ﰡ
مكية كلها إلا آيات أربع من قوله تعالى: «يتبعهم الغاوون» إلى آخر السورة، وعدد آياتها مائتان وسبع وعشرون آية.
موقف المشركين من الدعوة الإسلامية [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١ الى ٩]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤)وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)
المفردات:
طسم تقرأ طا. سين. ميم. مع إدغام نون سين في الميم التي تليها باخِعٌ البخع أن يبلغ بالذابح النخاع، وذلك أقصى حد الذابح والمراد قاتلها ومهلكها أَعْناقُهُمْ قادتهم ورؤساؤهم زَوْجٍ صنف كَرِيمٍ حسن جميل.
وهكذا جاءت السورة بذلك الطابع حيث تكلمت عن القرآن الكريم وموقف المشركين منه، ثم تعرضت لقصص بعض الأنبياء- عليهم السلام-، ثم ختمت بالكلام على القرآن والنبي صلّى الله عليه وسلم.
المعنى:
هذه الآيات- الإشارة إلى آيات هذه السورة- آيات من الكتاب أى: القرآن الكريم المبين عن أغراضه ومقاصده وأحكامه وإعجازه، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ وهذه الإبانة في الواقع ونفس الأمر بقطع النظر عن عقيدة الكفار.
نعم أنزل عليك يا محمد كتاب أحكمت آياته، وفصلت من لدن حكيم خبير، فيه الهدى والنور لك ولأمتك، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وإذا كان هذا القرآن كذلك، ولم يؤمنوا به، فليس لنقص فيه. ولكن الله أراد ذلك، وعلى هذا فلا تبالغ في الحزن والأسف على عدم إيمانهم لأنك إن بالغت فيه كنت كمن يقتل نفسه، ويبالغ في ذبحها، ثم لا ينتفع بذلك أبدا، فنحن مشفقون عليك أيها الرسول إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ.
واعلم أن الله على كل شيء قدير، وهو قادر على أن ينزل آية تلجئهم إلى الإيمان وتقسرهم عليه، وهم يذلون لها ويخضعون وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «١». وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً «٢» وكانت حكمته أن جعل الناس أحرارا، وجعل لهم اختيارا فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وقد قامت الحجة على الناس بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم مبشرين ومنذرين، ولهذا أثابهم وعاقبهم.
(٢) سورة هود الآية ١١٨.
والله- سبحانه- يقول لهم ما معناه: إن الله قادر على أن ينزل آية تخضع لها أعناقهم وتذل، ومع هذا فهو ينزل القرآن آية بعد آية رحمة بهم لعلهم يهتدون ويتذكرون ولكنهم أبدا لا يتعظون ولا يؤمنون، بل هم معرضون ومكذبون ومستهزئون، وإذا كانوا هم بهذا الوضع فلا ينفع معهم إلا الزجر الشديد، والوعيد الذي يهز القلوب وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ «١» ولقد صدق الله حيث يقول فيهم:
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ «٢» نعم سيرون هذا بنزول العذاب عليهم في الدنيا، ونصرة محمد وصحبه الضعاف عليهم، أو سيرون ذلك يوم القيامة.
وقد بين الله- سبحانه- أنه مع إنزال القرآن آية بعد آية، وحالا بعد حال قد أظهر أدلة كونية في كتاب الوجود لا تخفى على أحد ممن يعقل فقال.
أعموا ولم يروا إلى الأرض وعجائبها؟ التي تنطق بأن لهذا الكون إلها قويا قادرا عليما خبيرا، لا يمكن أن يقاس بتلك الأصنام والأحجار، أو لم يروا إلى الأرض كثيرا ما أنبتنا فيها من كل زوج وصنف كريم، ولا شك أن كل نبات في الأرض كريم أى له فوائد، وإن خفيت على بعض الناس.
إن في ذلك الإنبات لآية بليغة معجزة قوية وأى آية؟!! وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز يعز أولياءه وينصر أحبابه، القوى الذي يهزم أعداءه، ويهلكهم حيث يستحقون ذلك، الرحيم بالعباد جميعا ففي نعمه ونقمه رحمة بالخلق وقد نفى القرآن عنهم الرؤية مع أنهم يرون، ولكنهم كالبهائم التي ترى ولا تعقل، والرؤية المنفية عنهم هي رؤية الروح والقلب التي بها العظة والعبرة والذكرى لا رؤية العين فإنها موجودة.
(٢) سورة الشعراء الآيتان ٥ و ٦.
