ﰡ
نزلت بمكة بعد الواقعة عدا الآيات ١٩٧ ومن ٢٢٤ إلى آخر السورة، فإنها نزلت بالمدينة وهي مائتان وسبع وعشرون آية، وألف ومائتان وتسع وتسعون كلمة، وخمسة آلاف وأربعون حرفا، ويوجد في القرآن سورة القصص مبدوءة بمثل ما بدئت به هذه فقط، أما سورة النمل فهي بغير ميم لا نظير لها في القرآن، إلا أنه يعبر عن هذه السور الثلاث بالطواسيم، كما يعبر عن السور السبع الآتية في ج ٢ بالحواميم، وآل حاميم، لأنها مبدوءة بلفظ حم.
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»
قال تعالى: «طسم» ١ القول في معناه كالقول في معنى الم وبقية الحروف المقطعة، وعلى القول بأن هذه اللفظة قسم من الله تعالى، فيقال إنه أقسم بطوله وسنائه وملكه، وعلى القول بأنها مفاتيح بعض أسمائه تعالى فهي مفتاح اسمه السلام والمالك والمحيي وشبهها، والصحيح أنه رمز بين الله ورسوله، راجع بحث الفرق بين الوحي والإلهام في المقدمة «تِلْكَ» أي هذه الآيات المنزلة عليك يا سيد الرسل هي «آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» ٢ لكل شيء الظاهر إعجازه لكل أحد الدال على صحة نبوتك «لَعَلَّكَ»
يا حبيبي «باخِعٌ نَفْسَكَ» البخع أن يبلغ الذابح البخاع وهو عرق مستبطن الفقار أو أقصى حد الذبح، ولم تكرر هذه الكلمة في القرآن لا في سورة الكهف الآية ٦ في ج ٢، ولعلّ للإشفاق وتقال للتعطف على من تحبه إذا رأيته مبالغا بأمر يؤثر عليه مادة أو معنى شفقة عليه، أي مالك متلف نفسك من أجل «أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» ٣ أي لا تفعل هذا بسبب عدم إيمان قومك بل تريث عليهم وتمهل على نفسك وارفق بها من أن تهلكها حسرة وأسفا وجهدا «إِنْ نَشَأْ» نحن إله السموات والأرض إيمانهم قسرا إجابة لاستعجالك «نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً» عظيمة تلجئهم إلى الإيمان حالا «فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها» للخوف من تلك الآية المهولة «خاضِعِينَ» ٤ منقادين إلى الطاعة لا ينفكون عنها أبدا، فلا ترى منهم من
تأمل في نبات الأرض وانظر | إلى آثار ما صنع المليك |
عيون من لجين شاخصات | بأهداب هي الذهب السبيك |
على قضب الزبرجد شاهدات | بأن الله ليس له شريك |
ثم بين هؤلاء القوم بقوله اعني «قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ» ١١ عقوبة الله فيؤمنوا به ويتركوا الإسرائيليين، وقد ذكرهم الله في هذه القصة علهم ينتبهوا من سباتهم فيخافوا العاقبة فيؤمنوا به «قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ١٢ وَيَضِيقُ صَدْرِي» بتكذيبهم «وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي» بسبب العقدة العائقة عن الفصاحة في النطق، وتقدم في الآية ٢٨ من طه أنها في قوة التكلم لا في الجارحة نفسها وقد بينا هناك ماهيتها وسببها «فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ» ١٣ يعينني على التبليغ بمهابته وقوة نطقه «وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ» بقتل القبطي منهم «فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» ١٤ به قصاصا، وستأتي قصته مفصلة في الآية ١٤ من سورة القصص الآتية، «قالَ كَلَّا» لا يقتلونك ولا يضربونك أبدا فأنا حافظك منهم (نذكر بأن كلمة كلّا هذه المفيدة للزجر والردع كررت في القرآن العظيم ثلاثا وثلاثين مرة منها ما يجوز الوقف عليها ومنها ما لا يجوز) «فَاذْهَبا» اليه أنت وأخوك لأني آزرتك به حسب طلبك متلبسين ومتقوين «بِآياتِنا» التي هي النبوة والرسالة وبرهانهما اليد والعصا وهما أول ما أعطيهما موسى عليه السلام «إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ» ١٥ ما تقولانه له وما يقوله لكم، وقد أجراهما في الخطاب مجرى الجماعة تعظيما لشأنهما وجريا على لغة العرب المنزل هذا القرآن عليهم وإليهم ثم قال لهماَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا»
لهِ نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ»
١٦ إليك لم يئن الضمير هنا لأن معنى رسول هنا مرسل الله ورسالته، فإن كان بمعنى مرسل فلا بد من التثنية، وإن كان بمعني الرسالة وهو كذلك هنا فيكون وصفا والوصف يستوى فيه الواحد والجماعة، وهو معروف عند العرب قال كثير:
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم | بشيء ولا أرسلتهم برسول |
ألا من مبلغ عنى خفافا | رسولا بيت أهلك منتهاها |
ثم تلطف بي وعطف علي «فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً» وأهلني له، وأوله بعضهم بالعلم أي أزال عني الجهل، وبعضهم بالنبوة، وظاهر القرآن يؤيد الأول وعليه المعول «وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ» ٢١ إليك وإلى قومك وإلى بني إسرائيل «وَتِلْكَ» التربية «نِعْمَةٌ تَمُنُّها» تمن بها من باب الحذف والإيصال «عَلَيَّ» وجدير أن تجازى بها خيرا لو لم يكن ذلك بسبب «أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ» ٢٢ قومي وأذللتهم وذبحت أولادهم خوفا على ملكك، ولولا هذا لما جعلت بين يديك ولم أكن في مهد تربيتك لأني صرت إليك بسبب ذلك، وعبّد بمعنى ذلل واتخذ عبدا، ولهذا المعنى قال موسى «تَمُنُّها» على طريق الاستفهام الإنكاري، وجاز فيه حذف حرف الاستفهام على حد قول عمر بن عبد الله ابن ربيعة:
لم أنس يوم الربيع وقفتها... وطرفها من دموعها غرق
وقولها والركاب وافقة... تتركني هكذا وتنطلق
أي أتتركني، فيكون المعنى، أتمني على تربيتي وتنسى جنايتك على بني إسرائيل الذين اتخذتهم عبيدا وعاملتهم بالقسوة ولم تقم لهم وزنا، وقد قتلت المئات منهم حرصا على ملكك ولم تراقب من أعطاكه، وقد منعك الله من قتلي لتكون نهايتك على يدي، وانك لو لم تسفك تلك الدماء وتتركني لما صرت إليك وصار لك هذا الفضل علي ولربّاني أبواي «قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ» ٢٣ سؤال عن الجنس أي أي شيء هو، ولما كان الله منزها عنه عدل موسى على جوابه الى ذكر أفعاله تعالى وآثار قدرته المعجزة «قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ» ٢٤ بأنه خالق ذلك، فاعلموا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته، فيكفي خلق هذه الأشياء دليلا عليه إن كنتم تعرفون الشيء بالدليل، وإذا كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي اليه النظر الصحيح، لنفعكم هذا الجواب، ولكن أين الإيقان من فرعون وجماعته، وقال أهل المعاني كما توقنون
وهذا سكون إلى الإنصاف وإجابة للحق، ومن أكمل أخلاق البشر الحسنة وأحاسن الآداب الكريمة، فركن فرعون لقوله حتى زال ما به
«قالَ» ما هو هذا الشيء الذي تأتيني به «فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ٣١ في قولك وإلّا سجنّاك، وإنما قال له هذا خشية من انتقاد قومه له الذين تطاولت أعناقهم إلى
٣٦ شرطة يجمعون العارفين بالسحر وأمرهم «يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ» ٣٧ منهم ما هو بالسحر، ثم تأمرهم أن يتباروا مع موسى وأخيه، وإذ ذاك يظهر لقومك كذبهما فتقتلهما بلا لوم عليك ولا تهتم بأمر آخر، فاستصوب رأيهم ولم يرده مجازاة لهم، لأنه يعلم ان لا فائدة منه لما يعلم من حقيقة موسى، فبعث الحاشرين «فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» ٣٨ هو يوم عيدهم، وتقدمت القصة مفصلة في الآية ٥٦ من سورة طه المارة فراجعها «وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ» ٣٩ لننظر ما يفعل الفريقان ولمن تكون الغلبة فنادى مناديه في الناس ان اجتمعوا فاجتمعوا وقال لهم على طريق السخرية «لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ» يعني موسى وأخاه «إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ» ٤٠ ومن فسر السحرة بالسحرة الذين أحضرهم، قال لم يرد انه يتبع السحرة وإنما يقصد الإعراض عن موسى وأخيه، والأول أولى
«فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ» ٤١ لموسى وأخيه «قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» ٤٢ لدي جاها ومالا وأول الناس دخولا علي «قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ» ٤٣ وذلك بعد أن خبروه كما تقدم في سورة طه «فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ» ٤٤ لموسى وأخيه وأروا الناس ما هالهم وفرح فرعون وملؤه وقومه «فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ» ٤٥ ممّا يخيلونه للناس من قلب عصيهم حيات وأخشابهم حبالا، وحبالهم أفاعي، أي ابتلعت جميع إفكهم وعادت كما هي عصيا وحبالا وأخشابا، وعصا موسى عصا أيضا كما كانت قبل الإلقاء.
