تفسير سورة الضحى

تفسير الرازي

تفسير سورة سورة الضحى من كتاب مفاتيح الغيب المعروف بـتفسير الرازي.
لمؤلفه فخر الدين الرازي . المتوفي سنة 606 هـ
سورة الضحى

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الضحى
إحدى عشرة آية مكية وَأَنَا عَلَى عَزْمٍ أَنْ أَضُمَّ إِلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا فِيهَا مِنَ اللَّطَائِفِ التِّذْكَارِيَّةِ.
[سورة الضحى (٩٣) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢)
لِأَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَالضُّحى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالضُّحَى وَقْتُ الضُّحَى وَهُوَ صَدْرُ النَّهَارِ حِينَ تَرْتَفِعُ الشَّمْسُ وَتُلْقِي شُعَاعَهَا وَثَانِيهَا: الضُّحَى هُوَ النَّهَارُ كُلُّهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ جُعِلَ فِي مُقَابَلَةِ اللَّيْلِ كُلِّهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّيْلِ إِذا سَجى فَذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي سَجى ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ مُتَقَارِبَةٍ: سَكَنَ وَأَظْلَمَ وَغَطَّى أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: سَجَى أَيْ سَكَنَ يُقَالُ: لَيْلَةٌ سَاجِيَةٌ أَيْ سَاكِنَةُ الرِّيحِ، وَعَيْنٌ سَاجِيَةٌ أَيْ فَاتِرَةُ الطَّرْفِ. وَسَجَى الْبَحْرُ إِذَا سَكَنَتْ أَمْوَاجُهُ، وَقَالَ فِي الدُّعَاءِ:
يَا مَالِكَ الْبَحْرِ إِذَا الْبَحْرُ سَجَى وأما الثاني: وهو تفسير سجى بأظلم فَقَالَ الْفَرَّاءُ: سَجَى أَيْ أَظْلَمَ وَرَكَدَ فِي طُولِهِ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ تَفْسِيرُ سَجَى بِغَطَّى، فَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ سَجَى اللَّيْلُ تَغْطِيَتُهُ النَّهَارَ، مِثْلَ مَا يُسَجَّى الرَّجُلُ بِالثَّوْبِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَطَّى الدُّنْيَا بِالظُّلْمَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أُلْبِسَ النَّاسُ ظَلَامَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ غَطَّى كُلَّ شَيْءٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: سَكَنَ بِالنَّاسِ وَلِسُكُونِهِ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا: سُكُونُ النَّاسِ فَنُسِبَ إِلَيْهِ كَمَا يُقَالُ لَيْلٌ نَائِمٌ وَنَهَارٌ صَائِمٌ وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ سُكُونَهُ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِقْرَارِ ظَلَامِهِ واستوائه فلا يزداد بعد ذلك، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى فِي السُّورَةِ الْمَاضِيَةِ قَدَّمَ ذِكْرَ اللَّيْلِ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ أَخَّرَهُ؟ قُلْنَا:
فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَنْتَظِمُ مَصَالِحُ الْمُكَلَّفِينَ، وَاللَّيْلُ لَهُ فَضِيلَةُ السَّبْقِ لِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: ١] وَلِلنَّهَارِ فَضِيلَةُ النُّورِ، بَلِ اللَّيْلُ كَالدُّنْيَا وَالنَّهَارُ كَالْآخِرَةِ، فَلَمَّا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ فَضِيلَةٌ لَيْسَتْ لِلْآخَرِ، لَا جَرَمَ قُدِّمَ هَذَا عَلَى ذَاكَ تَارَةً وَذَاكَ، عَلَى هَذَا أُخْرَى، / وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ في
190
قَوْلِهِ: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي [آلِ عِمْرَانَ: ٤٣] ثُمَّ قَدَّمَ الرُّكُوعَ عَلَى السُّجُودِ فِي قَوْلِهِ: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الْحَجِّ: ٧٧] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ فِي سُورَةِ أَبِي بَكْرٍ لِأَنَّ أَبَا بكر سبقه كفر، وهاهنا قَدَّمَ الضُّحَى لِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا سَبَقَهُ ذَنْبٌ وَثَالِثُهَا: سُورَةُ وَاللَّيْلِ سُورَةُ أَبِي بَكْرٍ، وَسُورَةُ الضُّحَى سُورَةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثُمَّ مَا جُعِلَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَأَبِي بَكْرٍ، فَإِذَا ذَكَرْتَ اللَّيْلَ أَوَّلًا وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ صَعَدْتَ وَجَدْتَ بَعْدَهُ النَّهَارَ وَهُوَ مُحَمَّدٌ، وَإِنْ ذَكَرْتَ وَالضُّحَى أَوَّلًا وَهُوَ مُحَمَّدٌ، ثم نزلت وجدت بعده، والليل وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بينهما.
السؤال الثاني: ما الحكمة هاهنا فِي الْحَلِفِ بِالضُّحَى وَاللَّيْلِ فَقَطْ؟ وَالْجَوَابُ: لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الزَّمَانُ سَاعَةٌ، فَسَاعَةٌ سَاعَةُ لَيْلٍ، وَسَاعَةُ نَهَارٍ، ثُمَّ يَزْدَادُ فَمَرَّةً تَزْدَادُ سَاعَاتُ اللَّيْلِ وَتَنْقُصُ سَاعَاتُ النَّهَارِ، وَمَرَّةً بِالْعَكْسِ فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ لِهَوًى وَلَا النُّقْصَانُ لِقِلًى بَلْ لِلْحِكْمَةِ، كَذَا الرِّسَالَةُ وَإِنْزَالُ الْوَحْيِ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ فَمَرَّةً إِنْزَالٌ وَمَرَّةً حَبْسٌ، فَلَا كَانَ الْإِنْزَالُ عَنْ هَوًى، وَلَا كَانَ الْحَبْسُ عَنْ قِلًى وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعَالِمَ لَا يُؤَثِّرُ كَلَامُهُ حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ، فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، فَالْكُفَّارُ لَمَّا ادَّعَوْا أَنَّ رَبَّهُ وَدَّعَهُ وَقَلَاهُ، قَالَ: هَاتُوا الْحُجَّةَ فَعَجَزُوا فَلَزِمَهُ اليمين بأنه ما ودعه ربه وما قَلَاهُ وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى جِوَارِ اللَّيْلِ مَعَ النَّهَارِ لَا يَسْلَمُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ بَلِ اللَّيْلُ تَارَةً يَغْلِبُ وَتَارَةً يُغْلَبُ فَكَيْفَ تَطْمَعُ أَنْ تَسْلَمَ عَلَى الْخَلْقِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ خُصَّ وَقْتُ الضُّحَى بِالذِّكْرِ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَقْتُ اجْتِمَاعِ النَّاسِ وَكَمَالِ الْأُنْسِ بَعْدَ الِاسْتِيحَاشِ فِي زَمَانِ اللَّيْلِ، فَبَشَّرُوهُ أَنَّ بَعْدَ اسْتِيحَاشِكَ بِسَبَبِ احْتِبَاسِ الْوَحْيِ يَظْهَرُ ضُحَى نُزُولِ الْوَحْيِ وَثَانِيهَا: أَنَّهَا السَّاعَةُ الَّتِي كَلَّمَ فِيهَا مُوسَى رَبَّهُ، وَأُلْقِي فِيهَا السَّحَرَةُ سُجَّدًا، فَاكْتَسَى الزَّمَانُ صِفَةَ الْفَضِيلَةِ لِكَوْنِهِ ظَرْفًا، فَكَيْفَ فَاعِلُ الطَّاعَةِ! وَأَفَادَ أَيْضًا أَنَّ الَّذِي أَكْرَمَ مُوسَى لَا يَدَعُ إِكْرَامَكَ، وَالَّذِي قَلَبَ قُلُوبَ السَّحَرَةِ حَتَّى سَجَدُوا يَقْلِبُ قُلُوبَ أَعْدَائِكَ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُ ذَكَرَ الضُّحَى وَهُوَ سَاعَةٌ مِنَ النَّهَارِ، وذكر الليل بكليته؟ الجواب: فيه وجوه أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ تَوَازِي جَمِيعَ اللَّيْلِ كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا وُزِنَ يُوَازِي جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالثَّانِي: أَنَّ النَّهَارَ وَقْتُ السُّرُورِ وَالرَّاحَةِ، وَاللَّيْلَ وَقْتُ الْوَحْشَةِ وَالْغَمِّ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هُمُومَ الدُّنْيَا أَدْوَمُ من سرورها، فإن الضحى ساعة والليل كذا سَاعَاتٌ،
يُرْوَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْعَرْشَ أَظَلَّتْ غَمَامَةٌ سَوْدَاءُ عَنْ يَسَارِهِ وَنَادَتْ مَاذَا أُمْطِرُ؟ فَأُجِيبَتْ أَنْ أَمْطِرِي الْهُمُومَ وَالْأَحْزَانَ مِائَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ انْكَشَفَتْ فَأُمِرَتْ مَرَّةً أُخْرَى بِذَلِكَ وَهَكَذَا إِلَى تَمَامِ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَظَلَّتْ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ غَمَامَةٌ بَيْضَاءُ وَنَادَتْ: مَاذَا أُمْطِرُ؟ فَأُجِيبَتْ أَنْ أَمْطِرِي السُّرُورَ سَاعَةً،
فَلِهَذَا السَّبَبِ تَرَى الْغُمُومَ وَالْأَحْزَانَ دَائِمَةً، وَالسُّرُورَ قَلِيلًا/ وَنَادِرًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ وَقْتَ الضُّحَى وَقْتَ حَرَكَةِ النَّاسِ وَتَعَارُفِهِمْ فَصَارَتْ نَظِيرَ وَقْتِ الْحَشْرِ، وَاللَّيْلُ إِذَا سَكَنَ نَظِيرُ سُكُونِ النَّاسِ فِي ظُلْمَةِ الْقُبُورِ، فَكِلَاهُمَا حِكْمَةٌ وَنِعْمَةٌ لَكِنَّ الْفَضِيلَةَ لِلْحَيَاةِ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَمَّا بَعُدَ الْمَوْتُ عَلَى مَا قَبْلَهُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ ذكر الضحى على ذكر الليل ورابعها: ذكروا الضُّحَى حَتَّى لَا يَحْصُلَ الْيَأْسُ مِنْ رُوحِهِ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِاللَّيْلِ حَتَّى لَا يَحْصُلَ الْأَمْنُ مِنْ مَكْرِهِ.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: هَلْ أَحَدٌ مِنَ المذكرين فَسَّرَ الضُّحَى بِوَجْهِ مُحَمَّدٍ وَاللَّيْلَ بِشَعْرِهِ؟ وَالْجَوَابُ: نعم ولا
191
اسْتِبْعَادَ فِيهِ وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَالضُّحَى ذُكُورُ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَاللَّيْلِ إِنَاثُهُمْ، وَيُحْتَمَلُ الضُّحَى رِسَالَتُهُ وَاللَّيْلُ زَمَانُ احْتِبَاسِ الْوَحْيِ، لِأَنَّ فِي حَالِ النُّزُولِ حَصَلَ الِاسْتِئْنَاسُ وَفِي زَمَنِ الِاحْتِبَاسِ حَصَلَ الِاسْتِيحَاشُ، وَيُحْتَمَلُ وَالضُّحَى نُورُ عِلْمِهِ الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ الْمَسْتُورُ مِنَ الْغُيُوبِ: وَاللَّيْلِ عفوه الذي به يستر جميع الغيوب. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الضُّحَى إِقْبَالُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ كَانَ غَرِيبًا وَاللَّيْلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سَيَعُودُ غَرِيبًا، وَيُحْتَمَلُ وَالضُّحَى كَمَالُ الْعَقْلِ، وَاللَّيْلِ حَالُ الْمَوْتِ، وَيُحْتَمَلُ أُقْسِمُ بِعَلَانِيَتِكَ الَّتِي لَا يَرَى عَلَيْهَا الْخَلْقُ عَيْبًا، وَبِسِرِّكَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ عليه عالم الغيب عيبا.
