هذه السورة مكية، قال ابن عطية : بلا خلاف، وذكر الماوردي : إلا ﴿ قل للذين آمنوا يغفروا ﴾ الآية، فمدنية نزلت في عمر بن الخطاب.
قال ابن عباس، وقتادة، وقال النحاس، والمهدوي، عن ابن عباس : نزلت في عمر : شتمه مشرك بمكة قبل الهجرة، فأراد أن يبطش به، فنزلت.
ومناسبة أولها لآخر ما قبلها في غاية الوضوح. قال :﴿ فإنما يسرناه بلسانك ﴾ وقال :﴿ حم تنزيل الكتاب ﴾،
ﰡ
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١ الى ٣٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤)وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩)
مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هَذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩)
هَذَا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤)
ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧)
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِلَا خلاف، وذكر الماوردي: إلا قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا الْآيَةَ، فَمَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَقَالَ النَّحَّاسُ، وَالْمَهْدَوِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي عُمَرَ: شَتَمَهُ مُشْرِكٌ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ، فَنَزَلَتْ. وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِهَا لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ. قَالَ: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ «١»، وَقَالَ: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ «٢»، أَوَّلَ الزُّمُرِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَقَوْلُهُ: الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، يَجُوزُ جَعْلُهُ صِفَةً لِلَّهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ حَقِيقَةً وَإِنْ جَعَلْنَاهُ صِفَةً لِلْكِتَابِ، كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا وَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى مِنَ الْمَجَازِ، مَعَ أَنَّ زِيَادَةَ الْقُرْبِ تُوجِبُ الرُّجْحَانِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي رَدَّدَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ جَعَلْنَاهُ صِفَةً لِلْكِتَابِ لَا يَجُوزُ. لَوْ كَانَ صِفَةً لِلْكِتَابِ لَوَلِيَهُ، فَكَانَ يَكُونُ
(٢) سورة الزمر: ٣٩/ ١.
إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ: في خلق السموات، كَقَوْلِهِ: وَفِي خَلْقِكُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُرَادُ التَّخْصِيصُ بالخلق، بل في السموات وَالْأَرْضِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، أَيْ فِي أَيِّ شَيْءٍ نَظَرْتَ مِنْهُمَا مِنْ خَلْقٍ وَغَيْرِهِ، مِنْ تَسْخِيرٍ وَتَنْوِيرٍ وَغَيْرِهِمَا، لَآياتٍ: لَمْ يَأْتِ بِالْآيَاتِ مُفَصَّلَةً، بَلْ أَتَى بِهَا مُجْمَلَةً، إِحَالَةً عَلَى غَوَامِضَ يُثِيرُهَا الْفِكْرُ وَيُخْبِرُ بِكَثِيرٍ مِنْهَا الشَّرْعُ. وَجَعَلَهَا لِلْمُؤْمِنِينَ، إِذْ فِي ضِمْنِ الْإِيمَانِ الْعَقْلُ وَالتَّصْدِيقُ.
وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ، أَيْ فِي غَيْرِ جِنْسِكُمْ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى: وَفِي خَلْقِكُمْ. وَمَنْ أَجَازَ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَخْفُوضِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْخَافِضِ، أَجَازَ فِي وَما يَبُثُّ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الضمير وَفِي خَلْقِكُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَيُونُسَ، وَالْأَخْفَشِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ الشلوبين. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَقْبُحُ الْعَطْفُ عَلَيْهِ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، قَالَ: وَكَذَلِكَ أَنْ أَكَّدُوهُ كَرِهُوا أَنْ يَقُولُوا: مَرَرْتُ بِكَ أَنْتَ وَزَيْدٍ. انْتَهَى. وَهَذَا يُجِيزُهُ الْجَرْمِيُّ وَالزِّيبَارِيُّ فِي الْكَلَامِ، وَقَالَ:
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ: وَهُمُ الَّذِينَ لَهُمْ نَظَرٌ يُؤَدِّيهِمْ إِلَى الْيَقِينِ.