مطلب الحكمة من قوله تعالى (تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) :
تنبىء هذه الآية الكريمة عن قضية فنية، وهي لما كانت الحبال والعصي ليست بإفك بل هي من خلق الله حقيقة، فإن حية موسى لم تلقفها، بل التقفت الزئبق الذي طلي بها الذي هو من صنع السحرة، إذ وضعوه بين تجاويف الحبال والعصي وطرحوها في الأرض قبل بزوغ الشمس، فلما طلعت وأثرت حرارتها في الزئبق تحركت وصاروا يدمدمون عليها صورة، حتى سحروا أعين الناس وأروهم إياها
مطلب في السحر وكيفية إهلاك قوم فرعون:
واعلم أن السحر مأخوذ من السحر وهو ما بين الفجر الأول والثاني، وحقيقة اختلاط الضياء بالظلمة، فما هو بليل لما خالطه من أضواء الصبح، ولا هو بنهار لعدم طلوع الشمس للأبصار فكذلك فعل السحر ليس بباطل محقق فيكون عدما لأن العين أدركت أمرا لا تشك فيه، وما هو حق محض فيكون له وجود في عينه، لأنه ليس هو في نفسه كما تشهده العين وبظنّه الرأي، قال الشعراني بعد ما نقل هذا عن بعض الأكابر: كلام نفيس ما سمعنا مثله قط. راجع تفسير سورة الفلق والناس تجد بحث السحر في صورة مسهبة، وله صلة في الآية ١٠١ من سورة البقرة في ج ٣ قال تعالى «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي» بني إسرائيل وذلك بعد سنتين من ايمان السحرة، بعد أن أيس من ايمان فرعون وقومه، إذ لم تؤثر فيهم الآيات المارة ١٢٩ فما بعدها من سورة الأعراف «إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» ٥٣ من فرعون وقومه بعد خروجكم من مصر ليحولوا بينكم وبين مهاجرتكم، فبلغ موسى قومه أمر ربه، فأطاعوه وخرج بهم ليلة عيدهم، وكانوا استعاروا من القبط حليهم ليتزيّنوا به، فلما أحس فرعون بخروجهم قال لقومه ذهب موسى وقومه بأموالنا «فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ» ٥٤ ليجمعوا الناس، ولما احضروهم قام بهم خطيبا فقال «إِنَّ هؤُلاءِ» يشير لموسى وقومه إذ نزلهم منزلة الحاضرين المشاهدين لكمال معلوميتهم عندهم، وهو فريد من بديع الكلام المشتمل عليه كتاب الله الذي لا أبدع منه «لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ» ٥٥ قال ابن مسعود كانوا ستمائة الف وسبعين الفا (على ان ابن خلدون قال في مقدمته إنهم دون هذا العدد بكثير» وإنما قللهم فرعون ليقوي معنويات قومه وجبشه بالنسبة للجيش الذي حشده عليهم، قالوا كانوا الف الف وخمسمائة الف فساقهم أمامه وخرج وراءهم بمائتي الف ملك مع كل ملك الف رجل، والشرذمة الطائفة
فأظهر لهم بخطابه قوة شكيمته وأغراهم حتى أخرجهم جميعا من بلادهم ولحقوا بموسى وقومه ليردوهم إلى مصر ويضيقوا عليهم أكثر من ذي قبل انتقاما منهم، قال تعالى «فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» ٥٨ من بلادهم الموصوفة بذلك «وَكُنُوزٍ» من ذهب وفضة تركوها فيها وإنما سماها الله كنوزا لأنهم لم يؤدوا حق الله منها وكل مال هذا شأنه يسمى كنزا، قالوا كان لفرعون ثمانمائة ألف غلام كل غلام على فرس عتيق في عنق كل فرس طوق من ذهب «وَمَقامٍ كَرِيمٍ» ٥٩ مجلس حسن بهي بهيج، قالوا وكان إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من الذهب يجلس عليها أشراف قومه وأمراؤهم وهم ملأوه أهل الحل والعقد من وزراء ووكلاء وما ضاهاهم مغشاة بأقبية الديباج «كَذلِكَ» كان فرعون وملأوه من العظمة والأبهة، ولما لم يشكر الله على ما أولاه من ذلك المقام، وكفر هذه النعمة وادعى الإلهية فوقها، سلبنا ذلك كله منه ومن قومه «وَأَوْرَثْناها» أي الجنان والكنوز والمقامات وغيرها «بَنِي إِسْرائِيلَ» ٦٠ حيث رجعوا إلى مصر بعد إغراق القبط واستولوا على ديارهم وأموالهم، قال تعالى حاكيا كيفية إغراقهم على الإجمال «فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ» رأى قوم فرعون
«قالَ» موسى ثقة بوعد ربه «كَلَّا» لن يدركونا ابدا «إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ» ٦٢ طريق النجاة منهم فقالوا أين نذهب وقد أدركونا، فلو تركننا بمصر نموت بخدمة فرعون وندفن في أرضه، تريد يا موسى أن تميتنا في هذه البادية؟ وطفقوا يلومونه وهو يأمرهم بالصبر ويعدهم بالنصر وهم يتولون ويقولون قد أدركنا القوم الآن يقتلوننا ولم يقدروا أنّ ما كانوا فيه من الاحتقار والاسترقاق من فرعون وقومه أشدّ من القتل، قال عطاء بن السائب: كان جبريل عليه السلام بين بني إسرائيل وآل فرعون وكان يقول لبني إسرائيل ليلحق أولكم آخركم، ويستقبل القبط فيقول رويدكم ليلحق آخركم، فصار بنو إسرائيل يقولون ما رأينا أحسن سياقة من هذا الرجل، وقوم فرعون يقولون ما رأينا أحسن رقة من هذا الرجل، وقد صدقوا جميعا، إذ لا أحسن منه إلّا الأنبياء وهو سيد الملائكة فلما انتهى موسى بقومه الى بحر القلزم قيل هو بحر وراء مصر يقال له أساف قال له مؤمن آل فرعون وكان دائما بين يدي موسى هذا البحر أمامك، وقد غشيك القوم فإلى أين أمرت؟ قال الى البحر، إلا اني لا أدري ما أصنع، ولم أسأل ربي بعد ان أمرني بأن أتجه نحو البحر، إذ ما علي الا الامتثال، وقد قال لى سيأتيك أمري. قال آمنت بأن ربك سيجعل لك مخرجا ولم يتم كلامه حتى نزل وحي الله وهو «فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ» بدلالة الفاء الدالة على التعقيب، روي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ﷺ إني أعلّمك الكلمات التي قالهن موسى حين انفلق البحر، قلت بلى يا رسول الله، قال قل اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، وأنت المستعان، وعليك التكلان ولا حول ولا قوة الا بالله، قال ابن مسعود ما تركتهن منذ سمعتهن من النبي صلّى الله عليه وسلم، وعلينا أن نحفظها ونقولها صباح مساء وعند كل ضيق وحاجة. فدعا عليه السلام بما ألهمه الله من هذه
مطلب انفلاق البحر وأخلاق موسى عليه السلام وان كل آية لقوم هي آية لأمة محمد عليه السلام:
وما قيل ان انفلاق البحر كان قوسيا وأنهم خرجوا من الجهة التي دخلوها لا دليل له عليه غير انكار قدرة الله لأن القائلين بهذا لا يعترفون بقدرة الله ويريدون بقولهم هذا ان البحر انحسر بعادة المد والجزر، فدخلوا فيه من جهة انحساره وخرجوا من نفس الجهة من طرف الانحسار لآخر، قاتلهم الله فلو كان كما يقولون لما نجوا من فرعون وقومه، بل لخرجوا معهم لأن المد والجزر يكون من جهة واحدة، وما قيل ان المسالك ثلاثة عشر لا برهان له عليه، ويريد صاحب هذا القول ان لموسى وأخيه مسلكا على حدة، وليس كذلك، لأن موسى في الأسباط لهذا فان ما ذهبنا اليه هو الواقع والموافق لما هو عند أهل الكتاب في كتبهم، ولا نص يكذّبه وجل الآثار والأخبار يشهد بصحته، ومن أصر على الخلاف فعليه الدليل والنقل الصحيح ولا أراه فاعلا والله أعلم، قال تعالى «وَأَزْلَفْنا» قربنا «ثَمَّ» هناك في البحر بعد أن شققناه ودخله قوم موسى «الْآخَرِينَ» ٦٤ فرعون
تداركتما عبسا وقد ثل عرشها | وذبيان إذ ذلّت بأقدامها النعل |
قال البحر أطبق على فرعون وقومه فرجعوا ينظرون لضعف ايمانهم، فرأوا جثثهم عائمة، وشاهدوا فرعون نفسه بينهم، فصدقوا ورجعوا «إِنَّ فِي ذلِكَ» الانفلاق والإنجاء «لَآيَةً» عظيمة ظاهرة لإيمان من يؤمن كافية عن طلب غيرها «وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ» ٦٧ إذ لم يؤمن من آل فرعون الّا زوجته آسية بنت مزاحم، ومريم بنت ناموشا التي دلت موسى على قبر يوسف عليه السلام، حتى أخذه معه حين خروجه من مصر وخزقيل مؤمن آل فرعون الذي ذكر الله قصته في الآية ٢٨ فما بعدها من سورة المؤمن في ج ٢، «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ٦٨ الغالب المنتقم من أعدائه الودود الرءوف بأوليائه، وفي اسم الإشارة في ذلك والضمير في أكثرهم إشارة إلى أنه يجب على قومك يا محمد الإيمان بالله وأن يعتبروا بما وقع على أمثالهم، ومع هذا فلم يؤمن منهم إلا القليل بك، وهذا ما يقتضيه سياق التنزيل، لا سيما وقد كررت هذه الآية في هذه السورة ثماني مرات بعد هاتين القصتين، وعقب كل قصة من القصص الست، الآتية، بما
تدبر هذا، فقل أن تقف عليه أو تصادف مثله وهو جواب كاف شاف في إرجاع ضمير أكثرهم، لأن منهم من أرجعه إلى القبط، ومنهم من أعاده لقوم موسى، ومنهم من جعله خاصا بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والقول الصحيح الجامع لكل هذه الأقوال ما ذكرته لك فاغتنمه، لأني لخصته من عدة صحائف من كتب التفاسير المطوّلة والمختصرة التي لا يتمكن كل أحد من فهم المطلوب منها المجمع عليه إلا بأيام بل بأشهر لمن كان له وقوف وإلمام بعلم التفسير، وتجد مثل هذا كثيرا في تفسيري هذا لأني والله الذي لا إله إلا هو أقضي الأيام والليالي في التحري على مسألة واحدة، وكم أنام مهموما لعدم الوقوف عليها حتى إذا يسرها الله لي سجدت شكرا لله تعالى وكأني أعطيت الآخرة، أما الدنيا فهي بما فيها تساوي عندي حرفا واحدا، ومن عظيم نعمة الله علي أني أرى أحيانا ما أتوقف عنه في منامي، فأراجعه فيظهر لي كما رأيته، ولله الحمد والمنة، أقول هذا تحدثا بنعمة الله لا فخرا ولا رياء ولا سمعة، ولعل القارئ نظر الله إليه أن ينتبه لهذا فيدعو لي ويطلب لي العفو إذا رأى وتحقق لديه ما قاسيته في هذا التفسير، الذي لم أسبق إليه والحمد لله على توفيقه ولطفه.
قال تعالى «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ» يا أكرم الرسل «نَبَأَ إِبْراهِيمَ» ٦٩ قصته كما تلوت عليهم قصتك وقصة موسى «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ» آزر ويسمى تارخا من قرية من سواد الكوفة واسم أمه مثلى ولا خلاف باسم أبيه هذا، وإنما الخلاف في كون
«قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ» ٧٢ هذه الأصنام فيجيبوا دعاءكم «أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ» بزيادة الرزق والولد إن عبدتموهم «أَوْ يَضُرُّونَ» ٧٣ كم إن تركتم عبادتهم «قالُوا» وقد لزمتهم الحجة فاعترفوا بأنها لا تنفع ولا تضر «بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ» مثل هذا «يَفْعَلُونَ» ٧٤ وقد قلدناهم واقتدينا بهم، مع علمنا بعدم إنصافهم بذلك.
مطلب إيمان المقلد والفرق بين الوثن والصنم:
وفي هذه الآية إشارة إلى أن التقليد في الدين مذموم، إذ يجب الأخذ بالاستدلال إذا كان من أهله، وإلا فيكفيه أن يقلّد من يعتقد بصحة دينه، ويكون آثما
وإيمان المقلد ذو اعتبار | بأنواع الدلائل كالنصال |
طلب العلم فريضة على كل مسلم- ويشمل ذلك كل مسلمة- حتى أن الله تعالى استثنى طالب العلم من الجهاد وهو أحد أركان الدين، راجع الآية ١٣٤ من سورة التوبة في ج ٣ «قالَ» لهم ابراهيم عليه السلام «أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ» ٧٥ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ٧٦ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي» وحد الخبر على إرادة الجنس وسمى الأصنام أعداء وهي جمادات استعارة، لأنهم نزولها منزلة العقلاء وقال عليه السّلام (لي) تعريضا لهم لأنه أنفع في النصح من قوله عدو لكم ليكون أدعى للقبول، ولأنهم على هذا يقولون ما نصحنا إلا بما نصح نفسه وما أراد لنا إلا ما أراد لنفسه، ولو قال لكم لم يكن بتلك المثابة كما لا يخفى على بصير. ومن هذا القبيل الآية الآتية من سورة يس المارة إذ أضاف القول فيها لنفسه وهو يريدهم. حكي أن الشافعي رحمه الله واجهه رجل بشيء فقال له لو كنت بحيث أنت لا حتجت الى أدب. والعدوّ والصديق يجيئان بمعنى الواحد والجماعة قال تعالى (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) الآية ٥١ من سورة الكهف في ج ٢ والصنم ما كان على صورة ابن آدم من حجر أو غيره، والوثن يطلق على كل ما يعبد من دور الله ناميا أو غير نام حساسا أو غير حساس، فهو أعم من الصنم، ثم استثنى مما عمم فقال «إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» ٧٧ استثناء منقطعا لعدم دخوله تحت لفظ الأعدا أي لكن رب العالمين ربي ووليي المستحق للعبادة «الَّذِي خَلَقَنِي» من العدة ووفقني لدينه القويم «فَهُوَ يَهْدِينِ» ٧٨ الى طريق النجاة هداية تدريجية من الولادة الى الوفاة، أولها هدايته الى مصّ الثدي وآخرها الى الطريق الموصل الى الجنة، وما بينهما الى جلب المنافع ودفع المضار «وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي» مما خلقه لي من الأرض وأنزله من السماء من غير حول لي ولا قوة «وَيَسْقِينِ» ٧٩ من الماء الذي ينزل من السماء فيسلكه في الأرض التي هي أصله «وَإِذا مَرِضْتُ» أسند المرض له عليه السّلام تأدبا مع ربه.