[سورة الضحى (٩٣) : آية ٣]
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْمُبَرِّدُ: وَدَّعَكَ مِنَ التَّوْدِيعِ كَمَا يُودَّعُ الْمُفَارِقُ، وَقُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ مَا تَرَكَكَ، وَالتَّوْدِيعُ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَدَاعِ، لِأَنَّ مَنْ وَدَّعَكَ مُفَارِقًا فَقَدْ بَالَغَ فِي تَرْكِكَ وَالْقِلَى الْبُغْضُ. يُقَالُ: قَلَاهُ يَقْلِيهِ قِلًى وَمَقْلِيَةً إِذَا أَبْغَضَهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ وَمَا قَلَاكَ، وَفِي حَذْفِ الْكَافِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: حُذِفَتِ الْكَافُ اكْتِفَاءً بِالْكَافِ الْأُولَى فِي وَدَّعَكَ، وَلِأَنَّ رؤس الْآيَاتِ بِالْيَاءِ، فَأَوْجَبَ اتِّفَاقُ الْفَوَاصِلِ حَذْفَ الْكَافِ وَثَانِيهَا: فَائِدَةُ الْإِطْلَاقِ أَنَّهُ مَا قَلَاكَ وَلَا [قلا] أحد مِنْ أَصْحَابِكَ وَلَا أَحَدًا مِمَّنْ أَحَبَّكَ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ، تَقْرِيرًا لِقَوْلِهِ: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَبْطَأَ جِبْرِيلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَدْ قَلَاهُ اللَّهُ وَوَدَّعَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ،
وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَبْطَأَ عَلَيْهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَتْ: لَعَلَّ رَبَّكَ نَسِيَكَ أَوْ قَلَاكَ،
وَقِيلَ: إِنَّ أُمَّ جَمِيلٍ امْرَأَةَ أَبِي لَهَبٍ قَالَتْ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلَّا قَدْ تَرَكَكَ،
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: أَبْطَأَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ: «إِنَّ رَبِّي وَدَّعَنِي وَقَلَانِي، يَشْكُو إِلَيْهَا، فَقَالَتْ:
كَلَّا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا ابْتَدَأَكَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُتِمَّهَا لَكَ»
فَنَزَلَ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى
وَطَعَنَ الْأُصُولِيُّونَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَدَّعَهُ وَقَلَاهُ، بَلْ يَعْلَمُ أَنَّ عَزْلَ النَّبِيِّ عَنِ النُّبُوَّةِ غَيْرُ جَائِزٍ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَعْلَمُ أَنَّ نُزُولَ الْوَحْيِ يَكُونُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَرُبَّمَا كَانَ الصَّلَاحُ تَأْخِيرَهُ، وَرُبَّمَا كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا/ الْكَلَامَ غَيْرُ لَائِقٍ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ إِنْ صَحَّ ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَقْصُودُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُجَرِّبَهَا لِيَعْرِفَ قَدْرَ عِلْمِهَا، أَوْ لِيَعْرِفَ النَّاسُ قَدْرَ عِلْمِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مُدَّةِ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ، فَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: اثْنَا عَشَرَ يَوْمًا، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ احْتِبَاسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
فَذَكَرَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّوحِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ وَأَصْحَابِ الْكَهْفِ، فَقَالَ: «سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» فَاحْتَبَسَ عَنْهُ الْوَحْيُ،
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: السَّبَبُ فِيهِ كَوْنُ جَرْوٍ فِي بَيْتِهِ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، فَلَمَّا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَاتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ» وَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ سُفْيَانَ: رُمِيَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ بِحَجَرٍ فِي إِصْبَعِهِ، فَقَالَ:
هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ
فَأَبْطَأَ عَنْهُ الْوَحْيُ،
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يُقَلِّمُ الْأَظْفَارَ
وهاهنا سُؤَالَانِ.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الرِّوَايَاتُ الَّتِي ذَكَرْتُمْ تَدَلُّ عَلَى أَنَّ احْتِبَاسَ الْوَحْيِ كَانَ عَنْ قِلًى: قُلْنَا أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ تَرْكًا لِلْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى، وَصَاحِبُهُ لَا يَكُونُ مَمْقُوتًا وَلَا مُبْغَضًا،
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِجِبْرِيلَ: «مَا جِئْتَنِي حَتَّى اشْتَقْتُ إِلَيْكَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: كُنْتُ إِلَيْكَ أَشْوَقَ وَلَكِنِّي عبدا مأمورا» وَتَلَا: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مَرْيَمَ: ٦٤].
السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ يَحْسُنُ مِنَ السُّلْطَانِ أَنْ يَقُولَ لِأَعْظَمِ الْخَلْقِ قُرْبَةً عِنْدَهُ: إِنِّي لَا أُبْغِضُكَ تَشْرِيفًا لَهُ؟
الْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْسُنُ ابْتِدَاءً، لَكِنَّ الْأَعْدَاءَ إِذَا أَلْقَوْا فِي الْأَلْسِنَةِ أَنَّ السُّلْطَانَ يُبْغِضُهُ، ثُمَّ تَأَسَّفَ ذَلِكَ الْمُقَرَّبُ فَلَا لَفْظَ أَقْرَبُ إِلَى تَشْرِيفِهِ مِنْ أَنْ يَقُولَ لَهُ: إِنِّي لَا أُبْغِضُكَ وَلَا أَدَعَكَ، وَسَوْفَ تَرَى مَنْزِلَتَكَ عِنْدِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْوَاقِعَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِهِ لما امتنع.