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: آيَاتٌ، جَمْعًا بِالرَّفْعِ فِيهِمَا وَالْأَعْمَشُ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ: بِالنَّصْبِ فِيهِمَا وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِرَفْعِهِمَا عَلَى التَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ:
لَآيَاتٍ فِيهِمَا، كَالْأُولَى. فَأَمَّا: آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ رَفْعًا وَنَصْبًا، فَاسْتَدَلَّ بِهِ وَشِبْهِهِ مِمَّا جَاءَ فِي كَلَامِ الْأَخْفَشِ، وَمَنْ أَخَذَ بِمَذْهَبِهِ عَلَى عَطْفِ مَعْمُولَيْ عَامِلَيْنِ بِالْوَاوِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ فِيهَا أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ، ذَكَرْنَاهَا فِي (كِتَابِ التَّذْيِيلِ وَالتَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ). فَأَمَّا مَا يَخُصُّ هَذِهِ الْآيَةَ، فَمَنْ نصب آيات بالواو عطفت، وَاخْتِلَافِ عَلَى الْمَجْرُورِ بِفِي قَبْلَهُ وَهُوَ: وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ، وَعَطَفَ آيَاتٍ عَلَى آيَاتٍ، وَمَنْ رَفَعَ فَكَذَلِكَ، وَالْعَامِلَانِ أُولَاهُمَا إِنَّ وَفِي، وَثَانِيهِمَا الِابْتِدَاءُ وَفِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُقِيمَتِ الْوَاوُ مَقَامَهُمَا، فَعَمِلَتِ الْجَرَّ، وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالنَّصْبَ فِي آيَاتٍ، وَإِذَا رُفِعَتْ وَالْعَامِلَانِ الِابْتِدَاءُ، وَفِي عَمِلَتِ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُنْصِفِينَ مِنَ الْعِبَادِ، إِذَا نظروا في السموات وَالْأَرْضِ النَّظَرَ الصَّحِيحَ، عَلِمُوا أَنَّهَا مَصْنُوعَةٌ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مَنْ صَانِعٍ، فَآمَنُوا بِاللَّهِ وَأَقَرُّوا. فَإِذَا نَظَرُوا فِي خَلْقِ أَنْفُسِهِمْ وَتَنَقُّلِهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَهَيْئَةٍ إِلَى هَيْئَةٍ، وفي خَلْقِ مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِنْ صُنُوفِ الْحَيَوَانِ، ازْدَادُوا إِيمَانًا وَأَيْقَنُوا وَانْتَفَى عَنْهُمُ اللَّبْسَ. فَإِذَا نَظَرُوا فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، كَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَنُزُولِ الْأَمْطَارِ، وَحَيَاةِ الْأَرْضِ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا، وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ جَنُوبًا وَشَمَالًا وَقَبُولًا وَدَبُورًا، عَقَلُوا وَاسْتَحْكَمَ عِلْمُهُمْ وَخَلَصَ يَقِينُهُمْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: ذَكَرَ فِي الْبَقَرَةِ ثَمَانِيَةَ دَلَائِلَ، وَهُنَا سِتَّةً لَمْ يَذْكُرِ الْفُلْكَ وَالسَّحَابَ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَدَارَ الْحَرَكَةِ لِلْفُلْكِ وَالسَّحَابِ عَلَى الرِّيَاحِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَذَكَرَ الرِّيَاحَ وَهُنَاكَ جَعَلَ مَقْطَعَ الثَّمَانِيَةِ وَاحِدًا، وَهُنَا رَتَّبَهَا عَلَى مَقَاطِعَ ثَلَاثَةٍ:
يُؤْمِنُونَ، يُوقِنُونَ، يَعْقِلُونَ. قَالَ: وَأَظُنُّ سَبَبَ هَذَا التَّرْتِيبِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «١»، فَافْهَمُوا هَذِهِ الدَّلَائِلَ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَلَا مُوقِنِينَ، فَلَا أَقَلَّ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الْعَاقِلِينَ، فَاجْتَهِدُوا. وَقَالَ هُنَاكَ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ «٢»، وَهُنَا: فِي السَّماواتِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَلَا تَفَارُقَ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ: فِي السموات، وفي خلق السموات. انْتَهَى، وَفِيهِ تَلْخِيصٌ وَتَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ.
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ: أَيْ تِلْكَ الْآيَاتُ، وَهِيَ الدَّلَائِلُ الْمَذْكُورَةُ نَتْلُوها: أَيْ نَسْرُدُهَا عَلَيْكَ مُلْتَبِسَةً بِالْحَقِّ، وَنَتْلُوهَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ مَتْلُوَّةً. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَالْعَامِلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ تِلْكَ مِنْ مَعْنَى الْإِشَارَةِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا. انتهى، وليس نحوه،
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٦٤، وفي غيرها من الآيات.
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ الْآيَةَ، فِيهِ تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ وَتَهْدِيدٌ بَعْدَ اللَّهِ: أَيْ بَعْدَ حَدِيثِ اللَّهِ، وَهُوَ كِتَابُهُ وَكَلَامُهُ، كَقَوْلِهِ: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً «١» وَقَالَ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ «٢» أَيْ بَعْدَ حَدِيثِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بَعْدَ تَوْحِيدُ اللَّهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، أَيْ بَعْدَ آيَاتِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِمْ: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ، يُرِيدُونَ: أَعْجَبَنِي كَرَمُ زَيْدٍ. انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِقْحَامَ الْأَسْمَاءِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَالْعَطْفُ وَالْمُرَادُ غَيْرُ الْعَطْفِ مِنْ إِخْرَاجِهِ إِلَى بَابِ الْبَدَلِ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ كَرَمُ زَيْدٍ إِنَّمَا يَكُونُ فِي: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وكرمه، بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى الْبَدَلِ وَهَذَا قَلْبٌ لِحَقَائِقِ النَّحْوِ. وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِي: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ، أَنَّ ذَاتَ زَيْدٍ أَعْجَبَتْهُ، وَأَعْجَبَهُ كَرَمُهُ فَهُمَا إِعْجَابَانِ لَا إِعْجَابٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ مِثْلَ قَوْلِهِ هَذَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَشَيْبَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ: يُؤْمِنُونَ، بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتٍ وَالْأَعْمَشُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِتَاءِ الْخِطَابِ وَطَلْحَةُ: تُوقِنُونَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقٍ، وَالْقَافِ مِنَ الْإِيقَانِ.