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤)
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩)
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩)
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤)
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩)
قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤)
وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤)
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)
كَلَّا كلمة زجر وردع والمراد: اتق الله وانزجر عن خوفك منهم بِآياتِنا المراد هنا معجزاتنا فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ خرجت من بينكم إلى مدين لا ضَيْرَ لا ضرر فيما يلحقنا من عذاب الدنيا أَسْرِ بِعِبادِي أى سربهم ليلا لَشِرْذِمَةٌ لجميع قليل محتقر لَغائِظُونَ أى: غاظونا بخروجهم من غير إذن حاشِرِينَ جامعين لأفراد الجيش مُشْرِقِينَ داخلين في وقت الشروق تَراءَا الْجَمْعانِ المراد التقى الجيشان فِرْقٍ الفرق القطعة من البحر كَالطَّوْدِ الجبل الشامخ وَأَزْلَفْنا وقربنا هناك قوم فرعون حاذِرُونَ آخذون حذرهم وأهبتهم.
والأعراف. ويونس. وهود. وطه. والشعراء. والنمل. والقصص. وغافر.
والسجدة. والنازعات، ولكن بأساليب مختلفة.
وقصة موسى مع فرعون تشتمل على عناصر وقد ذكرت في مواضع سنلخصها بما يأتى:
ولادته وإرضاعه: في سورة القصص من آية ٧ إلى ١٣ في سورة طه من آية ٢٧ إلى ٤٠ تربيته في بيت فرعون:
في سورة الشعراء من آية ١٨ خروج موسى من مصر إلى أرض مدين: في سورة طه من آية ٤٠ في سورة القصص من آية ١٥ إلى ٢١ أرض مدين ونزوله بها: في سورة القصص من آية ٢٢ إلى ٢٥ قضاء موسى مدة استئجاره: في سورة القصص من آية ٢٦ إلى ٢٨ موسى بالوادي: في سورة طه من آية ٩ إلى ٢٣ في سورة القصص من آية ٤٤ إلى ٤٦ في سورة القصص من آية ٢٩ إلى ٣٢ في سورة النمل من آية ٧ إلى ١٢ بعثته عليه السلام: في سورة طه من آية ٢٤ إلى ٣٦ في سورة طه من آية ٤٢ إلى ٤٧ في سورة الشعراء من آية ١٠ إلى ١٦ في سورة النازعات من آية ١٥ إلى ١٩ عودة موسى إلى مصر ودعوته لفرعون: في سورة الأعراف من آية ١٠٤ إلى ١٠٥ في سورة الشعراء من آية ١٧ إلى ٢٢ موسى يحاج فرعون في ربوبية الله في سورة طه من آية ٤٨ إلى ٥٥ في سورة الشعراء من آية ٢٣ إلى ٥٥ فرعون يتجاهل الله ويدعى الألوهية في سورة القصص من آية ٢٨ في سورة غافر من آية ٣٦ إلى ٣٧
واذكر يا محمد وقت أن نادى ربك موسى، وهو بالوادي المقدس طوى والمراد ذكر ما حصل في الوقت من عجائب وأحوال، ولقد ناداه ربك بكلام هو أعلم بكيفيته، والمهم أن موسى عرف ما ناداه به ربه، وقام بما كلفه خير قيام، ناداه، وقال له: أئت القوم الظالمين، قوم فرعون فإنهم ظلموا أنفسهم بالشرك، وظلموا بنى إسرائيل حيث أذاقوهم العذاب الأليم، ألا يتقون هؤلاء الناس؟ ألا يخافون بطش العزيز الجبار؟!! يوم لا ينفع مال ولا بنون.
قال موسى: يا رب إنى أخاف أن يكذبوني ويضيق صدري بما يعملون، ولقد عشت بعيدا عن مصر مدة من الزمن فضعفت لهجتى المصرية، فلا ينطلق لساني بها، وأخى هارون هو أفصح منى لسانا، وأقوى بيانا، ولهم على ذنب، فإنى قد قتلت قبطيا قبل خروجي من مصر، لهذا وذاك فإنى أخاف أن يقتلوني، قال الله- سبحانه وتعالى- كَلَّا لن يصيبك شيء أبدا، فالله معك، وناصرك أنت وأخيك، فاذهبا إلى فرعون وملئه بآياتنا ومعجزاتنا، إنا معكم، ولن نترككم لحظة، فالله سميع بصير، لا تخفى عليه خافية.
فأتيا فرعون. فقولا له: إنا رسولا رب العالمين لك ولقومك، فأرسل معنا بنى إسرائيل ليعبدوا ربهم في البرية، ولا تعذبهم يا فرعون... قد جئناك بآية من ربك، والسلام على من اتبع الهدى.
طلب موسى من فرعون، أن يرسل معه بنى إسرائيل ليذهب بهم إلى فلسطين قال له فرعون: يا موسى: كيف تجيء بدين يخالف ديننا، وتأتى بأمور على غير رغبتنا؟! ألم نربك فينا وليدا؟ وقد لبثت بين يدينا في بيت الملك مدة من الزمن نحتضنك ونربيك؟ فكيف يصدر هذا منك؟، ومتى كان هذا الذي تدعيه؟ والمراد قر واعترف بأنا ربيناك، ومكثت عندنا وفي بيتنا عددا من السنين، ثم ذكره بفعلة فعلها قبل خروجه من مصر فقال له: قر واعترف بأنك فعلت فعلتك التي فعلتها، وهي قتل القبطي، فعلتها وأنت من الكافرين بقتل نفس بغير حق.