ذلك لأن أكثر أسباب المرض وإن كانت في الحقيقة من الله، إلا أنها تحدث من التفريط في الأكل والشرب وعدم الوقاية من الحر والبرد، وفيه قيل:
فان الداء أكثر ما تراه | يكون من الطعام أو الشراب |
«وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي» هي قوله لقومه حين أرادوه أن يذهب معهم الى بيت الأوثان (إِنِّي سَقِيمٌ) الآية ٩٠ من الصافات في ج ٢ وقوله حينما سألوه عمن كسر أصنامهم (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) الآية ٦٢ من الأنبياء في ج ٢ وقوله للجبار حين سأله عن سارة (قال أختي) وأراد أخته في الدين وإلا فهي زوجته، وقد عدها خطايا بالنسبة لمقامه الشريف وقربه من ربه، وإلا فليست بخطايا وانما هي من معاريض الكلام لدى غير الأنبياء، وقد يعدها العارفون الكاملون خطايا أيضا بالنسبة لمقامهم، لأنهم على قدم الأنبياء، وعلى حد حسنات الأبرار سيئات المقربين، وهؤلاء يسمون أمثالها خطايا تواضعا لربهم وتعظيما
أفادتكم النعماء مني ثلاثة | يدي ولساني والضمير المحجّبا |
وإنما دعا له بالمغفرة، لأنه كان وعده بالإيمان به وكان يرجو منه ذلك، قال تعالى (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) الآية ١٢٥ من سورة التوبة في ج ٣ وفيها دليل على جواز الاستغفار للكفار ماداموا على كفرهم خلافا لما نقله الشهاب في شرح مسلم النووي من أن كونه عز وجل لا يغفر الشرك مخصص بهذه الأمة، وكان قبلهم قد يغفر لمنافاته صراحة هذه الآية، وعدم الغفران للمشركين عام في كل أمة، قال تعالى: (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) الآيتين من آخر سورة الأعلى المارة أي ان هذا الذي هو في القرآن هو في صحف إبراهيم وموسى، وفيه ما لم يكن فيها أما ما فيها فكله فيه وزيادة «وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ» ٨٧ الناس من قبورهم لان ذلك اليوم «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ» ٨٨ عند مالكه ولا ينفع عنده كل شيء واقتصر على المال والبنين لانهما معظم المحاسن والزينة والرفاه، راجع الآية ٤٥ من سورة الكهف في ج ٢ «إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» ٨٩ من الشك فيه والشرك به لا الذنوب، إذ لا يسلم منها أحد إلا ما ندر عدا الأنبياء بعد النبوة فإنه مقطوع بعصمتهم من كل ذنب حتى في حالة السهو والخطأ والنسيان والغلط راجع الآية ١٢٢ من سورة طه المارة تجد تفسير ما يتعلق بهذا البحث، وقد أخبر الله عنه بأنه كان ذلك الرجل لقوله جل قوله (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) الآية ٨٣ من الصافات في ج ٢ وخصّ القلب لأن بقية الجوارح تبع له، تصلح بصلاحه وتفسد بفساده، قال صلّى الله عليه وسلم في حديث طويل صحيح: ألا وأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب. وأخرج احمد والترمذي وابن ماجه عن ثوبان قال: لما نزلت (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) الآية ٧٥ من سورة التوبة في ج ٣ قال بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم لو علمنا أي المال خيرا اتخذناه، فقال صلّى الله عليه وسلم أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه. وفي هذه الآية دلالة على ان طلب المغفرة له حال لا كما قال بعض المفسرين بعد موته، لأنه مات كافرا ولا
«وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ٩٢ مِنْ دُونِ اللَّهِ» في دنياكم وتزعمون أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم، وأنهم يقربونكم من الله في هذا الموقف، هاتوهم وادعوهم لنرى «هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ» كما تقولون ويدفعون عنكم العذاب «أَوْ يَنْتَصِرُونَ» ٩٣ لأنفسهم ليدرأوا عنها العذاب؟ والجواب محذوف يفهم من المقام لأن السؤال سؤال توبيخ وتقريع، أي لا ينصرونكم ولا ينصرون أنفسهم وكلكم معذب، قال تعالى «فَكُبْكِبُوا فِيها» فقذفوا وطرحوا في الجحيم المذكورة منكوسين وهو تكرير كب مبالغة في الطرح كدمدم مبالغة في الدم أي الذقن وعسعس مبالغة في العس أي الظلمة «هُمْ وَالْغاوُونَ» ٩٤ من الإنس والجن المعبودون والعابدون جميعا لأنهم جنود إبليس ولهذا عطف عليه «وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ» ٩٥ من أتباعه وأنصاره ومواليهما، لأن من يعبد غير الله فهو عابد الشيطان، وإن عزيزا والمسيح والملائكة مبرءون من ذلك، لأنهم لم يدّعوا الإلهية ولم يأمروا بها، ولم يرضوا فيها، ولذلك فإنهم مبرءون مما نسب إليهم من العبادة، كما أنهم قد تبرأوا منها ومنهم.
«قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ» ٩٦ بعضهم لبعض أثناء الخصام «تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ٩٧ نحن وإياكم ومن الضلال بمكان «إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ» ٩٨ فنعليكم ونجعلكم سواسية معه، وما أنتم إلا مخلوقون مثلنا، فكيف نعبدكم دون خالقكم «وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ» ٩٩ الّذين سنوا لنا الشرك قديما من إبليس وقابيل، فهما أول من سن العصيان في الأرض، وهذا إنما يتجه إذا كان هذا القول من التابعين والمتبوعين، أما إذا كان من التابعين فقط فيكون معنى المجرمين الرؤساء والقادة، يدل على الأول قوله تعالى «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ» ١٠٠ يشفعون لنا اليوم مثل ما للمؤمنين من الأبناء والأولياء والملائكة والصالحين «وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ» ١٠١ مخلص كما لهم أيضا، حيث يكون التصادق إذ ذاك بين المؤمنين والتعادي بين الكافرين، قال تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الآية ٢٨ من سورة الزخرف، وهؤلاء الذين كان يجمعهم إخاؤهم على التقوى، أما الذين يجمعهم إخاؤهم على المعصية الذين لا يتناهون عن منكر فعلوه فيكون كل منهم عدوا للآخر، لأن كل من كانت صداقته في الدنيا لأغراض قبيحة لا تدوم صداقته في الدنيا ولا تنفع في الآخرة ذويها، وتكون عليهم حسرة، راجع تفسير الآية ٣٤ من سورة مريم المارة والآية ١٤٠ من سورة البقرة في ج ٣. قال الحسن استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعة يوم القيامة، وقال صلّى الله عليه وسلم: استكثروا من الإخوان فإنهم عدة الدنيا وعدة الآخرة
«فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً» رجعة أخرى في الدنيا «فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ١٠٢ بالرسل وما جاءوا به من الله، طفقوا يتمنون المحال لشدة الندم والأسف على ما فاتهم في الدنيا، مع أنهم لو أجيبوا لرجعوا إلى كفرهم، قال تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الآية ٢٩ من الانعام. انتهى كلامهم، وسياق الآيات يدل على أنه من الطرفين كما ذكرنا «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ١٠٣ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ١٠٤ تقدم تفسير مثلها، ومن كمال رحمته إمهال أكثر قريش حتى آمنوا به، بخلاف الأمم الماضية فإنه عجل
مطلب لا تضرّ خسّة الصنعة مع الإيمان ولا يكفي النسب بلا تقوى:
ومعنى الرذالة الخسة، وخصوهم بها لقلة ذات يدهم من الدنيا ولخسة صنائعهم، لأن منهم الحاكة والحجامة والإسكافية والمعدم الذي لا مال له ولا نشب، على أن الفقر ليس بشيء يعاب عليه وكذلك الصنعة قال:
قد يدرك المجد الفتى ورداؤه | خلق وجيب قميصه مرقوع |
دار لبيضاء العوارض طفلة | مهضومة الكشحين ريّا المعصم |
«الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ» ١٥٢ لتوغلهم في الفساد ودأبهم على المخالفة للحق «قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» ١٥٣ الذين خدعهم السحر واستولى على حواسهم «ما أَنْتَ» أيها الآمر المدعي النبوة «إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» تأكل وتشرب وتنكح ولست برسول ولا ملك «فَأْتِ بِآيَةٍ» تدل على صحة دعواك «إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ»
١٥٤ بأن الله أرسلك إلينا مما ذكرت «قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ» حظ من الماء العائد لكم «وَلَكُمْ» مثله
مطلب في إيمان اليأس والتأدب بآداب القرآن وآداب المنزل عليه:
وكان ندمهم ندم خوف لا ندم توبة، والتوبة لا تنفع عند نزول العذاب، راجع قوله تعالى (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) إلخ الآية ١٨ من سورة النساء في ج ٣، وقال في بدء الأمالي:
وما إيمان يأس حال يأس | بمقبول لقصد الامتثال |
لا يسألون أخاهم حين يندبهم | في النائبات على ما قال برهانا |
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ١٦٢ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ١٦٣ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» ١٦٤ الذي أرسلني إليكم، لأرشدكم الى ما فيه صلاحكم، وقال لهم على طريق الاستفهام الانكاري «أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ» ١٦٥ عبر بالإتيان عن اجراء الفحش ليعلم قومه الأدب في المخاطبات، ولينبههم على ان هذا الفعل قبيح بنفسه ولفظه ليتحاشوا عنه وعن ذكره. هذا، وان الله تعالى عبر
«ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ» ١٧٢ تدميرا فظيعا بأن قلبنا قراهم كما مر في الآية ٨٤ من الأعراف المارة، «وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً» من حجارة فكان عذابهم عذابا عظيما «فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ» ١٧٣ الذي أنزلناه عليهم من السماء وجعلنا أعالي أراضيهم أسفلها على صورة عجيبة هائلة «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ١٧٤ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ١٧٥ كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ» ١٧٦ هي الغيضة المنبتة ناعم الشجر كالسدر والأراك، وهي بلدة قريبة من مدين من جهة البحر «إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ»
بن ثوبب بن مدين بن ابراهيم وقيل بن مكيك بن يشجر بن مدين وأم مكيك بنت لوط عليهم السّلام، ولم يقل هنا أخوهم، لأنه ليس منهم أيضا، وليس له معهم مصاهرة ولا نسبة، وكانوا طائفة على حدة «أَلا تَتَّقُونَ ١٧٧ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ١٧٨ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» ١٧٩ لأن طاعتي طاعته «وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» ١٨٠ لأني مأمور من قبله وأجر المأمور على آمره، ثم طفق يأمرهم وينهاهم بما تلقاه عن ربه فقال «أَوْفُوا الْكَيْلَ» إذا كلتم للناس «وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ» ١٨١ حقوقهم بالتطفيف لأن فيه نقص حقهم، والكيل ثلاثة: واف وهو مأمور به، ومطفف وهو منهي عنه، وزائد وهو مسكوت عنه، فإن فعله فقد أحسن، وإلا فلا شيء عليه، وفي الآية دليل على الوفاء وهو لا يخلو من الزيادة، لأنه
مطلب ما قيل إن في القرآن لغات أجنبية لا صحة له وهي هذه كلها:
قالوا إن هذه الكلمة في الأصل ليست عربية، وانها من جملة ما جاء بالقرآن من الكلمات الاعجمية الكثيرة، إذ أبلغوها إلى ما يزيد على مئتي كلمة وقد جاءت في القرآن لا لعجز في اللغة العربية لأن لها كما لا يخفى مترادفات كثيرة، ولكن ليعتني الناس بأمر اللغات وليعلموا أن معرفتها كمال للإنسان لا نقص ولا عيب ولا سيما لاستعمال الأشياء المحدثة إذ لا يمكن أن يعبر عنها بكلمة واحدة كأصلها وإن في تجدد اللغة تجدد معارف لم تكن وإن في ازديادها تحصيلا لها فتكون نموا وحياة لآخذها في عوامل الارتقاء من نواحيه كافة، وهذا من إرشادات القرآن العظيم لأن معرفة كل لسان بإنسان. هذا، وان القول الحق في هذه الكلمات أنها عربية في الأصل، لأن العرب استعملوها قبل نزول القرآن، ولغتهم قديمة، لأن هودا وصالحا وأممهم عرب كما مر في الآية ١٢٣ ولغاتهم متفرقة ولها مترادفات كثيرة، ويوجد كلمات مستعملة عند طائفة منهم بمعنى، وعند أخرى بمعنى آخر، وقد توجد كلمات عند فرقة دون أخرى لبعد الشقة بينهم، حتى ان حرفي الجيم والكاف الفارسيين الذين لم يعدّا من الحروف العربية لا بد وأن يكون أصلهما عربيا، لأن عرب البادية قديما وحديثا ينطقون بها، وهذا بالطبع بطريق التنافل، فلو لم يكن أصلهما عربيا لما تعمم هذا التعميم ونطق بها من لم يعرف الحاضرة ولم يختلط بالفرس، إذ قد يكون بالاختلاط أيضا كما هو الحال الآن، إذ يدخلون بالكلام العربي كلمات أجنبية تسربت لهم بسبب الخلطة، وبعد أن علمت هذا فقد أحببنا أن نورد لك الكلمات الموجودة في القرآن المقول عنها بأنها أجنبية تتميما للفائدة مما وقفنا عليه، فمنها ما قيل إنه بلغة الحبشة وهي كلمة (شطر) : بمعنى تلقاء ٢ والجبت:
بمعنى الشيطان، ٣ والطاغوت: الكاهن، ٤ والحوب: الإثم، ٥ والأواه: الموقن والمؤمن والرحيم، ٦ ابلعي ماءك: ازدرديه، ٧ المتكأ: الأترج، ٨ طوبى:
المسناة التي يجتمع إليها الماء ثم ينبثق، ١٦ منسأته: عصاه، ١٧ يس: يا إنسان، ١٨ أوّاب: مسيح، ١٩ كفلين: ضعفين، ٢٠ ناشئة الليل: رغبة قيامه، ٢١ منفطر: ممتلىء، ٢٢ قسورة: الأسد، ٢٣ يمور: يرجع، ٢٤ طور سينين:
الحش وهو إيقاد النار والمحش هو المكان الكثير الكلأ والخير، ٢٥ الأرائك:
السرر عليها الوسائد، ٢٦ يصدون: يضجون، ٢٧ دريّ: مضيء، ٢٨ غيض الماء: نقص، ومنها ما جاء بالفارسية في قوله تعالى (وَإِسْتَبْرَقٍ) : الحرير الثخين ويسمى ديباجا، ٢٩ و ٣٠ سجيل كل ما أوله حجر وآخره طين وقالوا هو الطين المحرق كالآجر، ٣١ كورت: غورت، ٣٢ مقاليد مفاتيح، ٣٣ أباريق: كل آنية لها خرطوم وعروة، ٣٤ بيع: بيوت عبادة النصارى، ٣٥ كنائس: بيوت عبادة اليهود، ٣٦ التنور: جهنم، ٣٧ دينار: اسم لما يعادل ثلث مثقال من الذهب المتعامل، ٣٨ الرّس: البئر غير المطوي وقيل هو المطوي ٣٩ الروم:
علم لقبيلة بني الأصفر، ٤٠ زنجبيل: اسم لنبات حار خص به، ٤١ سجين:
اسم لكتاب اهل النار، ٤٢ سرادق: قماش يمد فوق صحن البيت، ٤٣ سقر:
من أسماء جهنم، ٤٤ سلسبيل: اسم لعين ماء في الجنة، ٤٥ وردة كالدهان:
الزهرة في النّبات، ٤٦ سندس: مارق من الحرير المنسوج، ٤٧ قرطاس:
الورق، ٤٨ أقفالها: غالاتها: ٤٩ كافور: اسم لنبات مخصوص ذو رائحة يطيب فيه أكفان الموتى غالبا ٥٠ كنز: ما ادخر من ذهب وفضة وجوهر، ٥١ المجوس:
طائفة من اليهود افترقت عنهم لمخالفتها بعض طقوسهم، ٥٢ الياقوت: اسم لحجر كريم يتزين به ويوضع فصا للخاتم وهو ألوان كثيرة، ٥٣ المرجان: كذلك إلا أنه بحري وذلك برّى، ٥٤ مسك معلوم ويكون من نوع من الغزال كالفسارة في بطنه فيه وقيل:
فإن تفق الأنام وأنت منهم | فإن المسك بعض دم الغزال |
قصدا وشرعا، ٦١ الرقيم: اللوح والكتاب، ٦٢ الصراط: الطريق، ٦٣ القنطار:
إثنا عشر ألف اوقية، ٦٤ عدن: اقامة دائمة، ومنها ما جاء بالهندي في قوله تعالى ابلعي: اشربي وتقدم أنه بلغة الحبشة بمعنى از دردي والمعنى واحد، ٦٥ طوبى:
