنْدَهُ الْجَلَالُ وَالْإِكْرَامُ لِلْمُخْلِصِينَ مِنْ عِبَادِهِ.
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: أَيْ حَوَائِجَهُمْ، وَهُوَ مَا يتعلق بمن في السموات مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَمَا اسْتُعْبِدُوا بِهِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: من في السموات: الرَّحْمَةَ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ: الْمَغْفِرَةَ وَالرِّزْقَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
الْمَلَائِكَةُ الرِّزْقَ لِأَهْلِ الْأَرْضِ وَالْمَغْفِرَةَ، وَأَهْلُ الْأَرْضِ يَسْأَلُونَهُمَا جَمِيعًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ:
يَسْأَلُهُ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ. وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الْوَجْهِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ يَبْقَى، أَيْ هُوَ دَائِمٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ. انْتَهَى، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَمَنْ لَا يَسْأَلُ، فَحَالُهُ تَقْتَضِي السُّؤَالَ، فَيَصِحُّ إِسْنَادُ السُّؤَالِ إِلَى الْجَمِيعِ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَهُوَ الِافْتِقَارُ إِلَيْهِ تَعَالَى.
كُلَّ يَوْمٍ: أَيْ كُلَّ سَاعَةٍ وَلَحْظَةٍ، وَذَكَرَ الْيَوْمَ لِأَنَّ السَّاعَاتِ وَاللَّحَظَاتِ فِي ضِمْنِهِ.
هُوَ فِي شَأْنٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي شَأْنٍ يُمْضِيهِ مِنَ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ.
وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: يُجِيبُ دَاعِيًا، وَيَفُكُّ عَانِيًا، وَيَتُوبُ عَلَى قَوْمٍ، وَيَغْفِرُ لِقَوْمٍ. وَقَالَ سُوَيْدُ بْنُ غَفْلَةَ: يُعْتِقُ رِقَابًا، وَيُعْطِي رَغَامًا وَيُقْحِمُ عِقَابًا. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: الدَّهْرُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَانِ، أَحَدُهُمَا الْيَوْمُ الَّذِي هُوَ مُدَّةُ الدُّنْيَا، فَشَأْنُهُ فِيهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْإِمَاتَةُ وَالْإِحْيَاءُ وَالثَّانِي الَّذِي هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَشَأْنُهُ فِيهِ الْجَزَاءُ وَالْحِسَابُ. وَعَنْ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، فَقَالُوا:
إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْضِي يَوْمَ السَّبْتِ شَيْئًا. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ، وَقَدْ سَأَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ عَنْ قَوْلِهِ: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ:
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْقَلَمَ جَفَّ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القيامة فقال:
وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: هُوَ فِي يَوْمِ الدُّنْيَا فِي الِابْتِلَاءِ، وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي الْجَزَاءِ. وَانْتَصَبَ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى الظَّرْفِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الْعَامِلُ فِي قَوْلِهِ: فِي شَأْنٍ، وَهُوَ مُسْتَقِرٌّ الْمَحْذُوفُ، نَحْوَ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ زَيْدٌ قَائِمٌ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ، يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، ذَواتا أَفْنانٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ.
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ مِنْ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَوْدَعَ فِيهِمَا وَفَنَاءَ مَا عَلَى الْأَرْضِ، ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ الجزاء وَقَالَ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ:
أَيْ نَنْظُرُ فِي أُمُورِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ لَهُ شُغْلٌ فَيَفْرَغُ مِنْهُ. وَجَرَى عَلَى هَذَا كَلَامُ الْعَرَبِ فِي أَنَّ الْمَعْنَى: سَيَقْصِدُ لِحِسَابِكُمْ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ لِمَنْ يَتَهَدَّدُهُ:
سَأَفْرَغُ لَكَ، أَيْ سَأَتَجَرَّدُ لِلْإِيقَاعِ بِكَ مِنْ كُلِّ مَا شَغَلَنِي عَنْهُ حَتَّى لَا يَكُونَ لِي شُغْلٌ سِوَاهُ، وَالْمُرَادُ التَّوَفُّرُ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويحتمل أَنْ يَكُونَ التَّوَعُّدُ بِعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُ أَبْيَنُ. انْتَهَى، يَعْنِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ سَتَنْتَهِي الدُّنْيَا وَيُبْلَغُ آخِرُهَا، وتنتهي عند ذلك شؤون الْخَلْقِ الَّتِي أَرَادَهَا بِقَوْلِهِ:
كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، فَلَا يَبْقَى إِلَّا شَأْنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ جَزَاؤُكُمْ، فَجَعَلَ ذَلِكَ فَرَاغًا لَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْمَثَلِ. انْتَهَى. وَالَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ أَنَّ فَرَغَ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الشُّغْلِ الَّذِي كَانَ الْإِنْسَانُ مُشْتَغِلًا بِهِ، فَلِذَلِكَ احْتَاجَ قَوْلُهُ إِلَى التَّأْوِيلِ على أنه قد قَدْ قِيلَ: إِنَّ فَرَغَ يَكُونُ بِمَعْنَى قَصَدَ وَاهْتَمَّ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا أَنْشَدَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ لِجَرِيرٍ:
الَانَ وَقَدْ فَرَغْتُ إِلَى نُمَيْرٍ | فَهَذَا حِينَ كُنْتُ لَهُمْ عَذَابَا |
وَفِي الْحَدِيثِ: «فَرَغَ رَبُّكَ مِنْ أَرْبَعٍ»، وَفِيهِ: «لَأَتَفَرَّغَنَّ إِلَيْكَ يَا خَبِيثُ»
، يُخَاطِبُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِرْبَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ بَيْعَتِهَا: أَيْ لَأَقْصِدَنَّ إِبْطَالَ أَمْرِكَ، نُقِلَ هَذَا عَنِ الْخَلِيلِ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَنَفْرُغُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَضَمِّ الرَّاءِ، مِنْ فَرَغَ بفتح الراء، وهي لغة الْحِجَازِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَقَتَادَةُ وَالْأَعْرَجُ:
بِالنُّونِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، مُضَارِعُ فَرَغَ بِكَسْرِهَا، وَهِيَ تَمِيمِيَّةٌ وَأَبُو السَّمَّالِ وَعِيسَى: بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِ الرَّاءِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ لُغَةُ سُفْلَى مُضَرَ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو حَيْوَةَ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالزَّعْفَرَانِيُّ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَعِيسَى أَيْضًا: بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَالْأَعْرَجُ أَيْضًا: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالرَّاءِ، وَهِيَ رِوَايَةُ يُونُسَ وَالْجُعْفِيِّ وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَالثَّقَلَانِ: الْإِنْسُ وَالْجِنُّ، سُمِّيَا بِذَلِكَ لِكَوْنِهِمَا ثَقِيلَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، أَوْ لِكَوْنِهِمَا مُثْقَلِينَ بِالذُّنُوبِ، أَوْ لِثِقَلِ الْإِنْسِ. وَسُمِّيَ الْجِنُّ ثَقَلًا لِمُجَاوَرَةِ الْإِنْسِ، وَالثَّقَلُ:
الْأَمْرُ الْعَظِيمُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابُ اللَّهِ وَعِتْرَتِي»
، سُمِّيَا بِذَلِكَ لِعِظَمِهِمَا وَشَرَفِهِمَا.
وَالظَّاهِرُ أن قوله: يا مَعْشَرَ الْآيَةَ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ التَّنادِ «١». وَقِيلَ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ. قَالَ الضَّحَّاكُ: يَفِرُّونَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ لِمَا يَرَوْنَ مِنَ الْهَوْلِ، فَيَجِدُونَ الْمَلَائِكَةَ قَدْ أَحَاطَتْ بِالْأَرْضِ، فَيَرْجِعُونَ مِنْ حَيْثُ جَاءُوا، فَحِينَئِذٍ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اسْتَطَعْتُمُ الْفِرَارَ مِنَ الْمَوْتَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ بِأَذْهَانِكُمْ وَفِكْرِكُمْ، أَنْ تَنْفُذُوا، فَتَعْلَمُونَ عِلْمَ أَقْطارِ:
أَيْ جِهَاتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. قَالَ الزمخشري: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، كالترجمة لقوله: أَيُّهَ الثَّقَلانِ، إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنْ قَضَائِي، وَتَخْرُجُوا مِنْ مَلَكُوتِي وَمِنْ سَمَائِي وَأَرْضِي فَافْعَلُوا ثُمَّ قَالَ: لَا تَقْدِرُونَ عَلَى النُّفُوذِ إِلَّا بِسُلْطانٍ، يَعْنِي: بِقُوَّةٍ وَقَهْرٍ وَغَلَبَةٍ، وَأَنَّى لَكُمْ ذَلِكَ، وَنَحْوُهُ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ «٢». انْتَهَى. فَانْفُذُوا: أَمْرُ تَعْجِيزٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: السُّلْطَانُ هُنَا الْمِلْكُ، وَلَيْسَ لَهُمْ مِلْكٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا: بَيْنَمَا النَّاسُ فِي أَسْوَاقِهِمْ، انْفَتَحَتِ السَّمَاءُ وَنَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ، فَتَهْرُبُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ، فَتُحَدِّقُ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: إِنِ اسْتَطَعْتُمَا، عَلَى خِطَابِ تَثْنِيَةِ الثَّقَلَيْنِ وَمُرَاعَاةِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْجُمْهُورُ: عَلَى خِطَابِ الْجَمَاعَةِ إن
(٢) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٥١.
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ، سَاقَهُمْ شُوَاظٌ إِلَى الْمَحْشَرِ. وَالشُّوَاظُ: لَهَبُ النَّارِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اللَّهَبُ الْأَحْمَرُ الْمُنْقَطِعُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
الدُّخَانُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ اللَّهَبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: شُوَاظٌ، بِضَمِّ الشِّينِ وَعِيسَى وَابْنُ كَثِيرٍ وَشِبْلٌ: بِكَسْرِهَا. وَالْجُمْهُورُ وَنُحاسٌ: بِالرَّفْعِ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: بِالْجَرِّ وَالْكَلْبِيُّ وَطَلْحَةُ وَمُجَاهِدٌ: بِكَسْرِ نُونِ نِحَاسٍ وَالسِّينِ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ:
وَنَحْسٌ، كَمَا تَقُولُ: يَوْمٌ نَحْسٌ. وَقَرَأَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ أَيْضًا:
وَنَحُسُّ مُضَارِعًا، وَمَاضِيهِ حَسَّهُ، أَيْ قَتَلَهُ، أَيْ وَيُحِسُّ بِالْعَذَابِ. وَعَنِ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ أيضا: ونحس بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ فِي الْحَاءِ عَلَى التَّخْيِيرِ وَحَنْظَلَةُ بْنُ نُعْمَانَ: وَنَحِسٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ السِّينِ وَالْحَسَنُ وَإِسْمَاعِيلُ: وَنُحُسٍ بِضَمَّتَيْنِ وَالْكَسْرِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ:
نُرْسِلُ بِالنُّونِ، عَلَيْكُمَا شُوَاظًا بِالنَّصْبِ، مِنْ نَارٍ وَنُحَاسًا بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى شُوَاظًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جبير وَالنُّحَاسُ: الدُّخَانُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمُجَاهِدٍ: هُوَ الصُّفْرُ الْمَعْرُوفُ، وَالْمَعْنَى: يُعْجِزُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، أَيْ أَنْتُمَا بِحَالِ مَنْ يُرْسَلُ عَلَيْهِ هَذَا، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِمَّا يُرْسَلُ عَلَيْهِ.