ومن كان هذا وصفه بأن ربي في بيت فرعون، وكان الأليق به ألا يأتى بشيء على غير رغبته ردّا للجميل، ومن قتل قبطيّا، وارتكب مثل هذا الذنب لا يضيف
محاجة موسى لفرعون في شأن ربه: لما ألحّ موسى في طلب إخراج بنى إسرائيل من مصر إلى فلسطين، وطلب من فرعون وملئه أن يعبدوا ربهم الذي خلقهم، ولم يجد معه التلطف والتذكير بالنعم وخلق هذا العالم قال له فرعون: وما رب العالمين؟
قال موسى: هو رب السموات والأرض وما بينهما، خلق ذلك وابتدعه على أحسن صورة وأكمل نظام، إن كنتم موفقين فاعلموا ذلك، فالتفت فرعون إلى من حوله من ملئه مظهرا العجب قائلا. ألا تسمعون لهذا التخريف، واستمر موسى في كلامه قائلا: هو ربكم ورب آبائكم الأولين، لفت نظرهم إلى شيء هام، وهو أن الرب الحقيقي الذي خلقكم وخلق آباءكم الأولين، فأنتم محدثون. كنتم بعد العدم، وآباؤكم ذهبوا وماتوا بعد أن كانوا موجودين، وفرعون أمره كذلك كان بعد العدم، وسيفنى بعد الوجود، وأما الإله فهو الباقي بعد فناء خلقه، القديم الذي لا أول لوجوده...
فما كان من فرعون إلا أن قال لقومه: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون لأنه جاءنا بشيء لا نعرفه.
وأما موسى فقال: هو الله رب المشرق والمغرب، ورب الكون كله وصاحب الأمر فيه جل جلاله، وتقدست أسماؤه، وتنزه عن الشبيه والولد والوالد، فهو الإله الحق، لا ما أنتم فيه، إن كنتم تعقلون.
وفي سورة (طه) تتميم لهذا الموقف إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) إلى آخر الآيات.
ولما رأى فرعون وقومه تلك الآيتين الحسيتين اللتين تشهدان لموسى بالصدق قالوا هذا سحر مبين، وهذا ساحر ماهر يموه علينا، ويقلب الحقائق، فهو كبقية السحرة، وليس رسولا لرب العالمين كما يدعى، هذا الذي يريد أن يخرجكم من أرضكم ويتغلب عليكم بسحره، ويأخذ بنى إسرائيل من تحت أيديكم... وتشاوروا فيما بينهم: ماذا يفعلون؟ قال بعضهم لفرعون: الرأى أننا نرجئ أمر موسى وأخيه إلى موعد نضربه معهما، ونجمع السحرة المهرة من كل مكان في الدولة، وهؤلاء السحرة ستأتى في مشهد من الناس بأفعال كفعله وأقوى، فتكون النتيجة أنه كباقي السحرة في المدينة، وليس له فضل، ولا حق فيما يدعيه، وكان هذا هو الرأى...
أرسل فرعون في المدائن حاشرين يجمعون له السحرة من كل حدب وصوب، وكان السحرة في القديم هم الطبقة المثقفة، ولهم مكانتهم عند الملوك والجبابرة وجاءوا مدلين واثقين من أنفسهم وتغلبهم على موسى، وطالبوا بأجرهم فقال فرعون. نعم لكم ما تطلبون، وإنكم إذ تغلبون لمن المقربين.
فلما اجتمع القوم، التقى السحرة بموسى قال لهم: ألقوا ما أنتم ملقون به، من العصى والحبال، وذلك بعد ما عرضوا على موسى أن يلقى هو أولا... فألقوا حبالهم وعصيهم، فامتلأ المكان حيات وثعابين، وخيل إلى الكل حتى موسى أنها تسعى وقالوا إنا بعزة فرعون لغالبون.
في تلك اللحظة ابتهج فرعون وقومه، وأيقنوا أن السحرة غلبوا، وأن موسى لن يستطيع أن يغلبهم في شيء إذ معه عصاه، وستكون حية واحدة بين آلاف الحيات.
