تفسير سورة الجاثية

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة

تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة.
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ الْجَاثِيَةِ
قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠)﴾
قال ابن عرفة: الإشارة إما إلى الإيمان والعمل الصالح، أو إلى إدخالهم في الرحمة، وكان بعضهم يرجح الثاني، بوصف الفوز، بقوله: (الْمُبِينُ) لأن حصول الفوز الأول مظنون وحصوله الثاني محقق.
قوله تعالى: ﴿فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (٣١)﴾
إن قلت: هلا قيل: فأجرمتم وكنتم قوما مستكبرين؟ فالجواب: الاستكبار أمر معنوي، والإجرام أمر فعلي حسي، فناسب التعبير عنه بالاسم المقتضي للثبوت.
قوله تعالى: ﴿إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢)﴾
قال الزمخشري: أصله [نَظُنُّ ظَنًّا*]، ومعناه إثبات الظن فقط؛ دخل حرف النفي والاستثناء ليفيد إثبات الظن ونفي ما سواه، ثم أكد نفي ما سوى الظن، بقوله تعالى: (بِمُسْتَيْقِنِينَ).
وقال أبو حيان: لَا يجوز أن تقول: ما ضرب إلا ضربا لعدم الفائدة، وأجابوا بثلاثة [أوجه*]:
أحدها: أنه على حذف الصفة، أي إلا ظنا ضعيفا.
ابن عرفة: وأول ما ورد في مختصر أبي حيان [... ] أبو الفضل ابن أبي مدين، فنظرنا فيه هذه المسألة.
فقال بعض نحاة التونسيين حينئذ: ما [**أصر] أحد على منع هذا، وكتاب سيبويه والفارسي وأبي [... ] وابن عصفور وغيرهم [لم أرَ*] أحدا منهم منع أن يقال: ما ضرب إلا ضربا، وعلى تقدير تسليم هذا فإنما ذلك في الماضي لوقوعه على صفة واحدة وانقطعت بحيث لَا يعلم لها التغيير، وأما المضارع فيكون تغييره وتبدل صفة المقدرة الوجود لعدم. [... ] فيتطرق إليه الاختلاف والتنويع، فلما [كرر*] أفادنا كفرهم أنهم لا
ينقلون عن ذلك الظن، بل لَا يزالون ظانين، ومنهم من أجاب: بأن تنكيره وتنوينه يفيد التعليل.
قال: وفي الآية اللف والنشر، فقولهم: (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا)، راجع لقوله تعالى: (وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا)، وقوله تعالى: (وَمَا نَحْنُ بمُسْتَيْقِنِينَ) راجع لقوله تعالى: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) قال: والعطف يدل أنه لم يجعلَ لنا منها إلا الظن، بل لم يجعل إلا لنا عدم اليقين الذي هو أعم من الظن والشك.
قوله تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا... (٣٣)﴾
[ما*] مصدرية أو موصولة، وكان بعضهم يرجح [كونها*] موصولة، لأن إضافة الأثر إلى المفعول وهو المؤثر بعد إضافته إلى الفعل، فإذا أبدت لهم سيئات الشيء الذي عملوا، فأحرى أن تبدو لهم سيئات عملهم، وإن كان [أحدهما*] يستلزم الآخر.
قال: وفي الآية حسن الائتلاف، فاقتران به سيئات عملهم، واقتران حاق بـ يستهزءون، لأن البدأ عبارة عن أول ما يظهر من الشيء، و (سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا) يقتضي مطلق الذنوب الناشئة عن مطلق ما اتصفوا به من العمل، والاستهزاء عبارة عن شدة ما اتصفوا به من القبيح، والحوق: الإحاطة، قلت: ومنه قولهم: الطائفة محوقة بهذا الرقم، ففرق الأشد بالأشد، والأحق بالأحق.
قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ... (٣٤)﴾
قال ابن عرفة: ذكروا في المجاز أنه لَا بد له من علاقة، وإن علاقة ترجح الحمل على المجاز مع جواز الحمل على الحقيقة، قالوا: وقد تكون العلاقة توجب الحمل على المجاز مع جواز تحريم الحمل على الحقيقة، ويسمى هذا عندهم الدال البرهاني، ومنه هذه الآية؛ لأن النسيان بمعنى الذهول، فيستحيل على الله تعالى، ففسر هنا بمعنى الترك، واقترانه باليوم يمنع حمله على الحقيقة لاستحالة نسيان الأمر الحالي؛ إذ هو مرئي ومشاهد، وإنما نسي الغائب. والكاف في قوله تعالى: (كَمَا نَسِيتُمْ) للتعليل، مثل: (وَأَحْسِنْ كَمَا أحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ).
* * *
سورة الجاثية
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الجاثية) من السُّوَر المكية، وقد جاءت ببيانِ اتصاف الله بكمال العِزَّة والحِكْمة، والقدرة والعدل؛ ومن ذلك: قيامُه بجَمْعِ الخلائق يوم القيامة، والفصلِ بينهم على أعمالهم في يوم مَهُولٍ تجثو فيه الناسُ على رُكَبِها، وفي ذلك حثٌّ على صدق العمل في الدنيا؛ فاللهُ مُحْصٍ كلَّ عمل؛ عظُمَ أو صغُرَ، وجاءت السورة بتذكيرِ اللهِ خَلْقَه بنِعَمِه عليهم، والردِّ على الدَّهْريين.