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ: جَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ، أَيْ فَمَا أَعْظَمَ الْهَوْلَ، وَانْشِقَاقُهَا:
انْفِطَارُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَكانَتْ وَرْدَةً: أَيْ مُحْمَرَّةً كَالْوَرْدِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو صَالِحٍ:
هِيَ مِنْ لَوْنِ الْفَرَسِ الْوَرْدِ، فَأُنِّثَ لِكَوْنِ السَّمَاءِ مُؤَنَّثَةً. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الْيَوْمَ زَرْقَاءُ، وَيَوْمَئِذٍ تَغْلِبُ عَلَيْهَا الْحُمْرَةُ كَلَوْنِ الْوَرْدِ، وَهِيَ النَّوَّارُ الْمَعْرُوفُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَيُرِيدُ كَلَوْنِ الْوَرْدِ، وقال الشاعر:
فلو كانت وَرْدًا لَوْنُهُ لَعَشِقْتِنِي | وَلَكِنَّ رَبِّي شَانَنِي بِسَوَادِيَا |
وَأَجْرَدَ مِنْ كِرَامِ الْخَيْرِ طِرْفٍ | كَأَنَّ عَلَى شَوَاكِلِهِ دِهَانَا |
كَدُهْنِ الزَّيْتِ، كَمَا قَالَ: كَالْمُهْلِ «١»، وَهُوَ دُرْدِيُّ الزَّيْتِ، وَهُوَ جَمْعُ دُهْنٍ، أَوِ اسْمُ مَا يُدْهَنُ بِهِ، كَالْحَرَامِ وَالْأَدَامِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّهُمَا مَزَادَتَا مُتَعَجِّلٍ | فَرِيَّانِ لَمَّا سُلِّعَا بِدِهَانِ |
فَلَئِنْ بَقِيتُ لَأَرْحَلَنَّ بِغَزْوَةٍ | نَحْوَ الْمَغَانِمِ أَوْ يَمُوتَ كَرِيمُ |
فَيَوْمَئِذٍ: التَّنْوِينُ فِيهِ لِلْعِوَضِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَيَوْمَ إِذِ انْشَقَّتِ السَّمَاءُ، والناصب ليومئذ لا يُسْئَلُ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى انْتِفَاءِ السؤال، و: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى وُقُوعِ السُّؤَالِ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: هِيَ مَوَاطِنُ يُسْأَلُ فِي بَعْضِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَيْثُ ذَكَرَ السُّؤَالَ فَهُوَ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيرٍ، وحيث نفي فهو اسْتِخْبَارٌ مَحْضٌ عَنِ الذَّنْبِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِكُلِّ شَيْءٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: كَانَتْ مَسْأَلَةً، ثُمَّ خَتَمَ عَلَى الْأَفْوَاهِ وَتَكَلَّمَتِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ:
لَا يُسْأَلُ غَيْرُ الْمُجْرِمِ عَنْ ذَنْبِ الْمُجْرِمِ. وَقَرَأَ الْحَسَنِ وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: وَلَا جَأْنٌ بِالْهَمْزِ، فِرَارًا مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْتِقَاؤُهُمَا عَلَى حَدِّهِ. وَقَرَأَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ:
بِسِيمَائِهِمْ وَالْجُمْهُورُ: بِسِيماهُمْ، وَسِيمَا الْمُجْرِمِينَ: سَوَادُ الْوُجُوهِ وَزُرْقَةُ الْعُيُونِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ هَذَا مِنَ التَّشْوِيهَاتِ، كَالْعَمَى وَالْبَكَمِ وَالصَّمَمِ. فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُؤْخَذُ بِنَاصِيَتِهِ وَقَدَمَيْهِ فَيُوطَأُ، وَيُجْمَعُ كَالْحَطَبِ، وَيُلْقَى كَذَلِكَ فِي النَّارِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي سِلْسِلَةٍ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ. وَقِيلَ:
تَسْحَبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ، تَارَةً تَأْخُذُ بِالنَّوَاصِي، وَتَارَةً بِالْأَقْدَامِ. وَقِيلَ: بَعْضَهُمْ سَحْبًا، بِالنَّاصِيَةِ، وَبَعْضَهُمْ سَحْبًا بِالْقَدَمِ وَيُؤْخَذُ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ بِنَفْسِهِ، وَحُذِفَ هذا الفاعل والمفعول،
هذِهِ جَهَنَّمُ: أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ. يَطُوفُونَ بَيْنَها:
أَيْ يَتَرَدَّدُونَ بَيْنَ نَارِهَا وَبَيْنَ مَا غَلَى فِيهَا مِنْ مَائِعِ عَذَابِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْحَمِيمُ يَغْلِي مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ جَهَنَّمَ، وَآنٌ: أَيْ مُنْتَهَى الْحَرِّ وَالنُّضْجِ، فَيُعَاقَبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ تَصْلِيَةِ النَّارِ، وَبَيْنَ شُرْبِ الْحَمِيمِ. وَقِيلَ: إِذَا اسْتَغَاثُوا مِنَ النَّارِ، جُعِلَ غِيَاثُهُمُ الْحَمِيمَ. وَقِيلَ: يُغْمَسُونَ فِي وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَجْتَمِعُ فِيهِ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ فَتَنْخَلِعُ أَوْصَالُهُمْ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهُ، وَقَدْ أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُمْ خَلْقًا جَدِيدًا.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالسُّلَمِيُّ: يُطَافُونَ
وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ مِقْسَمٍ:
يُطَوِّفُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِ الْوَاوِ مُشَدَّدَةً. وقرىء: يَطَّوَّفُونَ، أَيْ يَتَطَوَّفُونَ وَالْجُمْهُورُ: يَطُوفُونَ مُضَارِعُ طَافَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ، قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بِكْرٍ.
