٢ آية ٥ سورة التوبة..
ﰡ
[تفسير سُورَةُ الْجَاثِيَةِ-]
سُورَةُ الْجَاثِيَةِ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَجَابِرٍ وَعِكْرِمَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِلَّا آيَةً، هِيَ:" قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ" «١» [الجاثية: ١٤] نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ وَالنَّحَّاسُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، شَتَمَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. فَأَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ" [الجاثية: ١٤] ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ:" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" «٢» [التوبة: ٥]. فَالسُّورَةُ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ عَلَى هَذَا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. وَهِيَ سَبْعٌ وَثَلَاثُونَ آيَةً. وَقِيلَ سِتٌّ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الجاثية (٤٥): الآيات ١ الى ٢]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢)قَوْلُهُ تَعَالَى:" حم" مُبْتَدَأٌ وَ" تَنْزِيلُ" خَبَرُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:" حم" اسْمُ السُّورَةِ. وَ" تَنْزِيلُ الْكِتابِ" مُبْتَدَأٌ. وَخَبَرُهُ" مِنَ اللَّهِ". والكتاب القرآن. و" الْعَزِيزِ" الْمَنِيعُ." الْحَكِيمِ" فِي فِعْلِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ جميع هذا «٣».
[سورة الجاثية (٤٥): الآيات ٣ الى ٥]
إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥)
(٢). آية ٥ سورة التوبة.
(٣). راجع ج ١ ص ٢٨٧ وج ٢ ص ١٣١ طبعه ثانية.
أَكُلَّ امْرِئٍ تَحْسِبِينَ امْرَأً | وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِاللَّيْلِ «٣» |
(٢). في ل: زيدا وزيدا بزيادة الواو.
(٣). البيت لابي دواد الايادي.
[سورة الجاثية (٤٥): آية ٦]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" تِلْكَ آياتُ اللَّهِ" أَيْ هَذِهِ آيَاتُ اللَّهِ، أَيْ حُجَجُهُ وَبَرَاهِينُهُ الدَّالَّةُ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَقُدْرَتِهِ." نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ" أَيْ بِالصِّدْقِ الَّذِي لَا باطل ولا كذب فيه. وقرى" يتلوها" بالياء." فبأي حديث بعد اللَّهِ «١» " وَقِيلَ بَعْدَ قُرْآنِهِ" وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ" وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَرِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ" تُؤْمِنُونَ" بالتاء على الخطاب.
[سورة الجاثية (٤٥): الآيات ٧ الى ٨]
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ"" وَيْلٌ" وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. تَوَعَّدَ مَنْ تَرَكَ الِاسْتِدْلَالَ بِآيَاتِهِ. وَالْأَفَّاكُ: الْكَذَّابُ. وَالْإِفْكُ الْكَذِبُ. (أَثِيمٍ) أَيْ مُرْتَكِبٌ لِلْإِثْمِ. وَالْمُرَادُ فِيمَا رَوَى النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْحَارِثُ بْنُ كَلْدَةَ. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ أَنَّهُ أَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابُهُ." يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ" يَعْنِي آيَاتِ الْقُرْآنِ." ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً" أَيْ يَتَمَادَى عَلَى كُفْرِهِ مُتَعَظِّمًا فِي نَفْسِهِ عَنِ الِانْقِيَادِ، مَأْخُوذٌ مِنْ صَرَّ الصُّرَّةَ إِذَا شَدَّهَا. قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنْ إِصْرَارِ الْحِمَارِ عَلَى الْعَانَةِ «٢»، وَهُوَ أَنْ يَنْحَنِيَ عَلَيْهَا صَارًّا أُذُنَيْهِ. وَ" أَنْ" مِنْ" كَأَنْ" مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ، كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهَا، وَالضَّمِيرُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:
كأن ظبية تعطو إلى ناضر السلم «٣»
(٢). العانة: الأتان (الحمارة). [..... ]
(٣). ويروي: إلى وارق السلم. وهذا عجز بيت لابن صريم اليشكري. وصدره كما في كتاب سيبويه والمقاصد النحوية:
ويوما توافينا بوجه مقسم
والمقسم: المحسن. و" تعطوا": تتناول. و" السلم": شجر بعينه. وصف امرأة حسنة الوجه فشبهها بظبية مخصبة المرعى.
[سورة الجاثية (٤٥): الآيات ٩ الى ١٠]
وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً" نَحْوُ قَوْلِهِ فِي الزَّقُّومِ: إِنَّهُ الزُّبْدُ وَالتَّمْرُ، وَقَوْلُهُ فِي خَزَنَةِ جَهَنَّمَ: إِنْ كَانُوا تِسْعَةَ عَشَرَ فَأَنَا أَلْقَاهُمْ وَحْدِي." أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ" مُذِلٌّ مُخْزٍ." مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ" أَيْ مِنْ وَرَاءِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ التَّعَزُّزِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّكَبُّرِ عَنِ الْحَقِّ جَهَنَّمُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ" أَيْ أَمَامَهُمْ، نَظِيرُهُ" مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ" «٣» [إبراهيم: ١٦] أَيْ مِنْ أَمَامِهِ. قَالَ:
أَلَيْسَ وَرَائِي إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي | أَدُبُّ مَعَ الْوِلْدَانِ أَزْحَفُ كَالنَّسْرِ |
[سورة الجاثية (٤٥): آية ١١]
هَذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" هَذَا هُدىً" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، يَعْنِي الْقُرْآنَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي كُلَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ." وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ" أي جحدوا دلائله.