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، قِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَقِيلَ: فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَرْثِ وَمَا كَانَ يَشْتَرِي مِنْ أَحَادِيثِ الْأَعَاجِمِ وَيَشْغَلُ بِهَا النَّاسَ عَنِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ. وَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِيمَنْ كَانَ مُضَارًّا لِدِينِ اللَّهِ وَأَفَّاكٌ أَثِيمٌ، صِفَتَا مُبَالَغَةٍ وَأَلْفَاظُ هَذِهِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلِمَ وَقَتَادَةُ وَمَطَرٌ الْوَرَّاقُ: بِضَمِّ الْعَيْنِ وَشَدِّ اللَّامِ مَبْنِيًّا للمفعول، أي
(٢) سورة المرسلات: ٧٧/ ٥٠.
قُلْتُ: كَمَعْنَاهُ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ:
يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا وَذَلِكَ بِأَنَّ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ حَقِيقَةٌ بِأَنْ يَنْجُوَ رَائِيهَا بِنَفْسِهِ وَيَطْلُبَ الْفِرَارَ مِنْهَا، وَأَمَّا زِيَارَتُهَا وَالْإِقْدَامُ عَلَى مُزَاوَلَتِهَا، فَأَمْرٌ مُسْتَبْعَدٌ. فَمَعْنَى ثُمَّ: الْإِيذَانُ بِأَنَّ فِعْلَ الْمُقَدَّمِ عليها، بعد ما رَآهَا وَعَايَنَهَا، شَيْءٌ يُسْتَبْعَدُ فِي الْعَادَةِ وَالطِّبَاعِ، وَكَذَلِكَ آيَاتُ اللَّهِ الْوَاضِحَةُ الْقَاطِعَةُ بِالْحَقِّ، مَنْ تُلِيَتْ عَلَيْهِ وَسَمِعَهَا، كَانَ مُسْتَبْعَدًا فِي الْعُقُولِ إِصْرَارُهُ عَلَى الضَّلَالَةِ عِنْدَهَا وَاسْتِكْبَارُهُ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا. اتَّخَذَها هُزُواً، وَلَمْ يَقُلْ: اتَّخَذَهُ، إِشْعَارًا بِأَنَّهُ إِذَا أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَاضَ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِجَمِيعِ الْآيَاتِ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِمَا بَلَغَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُحْتَمَلُ وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً، يُمْكِنُ أَنْ يَتَشَبَّثَ بِهِ الْمُعَانِدُ وَيَجْعَلَهُ مَحْمَلًا يَتَسَلَّقُ بِهِ عَلَى الطَّعْنِ والغميزة، افترصه وَاتَّخَذَ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا، وذلك نحو افتراص ابْنِ الزِّبَعْرَى قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «١»، وَمُغَالَطَتِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلِهِ: خَصَمْتُكَ وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى شَيْءٍ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ كَقَوْلِ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ:
نَفْسِي بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا مُعَلَّقَةٌ | اللَّهُ وَالْقَائِمُ الْمَهْدِيُّ يَكْفِيهَا |
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ الْآيَةَ: آيَةُ اعْتِبَارٍ فِي تَسْخِيرِ هَذَا الْمَخْلُوقِ الْعَظِيمِ، وَالسُّفُنِ الْجَارِيَةِ فِيهِ بِهَذَا الْمَخْلُوقِ الْحَقِيرِ، وَهُوَ الْإِنْسَانُ. بِأَمْرِهِ: أَيْ بِقُدْرَتِهِ. أَنَابَ الْأَمْرَ مناب
(٢) سورة المؤمنون: ٢٣/ ٥٣.
.
هِيَ جَمِيعًا مِنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ: وَمَا فِي الْأَرْضِ، مُبْتَدَأً، وَمِنْهُ خَبَرَهُ. انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ هَذَانِ الْوَجْهَانِ إِلَّا عَلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ، لِأَنَّ جَمِيعًا إِذْ ذَاكَ حَالٌ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فَهُوَ نَظِيرُ: زَيْدٌ قَائِمًا فِي الدَّارِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ.