مَقامَ رَبِّهِ مَصْدَرٌ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ، أَيْ قِيَامُ رَبِّهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: مِنْ قَوْلَهُ: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «١»، أَيْ حَافِظٌ مُهَيْمِنٌ، فَالْعَبْدُ يُرَاقِبُ ذَلِكَ، فَلَا يَجْسُرُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: الْإِضَافَةُ تَكُونُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَخَافُ مَقَامَهُ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ الْعِبَادُ لِلْحِسَابِ، مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «٢»، وَفِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى صُعُوبَةِ الْمَوْقِفِ. وَقِيلَ: مَقَامَ مُقْحَمٌ، وَالْمَعْنَى: وَلِمَنْ خَافَ رَبَّهُ، كَمَا تَقُولُ: أَخَافُ جَانِبَ فُلَانٍ يَعْنِي فُلَانًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ لِكُلِّ فرد فَرْدٍ مِنَ الْخَائِفِينَ جَنَّتانِ، قِيلَ: إِحْدَاهُمَا مَنْزِلُهُ، وَالْأُخْرَى لِأَزْوَاجِهِ وَخَدَمِهِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: جَنَّةُ عَدْنٍ، وَجَنَّةُ نَعِيمٍ. وَقِيلَ: مَنْزِلَانِ يَنْتَقِلُ مِنْ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ لِتَتَوَفَّرَ دَوَاعِي لَذَّتِهِ وَتَظْهَرَ ثِمَارُ كَرَامَتِهِ. وَقِيلَ: هُمَا لِلْخَائِفِينَ وَالْخِطَابُ لِلثَّقَلَيْنِ، فَجَنَّةٌ لِلْخَائِفِ الْجِنِّيِّ، وَجَنَّةٌ لِلْخَائِفِ الْإِنْسِيِّ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: جَنَّةٌ مِنْ ذَهَبٍ لِلسَّابِقِينَ، وَجَنَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ لِلتَّابِعِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: جَنَّةٌ لِفِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَجَنَّةٌ لِتَرْكِ الْمَعَاصِي، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ دَائِرٌ عَلَيْهِمَا. وَأَنْ يُقَالَ: جَنَّةٌ يُبَاتُ بِهَا، وأخرى تضم إِلَيْهَا عَلَى وَجْهِ التَّفَضُّلِ لِقَوْلِهِ وَزِيَادَةٌ وَخَصَّ الْأَفْنَانَ بِالذِّكْرِ جَمْعُ فَنَنٍ، وَهِيَ الْغُصُونُ الَّتِي تَتَشَعَّبُ عَنْ فُرُوعِ الشَّجَرِ، لِأَنَّهَا الَّتِي تُورِقُ وَتُثْمِرُ، وَمِنْهَا تَمْتَدُّ الظِّلَالُ، وَمِنْهَا تُجْنَى الثِّمَارُ. وقيل:
(٢) سورة المطففين: ٨٣/ ٦.
فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا عَيْنَانِ مِثْلُ الدُّنْيَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً.
وَقَالَ: تَجْرِيَانِ بِالزِّيَادَةِ وَالْكَرَامَةِ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَجْرِيَانِ بِالْمَاءِ الزُّلَالِ، إِحْدَاهُمَا التَّسْنِيمُ، وَالْأُخْرَى السَّلْسَبِيلُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِحْدَاهُمَا مِنْ مَاءٍ، وَالْأُخْرَى مِنْ خَمْرٍ. وَقِيلَ: تَجْرِيَانِ فِي الْأَعَالِي وَالْأَسَافِلِ مِنْ جَبَلٍ مِنْ مِسْكٍ. زَوْجانِ، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا فِي الدُّنْيَا مِنْ شَجَرَةٍ حُلْوَةٍ وَلَا مُرَّةٍ إِلَّا وَهِيَ فِي الْجَنَّةِ، حَتَّى شَجَرُ الْحَنْظَلِ، إِلَّا أَنَّهُ حلو. انْتَهَى. وَمَعْنَى زَوْجَانِ: رَطْبٌ وَيَابِسٌ، لَا يَقْصُرُ هَذَا عَنْ ذَاكَ فِي الطِّيبِ وَاللَّذَّةِ.