(٢). راجع ج ١ ص ١٩٨ و٢٣٨ طبعه ثانية أو ثالثة.
(٣). آية ١٦ سورة إبراهيم.
(٤). آية ١٠ سورة آل عمران.
(٥). ما بين المربعين ساقط من ح ز ل ن هـ.
أليس ورائي إن تراخت منيتي | أدُبُّ مع الولدان أَزْحَفُ كالنَّسْرِ |
٢ آية ١٠ سورة آل عمران..
٢ آية ١٦ سورة إبراهيم..
[سورة الجاثية (٤٥): الآيات ١٢ الى ١٣]
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" ذَكَرَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَتَمَامَ نِعْمَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ خَلَقَ مَا خَلَقَ لِمَنَافِعِهِمْ." وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ" يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ فِعْلُهُ وَخَلْقُهُ وَإِحْسَانٌ مِنْهُ وَإِنْعَامٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجَحْدَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا" جَمِيعاً مِنْهُ" بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَتَنْوِينِ الْهَاءِ، مَنْصُوبًا عَلَى الْمَصْدَرِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَكَذَلِكَ سَمِعْتُ مَسْلَمَةَ يَقْرَؤُهَا" مِنَّةً" أَيْ تَفَضُّلًا وَكَرَمًا. وَعَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ أَيْضًا" جَمِيعًا مَنُّهُ" عَلَى إِضَافَةِ الْمَنِّ إِلَى هَاءِ الْكِنَايَةِ. وَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ ذَلِكَ، أَوْ هُوَ مِنْهُ. وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ ظَاهِرَةٌ." إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"
[سورة الجاثية (٤٥): آية ١٤]
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا" جُزِمَ عَلَى جَوَابِ" قُلْ" تَشْبِيهًا بِالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، كَقَوْلِكَ: قُمْ تُصِبْ خَيْرًا. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ اللام. وقيل: على معنى قل
(٢). آية ١٦ سورة إبراهيم.
(٢). آية ١٣ سورة نوح.
(٣). في ك: لا تخافون.
قلت : وما ذكره المهدوي والنحاس فهو رواية الضحاك عن ابن عباس، وهو قول القرظي والسدي، وعليه يتوجه النسخ في الآية. وعلى أن الآية نزلت بالمدينة أو في غزوة بني المصطلق فليست بمنسوخة. ومعنى " يغفروا " يعفوا ويتجاوزوا. ومعنى :" لا يرجون أيام الله " أي لا يرجون ثوابه. وقيل : أي لا يخافون بأس الله ونقمه. وقيل : الرجاء بمعنى الخوف ؛ كقوله :" ما لكم لا ترجون لله وقارا " ٢ [ نوح : ١٣ ] أي لا تخافون له عظمة. والمعنى : لا تخشون مثل عذاب الأمم الخالية. والأيام يعبر بها عن الوقائع. وقيل : لا يأملون نصر الله لأوليائه وإيقاعه بأعدائه. وقيل : المعنى لا يخافون البعث. " ليجزي قوما بما كانوا يكسبون " قراءة العامة " ليجزي " بالياء على معنى ليجزي الله. وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر " لنجزي " بالنون على التعظيم. وقرأ أبو جعفر والأعرج وشيبة " ليجزى " بياء مضمومة وفتح الزاي على الفعل المجهول، " قوما " بالنصب. قال أبو عمرو : وهذا لحن ظاهر. وقال الكسائي : معناه ليجزي الجزاء قوما، نظيره :" وكذلك نجي المؤمنين " على قراءة ابن عامر وأبي بكر في سورة " الأنبياء " ٣. قال الشاعر :
ولو وَلَدت قُفيرة جرو كلب | لَسُبَّ بذلك الجروِ الكلابا٤ |
٢ آية ١٣ سورة نوح..
٣ راجع ج ١١ ص ٣٣٤..
٤ قائله جرير يهجو الفرزدق. وقفيرة (كجهينة): أم الفرزدق..
وَلَوْ وَلَدَتْ قُفَيْرَةُ جَرْوَ كَلْبٍ | لَسُبَّ بِذَلِكَ الْجَرْوِ الْكِلَابَا «٢» |
[سورة الجاثية (٤٥): آية ١٥]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥)
تقدم «٣».