[سورة الضحى (٩٣) : آية ٤]
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤)
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي اتِّصَالِهِ بِمَا تَقَدَّمَ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ انْقِطَاعَ الْوَحْيِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُ عَزْلٌ عَنِ النُّبُوَّةِ، بَلْ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ، أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ حَصَلَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الرِّسَالَةِ، وَذَلِكَ أَمَارَةُ الْمَوْتِ فَكَأَنَّهُ يُقَالُ: انْقِطَاعُ الْوَحْيِ مَتَى حَصَلَ دَلَّ عَلَى الْمَوْتِ، لَكِنَّ الْمَوْتَ خَيْرٌ لَكَ. فَإِنَّ مَا لَكَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَأَفْضَلُ مِمَّا لَكَ فِي الدُّنْيَا وَثَانِيهَا: لما نزل: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ [الضحى: ٣] حَصَلَ لَهُ بِهَذَا تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ، فَكَأَنَّهُ اسْتَعْظَمَ هَذَا التَّشْرِيفَ فَقِيلَ لَهُ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى أَيْ هَذَا التَّشْرِيفُ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا إِلَّا أَنَّ مَا لَكَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَأَعْظَمُ وَثَالِثُهَا: مَا يَخْطُرُ/ بِبَالِي، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَلَلْأَحْوَالُ الْآتِيَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْمَاضِيَةِ كَأَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَهُ بِأَنَّهُ سَيَزِيدُهُ كُلَّ يَوْمٍ عِزًّا إِلَى عِزٍّ، وَمَنْصِبًا إِلَى مَنْصِبٍ، فَيَقُولُ: لَا تَظُنُّ أَنِّي قَلَيْتُكَ بَلْ تَكُونُ كُلَّ يَوْمٍ يَأْتِي فَإِنِّي أزيدك منصبا وجلالا، وهاهنا سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: بِأَيِّ طَرِيقٍ يُعْرَفُ أَنَّ الْآخِرَةَ كَانَتْ لَهُ خَيْرًا مِنَ الْأُولَى؟ الْجَوَابُ: لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُ إِنَّكَ فِي الدُّنْيَا عَلَى خَيْرٍ لِأَنَّكَ تَفْعَلُ فِيهَا مَا تُرِيدُ، وَلَكِنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لَكَ لِأَنَّا نَفْعَلُ فِيهَا مَا نُرِيدُ وَثَانِيهَا: الْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ يَجْتَمِعُ عِنْدَكَ أُمَّتُكَ إِذِ الْأُمَّةُ لَهُ كَالْأَوْلَادِ قَالَ تَعَالَى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَابِ:
٦] وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ، وَأُمَّتُهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَكُونُ كَأَنَّ أَوْلَادَهُ فِي الْجَنَّةِ، ثُمَّ سَمَّى الْوَلَدَ قُرَّةَ أَعْيُنٍ، حَيْثُ حَكَى عَنْهُمْ:
هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الْفُرْقَانِ: ٧٤] وَثَالِثُهَا: الْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ لِأَنَّكَ اشْتَرَيْتَهَا، أَمَّا هَذِهِ لَيْسَتْ لَكَ، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَوْ كَانَتِ الْآخِرَةُ أَقَلَّ مِنَ الدُّنْيَا لَكَانَتِ الْآخِرَةُ خَيْرًا لَكَ، لَأَنَّ مَمْلُوكَكَ خَيْرٌ لَكَ مِمَّا لَا يَكُونُ مَمْلُوكًا لَكَ، فَكَيْفَ وَلَا نِسْبَةَ لِلْآخِرَةِ إِلَى الدُّنْيَا فِي الْفَضْلِ وَرَابِعُهَا: الْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى لِأَنَّ فِي الدُّنْيَا الْكُفَّارَ يَطْعَنُونَ فِيكَ أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَأَجْعَلُ أُمَّتَكَ شُهَدَاءَ عَلَى الْأُمَمِ، وَأَجْعَلُكَ شَهِيدًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ أَجْعَلُ ذَاتِي شَهِيدًا لَكَ كَمَا قَالَ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الْفَتْحِ: ٢٨، ٢٩] وَخَامِسُهَا: أَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا قَلِيلَةٌ مَشُوبَةٌ مُنْقَطِعَةٌ، وَلَذَّاتِ الْآخِرَةِ كَثِيرَةٌ خَالِصَةٌ دَائِمَةٌ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ وَلَمْ يُقَلْ خَيْرٌ لَكُمْ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّهُ كَانَ فِي جَمَاعَتِهِ مَنْ
كَانَتِ الْآخِرَةُ شَرًّا لَهُ، فَلَوْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَمَّمَ لَكَانَ كَذِبًا، وَلَوْ خَصَّصَ الْمُطِيعِينَ بِالذِّكْرِ لَافْتُضِحَ الْمُذْنِبُونَ وَالْمُنَافِقُونَ. وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: ٦٢] وَأَمَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالَّذِي كَانَ مَعَهُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ قَطْعًا، لَا جَرَمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التَّوْبَةِ: ٤٠] إِذْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ إِلَّا نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ،
وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ لِلِاسْتِسْقَاءِ، وَمَعَهُ الْأُلُوفُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَمْ يَجِدُوا الْإِجَابَةَ، فَسَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِعَدَمِ الْإِجَابَةِ فَقَالَ: لَا أُجِيبُكُمْ مَا دَامَ مَعَكُمْ سَاعٍ بِالنَّمِيمَةِ، فَسَأَلَ مُوسَى مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ: [إِنِّي] أَبْغُضُهُ فَكَيْفَ أَعْمَلُ عَمَلَهُ، فَمَا مَضَتْ مُدَّةٌ قَلِيلَةٌ حَتَّى نَزَلَ الْوَحْيُ بِأَنَّ ذَلِكَ النَّمَّامَ قَدْ مَاتَ، وَهَذِهِ جِنَازَتُهُ فِي مُصَلَّى، كَذَا فَذَهَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى تِلْكَ الْمُصَلَّى، فَإِذَا فِيهَا سَبْعُونَ مِنَ الْجَنَائِزِ،
فَهَذَا سَتْرُهُ عَلَى أَعْدَائِهِ فَكَيْفَ عَلَى أَوْلِيَائِهِ. ثُمَّ تَأَمَّلْ فَإِنَّ فِيهِ دَقِيقَةً لَطِيفَةً، وَهِيَ
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «لَوْلَا شُيُوخٌ رُكَّعٌ»
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى زِيَادَةِ فَضِيلَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى كَانَ يَرُدُّ الْأُلُوفَ لِمُذْنِبٍ واحد، وهاهنا يرحم المذنبين لمطيع واحد.
[سورة الضحى (٩٣) : آية ٥]
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥)
وَاعْلَمِ اتِّصَالَهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْآخِرَةَ: خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْأُولَى وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ ذَلِكَ التَّفَاوُتَ إِلَى أَيِّ حَدٍّ/ يَكُونُ فَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِقْدَارَ ذَلِكَ التَّفَاوُتِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَنْتَهِي إِلَى غَايَةِ مَا يَتَمَنَّاهُ الرَّسُولُ وَيَرْتَضِيهِ الْوَجْهُ الثَّانِي: كَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى [الضحى: ٤] فَقِيلَ وَلِمَ قُلْتَ إِنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، فَقَالَ: لِأَنَّهُ يُعْطِيهِ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ وَذَلِكَ مِمَّا لَا تَتَّسِعُ الدُّنْيَا لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْأُولَى، وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ حَمَلْنَا هَذَا الْوَعْدَ عَلَى الْآخِرَةِ فَقَدْ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَقَدْ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّعْظِيمِ، أَمَّا الْمَنَافِعُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلْفُ قصر في الجنة من لؤلؤ أبيض ترابه الْمِسْكُ وَفِيهَا مَا يَلِيقُ بِهَا، وَأَمَّا التَّعْظِيمُ
فَالْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ هَذَا هُوَ الشَّفَاعَةُ فِي الْأُمَّةِ،
يُرْوَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ: إِذًا لَا أَرْضَى وَوَاحِدٌ مِنْ أُمَّتِي فِي النَّارِ،
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الشَّفَاعَةِ مُتَعَيِّنٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ فِي الدُّنْيَا بِالِاسْتِغْفَارِ فقال: اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [مُحَمَّدٍ: ١٩] فَأَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالِاسْتِغْفَارُ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَمَنْ طَلَبَ شَيْئًا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الرَّدَّ وَلَا يَرْضَى بِهِ وَإِنَّمَا يَرْضَى بِالْإِجَابَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الَّذِي يَرْضَاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْإِجَابَةُ لَا الرَّدُّ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِ كُلَّ مَا يَرْتَضِيهِ. عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ الْمُذْنِبِينَ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ مقدمة الآية مناسبة لذلك كأنه تعالى يَقُولُ لَا أُوَدِّعُكَ وَلَا أَبْغُضُكَ بَلْ لَا أَغْضَبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِكَ وَأَتْبَاعِكَ وَأَشْيَاعِكَ طلبا لمرضاتك وتطييبا لقلبك، فهذا التفسير أَوْفَقُ لِمُقَدِّمَةِ الْآيَةِ وَالثَّالِثُ: الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ الْوَارِدَةُ فِي الشَّفَاعَةِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ رِضَا الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْمُذْنِبِينَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ كُلَّ مَا يَرْضَاهُ الرَّسُولُ فَتَحَصَّلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ حُصُولُ الشَّفَاعَةِ،
وَعَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: رِضَاءُ جَدِّي أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ مُوَحِّدٌ،
وَعَنِ الْبَاقِرِ، أَهْلُ القرآن يقولون: أرجى آية قوله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزُّمَرِ: ٥٣] وَإِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ نَقُولُ: أَرْجَى آيَةٍ قَوْلُهُ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى وَاللَّهِ إِنَّهَا الشَّفَاعَةُ لَيُعْطَاهَا فِي أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى يَقُولَ رَضِيتُ،