وَقِيلَ: صِنْفَانِ، صِنْفٌ مَعْرُوفٌ، وَصِنْفٌ غَرِيبٌ. وَجَاءَ الْفَصْلُ بَيْنَ قَوْلِهِ: ذَواتا أَفْنانٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ بِقَوْلِهِ: فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ. وَالْأَفْنَانُ عَلَيْهَا الْفَوَاكِهُ، لِأَنَّ الدَّاخِلَ إِلَى الْبُسْتَانِ لَا يُقْدِمُ إِلَّا لِلتَّفَرُّجِ بِلَذَّةِ مَا فِيهِ بِالنَّظَرِ إِلَى خُضْرَةِ الشَّجَرِ وَجَرْيِ الْأَنْهَارِ، ثُمَّ بَعْدُ يَأْخُذُ فِي اجْتِنَاءِ الثِّمَارِ لِلْأَكْلِ. وَانْتَصَبَ مُتَّكِئِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِمَنْ خافَ، وَحَمَلَ جَمْعًا عَلَى مَعْنَى مَنْ. وَقِيلَ: الْعَامِلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ يَتَنَعَّمُونَ مُتَّكِئِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ، وَالِاتِّكَاءُ مِنْ صِفَاتِ الْمُتَنَعِّمِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْجِسْمِ وَفَرَاغِ الْقَلْبِ، وَالْمَعْنَى: مُتَّكِئِينَ فِي مَنَازِلِهِمْ عَلى فُرُشٍ. وَقَرَأَ الجمهور: وفرش بِضَمَّتَيْنِ وَأَبُو حَيْوَةَ: بِسُكُونِ الرَّاءِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْبَطَائِنُ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، كَيْفَ الظَّهَائِرُ؟ قَالَ: هِيَ مِنْ نُورٍ يَتَلَأْلَأُ»
، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَسَّرَ بِغَيْرِهِ. وَقِيلَ: مِنْ سُنْدُسٍ. قَالَ الْحَسَنُ وَالْفَرَّاءُ: الْبَطَائِنُ هِيَ الظَّهَائِرُ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَدْ تَكُونُ الْبِطَانَةُ الظِّهَارَةَ، وَالظِّهَارَةُ الْبِطَانَةَ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَكُونُ وَجْهًا، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: هَذَا وَجْهُ السَّمَاءِ، وَهَذَا بَطْنُ السَّمَاءِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، مُدْهامَّتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَجْتَنِيهِ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمُضْطَجِعًا، لَا يَرُدُّ يَدَهُ بُعْدٌ وَلَا شَوْكٌ وَقَرَأَ عِيسَى: بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ النُّونِ، كَأَنَّهُ أَمَالَ النُّونَ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَلِفُ قَدْ حُذِفَتْ فِي اللَّفْظِ، كَمَا أَمَالَ أَبُو عَمْرٍو حَتَّى نَرَى اللَّهَ «١». وقرىء: وَجِنَى بِكَسْرِ الْجِيمِ. وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِنَّ عَائِدٌ عَلَى الْجِنَانِ الدَّالِّ عَلَيْهِنَّ جَنَّتَانِ، إِذْ كُلُّ فَرْدٍ فُرِّدَ لَهُ جَنَّتَانِ، فَصَحَّ أَنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْجَنَّتَانِ أُرِيدَ بِهِمَا حَقِيقَةُ التَّثْنِيَةِ، وَإِنَّ لِكُلِّ جِنْسٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ جَنَّةً وَاحِدَةً، فَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ مِنَ الْمَجَالِسِ وَالْقُصُورِ وَالْمَنَازِلِ. وَقِيلَ:
يَعُودُ عَلَى الْفُرُشِ، أي فيهن معدات للاستماع، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ قَرِيبُ الْمَأْخَذِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِنَّ فِي هَذِهِ الْآلَاءِ الْمَعْدُودَةِ مِنَ الْجَنَّتَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْفَاكِهَةِ وَالْجَنَى. انْتَهَى، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كُلُّ مَوْضِعٍ مِنَ الْجَنَّةِ جَنَّةٌ، فَلِذَلِكَ قَالَ: فِيهِنَّ، وَالطَّرْفُ أَصْلُهُ مَصْدَرٌ، فَلِذَلِكَ وُحِّدَ. وَالظَّاهِرُ أنهن اللواتي يقصرون أَعْيُنَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، فَلَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِهِمْ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: تَقُولُ لِزَوْجِهَا: وَعِزَّةِ رَبِّي مَا أَرَى فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنَ مِنْكَ. وَقِيلَ:
الطَّرْفُ طَرْفُ غَيْرِهِنَّ، أَيْ قَصَّرْنَ عَيْنَيْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ عَنِ النَّظَرِ إِلَى غَيْرِهِنَّ.