[سورة الجاثية (٤٥): الآيات ١٦ الى ١٧]
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ" يَعْنِي التَّوْرَاةَ." وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ" الْحُكْمُ: الْفَهْمُ فِي الْكِتَابِ. وَقِيلَ: الْحُكْمُ عَلَى النَّاسِ والقضاء. و" النُّبُوَّةَ" يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ مِنْ وَقْتِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى زَمَنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ." وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ" أي الحلال
(٢). قائله جرير يهجو الفرزدق. وقفيزة (كجينة): أم الفرزدق.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٣٧٠. [..... ]
[سورة الجاثية (٤٥): آية ١٨]
ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (١٨)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ" الشَّرِيعَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمَذْهَبُ وَالْمِلَّةُ. وَيُقَالُ لِمَشْرَعَةِ الْمَاءِ- وَهِيَ مَوْرِدُ الشَّارِبَةِ-: شَرِيعَةُ. وَمِنْهُ الشَّارِعُ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إِلَى الْمَقْصِدِ. فَالشَّرِيعَةُ: مَا شَرَعَ اللَّهُ لِعِبَادِهِ مِنَ الدِّينِ، وَالْجَمْعُ الشَّرَائِعُ. وَالشَّرَائِعُ فِي الدِّينِ: الْمَذَاهِبُ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لِخَلْقِهِ. فَمَعْنَى" جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ" أَيْ عَلَى مِنْهَاجٍ وَاضِحٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ يَشْرَعُ بِكَ إِلَى الْحَقِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" عَلى شَرِيعَةٍ" أَيْ عَلَى هُدًى مِنَ الْأَمْرِ. قَتَادَةُ: الشَّرِيعَةُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْحُدُودُ والفرائض. مقاتل: البينة، لأنها
[سورة الجاثية (٤٥): آية ١٩]
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً" أَيْ إِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ لَا يَدْفَعُونَ عَنْكَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْئًا." وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ" أَيْ أَصْدِقَاءٌ وَأَنْصَارٌ وَأَحْبَابٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ أَوْلِيَاءُ الْيَهُودِ." وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ" أَيْ نَاصِرُهُمْ وَمُعِينُهُمْ. وَالْمُتَّقُونَ هُنَا: الَّذِينَ اتَّقَوُا الشِّرْكَ والمعاصي.
(٢). في ج ز ل: على شريعة من الدين.
(٣). آية ١٢٣ سورة النحل.
[سورة الجاثية (٤٥): آية ٢٠]
هَذَا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠)قَوْلُهُ تَعَالَى:" هَذَا بَصائِرُ لِلنَّاسِ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيْ هَذَا الَّذِي أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ بَرَاهِينُ وَدَلَائِلُ ومعالم للناس في الحدود والأحكام. وقرى" هذه بصائر" أي هذه الآيات." هُدىً" أَيْ رُشْدٌ وَطَرِيقٌ يُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ أَخَذَ بِهِ." وَرَحْمَةٌ" فِي الْآخِرَةِ" لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ"
[سورة الجاثية (٤٥): آية ٢١]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (٢١)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
" أي اكتسبوها. والاجتراح: الاكتساب، ومنه الجوارح، وقد تقدم في المائدة «١»." أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ"
قَالَ الْكَلْبِيُّ:" الَّذِينَ اجْتَرَحُوا"
عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا ربيعة والوليد بن عتبة. و" كَالَّذِينَ آمَنُوا"
عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- حِينَ بَرَزُوا إِلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَتَلُوهُمْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ فِي الْآخِرَةِ خَيْرًا مِمَّا يُعْطَاهُ الْمُؤْمِنُ، كَمَا أَخْبَرَ الرَّبُّ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ:" وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى " «٢» [فصلت: ٥٠]. وَقَوْلُهُ" أَمْ حَسِبَ"
اسْتِفْهَامٌ مَعْطُوفٌ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ. وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عَطْفٍ إِذَا كَانَ مُتَوَسِّطًا لِلْخِطَابِ. وَقَوْمٌ يَقُولُونَ: فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ أَفَيَعْلَمُ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ أَمْ حَسِبُوا أَنَّا نُسَوِّي بَيْنَهُمْ. وَقِيلَ: هِيَ أَمِ الْمُنْقَطِعَةُ، وَمَعْنَى الْهَمْزَةِ فِيهَا إِنْكَارُ الْحُسْبَانِ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" سَواءً
" بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مُقَدَّمٌ، أَيْ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَوَاءٌ. وَالضَّمِيرُ فِي" مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ"
يَعُودُ عَلَى الْكُفَّارِ، أَيْ مَحْيَاهُمْ مَحْيَا سُوءٍ وَمَمَاتُهُمْ كَذَلِكَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ" سَوَاءَ" بِالنَّصْبِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عبيد قال: معناه
(٢). آية ٥٠ سورة فصلت.
٢ آية ٥٠ سورة فصلت..