هَذَا كُلُّهُ إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَا هَذَا الْوَعْدَ عَلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الظَّفَرِ بِأَعْدَائِهِ يَوْمَ بدر
وَيَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَدُخُولِ النَّاسِ فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا، وَالْغَلَبَةِ عَلَى قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَإِجْلَائِهِمْ وَبَثِّ عَسَاكِرِهِ وَسَرَايَاهُ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَمَا فَتَحَ عَلَى خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَدَائِنِ، وَ [مَا] هَدَمَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ مَمَالِكِ الْجَبَابِرَةِ، وَأَنْهَبَهُمْ مِنْ كُنُوزِ الْأَكَاسِرَةِ، وَمَا قَذَفَ فِي أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ مِنَ الرُّعْبِ وَتَهْيِيبِ الْإِسْلَامِ وَفُشُوِّ الدَّعْوَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَوْلَى حَمْلُ الآية على خيرات الدنيا والآخرة، وهاهنا سُؤَالَاتٌ.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: يُعْطِيكُمْ مَعَ أَنَّ هَذِهِ السَّعَادَاتِ حَصَلَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا؟ الْجَوَابُ: لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْمَقْصُودُ وَهُمْ أَتْبَاعٌ وَثَانِيهَا: أَنِّي إِذَا أَكْرَمْتُ أَصْحَابَكَ فَذَاكَ فِي الْحَقِيقَةِ إِكْرَامٌ لَكَ، لِأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ بَلَغْتَ فِي الشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ إِلَى حَيْثُ تَفْرَحُ بِإِكْرَامِهِمْ فَوْقَ/ مَا تَفْرَحُ بِإِكْرَامِ نَفْسِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ حَيْثُ تَقُولُ الْأَنْبِيَاءُ:
نَفْسِي نَفْسِي، أَيِ ابْدَأْ بِجَزَائِي وَثَوَابِي قَبْلَ أُمَّتِي، لِأَنَّ طَاعَتِي كَانَتْ قَبْلَ طَاعَةِ أُمَّتِي، وَأَنْتَ تَقُولُ: أُمَّتِي أُمَّتِي، أَيِ ابْدَأْ بِهِمْ، فَإِنَّ سُرُورِي أَنْ أَرَاهُمْ فَائِزِينَ بِثَوَابِهِمْ وَثَالِثُهَا: أَنَّكَ عَامَلْتَنِي مُعَامَلَةً حَسَنَةً، فَإِنَّهُمْ حِينَ شَجُّوا وَجْهَكَ، قُلْتَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» وَحِينَ شَغَلُوكَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنِ الصَّلَاةِ، قُلْتَ: «اللَّهُمَّ امْلَأْ بُطُونَهُمْ نَارًا» فَتَحَمَّلْتَ الشَّجَّةَ الْحَاصِلَةَ فِي وَجْهِ جَسَدِكَ، وَمَا تَحَمَّلْتَ الشَّجَّةَ الْحَاصِلَةَ فِي وَجْهِ دِينِكَ، فَإِنَّ وَجْهَ الدِّينِ هُوَ الصَّلَاةُ، فَرَجَّحْتَ حَقِّي عَلَى حَقِّكَ، لَا جَرَمَ فَضَّلْتُكَ، فَقُلْتُ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ سِنِينَ، أَوْ حَبَسَ غَيْرَهُ عَنِ الصَّلَاةِ سِنِينَ لَا أُكَفِّرُهُ، وَمَنْ آذَى شَعْرَةً من شعراتك، أو جزء مِنْ نَعْلِكَ أُكَفِّرُهُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: وَلَسَوْفَ وَلِمَ لَمْ يَقُلْ: وَسَيُعْطِيكَ رَبُّكَ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ فَوَائِدُ إِحْدَاهَا: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا قَرُبَ أَجَلُهُ، بَلْ يَعِيشُ بَعْدَ ذَلِكَ زَمَانًا وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا قَالُوا: وَدَّعَهُ رَبُّهُ وَقَلَاهُ فَاللَّهُ تَعَالَى رَدَّ عَلَيْهِمْ بِعَيْنِ تِلْكَ اللَّفْظَةِ، فَقَالَ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [الضحى: ٣] ثُمَّ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: سَوْفَ يَمُوتُ مُحَمَّدٌ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ فَقَالَ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ يَقُولُ اللَّهُ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا كَلَامٌ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الِاشْتِيَاقِ إِلَيْهِ وَإِلَى كَلَامِهِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُخَاطِبَ لَهُ بِهَذِهِ الْبِشَارَاتِ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا هَذِهِ اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى سَوْفَ؟ الْجَوَابُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هِيَ لَامُ الِابْتِدَاءِ الْمُؤَكِّدَةُ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَالْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَأَنْتَ سَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ لَامَ الْقَسَمِ، أَوْ لَامَ الِابْتِدَاءِ، وَلَامُ الْقَسَمِ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ إِلَّا مَعَ نُونِ التَّوْكِيدِ، فَبَقِيَ أَنْ تَكُونَ لَامَ ابْتِدَاءٍ، وَلَامُ الِابْتِدَاءِ لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى الْجُمْلَةِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَأَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ: وَلَأَنْتَ سَوْفَ يُعْطِيكَ، فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى الْجَمْعِ بَيْنَ حَرْفَيِ التَّوْكِيدِ وَالتَّأْخِيرِ؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ: أَنَّ الْعَطَاءَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ تَأَخَّرَ لِمَا فِي التَّأْخِيرِ مِنَ المصلحة.
[سورة الضحى (٩٣) : آية ٦]
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ اتِّصَالَهُ بِمَا تَقَدَّمَ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَقَالَ الرَّسُولُ: بَلَى يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: انْظُرْ [أَ] كَانَتْ طَاعَاتُكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَكْرَمَ أَمِ السَّاعَةَ؟ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُقَالَ: بَلِ السَّاعَةَ فَيَقُولُ اللَّهُ: حِينَ
195
كُنْتَ صَبِيًّا ضَعِيفًا مَا تَرَكْنَاكَ بَلْ رَبَّيْنَاكَ وَرَقَّيْنَاكَ إِلَى حَيْثُ صِرْتَ مُشْرِفًا عَلَى/ شُرُفَاتِ العرش وقلنا لك: لو لاك مَا خَلَقْنَا الْأَفْلَاكَ، أَتَظُنُّ أَنَّا بَعْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ نَهْجُرُكَ وَنَتْرُكُكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَلَمْ يَجِدْكَ مِنَ الْوُجُودِ الَّذِي بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَالْمَنْصُوبَانِ مَفْعُولَا وَجَدَ وَالْوُجُودُ مِنَ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى أَلَمْ يَعْلَمْكَ اللَّهُ يَتِيمًا فَآوَى، وَذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْيَتِيمِ أَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِيمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْأَخْبَارِ تُوُفِّيَ وَأُمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَامِلٌ بِهِ، ثُمَّ وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ فَكَانَ مَعَ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمَعَ أُمِّهِ آمِنَةَ، فَهَلَكَتْ أُمُّهُ آمِنَةُ وَهُوَ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ فَكَانَ مَعَ جَدِّهِ، ثُمَّ هَلَكَ جَدُّهُ بَعْدَ أُمِّهِ بِسَنَتَيْنِ وَرَسُولُ اللَّهِ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ.
وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يُوصِي أَبَا طَالِبٍ بِهِ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَأَبَا طَالِبٍ كَانَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ، فَكَانَ أَبُو طَالِبٍ هُوَ الَّذِي يَكْفُلُ رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ جَدِّهِ إِلَى أَنَّ بَعَثَهُ اللَّهُ لِلنُّبُوَّةِ، فَقَامَ بِنُصْرَتِهِ مُدَّةً مَدِيدَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ يُتْمٌ الْبَتَّةَ فَأَذْكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ النِّعْمَةَ،
رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ أَبُو طَالِبٍ يَوْمًا لِأَخِيهِ الْعَبَّاسِ: أَلَا أُخْبِرُكَ عَنْ مُحَمَّدٍ بِمَا رَأَيْتُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: بَلَى فَقَالَ: إِنِّي ضَمَمْتُهُ إِلَيَّ فَكَيْفَ لَا أُفَارِقُهُ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ وَلَا أَأْتَمِنُ عَلَيْهِ أَحَدًا حَتَّى أَنِّي كُنْتُ أُنَوِّمُهُ فِي فِرَاشِي، فَأَمَرْتُهُ لَيْلَةً أَنْ يَخْلَعَ ثِيَابَهُ وَيَنَامَ مَعِي، فَرَأَيْتُ الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهِ لَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُخَالِفَنِي، وَقَالَ: يَا عَمَّاهُ اصْرِفْ بِوَجْهِكَ عَنِّي حَتَّى أَخْلَعَ ثِيَابِي إِذْ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى جَسَدِي، فَتَعَجَّبْتُ مِنْ قَوْلِهِ وَصَرَفْتُ بَصَرِي حَتَّى دَخَلَ الْفِرَاشَ فَلَمَّا دَخَلْتُ مَعَهُ الْفِرَاشَ إِذَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ ثَوْبٌ وَاللَّهِ مَا أَدْخَلْتُهُ فِرَاشِي فَإِذَا هُوَ فِي غَايَةِ اللِّينِ وَطِيبِ الرَّائِحَةِ كَأَنَّهُ غُمِسَ فِي الْمِسْكِ، فَجَهِدْتُ لِأَنْظُرَ إِلَى جَسَدِهِ فَمَا كُنْتُ أَرَى شَيْئًا وَكَثِيرًا مَا كُنْتُ أَفْتَقِدُهُ مِنْ فِرَاشِي فَإِذَا قُمْتُ لِأَطْلُبَهُ نَادَانِي هَا أَنَا يَا عَمُّ فَارْجِعْ، وَلَقَدْ كُنْتُ كَثِيرًا مَا أَسْمَعُ مِنْهُ كَلَامًا يُعْجِبُنِي وَذَلِكَ عِنْدَ مُضِيِّ اللَّيْلِ وَكُنَّا لَا نُسَمِّي عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَا نَحْمَدُهُ بَعْدَهُ، وَكَانَ يَقُولُ فِي أَوَّلِ الطَّعَامِ: بِسْمِ اللَّهِ الْأَحَدِ. فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَتَعَجَّبْتُ مِنْهُ، ثُمَّ لَمْ أَرَ مِنْهُ كِذْبَةً وَلَا ضَحِكًا وَلَا جَاهِلِيَّةً وَلَا وَقَفَ مَعَ صِبْيَانٍ يَلْعَبُونَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَجَائِبَ الْمَرْوِيَّةَ فِي حَقِّهِ مِنْ حَدِيثِ بَحِيرَى الرَّاهِبِ وَغَيْرِهِ مَشْهُورَةٌ.