ترتيبها المصحفي
45
نوعها
مكية
ألفاظها
488
ترتيب نزولها
65
العد المدني الأول
37
العد المدني الأخير
37
العد البصري
37
العد الكوفي
37
العد الشامي
37

* قوله تعالى: {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا اْلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلَّا اْلدَّهْرُۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]:

عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: «كان أهلُ الجاهليَّةِ يقولون: إنَّما يُهلِكُنا الليلُ والنهارُ، وهو الذي يُهلِكُنا ويُمِيتُنا ويُحْيِينا، فقال اللهُ في كتابه: {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا اْلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلَّا اْلدَّهْرُۚ} [الجاثية: 24]، قال: فيسُبُّون الدَّهْرَ، فقال اللهُ تبارَكَ وتعالى: يُؤذِيني ابنُ آدَمَ؛ يسُبُّ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهْرُ، بِيَدي الأمرُ، أُقلِّبُ الليلَ والنهارَ». "الصحيح المسند من أسباب النزول" (1 /183).

* سورة (الجاثية):

اختصَّتْ سورةُ (الجاثية) بذكرِ لفظ (جاثية)، الذي يتعلق بيوم القيامة وأهواله، يوم تجثو الناسُ على رُكَبِها من الفزع؛ قال تعالى: {وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٖ جَاثِيَةٗۚ كُلُّ أُمَّةٖ تُدْعَىٰٓ إِلَىٰ كِتَٰبِهَا اْلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28].

* سورة (الشَّريعة):

سُمِّيت بهذا الاسم؛ لوقوع لفظ (شريعة) فيها، ولم يقَعْ في غيرها من القرآن؛ قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَٰكَ عَلَىٰ ‌شَرِيعَةٖ مِّنَ اْلْأَمْرِ فَاْتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ اْلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18].

1. مصدر القرآن الكريم، وإثباتُ وَحْدانية الله (١-٦).

2. جزاء المكذِّبين بآيات الله (٧-١١).

3. التذكير بنِعَم الله على عباده (١٢-١٥).

4. نِعَمُه الخاصة ببني إسرائيل، وإنزالُ الشرائع (١٦-٢٠).

5. عدلُه في المحسِنين والمسِيئين (٢١-٢٣).

6. الرد على الدَّهْريِّين (٢٤-٢٧).

7. من مَشاهد يوم القيامة (٢٨-٣٧).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /161).

إثباتُ صِفَتَيِ العِزَّة والحِكْمة لله عز وجل؛ فمن كمال عِزَّته وحِكْمته: جمعُ الخلائق يوم القيامة للفصل بينهم، وجزاؤُهم على أعمالهم، بعد أن بيَّن لهم طريقَيِ الخير والشر، وأقام الحُجة عليهم.

واسمُ السورة دالٌّ أتمَّ الدلالة على هذا المقصد، و(الجاثية) اسمٌ من أسمائها يدل على هولِ ما يحصل فيها.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /476).