بِالنَّصْبِ، عَلَى مَعْنَى سَوَاءٍ فِي مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتِهِمْ، فَلَمَّا أُسْقِطَ الْخَافِضُ انْتَصَبَ. وَيَجُوزُ أن يكون" مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
" بَدَلًا مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي نَجْعَلُهُمْ، الْمَعْنَى: أَنْ نَجْعَلَ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ سَوَاءً كَمَحْيَا الَّذِينَ آمَنُوا وَمَمَاتِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي" مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ"
لِلْكَفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا وَيُبْعَثُ مُؤْمِنًا، وَالْكَافِرُ يَمُوتُ كَافِرًا وَيُبْعَثُ كَافِرًا. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي الضحا عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: هَذَا مَقَامُ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ أَوْ قَرُبَ أَنْ يُصْبِحَ يَقْرَأُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَيَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَيَبْكِي" أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ"
الْآيَةَ كُلَّهَا. وَقَالَ بَشِيرٌ: بِتُّ عِنْدَ الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَامَ يُصَلِّي فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَمَكَثَ لَيْلَهُ حَتَّى أَصْبَحَ لَمْ يَعْدُهَا بِبُكَاءٍ شَدِيدٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْعَثِ: كَثِيرًا مَا رَأَيْتُ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ يُرَدِّدُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى آخِرِهِ هَذِهِ الْآيَةَ وَنَظِيرَهَا، ثُمَّ يَقُولُ: لَيْتَ شِعْرِي! مِنْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَنْتَ؟ وَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تُسَمَّى مَبْكَاةُ الْعَابِدِينَ لأنها محكمة.
[سورة الجاثية (٤٥): آية ٢٢]
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ" أَيْ بِالْأَمْرِ الْحَقِّ." وَلِتُجْزى " أَيْ وَلِكَيْ تُجْزَى." كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ" أَيْ فِي الْآخِرَةِ." وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ".
[سورة الجاثية (٤٥): آية ٢٣]
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: ذَلِكَ الْكَافِرُ اتَّخَذَ دِينَهُ مَا يَهْوَاهُ، فَلَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا رَكِبَهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَفَرَأَيْتَ مَنْ جَعَلَ إِلَهَهُ الَّذِي يَعْبُدُهُ مَا يَهْوَاهُ أَوْ يَسْتَحْسِنُهُ، فَإِذَا اسْتَحْسَنَ
[الأعراف: ١٧٦]. وَقَالَ تَعَالَى:" وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً" «٢» [الكهف: ٢٨]. وَقَالَ تَعَالَى" بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ «٣» اللَّهُ" [الروم: ٢٩]. وَقَالَ تَعَالَى:" وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ" «٤» [القصص: ٥٠]. وَقَالَ تَعَالَى:" وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" «٥» [ص: ٢٦]. وقال عبد الله ابن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ". وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" مَا عُبِدَ تَحْتَ السَّمَاءِ إِلَهٌ أَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْهَوَى". وَقَالَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْفَاجِرُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ (. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ". وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ وَثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ فَالْمُهْلِكَاتُ شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ. وَالْمُنْجِيَاتُ خَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ وَالْعَدْلُ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ". وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا أَصْبَحَ الرَّجُلُ اجْتَمَعَ هَوَاهُ وَعَمَلُهُ وَعِلْمُهُ، فَإِنْ كان عمله
(٢). آية ٢٨ سورة الكهف.
(٣). آية ٢٩ سورة الروم.
(٤). آية ٥٠ سورة القصص.
(٥). آية ٢٦ سورة ص.
إِنَّ الْهَوَانَ هُوَ الْهَوَى قُلِبَ اسْمُهُ | فَإِذَا هَوِيتَ فَقَدْ لَقَيْتَ هَوَانَا |
نُونُ الْهَوَانِ مِنَ الْهَوَى مَسْرُوقَةٌ | فَإِذَا هَوِيتَ فَقَدْ لَقِيتَ هَوَانَا |
إِنَّ الْهَوَى لَهْوَ الْهَوَانُ بِعَيْنِهِ | فَإِذَا هَوِيتَ فَقَدْ كَسَبْتَ هَوَانَا |
وَإِذَا هَوِيتَ فَقَدْ تَعَبَّدَكَ الْهَوَى | فَاخْضَعْ لِحُبِّكَ كَائِنًا مَنْ كَانَا |
وَمِنَ الْبَلَايَا لِلْبَلَاءِ عَلَامَةٌ | أَلَّا يُرَى لَكَ عَنْ هَوَاكَ نُزُوعُ |
الْعَبْدُ عَبْدُ النَّفْسِ فِي شَهَوَاتِهَا | وَالْحُرُّ يَشْبَعُ تَارَةً وَيَجُوعُ |
إِذَا طَالَبَتْكَ النَّفْسُ يَوْمًا بِشَهْوَةٍ | وَكَانَ إِلَيْهَا لِلْخِلَافِ طَرِيقُ |
فَدَعْهَا وَخَالِفْ مَا هَوِيَتْ فَإِنَّمَا | هَوَاكَ عَدُوٌّ وَالْخِلَافُ صَدِيقُ |
وَالنَّفْسُ إِنْ أَعْطَيْتَهَا مُنَاهَا | فَاغِرَةٌ نَحْوَ هَوَاهَا فَاهَا |
أَمَا وَالَّذِي أَنَا عبد له | يمينا ومالك أُبْدِي الْيَمِينَا |
لَئِنْ كُنْتَ أَلْبَسْتِنِي غَشْوَةً | لَقَدْ كُنْتُ أَصْفَيْتُكَ الْوُدَّ حِينَا |
(٢). في بعض نسخ الأصل:" الهوى" بالواو.