التَّفْسِيرُ الثَّانِي لِلْيَتِيمِ: أَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ دُرَّةٌ يَتِيمَةٌ، وَالْمَعْنَى أَلَمْ يَجِدْكَ وَاحِدًا فِي قُرَيْشٍ عَدِيمَ النَّظِيرِ فَآوَاكَ؟
أَيْ جَعَلَ لَكَ مَنْ تَأْوِي إِلَيْهِ وَهُوَ أَبُو طَالِبٍ، وَقُرِئَ فَآوَى وَهُوَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا مِنْ أَوَاهُ بِمَعْنَى آوَاهُ، وَإِمَّا مِنْ أَوَى له إذا رحمه، وهاهنا سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَحْسُنُ مِنَ الْجُودِ أَنْ يَمُنَّ بِنِعْمَةٍ، فَيَقُولَ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى؟ وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا السُّؤَالَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشُّعَرَاءِ: ١٨] فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لِفِرْعَوْنَ، فَمَا كَانَ مَذْمُومًا مِنْ فِرْعَوْنَ كَيْفَ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ يَحْسُنُ إِذَا قَصَدَ بِذَلِكَ أَنَّ يُقَوِّيَ قَلْبَهُ وَيَعِدَهُ بِدَوَامِ النِّعْمَةِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الِامْتِنَانِ وَبَيْنَ امْتِنَانِ فِرْعَوْنَ، لِأَنَّ امْتِنَانَ فِرْعَوْنَ مُحْبِطٌ، لِأَنَّ الْغَرَضَ فَمَا بَالُكَ لَا تَخْدُمُنِي، وامتنان الله بزيادة نعمه، كأنه يقول: مالك تَقْطَعُ عَنِّي رَجَاءَكَ أَلَسْتُ شَرَعْتُ فِي تَرْبِيَتِكَ، أَتَظُنُّنِي تَارِكًا لِمَا صَنَعْتُ، بَلْ لَا بُدَّ/ وَأَنْ أُتَمِّمَ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ النِّعْمَةَ، كَمَا قَالَ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٥٠] أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْحَامِلَ الَّتِي تُسْقِطُ الْوَلَدَ قَبْلَ التَّمَامِ مَعِيبَةٌ تُرَدُّ، وَلَوْ أَسْقَطَتْ أَوِ الرَّجُلُ أَسْقَطَ عَنْهَا بِعِلَاجٍ تَجِبُ الْغِرَّةُ وَتَسْتَحِقُّ الذَّمَّ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ ذَلِكَ مِنَ الْحَيِّ الْقَيُّومِ، فَمَا أَعْظَمَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَانٍّ هُوَ اللَّهُ، وَبَيْنَ مَانٍّ هُوَ فِرْعَوْنُ، وَنَظِيرُهُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ: ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ [الْكَهْفِ: ٢٢] فِي تِلْكَ الْأُمَّةِ، وَفِي
196
أُمَّةِ مُحَمَّدٍ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [الْمُجَادَلَةِ: ٧] فَشَتَّانَ بَيْنَ أُمَّةٍ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَبَيْنَ أُمَّةٍ رَابِعُهُمْ رَبُّهُمْ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى مَنَّ عَلَيْهِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يَذْكُرَ نِعْمَةَ رَبِّهِ، فَمَا وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؟ الْجَوَابُ: وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ أَنْ نَقُولَ: قَضَاءُ الدَّيْنِ وَاجِبٌ، ثُمَّ الدَّيْنُ نَوْعَانِ مَالِيٌّ وَإِنْعَامِيٌّ وَالثَّانِي: أَقْوَى وُجُوبًا، لِأَنَّ الْمَالِيَّ قَدْ يَسْقُطُ بِالْإِبْرَاءِ وَالثَّانِي: يَتَأَكَّدُ بِالْإِبْرَاءِ، وَالْمَالِيُّ يُقْضَى مَرَّةً فَيَنْجُو الْإِنْسَانُ مِنْهُ وَالثَّانِي:
يَجِبُ عَلَيْكَ قَضَاؤُهُ طُولَ عُمُرِكَ، ثُمَّ إِذَا تَعَذَّرَ قَضَاءُ النِّعْمَةِ الْقَلِيلَةِ مِنْ مُنْعِمٍ هُوَ مَمْلُوكٌ، فَكَيْفَ حَالُ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْمُنْعِمِ الْعَظِيمِ، فَكَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: إِلَهِي أَخْرَجْتَنِي مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ بَشَرًا سَوِيًّا، طَاهِرَ الظَّاهِرِ نَجِسَ الْبَاطِنِ، بِشَارَةٌ مِنْكَ أَنْ تَسْتُرَ عَلَيَّ ذُنُوبِي بِسِتْرِ عَفْوِكَ، كَمَا سَتَرْتَ نَجَاسَتِي بِالْجِلْدِ الظَّاهِرِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُنِي قَضَاءُ نِعْمَتِكَ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا وَلَا حَصْرَ؟ فَيَقُولُ تَعَالَى الطَّرِيقُ إِلَى ذَلِكَ أَنْ تَفْعَلَ فِي حَقِّ عَبِيدِي مَا فَعَلْتُهُ فِي حَقِّكَ، كُنْتَ يَتِيمًا فَآوَيْتُكَ فَافْعَلْ فِي حَقِّ الْأَيْتَامِ ذَلِكَ، وَكُنْتَ ضَالًّا فَهَدَيْتُكَ فَافْعَلْ فِي حَقِّ عَبِيدِي ذَلِكَ، وَكُنْتَ عَائِلًا فَأَغْنَيْتُكَ فَافْعَلْ فِي حَقِّ عَبِيدِي ذَلِكَ ثُمَّ إِنْ فَعَلْتَ كُلَّ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا فَعَلْتَهَا بِتَوْفِيقِي لَكَ وَلُطْفِي وَإِرْشَادِي، فكن أبدا ذاكرا لهذه النعم والألطاف. أما قوله تعالى:
[سورة الضحى (٩٣) : آية ٧]
وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧)
فَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، ثُمَّ هَدَاهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ نَبِيًّا، قَالَ الكلبي:
وَجَدَكَ ضَالًّا يَعْنِي كَافِرًا فِي قَوْمٍ ضُلَّالٍ فَهَدَاكَ لِلتَّوْحِيدِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ أربعين سنة، وقال مجاهد: وجدك ضَالًّا عَنِ الْهُدَى لِدِينِهِ وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِآيَاتٍ أُخَرَ مِنْهَا قَوْلُهُ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشُّورَى: ٥٢] وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ [يُوسُفَ: ٣] وَقَوْلُهُ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: ٦٥] فَهَذَا يَقْتَضِي صِحَّةَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِذَا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الصِّحَّةِ وَجَبَ حَمْلُ قَوْلِهِ:
وَوَجَدَكَ ضَالًّا عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَفَرَ بِاللَّهِ لَحْظَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ عَقْلًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْفِيرِ، وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا هَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَقْلًا لِأَنَّهُ جَائِزٌ فِي الْعُقُولِ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ كَافِرًا فَيَرْزُقَهُ اللَّهُ الْإِيمَانَ وَيُكْرِمَهُ بِالنُّبُوَّةِ، إِلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ قَامَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَائِزَ لَمْ يَقَعْ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى [النَّجْمِ: ٢] ثُمَّ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا كَثِيرَةً أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَشَهْرِ بْنِ حوشب: وجدك ضَالًّا عَنْ مَعَالِمِ النِّعْمَةِ/ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ غَافِلًا عَنْهَا فَهَدَاكَ إِلَيْهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشُّورَى: ٥٢] وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ [يوسف: ٣] وَثَانِيهَا: ضَلَّ عَنْ مُرْضِعَتِهِ حَلِيمَةَ حِينَ أَرَادَتْ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَى جَدِّهِ حَتَّى دَخَلَتْ إِلَى هُبَلَ وَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَتَسَاقَطَتِ الْأَصْنَامُ، وَسَمِعَتْ صَوْتًا يَقُولُ: إِنَّمَا هَلَاكُنَا بِيَدِ هَذَا الصَّبِيِّ، وَفِيهِ حِكَايَةٌ طَوِيلَةٌ وَثَالِثُهَا: مَا
رُوِيَ مَرْفُوعًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «ضَلَلْتُ عَنْ جَدِّي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَنَا صَبِيٌّ ضَائِعٌ، كَادَ الْجُوعُ يَقْتُلُنِي، فَهَدَانِي اللَّهُ»
ذَكَرَهُ الضَّحَّاكُ، وَذَكَرَ تَعَلُّقَهُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَقَوْلُهُ:
197