الجنة وهي كذلك بلغة الحبشة، ٦٦ سندس: رقيق الحرير الديباج، وهو كذلك بالفارسية، وهذا مما يدل على أن اللغات آخذة بعضها من بعض وهو كذلك، فإنك لا تجد لغة إلا وفيها من غيرها، وبما أن أوسع اللغات هي العربية فنقول إن هذه الكلمات وغيرها في الأصل عربية وتناقلتها اللغات الأخرى فأدمجتها في لغتها وها هي ذي لغة الترك مركبة من عربي وفارسي وبربري، ومنها ما جاء بالسريانية في قوله تعالى سريّا: نهرا، أو جدولا صغيرا وبالعربية كذلك، وبمعنى شريف ونبيل، راجع الآية ٢٣ من سورة مريم المارة، ٦٧ طه: يا رجل وهو كذلك بالحبشية، ٦٨ جنات عدن: الكروم والأعناب، ٦٩ الفردوس: جنات الأعناب فقط، ٧٠ الطور:
الجبل، ٧١ يمشون هونا: حلماء موقرين، ٧٢ هيت لك: عليك أن تفعل، ٧٣ ولات:
وليس وهي باللغة العربية كذلك، ٧٤ و ٧٥ ربيّون: ربانيون علماء عارفون، ٧٦ رهوا:
ساكتا، ٧٧ سجدا: مقنعي رؤوسكم، ٧٨ القيوم: الذي لا ينام، ٧٩ الاسفار:
الكتب وهذه كلها بالعربية كذلك، ٨٠ القمل: الذباب، ٨١ اليم: البحر، ٨٢ صلوات كنائس اليهود، ٨٣ آزر: اسم أبي ابراهيم، ٨٤ قنطار: اسم لملء جلد الثور ذهبا أو فضة وتقدم أنه في الرومية لوزن مخصوص، ومنها ما جاء بالعبرانية كفّر عنهم:
محا عنهم ٨٥ هونا: صلحاء وهو كذلك بالسريانية، ٨٦ أخلد في الأرض: ركن إليها، ٨٧ هدنا إليك: ثبتنا على ما تريد، ٨٨ كتاب مرقوم: مكتوب، ٨٩ رمزا: تحريك الشفتين، ٩٠ فومها: الحنطة، ٩١ أواه: الداعي وتقدم أنه بمعنى الموقن بالحبشية، ٩٢ طوى: اسم واد بفلسطين وبمعنى رجل، ٩٣ اليم: البحر وهو كذلك بالسريانية، ٩٤ الرحمن: كثير الرحمة، ٩٥ الأليم: الموجع، ٩٦ حمل بعير: الحمار أو الدابة، ٩٧ درست: تعلمت وقرأت، ٩٨ حطة: حط عنا أوزارنا، ٩٩ الأسباط: الأفخاذ، ١٠٠
نهرا، وهو في السريانية كذلك، ١٠٨ سفرة: قراء ١٠٩ فصرهن: قطعهن وهي بالرومية كذلك، ١٠٩ طه: يا رجل، وهي كذلك في الحبشية والسريانية: ١١٠ الطور:
الجبل وهو في السريانية كذلك، ١١١ إلا: عهدا وموثقا، ١١٢ الفردوس: الكرم وهو كذلك في السريانية، ١١٣ الملكوت: الملك، ١١٤ هيت لك: هلم لك وتقدمت انها في السريانية بمعنى آخر قريب من هذا، ١١٥ رهوا: سهلا، وتقدم أنه بمعنى ساكن في السريانية، ١١٦ عبدت: قتلت، ١١٧ وراءهم: ملك أمامهم، ١١٧ قطّنا: كتابنا، ١١٩ إصري: عهدي وميثاقي، ١٢٠ كفّر: أمح وهي كذلك في السريانية والعبرانية، ١٢١ وزر: الجبل والملجأ وهذه كلها بالعربية كذلك بزيادة في معناها من الكلمات المترادفة بما يدل على أن النبطيين أخذوها من العرب ١٢٧ ومنها ما جاء بالقبطية في قوله تعالى متكأ: الأترج، ١٢٢ مناص: فرار ومهرب، ١٢٣ مزجاة: قليلة، ١٢٤ فناداها من تحتها: من بطنها، ١٢٥ بطائنها من إستبرق أي ظواهرها، ١٢٦ الجاهلية الأولى: الأخيرة، ١٢٧ الجاهلية الأخرى: الأولى لأنهم يسمون الآخرة أولى والأولى أخرى ومنها ما جاء بالتركية، غسّاق: الماء البارد والمنتن، ومنها ما جاء بالزّنجية في قوله تعالى حصب جهنم: حطبها، ١٢٨ الأليم: الموجع وهو كذلك بالعبرانية، ١٢٩ منسأته: عصاه وهو كذلك بالحبشية، ومنها ما جاء بالبربرية في قوله المهل: عكر الزيت، ١٣٠ ناظر في إناء:
نضجه، ١٣١ حمّ: منتهى الحرارة، ١٣٢ عين آنية: جارية، ١٣٣ يصهر ما في بطونهم: ينضج به، ١٣٤ أبّا: الحشيش، ١٣٥ قنطار: ألف مثقال من ذهب وفضة، ١٣٦ هذا ما عثرنا عليه، وما قيل إن عمر بن يحيى الحافظ أوصلها إلى مئنين فهو من غير المترادف منها والمتداخل فيها، ولو حسب هذا لبلغت ذلك وأكثر.
واعلم أن هذه الكلمات بوجودها في القرآن العظيم تعد عربية بحتة، وعلى فرض أن
«وَاتَّقُوا الله الَّذِي خَلَقَكُمْ» أجنة في بطون أمهاتكم «وَالْجِبِلَّةَ» الخليقة «الْأَوَّلِينَ» ١٨٤ من الأمم التي خلقها قبلكم، قال ابن عباس الجبلة الجماعة شبهت بالقطعة العظيمة من الجبل «قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» ١٨٥ الذين سحروا مرة بعد أخرى «وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ» ١٨٦ بما تدعيه من الرسالة، فإن كنت صادقا «فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ» قطعا كثيفة عظاما منها «إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ١٨٧ بأنك رسول الله القادر على كل شيء «قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ» ١٨٨ وما تقولون وهو يجازيكم على ذلك، لأني بشر مثلكم لا قدرة لي على شيء مما اقترحتموه وغيره، فهو الذي يسلط عليكم ما يقهركم ويردكم إلى السداد قهرا «فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ» السحابة التي حبست عنهم الريح بعد أن سلط عليهم الحر سبعة أيام «إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» ١٨٩ لأن السحابة التي التجئوا إليها لتقيهم حر الشمس قد أمطرتهم نارا والعياذ بالله فأهلكتهم جميعا، وتقدمت القصّة مفصّلا في الآية ٩٣ من سورة الأعراف المارة «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ١٩٠ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ١٩١ انتهت القصص الثمانية التي أشرنا إليها آنفا، فتأمل رعاك الله كيف كانت دعوة هؤلاء الأنبياء الكرام إلى أممهم، وكيف كانت على وتيرة واحدة وجاءت على صيغة واحدة، لأن المرسل لهم هو الإله الواحد، والمرسل إليهم عبيده وخلقه، وكيف بذلوا معهم قصارى جهدهم ونهاية وسعهم طلبا لإرشادهم لسلوك الحق وعدولهم عن الباطل،
«عَلى قَلْبِكَ» يا سيد الرسل حتى تعيه «لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ» ١٩٤ به وقد خص القلب لأنه موضع التمييز والعقل، لأن الرجل لا يتكلم إلا عما وقر في قلبه «بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» ١٩٥ ليفهمه قومك دون حاجة لترجمان حتى لا يبقى لهم عذر من جهة إرسال الرسول والفهم، قال تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) الآية ٣ من سورة ابراهيم في ج ٢، وهذه الآية وما يضاهيها من آي القرآن الحكيم فصل الخطاب بأن جميع ما في القرآن عربي فصيح جاء بلسان العرب ولغتهم، وعليه فكل قول بأن بعض كلماته أجنبية باطل، وما جاء بأن اسماء ابراهيم وإسماعيل وجبرائيل أعجمية فهي في الأصل كذلك ونقلت الى العربية وتسمى بها العرب قبل نزول القرآن، وكل ما كان مستعملا عند العرب فهو عربي ليس إلا، وإنما ذكرنا
مطلب الفرق بين الحديث القدسي والقرآن وتخصيص القلب بنزوله وماهية المنزل عليه:
ولو كان كما قالوا لما بقي فرق بين القرآن والحديث القدسي، لأنه هو الذي يلقى على قلب الرسول بغير صفة أي غير موصوف بلغة أو لسان، ثم إنه يعبر عنه بلسانه ولغة قومه هذا، والمتلقى بالتواتر هو الفرق بين القرآن والحديث القدسي، لأن القرآن ثبت بالتواتر، بخلافه هذا، وقد قلنا في تفسير على قلبك:
إنما خص القلب لأنه موضع العقل بناء على ما ذهب إليه الإمام في تفسيره ردا لقول من قال إن محله الدماغ، والخلاف بين هاتين الطائفتين في محل العقل كثير، والناصرون لكلا القولين أكثر، فلا محل لبسط المقال عن كل هذا، وإنما الذي يحب بيانه، هو سبب تخصيص القلب بالنزول، فإذا قلنا إنه رأس الأعضاء وانها تصلح لصلاحه وتفسد بفساده وأنه محلها الفرح والاختبار والسرور وغيرها فلا يختص بحضرة الرسول لا هي ولا أضدادها ولا كونه محل الفقه والعظة والفطنة، بل هو عام في كل البشر وإذا كان كذلك فلا يصح أن يكون جوابا للتخصيص، وانما التخصيص والله أعلم هو أن الله تعالى جعل لقلبه سمعا مخصوصا يسمع به ما ينزل عليه من القرآن تمييزا لشأنه على سائر البشر، يدل على هذا ما ذكره النووي في شرح مسلم في قوله تعالى (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) الآية ٦ من سورة والنجم المارة بأن الله تعالى عز وجل جعل لفؤاده عليه السّلام بصرا فرآه سبحانه ليلة المعراج وما ورد عنه في الحديث القدسي أنه قال كانت تنام عيني ولا يتام قلبي وجاء في صحيح البخاري عن أنس قال أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بوجهه فقال اقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري. وفي رواية أبي