وعند ذلك أوجس موسى في نفسه خيفة، فأمره الله أن يلقى عصاه فإذا هي حية تسعى، وإذا هي تبلع حيات السحرة وتتلقفها بسرعة فائقة!! الآن ظهر الحق، وبطل ما كانوا يعملون، ودهش آل فرعون والملأ من قومه، وعلم السحرة أن السحر لا
علم السحرة أن السحر لا يفعل ذلك، إنما هي القوة الإلهية التي صنعت ذلك، القوة القادرة التي هي فوق قوى البشر جميعا، فخروا ساجدين لله بلا شعور ولا نظام ولا ترتيب وآمنوا برب موسى وهارون، مفضلين الحق على الباطل، رامين بقول فرعون وأجره وباطله وجبروته عرض الحائط، غير عابثين بما يترتب على ذلك من نتائج.
لما رأى فرعون ذلك تحير ماذا يفعل في هذا الحدث الخطير الذي شاع وانتشر بين الشعب جميعه، وكان في طلبه الناس ليشهدوا الحفل، وجمعه السحرة ليعجزوا موسى، كان في هذا كله كالساعي لحتفه بظلفه.
ثم التفت إلى السحرة الذين خذلوه في وقت هو في أشد الحاجة إلى أن ينصروه، وقال لهم متوعدا: آمنتم له، وصدقتم برسالته عن ربه قبل أن آذن لكم؟!! إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة، وهو تدبير اتفقتم عليه سابقا، إنه لكبيركم الذي علمكم السحر قديما، قال هذا وهو يعلم أنه ربي في بيته ثم هاجر إلى مدين، وعاد منها رسولا، فلم يجتمع بالسحرة أبدا، ولم يدبر معهم أمرا، ولا علمهم علما، ولكنه المغلوب يتخبط تخبط الأعمى.
ثم هددهم بالعذاب المادي فقال لهم: لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم جميعا في جذوع النخل، ولتعلمن بعد هذا: أينا أشد عذابا وأقوى؟! قال السحرة مقالة المؤمن الواثق، المؤمن الفاهم، المؤمن العالم بحقائق الأشياء قالوا:
لا ضير علينا، ولا ضرر، فيما يلحقنا من عذاب الدنيا، فعذابك ساعة نصبر عليها، ونلقى الله مؤمنين، إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ وماذا يفعل عذابك؟ إنه لن ينال إلا الجسد الفاني، والمادة الزائلة، أما نحن فيستحيل علينا أن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والهدى، والنور الذي قذفه في قلوبنا ربنا، فاقض ما أنت قاض، إنما تقضى هذه الحياة الدنيا، إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا لأن كنا أول المؤمنين، إنا نطمع فيه أن يغفر لنا خطايانا، وما أكرهتنا عليه من السحر، واعلم أن الله خير وأبقى.
هكذا أيها الأخ المسلم قديما وحديثا كان العذاب والإيلام لأخيك المؤمن الذي قال
فصبرا ثم صبرا لكل من عذب في سبيل الله والدعوة لدين الله، فعسى أن يكون هذا تطهيرا لنفوسنا وإصلاحا لقلوبنا أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [سورة العنكبوت آية ٢].
انطلاق بنى إسرائيل وخروجهم من مصر وغرق فرعون: أوحى الله إلى موسى بعد هذا كله: أن أسر بعبادي، واخرج بهم ليلا، ففعل موسى، وقد أخبره الله أن فرعون سيتبعه، وكان كذلك فلما علم فرعون بخروجهم أرسل في المدائن من يجمع له الجند الكثيف والجيش الكثير ليردهم إلى العبودية، وقال: إن هؤلاء، أى: بنى إسرائيل جماعة قليلة إذا قيست بالمصريين، وإنهم لنا لغائظون، حيث سفهوا أحلامنا، وجاءوا لنا بدين لم نألفه، وشرع لم نعرفه، إنا لجمع حاشد، ومعنا جيش منظم مستعد كامل العدد والعدد، قد اتخذ أهبته وحمل سلاحه.
فلحقوهم عند شروق الشمس صباحا على خليج السويس، فلما رأى بنو إسرائيل فرعون وجنده أيقنوا بالهلاك، ولكن موسى النبي الملهم سكن روعهم، وهدأ نفوسهم وبشرهم بالنصر العاجل، والهلاك الماحق لفرعون ومن حوله فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق، ولما انفلق البحر صار فيه اثنا عشر طريقا على عدد أسباط بنى إسرائيل، ووقف الماء بينهم كالطود العظيم، فصار لموسى وأصحابه طريقا في البحر يبسا.
وأما فرعون وقومه فتبعوا بنى إسرائيل، وصاروا خلفهم حتى إذا ما توسطوا الماء وقد نجا بنو إسرائيل، وجاوزوا البحر، انطبق البحر على فرعون وجنوده وعاد كما كان أولا، ولم يفلت منهم أحد، وهذا معنى قوله تعالى. وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ [سورة الشعراء الآيتان ٦٤ و ٦٥].
وهكذا نجى الله المؤمنين، وأهلك الظالمين الكافرين، وأخرجهم من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم، هكذا أورثناها بنى إسرائيل حقبة من الزمن.