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا: نَزَلَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ. أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْكُفَّارِ، وَأَنْ لَا يُعَاقِبُوهُمْ بِذَنْبٍ، بَلْ يَصْبِرُونَ لَهُمْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، قِيلَ:
وَهِيَ مُحْكَمَةٌ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفُ. يَغْفِرُوا، فِي جَزْمِهِ أَوْجُهٌ لِلنُّحَاةِ، تَقَدَّمَتْ فِي: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ «١» فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ. لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ: أَيْ وَقَائِعَهُ بِأَعْدَائِهِ وَنِقْمَتَهُ مِنْهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَقِيلَ أَيَّامُ إِنْعَامِهِ وَنَصْرِهِ وَتَنْعِيمِهِ فِي الْجَنَّةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: لَا يَأْمُلُونَ الْأَوْقَاتَ الَّتِي وَقَّتَهَا اللَّهُ لِثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَعْدِهِمُ الْفَوْزَ. قِيلَ: نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ الْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَ حُكْمُهَا. وَتَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قِيلَ: سَبَّهُ رَجُلٌ مِنَ الْكُفَّارِ، فَهَمَّ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِيَجْزِيَ اللَّهِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْأَعْمَشُ، وَأَبُو عُلَيَّةَ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِالنُّونِ وَشَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِخِلَافٍ عَنْهُ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ عَاصِمٍ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَجَازَ بِنَاءَ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، عَلَى أَنْ يُقَامَ الْمَجْرُورُ، وَهُوَ بِمَا،
مَنْ عَمِلَ صالِحاً كَهَؤُلَاءِ الْغَافِرِينَ، وَمَنْ أَساءَ كَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، وَأَتَى بِاللَّامِ فِي فَلِنَفْسِهِ، لِأَنَّ الْمَحَابَّ وَالْحُظُوظَ تُسْتَعْمَلُ فِيهَا عَلَى الدَّالَّةُ عَلَى الْعُلُوِّ وَالْقَهْرِ، كَمَا تَقُولُ:
الْأُمُورُ لزيد متأنية وَعَلَى عَمْرٍو مُسْتَصْعَبَةٌ. وَالْكِتَابُ: التوراة، والحكم: الفضاء، وَفَصْلُ الْأُمُورِ لِأَنَّ الْمُلْكَ كَانَ فِيهِمْ. قِيلَ: وَالْحُكْمُ: الْفِقْهُ. وَيُقَالُ: لَمْ يَتَّسِعْ فِقْهُ الْأَحْكَامِ عَلَى نَبِيٍّ، كَمَا اتَّسَعَ عَلَى لِسَانِ مُوسَى مِنَ الطَّيِّبَاتِ الْمُسْتَلَذَّاتِ الْحَلَالِ، وَبِذَلِكَ تَتِمُّ النِّعْمَةُ، وَذَلِكَ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى وَطَيِّبَاتُ الشَّامِ، إِذْ هِيَ الْأَرْضُ الْمُبَارَكَةُ. بَيِّنَاتٍ: أَيْ دَلَائِلَ وَاضِحَةً مِنَ الْأَمْرِ، أَيْ مِنْ الْوَحْيِ الَّذِي فُصِلَتْ بِهِ الْأُمُورُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ الْأَمْرِ، أَيْ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ يُهَاجِرُ مِنْ تِهَامَةَ إِلَى يَثْرِبَ. وَقِيلَ مُعْجِزَاتُ مُوسَى. فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ في الشورى.
ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ، هَذَا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ، وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
الْمَوْضِعُ الَّذِي يَرِدُ فِيهِ النَّاسُ فِي الْأَنْهَارِ وَالْمِيَاهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَفِي الشَّرَائِعِ مِنْ جيلان مقتنص | رب الثِّيَابِ خَفِيُّ الشَّخْصِ مُنْسَرِبُ |
وَقِيلَ: رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ، حين قالوا: أرجع إِلَى دِينِ آبَائِكَ. هَذَا بَصائِرُ: أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ جَعَلَ مَا نَافِيَةً مِنْ مَعَالِمِ الدِّينِ، بَصَائِرُ لِلْقُلُوبِ، كَمَا جُعِلَ رُوحًا وَحَيَاةً. وقرىء: هَذِي، أَيْ هَذِهِ الْآيَاتُ. أَمْ حَسِبَ
: أَمْ مُنْقَطِعَةٌ تَتَقَدَّرُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ، وَحَمْزَةَ، وعبيدة بن الحرث، وَفِي عُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ.
قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: وَاللَّهِ مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَلَئِنْ كَانَ مَا تَقُولُونَ حَقًّا، لَحَالُنَا أَفْضَلُ مِنْ حَالِكُمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا هُوَ أَفْضَلُ فِي الدُّنْيَا. وَاجْتَرَحُوا: اكْتَسَبُوا، وَالسَّيِّئَاتُ: هُنَا سَيِّئَاتُ الْكُفْرِ وَنَجْعَلُهُمْ: نُصَيِّرُهُمْ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي هُوَ كَالَّذِينَ، وَبِهِ تَمَامُ الْمَعْنَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَوَاءٌ بِالرَّفْعِ، وَمَمَاتُهُمْ بِالرَّفْعِ أَيْضًا وَأَعْرَبُوا سَوَاءٌ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَلَا مُسَوِّغَ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِهِ، بَلْ هُوَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَمَا بَعْدَهُ الْمُبْتَدَأُ. وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ مُسْتَأْنَفٌ وَاحْتَمَلَ الضَّمِيرُ فِي مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
أَنْ يَعُودَ عَلَى الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
، أَخْبَرَ أَنَّ حَالَهُمْ فِي الزَّمَانَيْنِ سَوَاءٌ، وَأَنْ يَعُودَ عَلَى الْمُجْتَرِحِينَ وَالصَّالِحِينَ بِمَعْنَى: أَنَّ مَحْيَا الْمُؤْمِنِينَ وَمَمَاتَهُمْ سَوَاءٌ فِي إِهَانَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ وَعَدَمِ كَرَامَتِهِمْ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ اللَّفْظُ قَدْ لَفَّ هَذَا الْمَعْنَى، وَذِهْنُ السَّامِعِ يُفَرِّقُهُ، إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ إِبْعَادُ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَ هَؤُلَاءِ كَهَؤُلَاءِ. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: يُبْعَثُ النَّاسُ عَلَى مَا مَاتُوا عَلَيْهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا وَيُبْعَثُ مُؤْمِنًا ٧ وَالْكَافِرُ يَمُوتُ كَافِرًا وَيُبْعَثُ كَافِرًا.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مُقْتَضَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَفْظُ الْآيَةِ وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ قَوْلَهُ: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
دَاخِلٌ فِي الْمُحْسِنَةِ الْمُنْكِرَةِ السَّيِّئَةَ، وَهَذَا احْتِمَالٌ حَسَنٌ، وَالْأَوَّلُ أَيْضًا
وَتَبَيَّنَ مِنْ كَلَامِ هَذَا الْإِمَامِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ بَدَلًا مِنَ الْمُفْرَدِ، وَأَمَّا تَجْوِيزُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنْ نَجْعَلَهُمْ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ، فَيَظْهَرُ لِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ. لَا يَجُوزُ صَيَّرْتُ زَيْدًا أَبُوهُ قَائِمٌ، وَلَا صَيَّرْتُ زَيْدًا غُلَامُهُ مُنْطَلِقٌ، لِأَنَّ التَّصْيِيرَ انْتِقَالٌ مِنْ ذَاتٍ إِلَى ذَاتٍ، أَوْ مِنْ وَصْفٍ فِي الذَّاتِ إِلَى وَصْفٍ فِيهَا. وَتِلْكَ الْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ بَعْدَ مَفْعُولٍ صَيَّرَتِ الْمُقَدَّرَةَ مَفْعُولًا ثَانِيًا، لَيْسَ فِيهَا انْتِقَالٌ مِمَّا ذَكَرْنَا، فَلَا يَجُوزُ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ إِذَا قُلْنَا بِتَشَبُّثِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا، أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمْ حَسِبَ الْكُفَّارُ أَنْ نُصَيِّرَهُمْ مِثْلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَالِ اسْتِوَاءِ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ؟ لَيْسُوا كَذَلِكَ، بَلْ هُمْ مُفْتَرِقُونَ، أَيِ افْتِرَاقٌ فِي الْحَالَتَيْنِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْحَالُ مُبَيِّنَةً مَا انْبَهَمَ فِي الْمِثْلِيَّةِ الدَّالِّ عَلَيْهَا الْكَافُ، الَّتِي هِيَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: سَوَاءً بِالنَّصْبِ، وَمَا بَعْدَهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، أَجْرَى سَوَاءً مُجْرَى مُسْتَوِيًا، كَمَا قَالُوا: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ سَوَاءٌ هُوَ وَالْعَدَمُ. وَجَوَّزَ فِي انْتِصَابِ سَوَاءً وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ، وكالذين الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ، وَالْعَكْسُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: سَوَاءً بِالنَّصْبِ، مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ بِالنَّصْبِ أَيْضًا، وَخُرِّجَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ ظَرْفَيْ زَمَانٍ، وَالْعَامِلُ، إِمَّا أَنْ نَجْعَلَهُمْ، وَإِمَّا سَوَاءً، وَانْتَصَبَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ
وَقَدْ خَلَطَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي نَقْلِ الْقُرْآنِ، وَلَهُ بَعْضُ عُذْرٍ. فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُعْرِبًا، فَقَالَ: وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وَعِيسَى بِخِلَافٍ عَنْهُ: سَوَاءً بِالنَّصْبِ، مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَالْأَعْمَشُ: سَوَاءً بِالنَّصْبِ، مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ بِالنَّصْبِ وَوَجَّهَ كُلًّا من القرائتين عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ صَنْعَةُ الْإِعْرَابِ، وَتَبِعَهُ عَلَى هَذَا الْوَهْمِ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ، وَهُوَ مَعْذُورٌ، لِأَنَّهُ نَاسِخٌ مِنْ كِتَابٍ إِلَى كِتَابٍ وَالصَّوَابُ مَا اسْتَبَنَّاهُ مِنَ الْقِرَاءَاتِ لِمَنْ ذَكَرْنَا.
وَيُسْتَنْبَطُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَبَايُنُ حَالِ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي مِنْ حَالِ الطَّائِعِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْكُفَّارِ، وَتُسَمَّى مَبْكَاةُ الْعَابِدِينَ. وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي ذَاتَ لَيْلَةٍ عِنْدَ الْمَقَامِ، فَبَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ، فَجَعَلَ يَبْكِي وَيُرَدِّدُ إِلَى الصَّبَاحِ: ساءَ مَا يَحْكُمُونَ
. وعن الربيع بن خيثم، أَنَّهُ كَانَ يُرَدِّدُهَا لَيْلَةَ أَجْمَعَ، وَكَذَلِكَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، كَانَ يَقُولُ لِنَفْسِهِ:
لَيْتَ شِعْرِي مِنْ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ أَنْتِ؟ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا لَفْظُهَا فَيُعْطِي أَنَّهُ اجْتِرَاحُ الْكُفْرِ، بِدَلِيلِ مُعَادَلَتِهِ بِالْإِيمَانِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُعَادَلَةُ هِيَ بِالِاجْتِرَاحِ وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ، وَيَكُونُ الْإِيمَانُ فِي الْفَرِيقَيْنِ، وَلِهَذَا بَكَى الْخَائِفُونَ.