(٣). راجع ج ١ ص ١٩١ طبعه ثانية أو ثالثة. [..... ]
(٤). راجع ج ١ ص ١٨٦.
إن الهوان هو الهوى قُلِبَ اسمه | فإذا هويت فقد لقيت هوانا |
نون الهوان من الهوى مسروقة | فإذا هويت فقد لقيت هوانا |
إن الهوى لهو الهوان بعينه | فإذا هويت فقد كسبت هوانا |
وإذا هويت فقد تعبّدك الهوى | فاخضع لحبك كائنا من كانا |
ومن البلايا للبلاء علامة | ألا يرى لك عن هواك نزوع |
العبد عبد النفس في شهواتها | والحر يشبع تارة ويجوع |
إذا طالبتك النفس يوما بشهوة | وكان إليها للخلاف طريق |
فدعها وخالف ما هويت فإنما | هواك عدو والخلاف صديق |
والنفس إن أعطيتها مناها | فاغرة نحو هواها فاها |
قوله تعالى :" وأضله الله على علم " أي على علم قد علمه منه. وقيل : أضله عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه. وقال ابن عباس : أي على علم قد سبق عنده أنه سيضل. مقاتل : على علم منه أنه ضال، والمعنى متقارب. وقيل : على علم من عابد الصنم أنه لا ينفع ولا يضر. ثم قيل :" على علم " يجوز أن يكون حالا من الفاعل، المعنى : أضله على علم منه به، أي أضله عالما بأنه من أهل الضلال في سابق علمه. ويجوز أن يكون حالا من المفعول، فيكون المعنى : أضله في حال علم الكافر بأنه ضال. " وختم على سمعه وقلبه " أي طبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ، وطبع على قلبه حتى لا يفقه الهدى٧. " وجعل على بصره غشاوة " أي غطاء حتى لا يبصر الرشد. وقرأ حمزة والكسائي " غشوة " بفتح الغين من غير ألف، وقد مضى في " البقرة " ٨. وقال الشاعر :
أما والذي أنا عبدٌ له | يمينا ومالكَ أبدِي اليمينا |
لئن كنت ألبستني غَشْوة | لقد كنت أصفيتك الود حينا |
وهذه الآية ترد على القدرية والإمامية ومن سلك سبيلهم في الاعتقاد ؛ إذ هي مصرحة بمنعهم من الهداية. ثم قيل :" وختم على سمعه وقلبه " إنه خارج مخرج الخبر عن أحوالهم. وقيل : إنه خارج مخرج الدعاء بذلك عليهم ؛ كما تقدم في أول " البقرة " ٩. وحكى ابن جريج أنها نزلت في الحارث بن قيس من الغياطلة١٠. وحكى النقاش أنها نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف. وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل، وذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل : والله إني لأعلم إنه لصادق ! فقال له مه ! وما دلك على ذلك ! ؟ قال : يا أبا عبد شمس، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله وكمل رشده، نسميه الكذاب الخائن ! ! والله إني لأعلم إنه لصادق ! قال : فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به ؟ قال : تتحدث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، واللات والعزى إن اتبعته أبدا. فنزلت :" وختم على سمعه وقلبه ".
٢ آية ٢٨ سورة الكهف..
٣ آية ٢٩ سورة الروم..
٤ آية ٥٠ سورة القصص..
٥ آية ٢٦ سورة ص..
٦ آية ٤٠ سورة النازعات..
٧ في بعض نسخ الأصل:" الهوى" بالواو..
٨ راجع ج ١ ص ١٩١ طبعة ثانية أو ثالثة..
٩ راجع ج ١ ص ١٨٦..
١٠ في كتاب الاشتقاق لابن دريد (ص ٧٥ طبع أوربا):"بنو قيس بن عدي كانوا من رجال قريش يلقبون الغياطل، وكان قيس سيد قريش في دهره غير مدافع. قال: "والغياطل: جمع غيطلة، وهو الشجر الملتف، واختلاط الظلام"..
[سورة الجاثية (٤٥): آية ٢٤]
وَقالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا" هَذَا إِنْكَارٌ مِنْهُمْ لِلْآخِرَةِ وَتَكْذِيبٌ لِلْبَعْثِ وَإِبْطَالٌ لِلْجَزَاءِ. وَمَعْنَى" نَمُوتُ وَنَحْيا" أي نموت نحن وتحيا أولادنا، قاله الكلبي. وقرى" وَنَحْيا" بِضَمِّ النُّونِ. وَقِيلَ: يَمُوتُ بَعْضُنَا وَيَحْيَا بَعْضُنَا. وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ نَحْيَا وَنَمُوتُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ." وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ" قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي السِّنِينَ وَالْأَيَّامَ. وقال قتادة: إلا العمر، والمعنى واحد. وقرى" إِلَّا دَهْرٌ يَمُرُّ". وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: الدَّهْرُ هُوَ الَّذِي يُهْلِكُنَا وَهُوَ الَّذِي يُحْيِينَا وَيُمِيتُنَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الْمَوْتُ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ أَبِي ذُؤَيْبٍ:
أَمِنَ الْمَنُونِ وَرَيْبِهَا تَتَوَجَّعُ | والدهر ليس بمعتب من يجزع |
(٢). في أز ح: كسيرة.