قصة إبراهيم [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٦٩ الى ١٠٤]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣)
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨)
إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣)
فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨)
وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
نَبَأَ النبأ الخبر المهم عاكِفِينَ مقيمين على عبادتها خَطِيئَتِي ذنبي حُكْماً فهما وعلما، وحكمة، ومنه قولهم: الصمت حكم وقليل فاعله لِسانَ صِدْقٍ أى ثناء حسنا. وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ قربت وأدنيت ليدخلوها وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ المراد ظهرت جهنم فَكُبْكِبُوا فِيها ألقوا فيها، والكبكبة الإلقاء على الوجه مرة بعد مرة كَرَّةً رجعة إلى الدنيا.
وتتلخص القصة التي ذكرت في هذه السورة:
(أ) في محاجة إبراهيم لأبيه وقومه في عبادة الأصنام وترك عبادة الواحد القهار.
(ب) ما ينتظره المؤمنون والكافرون يوم القيامة من أحوال.
(ج) العبرة من القصة.
واتل يا محمد على كفار مكة وعلى غيرهم نبأ إبراهيم، وخبره المهم ليعرف المشركون خصوصا أهل مكة ما كان عليه أبوهم إبراهيم، وكيف كانت مواقفه مع قومه وبخاصة أبيه، وفي ذلك عبرة لأولى الألباب.
واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون؟ سألهم عن عبادتهم وهو بها أعرف ليلفت نظرهم إلى ما يعبدون.. قالوا: يا إبراهيم: نعبد أصناما فنظل لها عاكفين، وعلى عبادتها مقيمين.. قال إبراهيم مناقشا لهم: عجبا لكم! هل يسمعون دعاءكم إذ تدعون؟ وهل ينفعونكم في شيء أو يضرون؟.. قالوا مجيبين له على سؤاله واعتراضه: بل وجدنا آباءنا لها عابدين يا عجبا؟ يلفت إبراهيم نظرهم إلى هذه الأصنام التي لا تسمع دعاء، ولا يكون منها نفع ولا ضرر مقصود، يعنى ليس لهم حجة أبدا في عبادتها وتقديسها، وهم لا يرون لهم حجة أبدا إلا التقليد الأعمى فيقولون حجتنا: أنا وجدنا آباءنا لها عابدين، وإنا على آثارهم مقتدون. قال إبراهيم: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون؟ والمعنى أخبرونى عن حال ما كنتم تعبدون.
هل هم يستحقون العبادة أم لا؟ وهذا استهزاء منه بعبدة الأصنام، أخبرونى عن حالهم إن كانت لهم قوة حتى أحتاط لنفسي لأنهم أعداء لي.
لكن رب العالمين ليس كذلك بل هو وليي في الدنيا والآخرة، وهو الذي خلقني، فهو يهديني إلى خيرى الدنيا والآخرة، ولقد صدق الله إذ يقول سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [سورة الأعلى الآيات ١- ٣].
وهو الذي يطعمنى ويسقيني أليس هو ربي وربكم الذي خلق ما في الكون وسخره- للإنسان، يأكل منه ويشرب، ويلبس ويتمتع رزقا للعبادا. ومتاعا لكم ولأنعامكم؟
وإذا مرضت فهو ربي الذي يشفيني إن كان في العمر بقية، وانظر إلى أدب النبوة العالي حيث نسب المرض إلى نفسه والشفاء لله مع أن الكل منه وإليه، وهذا لا يمنع من اتخاذ الأسباب والعمل بها. كالمتوكل على الله بعد الأخذ بها.
والذي يميتني إذا انقضى أجلى، ثم يحييني للحساب والثواب، والموت وما بعده من حياة نعم من نعم الله على عبده.
هذا هو الثناء على الحق جل جلاله بما يليق ثم أتبعه بالدعاء لنعلم أن من وسائل الاستجابة الثناء والتضرع والعبادة الخالصة ثم الدعاء، فإن دعونا بدون ذلك فقد جانبنا أدب الدعاء.
رب هب لي حكما وحكمة، وعلما وفضلا يا واسع الفضل، وألحقنى بالصالحين في الدنيا والآخرة كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم عند الاحتضار «اللهم في الرفيق الأعلى»
وإذا كان دعاء إبراهيم- عليه السلام- وهو أبو الأنبياء- عليهم جميعا الصلاة والسلام- أن يلحقه ربه مع الصالحين فما بالنا نحن؟ وبماذا ندعو الله؟!!!.
يقول إبراهيم داعيا ربه: واجعل لي لسان صدق في الآخرين أى ذكرا جميلا، وثناء حسنا أذكر به، ولهذا كانت كل أمة تحبه وتتولاه، وتؤمن به وتدعى أنها على طريقته، وقيل معنى الآية: واجعل لي صاحب لسان صدق في الآخرين يجدد أصل ديني، ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه، من التوحيد الخالص والإيمان بالبعث وبيوم القيامة. وصاحب هذا اللسان الصادق هو محمد صلّى الله عليه وسلم.