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَفْتَضَّهُنَّ قَبْلَ أَزْوَاجِهِنَّ. وَقِيلَ: لَمْ يَطَأْهُنَّ عَلَى أَيْ وَجْهٍ. كَانَ الْوَطْءُ مِنِ افْتِضَاضٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ. وَالضَّمِيرُ فِي قَبْلَهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي مُتَّكِئِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِكَسْرِ مِيمِ يَطْمِثْهُنَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَطَلْحَةُ وَعِيسَى وَأَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ
وَعَلِيٌّ: بِالضَّمِّ.
وَقَرَأَ نَاسٌ: بِضَمِّ الْأَوَّلِ وَكَسْرِ الثَّانِي، وَنَاسٌ بِالْعَكْسِ، وَنَاسٌ بِالتَّخْيِيرِ، وَالْجَحْدَرِيُّ: بِفَتْحِ الْمِيمِ فِيهِمَا، وَنَفْيُ وَطْئِهِنَّ عَنِ الْإِنْسِ ظَاهِرٌ وَأَمَّا عَنِ الْجِنِّ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: قَدْ تُجَامَعُ نِسَاءُ الْبَشَرِ مع أزواجهن، إذ لَمْ يَذْكُرِ الزَّوْجُ اللَّهَ تَعَالَى، فَنَفَى هُنَا جَمِيعَ الْمُجَامِعِينَ. وَقَالَ ضَمْرَةُ بْنُ حَبِيبٍ: الْجِنُّ فِي الْجَنَّةِ لَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ مِنَ الْجِنِّ نَوْعِهِمْ، فَنَفَى الِافْتِضَاضَ عَنِ الْبَشَرِيَّاتِ وَالْجِنِّيَّاتِ. قَالَ قَتَادَةُ: كَأَنَّهُنَّ عَلَى صَفَاءِ الْيَاقُوتِ وَحُمْرَةِ الْمَرْجَانِ، لَوْ أَدْخَلْتَ فِي الْيَاقُوتِ سِلْكًا، ثُمَّ نَظَرْتَ إِلَيْهِ، لَرَأَيْتَهُ مِنْ وَرَائِهِ. انْتَهَى. وَفِي التِّرْمِذِيِّ: أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَاءِ الْجَنَّةِ لَيُرَى بَيَاضُ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حلة مخها. وقال ابن عطية:
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ فِي الْعَمَلِ، إِلَّا الْإِحْسانُ فِي الثَّوَابِ؟ وَقِيلَ: هَلْ جَزَاءُ التَّوْحِيدِ إِلَّا الْجَنَّةُ؟ وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: إِلَّا الْحِسَانُ يَعْنِي: بِالْحِسَانِ الْحُورَ الْعِينَ. وَمِنْ دُونِهِما: أَيْ مِنْ دُونِ تَيْنِكَ الْجَنَّتَيْنِ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالْقَدْرِ، جَنَّتانِ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَالْأُولَيَانِ هُمَا لِلسَّابِقِينَ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَالْأَكْثَرُونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْأُولَيَانِ لِلسَّابِقِينَ، وَالْأُخْرَيَانِ لِلتَّابِعِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمِنْ دُونِهِما فِي الْقُرْبِ لِلْمُنَعَّمِينَ، وَالْمُؤَخَّرَتَا الذِّكْرِ أَفْضَلُ من الأوليين. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ وَصَفَ عَيْنَيْ هَاتَيْنِ بِالنَّضْخِ، وَتَيْنِكَ بِالْجَرْيِ فَقَطْ وَهَاتَيْنِ بالدهمة من شدة النِّعْمَةِ، وَتَيْنِكَ بِالْأَفْنَانِ، وَكُلُّ جَنَّةٍ ذَاتُ أَفْنَانٍ. وَرَجَّحَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ فَقَالَ: لِلْمُقَرَّبِينَ جَنَّتَانِ مِنْ دُونِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ادْهَامَّتَا مِنْ شِدَّةِ الْخُضْرَةِ، وَرَجَّحَ غَيْرُهُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ بِذِكْرِ جَرْيِ الْعَيْنَيْنِ وَالنَّضْخِ دُونَ الْجَرْيِ، وَبِقَوْلِهِ فِيهِمَا: مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ، وَفِي الْمُتَأَخِّرَتَيْنِ: فِيهِما فاكِهَةٌ، وَبِالِاتِّكَاءِ عَلَى مَا بَطَائِنُهُ مِنْ دِيبَاجٍ وَهُوَ الْفُرُشُ، وَفِي الْمُتَأَخِّرَتَيْنِ الِاتِّكَاءُ عَلَى الرَّفْرَفِ، وَهُوَ كِسْرُ الْخِبَاءِ، وَالْفُرُشُ الْمُعَدَّةُ لِلِاتِّكَاءِ أَفْضَلُ، وَالْعَبْقَرِيُّ: الْوَشْيُ، وَالدِّيبَاجُ أَعْلَى مِنْهُ، وَالْمُشَبَّهُ بِالْيَاقُوتِ وَالْمَرْجَانِ أَفْضَلُ فِي الْوَصْفِ مِنْ خَيْرَاتٍ حِسَانٍ، وَالظَّاهِرُ النَّضْخُ بِالْمَاءِ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ:
بِالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْكَافُورِ فِي دُورِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، كَمَا يَنْضَخُ رَشُّ الْمَطَرِ. وَعَنْهُ أَيْضًا بِأَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ وَالْمَاءِ. وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ عَطَفَ فَاكِهَةً، فَاقْتَضَى الْعَطْفُ أَنْ لَا يَنْدَرِجَا فِي الْفَاكِهَةِ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ. وَقَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ وَغَيْرُهُ: كَرَّرَهُمَا وَهُمَا مِنْ أَفْضَلِ الْفَاكِهَةِ تَشْرِيفًا لَهُمَا وَإِشَارَةً بِهِمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «١». وَقِيلَ: لِأَنَّ النَّخْلَ ثَمَرُهُ فَاكِهَةٌ وَطَعَامٌ، وَالرُّمَّانَ فَاكِهَةٌ وَدَوَاءٌ، فَلَمْ يُخْلَصَا لِلتَّفَكُّهِ.