فَمَا زَالَ يُرَدِّدُ هَذَا عِنْدَ الْبَيْتِ حَتَّى أَتَاهُ أَبُو جَهْلٍ عَلَى نَاقَةٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ مُحَمَّدٌ وَهُوَ يَقُولُ: لَا نَدْرِي مَاذَا نَرَى مِنِ ابْنِكَ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَلِمَ؟ قَالَ: إِنِّي أَنَخْتُ النَّاقَةَ وَأَرْكَبْتُهُ مِنْ خَلْفِي فَأَبَتِ النَّاقَةُ أَنْ تَقُومَ، فَلَمَّا أَرْكَبْتُهُ أَمَامِي قَامَتِ النَّاقَةُ، كَأَنَّ النَّاقَةَ تَقُولُ: يَا أَحْمَقُ هُوَ الْإِمَامُ فَكَيْفَ يَقُومُ خَلْفَ الْمُقْتَدِي! وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَدَّهُ اللَّهُ إِلَى جَدِّهِ بِيَدِ عَدُوِّهِ كَمَا فَعَلَ بِمُوسَى حِينَ حَفِظَهُ عَلَى يَدِ عَدُوِّهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خَرَجَ مَعَ غُلَامِ خَدِيجَةَ مَيْسَرَةَ أَخَذَ كَافِرٌ بِزِمَامِ بَعِيرِهِ حَتَّى ضَلَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَهَدَاهُ إِلَى الْقَافِلَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا طَالِبٍ خَرَجَ بِهِ إِلَى الشَّأْمِ فَضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ فَهَدَاهُ اللَّهُ تعالى وخامسها: يقال: ضل الماء في الليل إِذَا صَارَ مَغْمُورًا، فَمَعْنَى الْآيَةِ كُنْتَ مَغْمُورًا بَيْنَ الْكُفَّارِ بِمَكَّةَ فَقَوَّاكَ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى أَظْهَرْتَ دِينَهُ وَسَادِسُهَا: الْعَرَبُ تُسَمِّي الشَّجَرَةَ الْفَرِيدَةَ فِي الْفَلَاةِ ضَالَّةً، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: كَانَتْ تِلْكَ الْبِلَادُ كَالْمَفَازَةِ لَيْسَ فِيهَا شَجَرَةٌ تَحْمِلُ ثَمَرَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَعْرِفَتَهُ إِلَّا أَنْتَ، فَأَنْتَ، شَجَرَةٌ فَرِيدَةٌ فِي مَفَازَةِ الْجَهْلِ فَوَجَدْتُكَ ضَالًّا فهديت بك الخلق، ونظيره
قوله عليه السلام: «الحكمة ضالة المؤمن»
وسابعها: ووجدك ضَالًّا عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى حِينَ كُنْتَ طِفْلًا صَبِيًّا، كَمَا قَالَ: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النَّحْلِ: ٧٨] فَخَلَقَ فِيكَ الْعَقْلَ وَالْهِدَايَةَ وَالْمَعْرِفَةَ، وَالْمُرَادُ مِنَ الضَّالِّ الْخَالِي عَنِ الْعِلْمِ لَا الْمَوْصُوفُ بِالِاعْتِقَادِ الْخَطَأِ وَثَامِنُهَا: كُنْتَ ضَالًّا عَنِ النُّبُوَّةِ مَا كُنْتَ تَطْمَعُ فِي ذَلِكَ وَلَا خَطَرَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي قَلْبِكَ، فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ النُّبُوَّةَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَهَدَيْتُكَ إِلَى النُّبُوَّةِ الَّتِي مَا كُنْتَ تَطْمَعُ فِيهَا الْبَتَّةَ وَتَاسِعُهَا: أَنَّهُ قَدْ يُخَاطَبُ السَّيِّدُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ قَوْمَهُ فَقَوْلُهُ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا أَيْ وَجَدَ قَوْمَكَ ضُلَّالًا، فَهَدَاهُمْ بِكَ وَبِشَرْعِكَ وَعَاشِرُهَا: وَجَدَكَ ضَالًّا عَنِ الضَّالِّينَ مُنْفَرِدًا عَنْهُمْ مُجَانِبًا لِدِينِهِمْ، فَكُلَّمَا كَانَ بُعْدُكَ عَنْهُمْ أَشَدَّ كَانَ ضَلَالُهُمْ أَشَدَّ، فَهَدَاكَ إِلَى أَنِ اخْتَلَطْتَ بِهِمْ وَدَعَوْتَهُمْ إِلَى الدِّينِ الْمُبِينِ الْحَادِي عَشَرَ: وَجَدَكَ ضَالًّا عَنِ الْهِجْرَةِ، مُتَحَيِّرًا فِي يَدِ قُرَيْشٍ مُتَمَنِّيًا فِرَاقَهُمْ وَكَانَ لَا يُمْكِنُكَ الْخُرُوجُ بِدُونِ إِذْنِهِ تَعَالَى، فَلَمَّا أَذِنَ لَهُ وَوَافَقَهُ الصِّدِّيقُ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ إِلَى خَيْمَةِ أُمِّ مَعْبَدٍ، وَكَانَ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ سُرَاقَةَ، وَظُهُورِ الْقُوَّةِ فِي الدِّينِ كَانَ ذَلِكَ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَهَدى، الثَّانِي عَشَرَ: ضَالًّا عَنِ الْقِبْلَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَتَمَنَّى أَنْ تُجْعَلَ الْكَعْبَةُ قِبْلَةً لَهُ/ وَمَا كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ هَلْ يَحْصُلُ لَهُ أَمْ لَا، فَهَدَاهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [الْبَقَرَةِ: ١٤٤] فَكَأَنَّهُ سُمِّيَ ذَلِكَ التَّحَيُّرُ بِالضَّلَالِ الثَّالِثَ عشر: أنه حين ظهرها لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ مَا كَانَ يَعْرِفُ أَهُوَ جِبْرِيلُ أَمْ لَا، وَكَانَ يَخَافُهُ خَوْفًا شَدِيدًا، وَرُبَّمَا أَرَادَ أَنْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ مِنَ الْجَبَلِ فَهَدَاهُ اللَّهُ حَتَّى عَرَفَ أَنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الرَّابِعَ عَشَرَ: الضَّلَالُ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يُوسُفَ: ٩٥] أَيْ مَحَبَّتِكَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّكَ مُحِبٌّ فَهَدَيْتُكَ إِلَى الشَّرَائِعِ الَّتِي بِهَا تَتَقَرَّبُ إِلَى خِدْمَةِ مَحْبُوبِكَ الْخَامِسَ عَشَرَ: ضَالًّا عَنْ أُمُورِ الدُّنْيَا لَا تَعْرِفُ التِّجَارَةَ وَنَحْوَهَا، ثم هديتك حتى ربحت تجارتك، وعظم ربحت حَتَّى رَغِبَتْ خَدِيجَةُ فِيكَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَا كَانَ لَكَ وُقُوفٌ عَلَى الدُّنْيَا، وَمَا كُنْتَ تَعْرِفُ سِوَى الدِّينِ، فَهَدَيْتُكَ إِلَى مَصَالِحِ الدُّنْيَا بَعْدَ ذَلِكَ السَّادِسَ عَشَرَ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا أَيْ ضَائِعًا فِي قَوْمِكَ كَانُوا يُؤْذُونَكَ، وَلَا يَرْضَوْنَ بِكَ رَعِيَّةً، فَقَوَّى أَمْرَكَ وَهَدَاكَ إِلَى أَنْ صِرْتَ آمِرًا وَالِيًا عَلَيْهِمْ السَّابِعَ عَشَرَ: كُنْتَ ضالا ما كنت تهتدي على طريق السموات فهديتك إذ عرجت بك إلى السموات لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ الثَّامِنَ عَشَرَ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا أَيْ نَاسِيًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما [الْبَقَرَةِ: ٢٨٢] فَهَدَيْتُكَ أَيْ ذَكَّرْتُكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ نَسِيَ مَا يَجِبُ أَنْ يُقَالَ بِسَبَبِ الْهَيْبَةِ، فَهَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى كَيْفِيَّةِ الثَّنَاءِ حَتَّى
قَالَ: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ»
التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَارِفًا بِاللَّهِ
198
بِقَلْبِهِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فِي الظَّاهِرِ لَا يُظْهِرُ لَهُمْ خِلَافًا، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالضَّلَالِ الْعِشْرُونَ:
رَوَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا هَمَمْتُ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْمَلُونَ بِهِ غَيْرَ مَرَّتَيْنِ، كُلُّ ذَلِكَ يَحُولُ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَا أُرِيدُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ مَا هَمَمْتُ بَعْدَهُمَا بِسُوءٍ حَتَّى أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ، فَإِنِّي قُلْتُ لَيْلَةً لِغُلَامٍ مِنْ قُرَيْشٍ، كَانَ يَرْعَى مَعِي بِأَعْلَى مَكَّةَ، لَوْ حَفِظْتَ لِي غَنَمِي حَتَّى أَدْخُلَ مَكَّةَ، فَأَسْمُرَ بِهَا كَمَا يَسْمُرُ الشُّبَّانُ، فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ذَلِكَ حَتَّى أَتَيْتُ أَوَّلَ دَارٍ مِنْ دُورِ مَكَّةَ، فَسَمِعْتُ عَزْفًا بِالدُّفُوفِ وَالْمَزَامِيرِ، فَقَالُوا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ يُزَوَّجُ بِفُلَانَةَ، فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِي فَنِمْتُ فَمَا أَيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ، قَالَ فَجِئْتُ صَاحِبِي، فَقَالَ مَا فَعَلْتَ؟ فَقُلْتُ مَا صَنَعْتُ شَيْئًا، ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُ لَيْلَةً أُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِي فَمَا أَيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ، ثُمَّ مَا هَمَمْتُ بَعْدَهُمَا بسوء حتى أكرمني الله تعالى برسالته».