بواسطة الأمين جبريل، لأن القرآن جميعه نزل به عليه على الصورة المذكورة، ولأن سورة الإسراء التي فرضت فيها الصلاة نزلت بعد وقوع الإسراء وخواتيم البقرة نزلت بالمدينة، ولهذا البحث صلة نذكرها ان شاء الله في الآية ٧ من سورة النحل وفي آخر سورة الإسراء عند قوله (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا) الآتيتين، وقد أثبتنا بالمقدمة في بحث نزول القرآن شيئا من هذا فراجعه، هذا، ولنرجع الى تفسير الآية وهو قوله تعالى «وَإِنَّهُ» القرآن المنوه به في الآية السابقة «لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ» ١٩٦ أي كتبهم كصحف آدم فمن بعده، وتوراة موسى، وزبور داود، وإنجيل عيسى عليه السّلام، وهذا باعتبار الأغلب لأن ما يتعلق بالتوحيد وذات الله وصفاته وكثيرا من المواعظ والقصص مسطور فيها فلا يضر أن منه ما ليس فيها بحسب غالب الظن، كقصة الإفك ونكاح امرأة زيد، وما جاء في سورة التحريم، وما استبدله الله في القرآن من الأحكام المسطورة في الكتب المتقدمة إذ نسخت بالقرآن العظيم، قال تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) من آيات الكتب المتقدمة النازلة على الأنبياء السابقين مثلك يا محمد (أَوْ نُنْسِها) نؤخر نزولها وننسى ما هو مخالف لها مما كلف بها الأولون من الاحكام (نَأْتِ) في هذا القرآن المنزل عليك يا سيد الرسل (بِخَيْرٍ مِنْها) أخف عبئا وأكثر اجرا وأسهل عملا وأيسر فعلا (أَوْ مِثْلِها) في ذلك التكليف والأجر، وكان نزول هذه الآية ردا لليهود والنصارى القائلين إن ما جاء به محمد مخالف لما جاء به موسى وعيسى، تدبر، وراجع تفسير الآية ١٠٧ من سورة البقرة في ج ٣.
مطلب لا تجوز القراءة بغير العربية الا إذا كانت دعاء أو تنزيها:
وما قيل إن الإمام أبا حنيفة استنبط من هذه الآية جواز قراءة القرآن
(وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) الآية ٥١ من النمل الآنية، واعلم أن مفاد الآيات المتقدمة من وأنه الى هنا وسياق قوله «وَلَوْ نَزَّلْناهُ» وما بعدها تفيد أن ضمير بعلمه يعود إلى القرآن بدلالة عود ضمير أنزلناه إليه أيضا وهو الظاهر واتباع الظاهر أولى «عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ» ١٩٨ الذين لا يفهمون معناه ولا يقدرون فصاحة مبناه، بل لا يتمكنون من قراءته كما ينبغي، وهو جمع أعجمي حذفت منه ياء النسبة مثل أشعري يجمع على أشعرين وأشعرون بحذف ياء النسبة أيضا، وقرىء أعجميين ولهذا جمع بالواو والنون جمع العقلاء، ولو كان جمع أعجم لما جمع هكذا لأنه مؤنث عجماء، وافعل فعلاء لا يجمع جمع السالم «فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ» على أولئك الكفرة «ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ» ١٩٩ أنفة من اتباع من ليس منهم لشدة شكيمتهم في المكابرة، ولو فرض أنه قرأه عليهم باللغة العربية الفصحى بتعليم الله إياها كما علم آدم الأسماء كلها فيكون معجزة من جهتين لما آمنوا أيضا «كَذلِكَ» مثل هذا المسلك البديع «سَلَكْناهُ» أي التكذيب بالقرآن وعدم الإيمان به «فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ» ٢٠٠ فلا سبيل لتعييرهم
ويقال لهم «أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ» ٢٠٤ وهو آتيهم لا محالة، قال نفر من قريش حتى يأتينا هذا العذاب الذي يوعدنا به محمد فنزلت الآية الآنفة، قال تعالى يا سيد الرسل «أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ» ٢٠٥ كثيرة في هذه الدنيا وما فيها من النّعم «ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ» ٢٠٦ به من العذاب الذي تهددهم به (ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) ٢٠٧ فيها شيئا من ذلك العذاب وما هو براد عنهم شيئا وكأنهم لم يكونوا رأوا شيئا من طول العمر وطيب العيش في الدنيا «وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ» فيما سبق من الأمم الباقية «إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ» ٢٠٨ من قبلنا يخوفونهم عذابنا إن لم يؤمنوا بهم، فلم يفعلوا وكان إرسال الرسل إليهم «ذِكْرى» لئلا يقولوا (ما جاءنا نذير) الآية ٤١ من المائدة في ج ٣ فتلزمهم الحجة وإلا فالله تعالى يعلم من يؤمن ومن يكفر قبل إرسال الرسل بل قبل إيجادهم وهو قادر على إهلاكهم دون ذلك، ولكن ليظهر لأمثالهم أن عذابهم كان بسبب كفرهم وَما كُنَّا ظالِمِينَ» ١٠٩ في تعذيب أحد لأنا تقدمنا إليهم بالمعذرة، وقدّمنا لهم الحجة، هذا وإن نفرا من المشركين لما رأوا محمدا يخبرهم بما غاب عنه مما يتقولونه
قال تعالى «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» ٢١٤ خصّهم بالذكر لنفي التهمة عن التساهل معهم في أمر الدين وليعلموا أنه لا يغني عنهم من الله شيئا إذا حل بهم عذابه وليعلم الناس كافة أن النجاة في اتباعه والتصديق لما جاء به في دينه لا في قرابته، راجع الآية ٨٩ المارة «وَاخْفِضْ جَناحَكَ» يا سيد الرسل «لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ٢١٥ بك القريب منهم والبعيد، أما الكافرون فلا يليق أن تلين لهم جانبك، بل شدد عليهم برفض الشرك وحذرهم من تكذيبك «فَإِنْ عَصَوْكَ» أقاربك وعشيرتك وسائر قومك، ولم يقبلوا نصحك ولم يلتفتوا لإرشادك «فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» ٢١٦ من الكفر والمعاصي والأفعال الذميمة والأحوال السافلة، واتركهم ولا تعبأ بهم الآن، لأنك لم تكلف إلا بإبلاغهم ما يوحى إليك، وذلك لأنه لم يؤمر بقتالهم بعد، ولذلك
مطلب أن الأقارب أولى من غيرهم في كل شيء:
وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف قيل لا قيمة له، لأن معناها صحيح قبل آية السيف وبعدها، وحكمها باق، لأن لأقربين لهم مزية على غيرهم، ولين الجانب مطلوب للجميع ومن الجميع، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين انزل الله (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) قال يا معشر قريش أو كلمة غيرها، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، ويا صفية عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئا ويا فاطمة بنت رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، سليني ما شئت من مالي. وحديث البخاري ومسلم عن ابن عباس في هذا المعنى تقدم في سورة المسد المارة، فراجعه. وروى مسلم عن قبيصة بنت مخارق وزهير بن عمر قال: لما نزلت وأنذر الآية انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى رحمة جبل فعلا أعلاها ثم نادى: يا بني عبد مناف اني نذير لكم، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله، فخشي أن يسبقوه، فجعل يهتف يا صاحباه، وروى محمد بن اسحق بسنده عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لما نزلت هذه الآية على رسول صلّى الله عليه وسلم قال يا علي إن الله أمرني أن انذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعا، وعرفت أني متى أناديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت عليها صمتة حتى جاءني جبريل، فقال يا محمد إن لا تفعل ما تؤمر يعذبك ربّك، فاصنع لي طعاما واجعل لنا عليه رجل شاة واملأ لنا عسا من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به، ثم دعوتهم له وكانوا يومئذ أربعين رجلا، يزيدون رجلا أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعته، فجئت به فتناول صلّى الله عليه وسلم جذبة من بعض اللحم، فشقها بأسنانه ثم ألقاها في الصفحة، ثم قال خذوا باسم الله، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة، وايم الله إن كان الرجل