واجعلنى من ورثة جنة النعيم الذين يعطونها ويستحقونها بعملهم كاستحقاق الوارث من مال مورثه، واغفر لأبى إنه كان من الضالين الذين لم يعرفوا طريق الحق وهذا الدعاء قبل أن يتبين له أنه عدو لله فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [سورة التوبة آية ١١٤].
ولا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون، فإنه لا يقي المرء من عذاب الله ماله، ولو افتدى نفسه بملء الأرض ذهبا، ولا يقيه بنوه، ولو افتدى بمن في الأرض جميعا، ولا ينفع يومئذ إلا الإيمان بالله، والإخلاص له والبعد عما يغضبه من المعاصي والشرك، ولهذا قال الله: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ سالم من دنس الشرك والمعاصي سليم من الشك والنفاق إذ هي أمراض القلوب فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [التوبة ١٢٥].
هذا حال إبراهيم الخليل مع أبيه وقومه يحاجهم ويناقشهم، وهذا حاله مع ربه يثنى
وأزلفت الجنة للمتقين، نعم، وقدمت لهم مجلوة كالعروس تملأ العين بهجة والقلب رواء، فلم يبحثوا عنها، ولم يتعبوا يوم القيامة في طلبها، وبرزت الجحيم للغاوين، وظهرت لهم تملأ قلوبهم حسرة، ونفوسهم حزنا وكدرة على ما فرط منهم من جهل وضلال في الدنيا، وقيل لهم تأنيبا: أين ما كنتم تعبدون؟ أين أولياؤكم من دون الله؟
هل ينفعونكم اليوم؟ هل ينصرونكم ويمنعونكم من العذاب؟ وهل ينصرون هم من عذاب الله؟.. لا هذا ولا ذاك ولكنهم جميعا العابد والمعبود يلقون في النار على وجوههم، وسيلقى الله بعض الكفار على بعض إلقاء مكررا حتى يهوون في قعر جهنم جزاء بما كانوا يعملون.
فكبكبوا فيها هم والغاوون لهم من شياطين الإنس والجن وجنود إبليس وأعوانه أجمعون.
قالوا أى بعضهم لبعض- وهم في جنهم يختصمون- تالله إن كنا لفي ضلال مبين، إذ نسويكم أيها الأصنام والأحجار والملائكة وبعض البشر إذ نسويكم برب العالمين، ونجعل أمركم كأمره، وطاعتكم كطاعته، وفي الحق ما أضلنا إلا المجرمون فما لنا من شافعين يشفعون لنا، وما لنا من صديق حميم يدافع عنا أى ليس لنا هذا ولا ذاك إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [سورة ص آية ٦٤].
فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين، تمنوا أن يرجعوا إلى الدنيا مرة ثانية ليعملوا ولكن كما قال لهم الله وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة المؤمنون آية ٧٥] إنها قلوب عميت وضلت ولن تهتدى أبدا.
إن في ذلك لآية وعبرة، نعم إن في محاجة إبراهيم لقومه، وتغلبه عليهم، وإقامة الحجة عليهم في التوحيد لآية وعبرة لأولى الألباب، وإن في موقف إبراهيم من أبيه وقومه لما يثبت قلب النبي ويهدئ روعه فلا يحزن على كفر قومه وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز المنتقم الجبار لمن عصاه، الرحيم بعباده المؤمنين الطائعين...
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤)
إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩)
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢)
المفردات:
الْأَرْذَلُونَ جمع أرذل. والمراد السفلة وأصحاب الحرف الوضيعة، وقيل هم الفقراء فَتْحاً احكم حكما الْمَشْحُونِ المملوء بالناس والحيوان.
هذه هي قصة نوح الذي عاش في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى عبادة الله، وترك الشرك وعبادة الأوثان، ومع ذلك كذبه قومه فقال الله فيهم: كذبت قوم نوح المرسلين، فإن من كذب رسولا واحدا فقد كذب الكل لأن الرسول يدعو إلى الإيمان بجميع الرسل وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [سورة البقرة آية ٢٨٥].
كذبوا إذ قال لهم أخوهم نوح: ألا تتقون! أتدعون صنما وتذرون أحسن الخالقين، والله ربكم ورب آبائكم الأولين، إنى يا قوم لكم رسول أمين في رسالتي صادق في دعواي أنى رسول رب العالمين، فاتقوا الله، وأطيعونى، وإنى لا أرى سببا لعصياني وتكذيبي وأنا أخوكم تعرفون عنى ما تعرفون من شرف النسب وكرم الخلق وصدق الحديث، وأنا لا أطلب بدعوتي مالا ولا جاها ولا ملكا، وما أجرى إلا على ربي، وليس جزائي إلا عنده فما لكم تكفرون؟ فيا قوم اتقوا الله وأطيعونى.