فِيهِنَّ خَيْراتٌ، جَمْعُ خَيْرَةٍ: وَصْفٌ بُنِيَ عَلَى فَعْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ، كَمَا بَنَوْا مِنَ الشَّرِّ فَقَالُوا: شَرَّةٌ. وَقِيلَ: مُخَفَّفٌ مِنْ خَيِّرَةٍ، وَبِهِ قَرَأَ بَكْرُ بْنُ حَبِيبٍ وَأَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ، أَيْ بِشَدِّ الْيَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِفَتْحِ الْيَاءِ، كَأَنَّهُ جَمْعُ خَايِرَةٍ، جُمِعَ عَلَى فَعْلَةٍ، وَفَسَّرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ سَلَمَةَ ذَلِكَ
فَقَالَ: «خَيِّرَاتُ الأخلاق حسان الوجوه».
وَتَكْسَلُ عَنْ جَارَاتِهَا فَيَزُرْنَهَا | وَتَغْفُلُ عَنْ أَبْيَاتِهِنَّ فَتُعْذَرُ |
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: هِيَ دُرٌّ مُجَوَّفٌ، وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ: أَيْ قَبْلَ أَصْحَابِ الْجَنَّتَيْنِ، وَدَلَّ عَلَيْهِمْ ذِكْرُ الْجَنَّتَيْنِ. مُتَّكِئِينَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نُصِبَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. عَلى رَفْرَفٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: فُضُولُ الْمَجْلِسِ وَالْبُسُطِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: رِيَاضُ الْجَنَّةِ مِنْ رَفَّ الْبَيْتُ تَنَعَّمَ وَحَسُنَ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: الزَّرَابِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ كَيْسَانَ: الْمَرَافِقُ. وَقَرَأَ الْفَرَّاءُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمَجَالِسُ. وَعَبْقَرِيٌّ، قَالَ الْحَسَنُ: بُسُطٌ حِسَانٌ فِيهَا صُوَرٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ يُصْنَعُ بِعَبْقَرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الزَّرَابِيُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الدِّيبَاجُ الْغَلِيظُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الطَّنَافِسُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الثَّخَانُ مِنْهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلى رَفْرَفٍ، وَوُصِفَ بِالْجَمْعِ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، الْوَاحِدُ مِنْهَا رَفْرَفَةٌ، وَاسْمُ الْجِنْسِ يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يُفْرَدَ نَعْتُهُ وَأَنْ يُجْمَعَ لِقَوْلِهِ: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ «١»، وَحَسَّنَ جَمْعَهُ هُنَا مُقَابَلَتُهُ لِحِسَانٍ الَّذِي هُوَ فَاصِلَةٌ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ، وَقَرَأَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَزُهَيْرٌ الْعُرْقُبِيُّ وَغَيْرُهُ: رَفَارِفَ جَمْعٌ لَا يَنْصَرِفُ، خُضْرٍ بِسُكُونِ الضَّادِ، وَعَبَاقِرِيَّ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْيَاءِ مُشَدَّدَةً وَعَنْهُمْ أَيْضًا: ضَمُّ الضَّادِ وَعَنْهُمْ أَيْضًا: فَتْحُ الْقَافِ. قَالَ: فَأَمَّا مَنْعُ الصَّرْفِ مِنْ عَبَاقِرِيَّ، وَهِيَ الثِّيَابُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى عَبْقَرٍ، وَهُوَ مَوْضِعٌ تُجْلَبُ مِنْهُ الثِّيَابُ عَلَى قَدِيمِ الْأَزْمَانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمُجَاوَرَتِهَا، وَإِلَّا فَلَا يَكُونُ يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ مِنْ يَاءَيِ النَّسَبِ وَجْهٌ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: على رفارف خضر، وعباقري النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَالْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَمَّنْ ذَكَرْنَا على رفارف خضر وعباقري بِالصَّرْفِ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ. وَقَرَأَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ، وَكَانَ نَحْوِيًّا: عَلَى رَفَارِفَ خِضَارٍ، يَعْنِي: عَلَى وَزْنِ فِعَالٍ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَامِلِ: رَفَارِفَ جَمْعٌ، عَنِ ابْنِ مُصَرِّفٍ وَابْنِ مِقْسَمٍ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ، وَاخْتَارَهُ شِبْلٌ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالْجَحْدَرِيُّ وَالزَّعْفَرَانِيُّ، وَهُوَ الِاخْتِيَارُ لِقَوْلِهِ: خُضْرٍ، وَعَبَاقِرِيَّ بِالْجَمْعِ وَبِكَسْرِ الْقَافِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، ابْنُ مِقْسَمٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَرُوِيَ عَنْهُمَا التَّنْوِينُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَرَأَ زهير
وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ. انْتَهَى، وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ:
أَيُّهَا الْفِتْيَانُ فِي مَجْلِسِنَا | جَرِّدُوا مِنْهَا وِرَادًا وَشُقُرْ |
وَمَا انْتَمَيْتُ إِلَى خَوَرٍ وَلَا كُسُفٍ | وَلَا لِئَامٍ غَدَاةَ الرَّوْعِ أَوْزَاعِ |
. وَقَدْ صَحَّ الْإِسْنَادُ إِلَى الِاسْمِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْعُلُوِّ، فَإِذَا عَلَا الِاسْمُ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْمُسَمَّى؟
وَلَمَّا خَتَمَ تَعَالَى نِعَمَ الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ، خَتَمَ نِعَمَ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ وَنَاسَبَ هُنَالِكَ ذِكْرَ الْبَقَاءِ وَالدَّيْمُومَةِ لَهُ تَعَالَى، إِذْ ذَكَرَ فَنَاءَ الْعَالَمِ وَنَاسَبَ هُنَا ذِكْرَ مَا اشْتُقَّ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَهِيَ النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ، إِذْ جَاءَ ذَلِكَ عَقِبَ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا آتَاهُمْ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَزِيَادَتِهِ وَدَيْمُومَتِهِ، وَيَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ يُدْعَى اللَّهُ بِهَا،
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلَالِ والإكرام».