أما قوله تعالى:
[سورة الضحى (٩٣) : آية ٨]
وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨)
فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَائِلُ هُوَ ذُو الْعَيْلَةِ، وَذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَلَّا تَعُولُوا [النِّسَاءِ: ٣] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً [التَّوْبَةِ: ٢٨] ثُمَّ أَطْلَقَ الْعَائِلَ عَلَى الْفَقِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عيال، وهاهنا فِي تَفْسِيرِ الْعَائِلِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْفَقِيرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: / (وَوَجَدَكَ عَدِيمًا) وَقُرِئَ عَيِّلًا كَمَا قُرِئَ سَيِّحَاتٍ «١»، ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِغْنَاءِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْنَاهُ بِتَرْبِيَةِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَمَّا اخْتَلَّتْ أَحْوَالُ أَبِي طَالِبٍ أَغْنَاهُ [اللَّهُ] بِمَالِ خَدِيجَةَ، وَلَمَّا اخْتَلَّ ذَلِكَ أَغْنَاهُ [اللَّهُ] بِمَالِ أَبِي بَكْرٍ، وَلَمَّا اخْتَلَّ ذَلِكَ أَمَرَهُ بِالْهِجْرَةِ وَأَغْنَاهُ بِإِعَانَةِ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْجِهَادِ، وَأَغْنَاهُ بِالْغَنَائِمِ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا حَصَلَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ كَانَ كَالْوَاقِعِ،
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «دَخَلَ على خديجة وهو مغموم، فقالت له مالك، فَقَالَ: الزَّمَانُ زَمَانُ قَحْطٍ فَإِنْ أَنَا بَذَلْتُ الْمَالَ يَنْفُذُ مَالُكِ فَأَسْتَحِي مِنْكِ، وَإِنْ لَمْ أَبْذُلْ أَخَافُ اللَّهَ، فَدَعَتْ قُرَيْشًا وَفِيهِمُ الصِّدِّيقُ، قَالَ الصِّدِّيقُ: فَأَخْرَجَتْ دَنَانِيرَ وَصَبَّتْهَا حَتَّى بَلَغَتْ مَبْلَغًا لَمْ يَقَعْ بَصَرِي عَلَى مَنْ كَانَ جَالِسًا قُدَّامِي لِكَثْرَةِ الْمَالِ، ثُمَّ قَالَتْ: اشْهَدُوا أَنَّ هَذَا الْمَالَ مَالُهُ إِنْ شَاءَ فَرَّقَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ»
الثَّانِي: أَغْنَاهُ بِأَصْحَابِهِ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ سِرًّا حَتَّى
قَالَ عُمَرُ حِينَ أَسْلَمَ: ابْرُزْ أَتُعْبَدُ اللَّاتُ جَهْرًا وَنَعْبُدُ اللَّهَ سِرًّا! فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: حَتَّى تَكْثُرَ الْأَصْحَابُ، فَقَالَ حَسْبُكَ اللَّهُ وَأَنَا فَقَالَ تَعَالَى: حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَالِ: ٦٤] فَأَغْنَاهُ اللَّهُ بِمَالِ أَبِي بَكْرٍ، وَبِهَيْبَةِ عُمَرَ»
الثَّالِثُ: أَغْنَاكَ بِالْقَنَاعَةِ فَصِرْتَ بِحَالٍ يَسْتَوِي عِنْدَكَ الْحَجَرُ وَالذَّهَبُ، لَا تَجِدُ فِي قَلْبِكَ سِوَى رَبِّكَ، فَرَبُّكَ غَنِيٌّ عَنِ الْأَشْيَاءِ لَا بِهَا، وَأَنْتَ بِقَنَاعَتِكَ اسْتَغْنَيْتَ عَنِ الْأَشْيَاءِ، وَإِنَّ الْغِنَى الْأَعْلَى الْغِنَى عَنِ الشَّيْءِ لَا بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خُيِّرَ بَيْنَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، فَاخْتَارَ الْفَقْرَ الرَّابِعُ: كُنْتَ عَائِلًا عَنِ الْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ، وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ فَأَغْنَاكَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الْعَائِلِ: أَنْتَ كَنْتَ كَثِيرَ الْعِيَالِ وَهُمُ الْأُمَّةُ، فَكَفَاكَ. وَقِيلَ فَأَغْنَاهُمْ بِكَ لِأَنَّهُمْ فُقَرَاءُ
(١) هكذا في الأصل ولعله يعني قرئ: ووجدك عيلا تشديد لياء مع كسرها كما قرئ: سيحات كذلك في قوله تعالى: سائِحاتٍ [التحريم: ٥]. والله أعلم الصاوي.
بِسَبَبِ جَهْلِهِمْ، وَأَنْتَ صَاحِبُ الْعِلْمِ، فَهَدَاهُمْ عَلَى يدك، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى اخْتَارَ لَهُ الْيُتْمَ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ الْيَتَامَى فَيَقُومَ بِحَقِّهِمْ وَصَلَاحِ أَمْرِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ كَانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَشْبَعُ. فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ: فَقَالَ أَخَافُ إِنْ أَشْبَعَ فَأَنْسَى الْجِيَاعَ وَثَانِيهَا: لِيَكُونَ الْيَتِيمُ مُشَارِكًا لَهُ فِي الِاسْمِ فَيُكْرَمَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا سَمَّيْتُمُ الْوَلَدَ مُحَمَّدًا فَأَكْرِمُوهُ، وَوَسِّعُوا لَهُ فِي الْمَجْلِسِ»
وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ أَبٌ أَوْ أُمٌّ كَانَ اعْتِمَادُهُ عَلَيْهِمَا، فَسَلَبَ عنه الولدان حَتَّى لَا يَعْتَمِدَ مِنْ أَوَّلِ صِبَاهُ إِلَى آخِرِ عُمُرِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَى اللَّهِ، فَيَصِيرُ فِي طُفُولِيَّتِهِ مُتَشَبِّهًا بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي، عِلْمُهُ بِحَالِي، وَكَجَوَابِ مَرْيَمُ: أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: ٣٧]. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّ الْيَتِيمَ لَا تُخْفَى عُيُوبُهُ بَلْ تَظْهَرُ، وَرُبَّمَا زَادُوا عَلَى الْمَوْجُودِ فَاخْتَارَ تَعَالَى له اليتيم، لِيَتَأَمَّلَ كُلُّ أَحَدٍ فِي أَحْوَالِهِ، ثُمَّ لَا يَجِدُوا عَلَيْهِ عَيْبًا فَيَتَّفِقُونَ عَلَى نَزَاهَتِهِ، فَإِذَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لِلرِّسَالَةِ لَمْ يَجِدُوا عَلَيْهِ مَطْعَنًا وَخَامِسُهَا: جَعَلَهُ يَتِيمًا لِيَعْلَمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ فَضِيلَتَهُ مِنَ اللَّهِ ابْتِدَاءً لِأَنَّ الَّذِي لَهُ أَبٌ، فَإِنَّ أَبَاهُ يَسْعَى فِي تَعْلِيمِهِ وَتَأْدِيبِهِ وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْيُتْمَ وَالْفَقْرَ نَقْصٌ فِي حَقِّ/ الْخَلْقِ، فَلَمَّا صَارَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مَعَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ أَكْرَمَ الْخَلْقِ، كَانَ ذَلِكَ قَلْبًا لِلْعَادَةِ، فَكَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُعْجِزَاتِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ؟ الْجَوَابُ: الْحِكْمَةُ أَنْ لَا يَنْسَى نَفْسَهُ فَيَقَعَ فِي الْعُجْبِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ:
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «سَأَلْتُ رَبِّي مَسْأَلَةً وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَسْأَلْهَا، قُلْتُ: اتَّخَذْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَكَلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَسَخَّرْتَ مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ، وَأَعْطَيْتَ سُلَيْمَانَ كَذَا وَكَذَا، وَأَعْطَيْتَ فَلَانًا كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: أَلَمْ أَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَيْتُكَ؟ أَلَمْ أَجِدْكَ ضَالًّا فَهَدَيْتُكَ؟ أَلَمْ أَجِدْكَ عَائِلًا فَأَغْنَيْتُكَ؟ قُلْتُ: بَلَى.
فَقَالَ: أَلَمْ أَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: أَلَمْ أَرْفَعْ لَكَ ذِكْرَكَ؟ قُلْتُ: بَلَى! قَالَ: أَلَمْ أَصْرِفْ عَنْكَ وِزْرَكَ؟
قُلْتُ: بَلَى، أَلَمْ أُوتِكَ مَا لَمْ أُوتِ نَبِيًّا قبلك وهي خواتيم سورة البقرة؟ أم أَتَّخِذْكَ خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذْتُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا؟»

فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْحَدِيثُ قُلْنَا: طَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْخَبَرِ فَقَالَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَا يَسْأَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ إِذْنٍ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنَّ يَقَعَ مِنَ الرَّسُولِ مِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ. وَيَكُونُ مِنْهُ تَعَالَى مَا يَجْرِي مجرى المعاتبة.