قالوا يا نوح: أنؤمن لك واتبعك الأرذلون؟ لم يجدوا حجة تؤيدهم في ترك الإيمان إلا أنه قد اتبعه ضعاف الناس وفقراء القوم.
يا للعجب! الحياة يوم مكرر، فقديما وحديثا منع الناس من الإيمان ذلك الفهم السيئ، وذلك الغرور الكاذب الذي أوقع إبليس في العصيان لأنه اغتر وقال: أأسجد لآدم، وأنا خير منه خلقتني يا رب من نار وخلقته من طين، ومنع أشراف قريش من الإيمان بمحمد لأنه آمن به بلال وصهيب وغيرهم من عامة الناس.
وهؤلاء أتباع نوح يقولون: أنؤمن لك ونصدق بك وقد اتبعك الأرذلون أصحاب الحرف الوضيعة. لا يمكن، نحن أشراف القوم! فيقول لهم نوح: وما علمي بما كانوا يعملون، لم أكلف العلم بأعمالهم وأحسابهم وأنسابهم. إنما كلفت بدعواهم للإيمان برب العالمين فاستجابوا لي، وآمنوا بي بعد إيمانهم بالله وملائكته واليوم الآخر، وأما أعمالهم فحسابهم على ربي لا علىّ، يا ليتكم تشعرون بذلك، لو تشعرون وتعلمون أن حسابهم على ربهم لما عاتبتمونى بصنائعهم، وما أنا بطارد المؤمنين مهما كانوا من فقر أو ضعف أو رقة حال فالكل سواء، ولا فضل لأحد إلا بالعمل الصالح، وما أنا إلا نذير مبين.
فلما ضاق بهم ذرعا، واستعصى عليه أمرهم دعا ربه وقال: رب إن قومي كذبوني فاحكم بيني وبينهم حكما عدلا، ونجنى ومن معى من المؤمنين.
فكان الحكم العدل والقضاء، الذي لا يرد: أن الله أنجاه ومن معه من المؤمنين أنجاه في الفلك المشحون بالخلق، وقد مضى ذكرها والكلام عليها في سورة [هود والمؤمنون].
ثم أغرق الله الكافرين مطلقا.
إن في ذلك لآية وأى آية أبلغ من تلك لو كنتم تعلمون يا كفار قريش فهذا نوح دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وما آمنوا به، بل وقالوا: أنؤمن لك واتبعك الأرذلون، وها أنتم أولاء يدعوكم نبيكم الصادق الأمين فلم تؤمنوا، وقلتم أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [سورة الأنعام آية ٥٣]. وقلتم إن أردت أن نؤمن لك فلا تجلس مع هؤلاء العبيد والخدم.
اتعظوا أيها القوم بما حل بالمشركين قبلكم حينما غضب عليهم نبيهم فقد غرقوا، ولم ينج إلا نوح والمؤمنون معه، وابنه لأنه لم يؤمن قد غرق كذلك، وأما أنت يا محمد فلا تحزن ولا تيئس فالنصر للمؤمنين والهلاك للكافرين، ونوح دعا قومه مدة من الزمن ومع ذلك ما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم.
قصة هود مع قومه [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٢٣ الى ١٤٠]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧)
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠)
رِيعٍ جمع ريعة. المرتفع من الأرض، وقيل الطريق آيَةً علامة تَعْبَثُونَ تفعلون ما لا فائدة فيه أصلا كاللعب مَصانِعَ جمع مصنعة وهي الحوض أو البركة، وقيل هي القصور والمدائن بَطَشْتُمْ البطش السطوة والأخذ بعنف خُلُقُ عادة وطبع وقرئ خلق بمعنى اختلاق وكذب.
المعنى:
أرسل الله هودا إلى قومه عاد، وكانوا قوما أولى بأس وشدة ورخاء ونعيم فقال لهم: اعبدوا الله وحده فما لكم من إله غيره ألا تتقون الله، وتخافون عذابه، إنى لكم رسول أمين على رسالتي التي هي من عند الله، فاتقوا الله وأطيعونى، يصلح لكم أعمالكم، ويحفظ عليكم نعمكم، وأنا لا أسألكم على ذلك أجرا ولا مالا، ولا أبغى
وقال لهم هود: يا قوم أتبنون بكل مرتفع من الأرض أو بكل طريق بناء كالعلامة التي يهتدى بها حالة كونكم تعبثون؟ وتلعبون بهذا البناء، ولم تنتفعوا به فيما ينفعكم، وقيل أنتم في هذا البناء تسخرون، وتهزءون بغيركم حينما يمرون عليكم؟ وتتخذون مصانع تجمعون فيها الماء كالأحواض والبرك والسدود، أو تتخذون مصانع من المدائن والقصور الشامخات، والتاريخ يحدثنا بأنهم كانوا أصحاب سدود وأحواض لجمع المياه، وأصحاب قصور شامخات لعلكم بذلك كله تخلدون، والمراد فعلتم هذا راجين الخلود في الدنيا منكرين البعث وإذا بطشتم بأحد بطشتم جبارين، وقد كانت تلك القبيلة ذات بأس وقوة وشدة، وقد زادهم الله بسطة في الجسم والخلق، وبوأهم أرضا تدر عليهم من الخير الكثير، لهذا كانوا إذا سطوا أو حاربوا بطشوا بعنف وشدة.