ساءَ مَا يَحْكُمُونَ
: هُوَ كَقَوْلِهِ: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا «١»، وَتَقَدَّمَ إِعْرَابُهُ فِي الْبَقَرَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُنَا مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: سَاءَ الْحُكْمُ حُكْمُهُمْ. بِالْحَقِّ: بِأَنَّ خَلْقَهَا حَقٌّ، وَاجِبٌ لِمَا فِيهِ مِنْ فَيْضِ الْخَيْرَاتِ، وَلِيَدُلَّ عَلَيْهِ دَلَالَةَ الصَّنْعَةِ عَلَى الصَّانِعِ.
وَلِتُجْزى: هِيَ لَامُ كَيْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى بِالْحَقِّ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ التَّاءِ وَاللَّامِ يَكُونَانِ لِلتَّعْلِيلِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ».
وَمِنْ حِكْمَةِ الشِّعْرِ قَوْلُ عَنْتَرَةَ، وَهُوَ جَاهِلِيٌّ:
إني امرؤ وسمح الْخَلِيقَةِ مَاجِدٌ | لَا أُتْبِعُ النَّفْسَ اللَّجُوجَ هَوَاهَا |
فَخَالِفْ هَوَاهَا وَاعْصِهَا إِنَّ مَنْ يُطِعْ | هَوَى نَفْسِهِ يَنْزِعُ بِهِ شَرَّ مَنْزَعِ |
وَمَنْ يُطِعِ النَّفْسَ اللَّجُوجَ تَرُدُّهُ | وَتَرْمِ بِهِ فِي مَصْرَعٍ أَيِّ مَصْرَعِ |
.
غِشاوَةً: بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَالْأَعْمَشُ: بِفَتْحِهَا، وَهِيَ لُغَةُ رَبِيعَةَ. وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ أَيْضًا: بِضَمِّهَا، وَهِيَ لُغَةُ عُكْلِيَّةَ. وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَسْعُودِ بْنِ صَالِحٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، غَشْوَةً، بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَسُكُونِ الشِّينِ. وَابْنُ مُصَرِّفٍ، وَالْأَعْمَشُ أَيْضًا: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمَا كَسَرَا العين، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْجُمْلَتَيْنِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَذَكَّرُونَ، بِشَدِّ الذَّالِ وَالْجَحْدَرِيُّ يُخَفِّفُهَا، وَالْأَعْمَشُ: بِتَاءَيْنِ.
وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا «١» : هِيَ مَقَالَةُ بَعْضِ قُرَيْشٍ إِنْكَارًا لِلْبَعْثِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُمْ: نَمُوتُ وَنَحْيا حُكْمٌ عَلَى النَّوْعِ بِجُمْلَتِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ تَقْدِيمِ وَتَأْخِيرٍ، أَيْ تَمُوتُ طَائِفَةٌ وَتَحْيَا طَائِفَةٌ. وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْتِ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ لِلْجَسَدِ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ نَحْيَا وَنَمُوتُ. وَقِيلَ: نَمُوتُ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ لَمْ يُوجَدُوا، وَنَحْيَا: أَيْ فِي وَقْتِ وُجُودِنَا، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ قَبْلَهُ، وَلَا ذِكْرَ لِلْمَوْتِ الَّذِي هُوَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ فِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. وَقِيلَ: تَمُوتُ الْآبَاءُ وَتَحْيَا الْأَبْنَاءُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَنَحْيَا، بِضَمِّ النُّونِ. وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ: أَيْ طُولُ الزَّمَانِ، لِأَنَّ الْآفَاتِ تَسْتَوِي فِيهِ كَمَالَاتُهَا هَذَا إِنْ كَانَ قَائِلُو هَذَا مُعْتَرِفِينَ بِاللَّهِ، فَنَسَبُوا الْآفَاتِ إِلَى الدَّهْرِ بِجَهْلِهِمْ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَلَا يُقِرُّونَ بِهِ، وَهُمُ الدَّهْرِيَّةُ، فَنَسَبُوا ذَلِكَ إِلَى الدَّهْرِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: إِلَّا دَهْرٌ، وَتَأْوِيلُهُ: إِلَّا دَهْرٌ يَمُرُّ. كَانُوا يُضِيفُونَ كُلَّ حَادِثَةٍ إِلَى الدَّهْرِ، وَأَشْعَارُهُمْ نَاطِقَةٌ بِشَكْوَى الدَّهْرِ، حَتَّى يُوجَدَ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي مَقْصُورَتِهِ:
يَا دَهْرُ إِنْ لَمْ تَكُ عُتْبَى فَاتَّئِدْ | فَإِنَّ اروادك والعتبي سواء |