٢١٨ في الليل وحدك تتهجد له بصلاتك التي خصصت بها وتتضرع إليه بدعواتك التي الهمتها منه دون أن يراك أحد غيره «وَ» يرى «تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» ٢١٩ في أصلاب الأنبياء أجدادك، إذ تتنقل من واحد لآخر حتى اخرجك الى هذه الأمة، وهذا من أعظم ما وفقت إليه. واعلم أن كلمة الساجدين تشمل الأنبياء والمؤمنين، وتدل على إيمان أبويه صلّى الله عليه وسلم كما ذهب إليه كثير عن أجلة العلماء قال محمود الآلوسي في تفسيره روح المعاني: وأنا أخشى على من يقول فيهما رضي الله عنهما
بغير ذلك الكفر على رغم القارئ واضرابه، وقد جاء في الخبر أن الله تعالى أحيا له أبويه وعمّه أبا طالب فآمنوا به، ولا يلتفت الى قول من ضعفه، لأنه ناشىء عن ضعف إيمانه، على أن أبويه من أهل الفترة، وهم كلهم ناجون على القول الصحيح الراجح بدلالة قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ
الآية ١٥ من سورة الاسراء الآتية، أو أنّ المعنى ويرى تقلبك كما يتقلب غيرك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في تبليغ ما أمروا بتبليغه، وتفسير الساجدين من الأنبياء، رواه الطبراني والبزار وأبو نعيم عن ابن عباس، إلا أنه فصر التقلب بالتنقل كما ذكر آنفا، أما التفسير بالمصلّين وإن ذهب اليه كثير من المفسرين فهو بعيد، لأن الصلاة لم تفرض بعد، وأبعد منه من جعل الصلاة صلاة الجماعة، وهي لم تفرض بمكة وهذه السورة مكية بلا خلاف، وخاصة هذه الآية، ويجوز أن يراد تقلبك في المجتهدين لتفحص أحوالهم وتطلع عليهم وتستبطن سرائرهم وهذا القول على ضعفه لا بأس فيه، لأن الله تعالى فرض على نبيه صلاة ركعتين في الغداة ومثلها في العشية، وفرض عليه قيام بعض الليالي خاصة كما نص عليه أول سورة المزمل المارة، وكان يتهجد فيهن ويشاركه بعض أصحابه في ذلك، فيحتمل أنه تفقد أحوالهم ليراهم يداومون عليها اقتداء بفعله أم لا، فنزلت هذه الآية، أما ما جاء في روح المعاني من أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف صلّى الله عليه وسلم تلك الليلة بيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصا على كثرة طاعتهم، فوجدها كبيوت النحل لما سمع من دندنتهم بذكر الله والتلاوة، فلا يتجه لان هذه الآية ٢٠ من سورة المزمل التي عبر عنها بأنها نسخت أول السورة بشأن القيام نزلت في المدينة ولا علاقة لها بالآية المفسرة، وقد بيّنّا في المقدمة ما يتعلق بالنسخ في هذه الآية وعدمه في آخر سورة المزمل المذكورة، فراجعها «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ٢٢٠ يسمع دعاءك ويعلم عملك، ثم قل يا أكرم الرسل لهؤلاء الكفرة «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ» ٢٢١ لتجاريهم على أقوالهم السالفة فإنها «تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ» مختلق للكفر مثل هؤلاء القائلين إن الشياطين تلقي عليك هذا القرآن وكل منهم «أَثِيمٍ» ٢٢٢ مرتكب للآثام الكثيرة كالسحرة والكهنة المتنبئين كذبا فتراهم «يُلْقُونَ السَّمْعَ» الذي يسمعونه من الملائكة فيلقونه للكهنة مع أضعافه كذبا «وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ» ٢٢٣ فيما يخبرونه به، لأن منهم من لا يسترق السمع وإن محمدا مبرا من ذلك معصوم من هذه الصفات المتلبس بها الكهنة والسحرة والمشعوذين، قيل هذا كان قبل مبعث الرسول وعليه يكون أكثر بمعنى الكل على
مطلب في الشعر مليحه من قبيحه والآيات المدنيات:
ثم ان رجلين أحدهما من الأنصار تهاجيا فيما بينهما ومع كل واحد غواة من قومه، فأنزل الله فيهم «وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ» ٢٢٤ المغالون في الكذب والباطل وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب ومدح من لا يستحق المدح وذم من لا يستوجب الذم، يعني أن هذا الذي يقوله هؤلاء لا يستحسنه إلا المتوغلون في الضلالة المنهمكون في الغواية، «أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ» ٢٢٥ فيتحدثون في جميع أنواع الكلام وأبوابه مما مصدره اللغو في الباطل ويخوضون بما فيه الكذب والزور من البهت والافتراء، والهائم هو الذاهب على وجهه بلا قصد معين وهذا تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول، فتراهم يفضلون الجاهل على العالم، والجبان على الشجاع، والبخيل على الكريم، والكاذب على الصادق، والخائن على الأمين، والقبيح على الصبيح، والرذيل على الجميل لأدنى لفتة من وجيه أو دانق من مال، فلهذا تراهم حائرين، وعن الطريق السوي حائدين، ولسبل الضلال رائدين، سمع سليمان بن عبد الملك قول الفرزدق:
فبتن بجانبيّ مضرجات | وبت أفض أختام الحنان |
مطلب ما هو المحبوب من الشعر:
واعلم أن هذا الذم الذي في هذه الآية في حق الكافرين ومن يحذو حذوهم في اشعاره، أما الذين لا يكذبون مثلهم فقد استثناهم الله تعالى بقوله «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» زيادة على إيمانهم، فإنهم لا يهجون أحدا ولا يمدحون بالباطل، ولا يندمون على مدح المستحق إذا لم ينالوا منه شيئا، لأنهم لا يقصدون إلا الحق والصدق إذا طرقوا مواضيع القول ومخازن الكلام وخاضوا في معاني القوافي، كعبد الله ابن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن زهير وكعب بن مالك رضي الله عنهم، الذين كانوا زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم ينافحون عنه ومن اقتفى أثرهم على نهجهم ومشى على خطتهم حتى الآن، روي أن كعب بن مالك قال للنبي صلّى الله عليه وسلم إن الله أنزل في الشعر ما أنزل (يعرض باجتنابه خشية أن يكون في عداد الشعراء المذمومين) فقال صلّى الله عليه وسلم:
إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النّبل.
أي رميه. وعن أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله | اليوم نضربكم على تنزيله |
ضربا يزيل الهام عن مقيله | ويذهل الخليل عن خليله |
فقال صلّى الله عليه وسلم خل عنه يا عمر، فلهن أسرع فيهم من نضح النبل- أخرجه الترمذي والنسائي- وكان هذا سنة سبع من الهجرة. ومن قال إن القائل لهذين البيتين كعب بن مالك
فإن أبي ووالدتي وعرضي | لعرض محمد منكم وقاء |
ثكلت بنيتي إن لم تروها | تثير النقع موعدها كداء |
وعن ابن عباس قال لما جاء اعرابي الى النبي صلّى الله عليه وسلم فجعل يتكلم بكلام فقال ان من البيان لسحرا وان من الشعر لحكما- أخرجه ابو داود- وروى مسلم عن عمر ابن الشريد عن أبيه قال ردفت وراء النبي صلّى الله عليه وسلم يوما، فقال هل معك من شعر أمية بن الصلت شيء، قلت نعم، قال هيه، فأنشدته بيتا فقال هيه، ثم أنشرته بيتا، فقال هيه، حتى أنشدته مئة بيت، - زاد في رواية لقد كان يسلم في شعره- وعن جابر بن نمرة، قال: جالست رسول الله صلّى الله عليه وسلم أكثر من مئة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت، وربما تبسّم معهم- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح-
مطلب ما نسب من الشعر للخلفاء والأئمة وعهد ابي بكر:
هذا وقد أنشد كل من الخلفاء الراشدين الشعر وكثير من الصحابة، فمن شعر أبي بكر رضي الله عنه قوله:
أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث | ارقت وأمر في العشيرة حادث |
ترى من لؤى فرقة لا يعدها | عن الكفر تذكير ولا بعث باعث |
رسول أتاهم صادق فتكذبوا | عليه وقالوا لست فينا بصادق |