وقد وصفهم الله بصفات ثلاثة كلها تدل على أنهم يريدون علوا في الأرض واستكبارا، فهم يبنون بكل ريع بناء ضخما حالة كونهم به يستهزئون ويعبثون، وهم قد اتخذوا المصانع والمنازل كأنهم مخلدون، وإذا بطشوا بالغير بطشوا جبارين، وهذه صفات تتنافى مع الإيمان والتصديق بالرسل الكرام، لذا تجدهم كذبوا هودا وتحدوه يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ.
مع أن هودا كان يدعوهم بالحسنى ويذكرهم بالنعمى، لعلهم يثوبون ويرجعون فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ واتقوا يا قوم الذي خلقكم وأمدكم بما تعلمون من النعم، أمدكم بأنعام منها تأكلون، وعليها تحملون، ومن أوبارها وأشعارها تلبسون، وأمدكم ببنين أولى بأس وقوة، وأمدكم بجنات وعيون، وهل بعد هذا نعمة؟ أعطاهم أنعاما ورجالا، وجنات وأنهارا أفليس هذا مما يدعو إلى الشكر وامتثال الأمر، ولذا قال هود لهم: يا قوم. إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم في الدنيا والآخرة.
ولكنهم قوم مغرورون، لم يستجيبوا لنبيهم بل قالوا له: يستوي عندنا وعظك لنا وتحذيرك إيانا وعدم وعظك أصلا، فإنا لا نرعوى لوعظك، ولا نسمع لكلامك والسبب في هذا. أن الذي خوفتنا به ما هو إلا خلق الأولين وافتراؤهم وكذبهم، وعلى قراءة (خلق) يكون المعنى إن هذا الذي نحن عليه من بناء الصروح والقوة في
وكانت النتيجة أنهم كذبوه في كل ما أتى به، فأهلكناهم بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال، وثمانية أيام حسوما. فترى القوم فيها صرعى، كأنهم أعجاز نخل خاوية.
إن في ذلك لآية: وأى آية أقوى وأشد أثرا وأبعد مغزى من هذه؟
فمنها نعرف الموقف النبيل الذي وقفه هود من قومه حينما رموه بالسفاهة والجنون فقال لهم: يا قوم ليس بي سفاهة، ولست أنا مجنونا.
ومنها نعرف كيف يتلطف الداعي فيذكر النعم التي منّ الله بها والتي تقتضي الشكر لله، والإيمان به.
وفي هذه القصة نرى كيف أهلك الله من عصى رسوله ولم يؤمن به فاحذروا يا آل مكة من عصيانكم وتكذيبكم، وها أنت يا محمد- وأنت الرسول الصادق الأمين- ترى ما فعله أخوك، وما حل بالقوم الكافرين، ومع هذا كله فما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الذي لا يغلبه أحد، الرحيم بمن آمن به...
قصة صالح مع قومه ثمود [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٤١ الى ١٥٩]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥)
أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥)
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩)
طَلْعُها أول ما يطلع من ثمرة النخل، وهو كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو هَضِيمٌ لين متكسر من هضم الغلام يهضم خمص بطنه ولطف كشحه فهو أهضم وهضماء وهضيم. أما هضم يهضم فمعناه كسر أو ظلم فارِهِينَ بطرين أو أشرين أو حاذقين مأخوذ من الفراهة وهي النشاط الْمُسَحَّرِينَ الذين سحروا كثيرا حتى غلب السحر على عقولهم شِرْبٌ نصيب من الماء تشربه فَعَقَرُوها ذبحوها.
المعنى:
أرسل الله إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا من أوسطهم نسبا وأكرمهم خلقا، فقال لهم: ألا تتقون. دعاهم إلى عبادة الله وترك الأصنام، وقال لهم: إنى لكم رسول أمين، فاتقوا الله حق تقواه، وأطيعونى حيث إنى رسول رب العالمين إليكم وما أسألكم على ذلك أجرا، ولا أطلب منكم مالا، ولا أريد جاها ولا رئاسة.
وما أجرى إلا على رب العالمين | ومن الواضح أن صالحا كغيره أيدت دعواه |