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضرب وجيع أَيْ: مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ أَلْبَتَّةَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حُجَّتَهُمْ بِالنَّصْبِ وَالْحَسَنُ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، فِيمَا رَوَى عَنْهُ عَبْدُ الْحَمِيدِ، وَعَاصِمٌ، فِيمَا رَوَى هَارُونُ وَحُسَيْنُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ
ائْتُوا: يَظْهَرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، إِذْ هُمْ قَائِلُونَ بِمَقَالَتِهِ، أَوْ هُوَ خِطَابٌ لَهُ وَلِمَنْ جَاءَ بِالْبَعْثِ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَغَلَّبَ الْخِطَابَ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ائْتُوا، مِنْ حَيْثُ الْمُخَاطَبَةُ لَهُ وَالْمُرَادُ: هُوَ وَإِلَهُهُ وَالْمَلَكُ الْوَسِيطُ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ لَهُمْ فَجَاءَ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةُ قِيلَ لَهَا ائْتُوا وَإِنْ كُنْتُمْ. انْتَهَى. وَلَمَّا اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ مَا يُهْلِكُهُمْ إِلَّا الدَّهْرُ، وَأَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ بِمَا لَا دَلِيلَ لَهُمْ فِيهِ مِنْ سُؤَالِ إِحْيَاءِ آبَائِهِمْ، رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُحْيِي، وَهُوَ الْمُمِيتُ لَا الدَّهْرُ، وَضَمَّ إِلَى ذَلِكَ آيَةً جَامِعَةً لِلْحِسَابِ يَوْمَ الْبَعْثِ، وَهَذَا وَاجِبُ الِاعْتِرَافِ بِهِ إِنْ أَنْصَفُوا، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى هَذَا قَدَرَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِآبَائِهِمْ.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ، وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ، وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ، وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ، وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ، ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ، وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
الْعَامِلُ فِي وَيَوْمَ تَقُومُ: يخسر، ويَوْمَئِذٍ: بَدَلٌ مِنْ يَوْمٍ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَحَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ فِرْقَةٍ. وَالتَّنْوِينُ فِي يَوْمَئِذٍ تَنْوِينُ الْعِوَضِ عَنْ جُمْلَةٍ، وَلَمْ تَتَقَدَّمْ جُمْلَةٌ إِلَّا قَوْلُهُ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، فَيَصِيرَ التَّقْدِيرُ: وَيَوْمَ تَقُومُ يَوْمَ إِذْ تَقُومُ السَّاعَةُ يَخْسَرُ وَلَا مَزِيدَ فَائِدَةٍ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ إِذْ تَقُومُ السَّاعَةُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنْ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ. فَإِنْ كَانَ بَدَلًا تَوْكِيدِيًّا، وَهُوَ قَلِيلٌ، جَازَ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ الْعَامِلُ: فِي وَيَوْمَ تَقُومُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُلْكُ، قَالُوا: وَذَلِكَ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَالٌ ثَالِثَةٌ لَيْسَتْ
جَاذِيَةً، بِالذَّالِ وَالْجَذْوُ أَشَدُّ اسْتِيفَازًا مِنَ الْجَثْوِ، لِأَنَّ الْجَاذِيَ هُوَ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَاثِيَةً: مُجْتَمِعَةً. وَعَنْ قَتَادَةَ: جَمَاعَاتٍ، مِنَ الْجُثْوَةِ: وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، يُجْمَعُ عَلَى جُثِيٍّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
ترى جثو بين مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا | صَفَائِحُ صُمٌّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدِ |
وَوُضِعَ الْكِتابُ «١»، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ، هَذَا كِتابُنا، هُوَ الَّذِي دُعِيَتْ إِلَيْهِ كُلُّ أُمَّةٍ، وَصَحَّتْ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مَالِكُهُ وَالْآمِرُ بِكَتْبِهِ وَإِلَيْهِمْ، لِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ مُثْبَتَةٌ فِيهِ. وَالْإِضَافَةُ تَكُونُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، فَلِذَلِكَ صَحَّتْ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِمْ وَإِلَيْهِ تَعَالَى.
يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ: يَشْهَدُ بِالْحَقِّ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ: أَيِ الْمَلَائِكَةَ، أَيْ نَجْعَلُهَا تَنْسِخُ، أَيْ تَكْتُبُ. وَحَقِيقَةُ النَّسْخِ نَقْلُ خَطٍّ مِنْ أَصْلٍ يُنَظَمُ فِيهِ، فَأَعْمَالُ الْعِبَادِ كَأَنَّهَا الْأَصْلُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ كَتْبُ الْحَفَظَةِ عَلَى بَنِي آدَمَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَجْعَلُ اللَّهُ الْحَفَظَةَ تَنْسَخُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كُلَّ مَا يَفْعَلُ الْعِبَادُ، ثُمَّ يُمْسِكُونَهُ عِنْدَهُمْ، فَتَأْتِي أَفْعَالُ الْعِبَادِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ، فَبَعِيدٌ أَيْضًا، فَذَلِكَ هُوَ الِاسْتِنْسَاخُ. وَكَانَ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَسْتُمْ عَرَبًا؟ وَهَلْ يَكُونُ الِاسْتِنْسَاخُ إِلَّا مِنْ أَصْلٍ؟ ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ الْمُؤْمِنِ بِأَنَّهُ يُدْخِلُهُ فِي رَحْمَتِهِ، وَهُوَ الثَّوَابُ الَّذِي أَعَدَّ لَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الظَّفَرُ بِالْبُغْيَةِ وَبَيَّنَ الْكَافِرَ بِأَنَّهُ يُوَبَّخُ وَيُقَالُ لَهُ: أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ عَنِ اتِّبَاعِهَا وَالْإِيمَانِ بِهَا وَكُنْتُمْ
وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ: وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَذَلِكَ عَلَى لُغَةِ سَلِيمٍ وَالْجُمْهُورُ: إِنَّ بِكَسْرِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالسَّاعَةُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ لِاسْمِ إِنَّ مَوْضِعًا جَوَّزَ الْعَطْفَ عَلَيْهِ هُنَا، أَوْ زَعَمَ أن لأن وَاسْمِهَا مَوْضِعًا جَوَّزَ الْعَطْفَ عَلَيْهِ، وَبِالْعَطْفِ عَلَى الْمَوْضِعِ لأن وَاسْمِهَا هُنَا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: ذَكَرَهُ فِي الْحُجَّةِ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: وَبِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ إِنَّ وَاسْمِهَا، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ وَحَمْزَةُ:
بالنصب عطفا على وعد اللَّهِ، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَعِيسَى، وَأَبِي حَيْوَةَ، وَالْعَبْسِيِّ، وَالْمُفَضَّلِ. إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا، تَقُولُ: ضَرَبْتُ ضَرْبًا، فَإِنْ نَفَيْتَ، لَمْ تُدْخِلْ إِلَّا، إِذْ لَا يُفَرَّغُ بِالْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ، فَلَا تَقُولُ: مَا ضَرَبْتُ إِلَّا ضَرْبًا، وَلَا مَا قُمْتُ إِلَّا قِيَامًا.
فأما الآية، فتأول عَلَى حَذْفِ وَصْفِ الْمَصْدَرِ حَتَّى يَصِيرَ مُخْتَصًّا لَا مُؤَكَّدًا، وَتَقْدِيرُهُ: إِلَّا ظَنًّا ضَعِيفًا، أَوْ عَلَى تَضْمِينِ نَظُنُّ مَعْنًى نَعْتَقِدُ، وَيَكُونُ ظَنًّا مَفْعُولًا بِهِ. وَقَدْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ عَلَى وَضْعِ إِلَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَقَالَ: التقديران نَحْنُ إِلَّا نَظُنُّ ظَنًّا. وَحُكِيَ هَذَا عَنِ الْمُبَرِّدِ، وَنَظِيرُهُ مَا حَكَاهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَسِيبَوَيْهِ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ:
لَيْسَ الطِّيبُ إِلَّا الْمِسْكُ قَالَ الْمُبَرِّدُ: لَيْسَ إِلَّا الطِّيبُ الْمِسْكُ. انْتَهَى. وَاحْتَاجَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كَوْنُ الْمِسْكِ مَرْفُوعًا بَعْدَ إِلَّا. وَأَنْتَ إِذَا قُلْتَ: مَا كَانَ زَيْدٌ إِلَّا فَاضِلًا نَصَبْتَ، فَلَمَّا وَقَعَ بَعْدَ إِلَّا مَا يَظْهَرُ أَنَّهُ خَبَرُ لَيْسَ، احْتَاجَ أَنْ يُزَحْزِحَ إِلَّا عَنْ مَوْضِعِهَا، وَيَجْعَلَ فِي لَيْسَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ، وَيَرْفَعَ إِلَّا الطِّيبُ الْمِسْكُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، فَيَصِيرَ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ، فِي نَحْوِ: مَا كَانَ إِلَّا زَيْدٌ قَائِمٌ.
وَلَمْ يَعْرِفِ الْمُبَرِّدُ أَنَّ لَيْسَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ عَامَلَتْهَا بَنُو تَمِيمٍ مُعَامَلَةَ مَا، فَلَمْ يُعْمِلُوهَا إِلَّا بَاقِيَةً مَكَانَهَا، وَلَيْسَ غَيْرُ عَامِلِةٍ. وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ حِجَازِيٌّ إِلَّا وَهُوَ يَنْصِبُ فِي نَحْوِ ليس الطيب إلا المسك، وَلَا تَمِيمِيٌّ إِلَّا وَهُوَ يَرْفَعُ. فِي ذَلِكَ حِكَايَةٌ جَرَتْ بَيْنَ عِيسَى بْنِ عُمَرَ وَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، ذَكَرْنَاهَا فِيمَا كَتَبْنَاهُ مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ. وَنَظِيرُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا قَوْلُ الْأَعْشَى:
وَجَدَّ بِهِ الشَّيْبُ أَثْقَالَهُ | وَمَا اغْتَرَّهُ الشَّيْبُ إِلَّا اغْتِرَارًا |