(٢) سورة الفرقان: ٢٥/ ١٠.
(٣) سورة الملك: ٦٧/ ١.
سورة الرحمن
سورة (الرَّحْمن) من السُّوَر المكية، وقد أبانت عن مقصدٍ عظيم؛ وهو إثباتُ عموم الرحمة لله عز وجل، وقد ذكَّر اللهُ عبادَه بنِعَمه وآلائه التي لا تُحصَى عليهم، وفي ذلك دعوةٌ لاتباع الإله الحقِّ المستحِق للعبودية، وقد اشتملت السورةُ الكريمة على آياتِ ترهيب وتخويف من عقاب الله، كما اشتملت على آياتٍ تُطمِع في رحمةِ الله ورضوانه وجِنانه.
ترتيبها المصحفي
55نوعها
مكيةألفاظها
352ترتيب نزولها
97العد المدني الأول
77العد المدني الأخير
77العد البصري
76العد الكوفي
78العد الشامي
78* سورة (الرَّحْمن):
سُمِّيت سورة (الرَّحْمن) بهذا الاسم؛ لافتتاحها باسم (الرَّحْمن)، وهو اسمٌ من أسماءِ الله تعالى.
* ذكَرتْ سورةُ (الرحمن) كثيرًا من فضائلِ الله على عباده:
عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: «خرَجَ رسولُ اللهِ ﷺ على أصحابِه، فقرَأَ عليهم سورةَ الرَّحْمنِ، مِن أوَّلِها إلى آخِرِها، فسكَتوا، فقال: «لقد قرَأْتُها على الجِنِّ ليلةَ الجِنِّ فكانوا أحسَنَ مردودًا منكم! كنتُ كلَّما أتَيْتُ على قولِه: {فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، قالوا: لا بشيءٍ مِن نِعَمِك رَبَّنا نُكذِّبُ؛ فلك الحمدُ!»». أخرجه الترمذي (٣٢٩١).
1. من نِعَم الله الظاهرة (١-١٣).
2. نعمة الخَلْق (١٤-١٦).
3. نِعَم الله في الآفاق (١٧-٢٥).
4. من لطائف النِّعَم (٢٦-٣٢).
5. تحدٍّ وإعجاز (٣٣-٣٦).
6. عاقبة المجرمين (٣٧-٤٥).
7. نعيم المتقين (٤٦-٧٨).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /550).
مقصدُ سورة (الرَّحْمن) هو إثباتُ الرحمةِ العامة لله عز وجل، الظاهرةِ في إنعامه على خَلْقه، وأعظمُ هذه النِّعَم هو نزول القرآن، وما تبع ذلك من نِعَم كبيرة في هذا الكون.
يقول الزَّمَخْشريُّ: «عدَّد اللهُ عز وعلا آلاءه، فأراد أن يُقدِّم أولَ شيءٍ ما هو أسبَقُ قِدْمًا من ضروب آلائه وأصناف نَعْمائه؛ وهي نعمة الدِّين، فقدَّم من نعمة الدِّين ما هو في أعلى مراتبِها وأقصى مَراقيها؛ وهو إنعامُه بالقرآن وتنزيلُه وتعليمه؛ لأنه أعظَمُ وحيِ الله رتبةً، وأعلاه منزلةً، وأحسنه في أبواب الدِّين أثرًا، وهو سَنامُ الكتب السماوية ومِصْداقها والعِيارُ عليها.
وأخَّر ذِكْرَ خَلْقِ الإنسان عن ذكرِه، ثم أتبعه إياه؛ ليعلمَ أنه إنما خلَقه للدِّين، وليحيطَ علمًا بوحيِه وكتبِه وما خُلِق الإنسان من أجله، وكأنَّ الغرض في إنشائه كان مقدَّمًا عليه وسابقًا له، ثم ذكَر ما تميَّز به من سائر الحيوان من البيان؛ وهو المنطقُ الفصيح المُعرِب عما في الضمير». "الكشاف" للزمخشري (4 /443).