يَا عَاتِبَ الدَّهْرِ إِذَا نَابَهُ | لَا تَلُمِ الدَّهْرَ عَلَى غَدْرِهِ |
الدَّهْرُ مَأْمُورٌ، لَهُ آمِرٌ | وَيَنْتَهِي الدَّهْرُ إِلَى أَمْرِهِ |
كَمْ كَافِرٍ أَمْوَالُهُ جَمَّةٌ | تَزْدَادُ أَضْعَافًا عَلَى كُفْرِهِ |
وَمُؤْمِنٌ لَيْسَ له درهم | يزداد إِيمَانًا عَلَى فَقْرِهِ |
فَمَا الدَّهْرُ بِالْجَانِي لِشَيْءٍ لِحِينِهِ | وَلَا جَالِبَ الْبَلْوَى فَلَا تَشْتُمَ الدَّهْرَا |
وَلَكِنْ مَتَى مَا يَبْعَثُ اللَّهُ بَاعِثًا | عَلَى مَعْشَرٍ يَجْعَلُ مَيَاسِيرَهُمْ عُسْرَا |
إِنْ مَحِلًّا وَإِنْ مُرْتَحِلًا | وَإِنَّ فِي السَّفَرِ إِذْ مَضَوْا مَهَلَا |
اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ وَبِالْعَدْ | لِ وَوَلَّى الْمَلَامَةَ الرَّجُلَا |
رَمَتْنِي بَنَاتُ الدَّهْرِ مِنْ حَيْثُ لَا أَرَى | فَكَيْفَ بِمَنْ يُرْمَى وَلَيْسَ بِرَامٍ |
فَلَوْ أَنَّهَا نِبْلٌ إِذًا لَاتَّقَيْتُهَا | وَلَكِنَّنِي أُرْمَى بِغَيْرِ سِهَامِ |
عَلَى الرَّاحَتَيْنِ مَرَّةً وَعَلَى الْعَصَا | أَنُوءُ ثَلَاثًا بَعْدَهُنَّ قِيَامِي |
[سورة الجاثية (٤٥): الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦)
تَحِيَّةٌ بَيْنَهُمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ «١»
كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَالْمُرَادُ نَفْيَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ الْبَتَّةَ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ وَقَعَ قَوْلُهُ" قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ" جَوَابُ" ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ"؟ قُلْتُ: لَمَّا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ، وَحَسِبُوا أَنَّ مَا قَالُوهُ قَوْلَ مُبَكِّتٍ أُلْزِمُوا مَا هُمْ مُقِرُّونَ بِهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِيهِمْ ثُمَّ يُمِيتُهُمْ، وَضَمَّ إِلَى إِلْزَامِ ذَلِكَ إِلْزَامَ مَا هُوَ وَاجِبُ الْإِقْرَارِ بِهِ إِنْ أَنْصَفُوا وَأَصْغَوْا إِلَى دَاعِي الْحَقِّ وَهُوَ جَمْعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِتْيَانِ بِآبَائِهِمْ، وكان أهون شيء عليه.
[سورة الجاثية (٤٥): آية ٢٧]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" خَلْقًا وَمِلْكًا." وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ"" يَوْمٌ" الْأَوَّلُ مَنْصُوبٌ بِ" يخسر" و" يومئذ" تكرير للتأكيد (هامش)
وخيل قد دلفت لها بخيل
يقول: إذا تلاقوا في الحرب جعلوا بدلا من تحية بعضهم لبعض الضرب الوجيع. ودلفت: زحفت. والدليف: مقاربة الخطو في المشي.
[سورة الجاثية (٤٥): آية ٢٨]
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً" أَيْ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَالْأُمَّةُ هُنَا: أَهْلُ كُلِّ مِلَّةٍ. وَفِي الْجَاثِيَةِ تَأْوِيلَاتٌ خَمْسٌ: الْأَوَّلُ- قَالَ مُجَاهِدٌ: مُسْتَوْفِزَةٌ. وَقَالَ سُفْيَانُ: الْمُسْتَوْفِزُ الَّذِي لَا يُصِيبُ الْأَرْضَ مِنْهُ إِلَّا رُكْبَتَاهُ وَأَطْرَافُ أَنَامِلِهِ. الضَّحَّاكُ: ذَلِكَ عِنْدَ الْحِسَابِ. الثَّانِي- مُجْتَمِعَةٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى وَتَرَى أَهْلَ كُلِّ دِينٍ مُجْتَمِعِينَ. الثَّالِثُ- مُتَمَيِّزَةٌ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. الرَّابِعُ- خَاضِعَةٌ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، قَالَهُ مُؤَرِّجٌ. الْخَامِسُ- بَارِكَةٌ عَلَى الرُّكَبِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَالْجَثْوُ: الْجُلُوسُ عَلَى الرَّكْبِ. جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَجْثُو وَيَجْثِي جُثُوًّا وَجُثِيًّا، على فعول فيهما، وَقَدْ مَضَى فِي" مَرْيَمَ" «١»: وَأَصْلُ الْجُثْوَةِ «٢»: الْجَمَاعَةُ من كل شي. قَالَ طَرَفَةُ يَصِفُ قَبْرَيْنِ:
تَرَى جُثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا | صَفَائِحُ صُمٌّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدٍ «٣» |
(٢). مثلثة الجيم.