[سورة الضحى (٩٣) : آية ٩]
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩)
وَقُرِئَ فَلَا تَكْهَرْ، أَيْ لَا تَعْبَسْ وَجْهَكَ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى عَامِلْهُ بمثل ما عاملتك بِهِ، وَنَظِيرُهُ مِنْ وَجْهٍ:
وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [الْقَصَصِ: ٧٧] وَمِنْهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اللَّهَ اللَّهَ فِيمَنْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا اللَّهُ»
وَرُوِيَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ صَاحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَلَدِ خَدِيجَةَ
وَمِنْهُ
حَدِيثُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ: «قَالَ: إِلَهِي بِمَ نِلْتُ مَا نِلْتُ؟ قَالَ: أَتَذْكُرُ حِينَ هَرَبَتْ مِنْكَ السَّخْلَةُ، فَلَمَّا قَدَرْتَ عَلَيْهَا قُلْتَ: أَتْعَبْتِ نَفْسَكِ ثُمَّ حَمَلْتَهَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ جَعَلْتُكَ وَلِيًّا عَلَى الْخَلْقِ،
فَلَمَّا نَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ النُّبُوَّةَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الشَّاةِ فَكَيْفَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْيَتِيمِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْعِتَابُ بِمُجَرَّدِ الصِّيَاحِ أَوِ الْعُبُوسِيَّةِ فِي الْوَجْهِ، فَكَيْفَ إِذَا أَذَلَّهُ أَوْ أَكَلَ مَالَهُ،
عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا بَكَى الْيَتِيمُ وَقَعَتْ دُمُوعُهُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ، وَيَقُولُ تَعَالَى: مَنْ أَبْكَى هَذَا الْيَتِيمَ الَّذِي وَارَيْتُ وَالِدَهُ التراب، من أسكته فله الجنة»
.
ثم قال تعالى:
[سورة الضحى (٩٣) : آية ١٠]
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠)
يُقَالُ: نَهَرَهُ وَانْتَهَرَهُ إِذَا اسْتَقْبَلَهُ بِكَلَامٍ يَزْجُرُهُ، وَفِي الْمُرَادِ مِنَ السَّائِلِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَنْ يَسْأَلُ الْعِلْمَ وَنَظِيرُهُ مِنْ وَجْهٍ: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى [عَبَسَ: ١، ٢] وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ التَّرْتِيبُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ أَوَّلًا: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى [الضُّحَى: ٦- ٨] ثُمَّ اعْتَبَرَ هَذَا التَّرْتِيبَ، فَأَوْصَاهُ بِرِعَايَةِ حَقِّ الْيَتِيمِ، ثُمَّ بِرِعَايَةِ حَقِّ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنِ الْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ، ثُمَّ أَوْصَاهُ بِشُكْرِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ/ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مُطْلَقُ السَّائِلِ وَلَقَدْ عَاتَبَ اللَّهُ رَسُولَهُ فِي الْقُرْآنِ فِي شَأْنِ الْفُقَرَاءِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا وَحَوْلَهُ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ، إِذْ جَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الضَّرِيرُ، فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: عَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَعَبَسَ وَجْهُهُ فنزل عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس: ١]، وَالثَّانِي: حِينَ قَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: لَوْ جَعَلْتَ لَنَا مَجْلِسًا وَلِلْفُقَرَاءِ مَجْلِسًا آخَرَ فَهَمَّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الْكَهْفِ: ٢٨] وَالثَّالِثُ:
كَانَ جَالِسًا فجاءه عثمان بعذق من ثمر فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ فَوَقَفَ سَائِلٌ بِالْبَابِ، فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا يَرْحَمُنَا، فَأَمَرَ بِدَفْعِهِ إِلَى السَّائِلِ فَكَرِهَ عُثْمَانُ ذَلِكَ، وَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَخَرَجَ وَاشْتَرَاهُ مِنَ السَّائِلِ، ثُمَّ رَجَعَ السَّائِلُ فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَكَانَ يُعْطِيهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسَائِلٌ أَنْتَ أَمْ بَائِعٌ؟ فنزل: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ.
ثم قوله تعالى:
[سورة الضحى (٩٣) : آية ١١]
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١)
وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ: تِلْكَ النِّعْمَةُ هِيَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ أَعْظَمُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالتَّحْدِيثُ بِهِ أَنْ يَقْرَأَهُ وَيُقْرِئَ غَيْرَهُ وَيُبَيِّنَ حَقَائِقَهُ لَهُمْ وَثَانِيهَا: رُوِيَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ هِيَ النُّبُوَّةُ، أَيْ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَثَالِثُهَا: إِذَا وَفَّقَكَ اللَّهُ فَرَاعَيْتَ حَقَّ الْيَتِيمِ وَالسَّائِلِ، وَذَلِكَ التَّوْفِيقُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْكَ فَحَدِّثْ بِهَا لِيَقْتَدِيَ بِكَ غَيْرُكَ، وَمِنْهُ مَا
رُوِيَ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السلام أنه قال: إذا عملت خَيْرًا فَحَدِّثْ إِخْوَانَكَ لِيَقْتَدُوا بِكَ،
إِلَّا أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ رِيَاءً، وَظَنَّ أَنَّ غَيْرَهُ يَقْتَدِي بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ
لَمَّا سُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الصَّحَابَةِ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ وَذَكَرَ خِصَالَهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: فَحَدِّثْنَا عَنْ نَفْسِكَ فَقَالَ: مَهْلًا، فَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنِ التَّزْكِيَةِ فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ فَقَالَ:
فَإِنِّي أُحَدِّثُ، كُنْتُ إِذَا سُئِلْتُ أَعْطَيْتُ وَإِذَا سَكَتُّ ابْتَدَيْتُ، وَبَيْنَ الْجَوَانِحِ عِلْمٌ جَمٌّ فَاسْأَلُونِي،
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْحِكْمَةُ فِي أَنْ أَخَّرَ اللَّهُ تَعَالَى حَقَّ نَفْسِهِ عَنْ حَقِّ الْيَتِيمِ وَالْعَائِلِ؟ قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ يَقُولُ أَنَا غَنِيٌّ وَهُمَا مُحْتَاجَانِ وَتَقْدِيمُ حَقِّ الْمُحْتَاجِ أَوْلَى وَثَانِيهَا: أَنَّهُ وَضَعَ فِي حَظِّهِمَا الْفِعْلَ وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْقَوْلِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ اسْتِغْرَاقُ الْقَلْبِ فِي ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَجَعَلَ خَاتِمَةَ هَذِهِ الطَّاعَاتِ تَحَدُّثَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى تَكُونَ خَتْمُ الطَّاعَاتِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَاخْتَارَ قَوْلَهُ: فَحَدِّثْ عَلَى قَوْلِهِ فَخَبِّرْ، لِيَكُونَ ذَلِكَ حَدِيثًا عند لَا يَنْسَاهُ، وَيُعِيدَهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.
تم الجزء الحادي والثلاثون ويتلوه الجزء الثاني والثلاثون. وأوله تفسير سورة الإنشراح.
سورة الضحى
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الضُّحى) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (الفجر)، وقد افتُتحت بقَسَمِ الله عز وجل بـ(الضُّحى)، وقد نزلت بسببِ قول المشركين: إن اللهَ عز وجل قد ودَّعَ مُحمَّدًا صلى الله عليه وسلم؛ أي: ترَكَه، بعدما أبطأ جِبْريلُ في النزول عليه صلى الله عليه وسلم، فأخبره اللهُ عز وجل بهذه السورة أنَّ اللهَ معه، وناصرُه، وكافيه، ومعطيه عطاءً يَلِيقُ بجلال الله عز وجل.

ترتيبها المصحفي
93
نوعها
مكية
ألفاظها
40
ترتيب نزولها
11
العد المدني الأول
11
العد المدني الأخير
11
العد البصري
11
العد الكوفي
11
العد الشامي
11

* قوله تعالى: {وَاْلضُّحَىٰ ١ وَاْلَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ ٢ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ} [الضحى: 1-3]:

عن جُنْدُبِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنه، قال: «أبطَأَ جِبْريلُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال المشركون: قد وُدِّعَ مُحمَّدٌ؛ فأنزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَاْلضُّحَىٰ ١ وَاْلَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ ٢ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ} [الضحى: 1-3]». أخرجه مسلم (١٧٩٧).

* قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰٓ} [الضحى: 5]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «عُرِضَ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما هو مفتوحٌ على أُمَّتِه مِن بعدِه كَفْرًا كَفْرًا، فسُرَّ بذلك؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰٓ} [الضحى: 5]، قال: فأعطاه في الجَنَّةِ ألفَ قَصْرٍ، في كلِّ قَصْرٍ ما ينبغي له مِن الأزواجِ والخَدَمِ». أخرجه الطبراني (١٠٦٥٠).

* سورة (الضُّحى):

سُمِّيت سورة (الضُّحى) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقَسَمِ الله عزَّ وجلَّ بـ(الضُّحى).

1. بيان لبعض حاله عليه السلام، ومكانته (١-٥).

2. دلائل الرعاية، وحقها (٦-١١).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /202).

مقصد سورة (الضُّحى) هو إبطالُ قول المشركين إذ زعَموا أنَّ ما يأتي من الوحيِ للنبي صلى الله عليه وسلم قد انقطَع عنه، وبشارةُ اللهِ للنبي صلى الله عليه وسلم بالعطاء العظيم منه عز وجل.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /394).

يَا رَبِّ رُدَّ وَلَدِي مُحَمَّدَا ارْدُدْهُ رَبِّي وَاصْطَنِعْ عِنْدِي يَدَا