(٣). الصم: الصلب. والمنضد: الذي جعل بعضه على بعض.
(٤). الكوم: المواضع المشرفة.
[سورة الجاثية (٤٥): آية ٢٩]
هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" هَذَا كِتابُنا" قِيلَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ لَهُمْ. وَقِيلَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ." يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ" أَيْ يَشْهَدُ. وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ، يُقَالُ: نَطَقَ الْكِتَابُ بِكَذَا أَيْ بَيَّنَ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَقْرَءُونَهُ فَيُذَكِّرُهُمُ الْكِتَابُ مَا عَمِلُوا، فَكَأَنَّهُ يَنْطِقُ عَلَيْهِمْ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ:" وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها" «١» [الكهف: ٤٩]. وَفِي الْمُؤْمِنِينَ:" وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ" «٢» وَقَدْ تَقَدَّمَ «٣». وَ" يَنْطِقُ" فِي، مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْكِتَابِ، أَوْ مِنْ ذَا، أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ لِذَا، أَوْ يَكُونُ" كِتابُنا" بدلا من" هذا" و" يَنْطِقُ" الْخَبَرُ." إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" أَيْ نَأْمُرُ بِنَسْخِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَنْزِلُونَ كُلَّ يَوْمٍ بِشَيْءٍ يَكْتُبُونَ فِيهِ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ مَلَائِكَةً مُطَهَّرِينَ فَيَنْسَخُونَ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ فِي رَمَضَانَ كُلَّ مَا يَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ فَيُعَارِضُونَ حَفَظَةَ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ كُلَّ خَمِيسٍ، فَيَجِدُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْحَفَظَةُ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ مُوَافِقًا لِمَا فِي كِتَابِهِمُ الَّذِي اسْتَنْسِخُوا مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَلَا نُقْصَانَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهَلْ يَكُونُ النَّسْخُ إِلَّا مِنْ كِتَابٍ. الْحَسَنُ: نَسْتَنْسِخُ ما كتبته الحفظة
(٢). آية ٦٢ سورة المؤمنون.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٤١٨ وج ١٢ ص ١٣٤.
[سورة الجاثية (٤٥): الآيات ٣٠ الى ٣١]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ" أَيِ الْجَنَّةَ" ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ" أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ. وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ." فَاسْتَكْبَرْتُمْ" عَنْ قَبُولِهَا." وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ" أَيْ مُشْرِكِينَ تَكْسِبُونَ الْمَعَاصِي. يُقَالُ: فُلَانٌ جَرِيمَةُ أَهْلِهِ إِذَا كَانَ كَاسِبُهُمْ، فَالْمُجْرِمُ مَنْ أَكْسَبَ نَفْسَهُ الْمَعَاصِي. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ" «٢» [القلم: ٣٥] فَالْمُجْرِمُ ضِدُّ الْمُسْلِمِ فَهُوَ الْمُذْنِبُ بِالْكُفْرِ إِذًا.
[سورة الجاثية (٤٥): آية ٣٢]
وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ" أَيِ الْبَعْثُ كَائِنٌ." وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيها" وَقَرَأَ حَمْزَةُ" وَالسَّاعَةَ" بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى" وَعْدَ". الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَوِ العطف
(٢). آية ٣٥ سورة القلم. [..... ]
[سورة الجاثية (٤٥): آية ٣٣]
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا" أَيْ ظَهَرَ لَهُمْ جَزَاءُ سَيِّئَاتِ مَا عَمِلُوا." وَحاقَ بِهِمْ" أَيْ نَزَلَ بِهِمْ وَأَحَاطَ." مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من عذاب الله.
[سورة الجاثية (٤٥): آية ٣٤]
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ" أَيْ نَتْرُكُكُمْ فِي النَّارِ كَمَا تَرَكْتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا، أَيْ تَرَكْتُمُ الْعَمَلَ لَهُ." وَمَأْواكُمُ النَّارُ" أَيْ مَسْكَنُكُمْ وَمُسْتَقَرُّكُمْ." وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ" مَنْ ينصركم.
[سورة الجاثية (٤٥): آية ٣٥]
ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ" يَعْنِي الْقُرْآنَ." هُزُواً" لَعِبًا." وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا" أَيْ خَدَعَتْكُمْ بِأَبَاطِيلِهَا وَزَخَارِفِهَا، فَظَنَنْتُمْ أَنْ لَيْسَ ثَمَّ غَيْرُهَا، وَأَنْ لَا بَعْثَ." فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْها" أَيْ مِنَ النَّارِ." وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ" يُسْتَرْضُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «٢». وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" فَالْيَوْمَ لَا يَخْرُجُونَ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وضم الراء، لقوله تعالى:
(٢). راجع ج ١٠ ص ١٦٢ وج ١٤ ص ٤٩ وج ١٥ ص ٣٥٣
٢ آية ٢٠ سورة السجدة..
[سورة الجاثية (٤٥): الآيات ٣٦ الى ٣٧]
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ" قَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ" رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ" بِالرَّفْعِ فِيهَا كُلِّهَا عَلَى مَعْنَى هُوَ رَبُّ." وَلَهُ الْكِبْرِياءُ" أَيِ الْعَظَمَةُ وَالْجَلَالُ وَالْبَقَاءُ وَالسُّلْطَانُ وَالْقُدْرَةُ وَالْكَمَالُ." فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" والله أعلم.
[تفسير سُورَةُ الْأَحْقَافِ]
سُورَةُ الْأَحْقَافِ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ جميعهم. وهي أربع وثلاثون آية، وقيل خمس.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأحقاف (٤٦): الآيات ١ الى ٣]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣)قَوْلِهِ تَعَالَى:" حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ" تَقَدَّمَ «٣» " مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ" تَقَدَّمَ أَيْضًا «٤»." وَأَجَلٍ مُسَمًّى" يَعْنِي الْقِيَامَةَ، فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَهُوَ الأجل الذي تنتهي إليه السموات والأرض. وقيل: إنه هو الأجل
(٢). راجع ج ١٢ ص ١٥٣.
(٣). راجع ص ١٥٦ من هذا الجزء.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٥٣.
سورة الجاثية
سورةُ (الجاثية) من السُّوَر المكية، وقد جاءت ببيانِ اتصاف الله بكمال العِزَّة والحِكْمة، والقدرة والعدل؛ ومن ذلك: قيامُه بجَمْعِ الخلائق يوم القيامة، والفصلِ بينهم على أعمالهم في يوم مَهُولٍ تجثو فيه الناسُ على رُكَبِها، وفي ذلك حثٌّ على صدق العمل في الدنيا؛ فاللهُ مُحْصٍ كلَّ عمل؛ عظُمَ أو صغُرَ، وجاءت السورة بتذكيرِ اللهِ خَلْقَه بنِعَمِه عليهم، والردِّ على الدَّهْريين.
ترتيبها المصحفي
45نوعها
مكيةألفاظها
488ترتيب نزولها
65العد المدني الأول
37العد المدني الأخير
37العد البصري
37العد الكوفي
37العد الشامي
37* قوله تعالى: {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا اْلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلَّا اْلدَّهْرُۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]:
عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: «كان أهلُ الجاهليَّةِ يقولون: إنَّما يُهلِكُنا الليلُ والنهارُ، وهو الذي يُهلِكُنا ويُمِيتُنا ويُحْيِينا، فقال اللهُ في كتابه: {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا اْلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلَّا اْلدَّهْرُۚ} [الجاثية: 24]، قال: فيسُبُّون الدَّهْرَ، فقال اللهُ تبارَكَ وتعالى: يُؤذِيني ابنُ آدَمَ؛ يسُبُّ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهْرُ، بِيَدي الأمرُ، أُقلِّبُ الليلَ والنهارَ». "الصحيح المسند من أسباب النزول" (1 /183).
* سورة (الجاثية):
اختصَّتْ سورةُ (الجاثية) بذكرِ لفظ (جاثية)، الذي يتعلق بيوم القيامة وأهواله، يوم تجثو الناسُ على رُكَبِها من الفزع؛ قال تعالى: {وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٖ جَاثِيَةٗۚ كُلُّ أُمَّةٖ تُدْعَىٰٓ إِلَىٰ كِتَٰبِهَا اْلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28].
* سورة (الشَّريعة):
سُمِّيت بهذا الاسم؛ لوقوع لفظ (شريعة) فيها، ولم يقَعْ في غيرها من القرآن؛ قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ اْلْأَمْرِ فَاْتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ اْلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18].
1. مصدر القرآن الكريم، وإثباتُ وَحْدانية الله (١-٦).
2. جزاء المكذِّبين بآيات الله (٧-١١).
3. التذكير بنِعَم الله على عباده (١٢-١٥).
4. نِعَمُه الخاصة ببني إسرائيل، وإنزالُ الشرائع (١٦-٢٠).
5. عدلُه في المحسِنين والمسِيئين (٢١-٢٣).
6. الرد على الدَّهْريِّين (٢٤-٢٧).
7. من مَشاهد يوم القيامة (٢٨-٣٧).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /161).
إثباتُ صِفَتَيِ العِزَّة والحِكْمة لله عز وجل؛ فمن كمال عِزَّته وحِكْمته: جمعُ الخلائق يوم القيامة للفصل بينهم، وجزاؤُهم على أعمالهم، بعد أن بيَّن لهم طريقَيِ الخير والشر، وأقام الحُجة عليهم.
واسمُ السورة دالٌّ أتمَّ الدلالة على هذا المقصد، و(الجاثية) اسمٌ من أسمائها يدل على هولِ ما يحصل فيها.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /476).