والقول الثاني : أن نخوض في تأويله على التفصيل، وفيه قولان ملخصان : الأول : ما ذكره القفال رحمة الله عليه فقال :﴿الْعَرْشِ﴾ في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك، يقال : ثل عرشه أي انتفض ملكه وفسد. وإذا استقام له ملكه واطرد أمره وحكمه قالوا : استوى على عرشه، واستقر على سرير ملكه، هذا ما قاله القفال. وأقول : إن الذي قاله حق وصدق وصواب، ونظيره قولهم للرجل الطويل : فلان طويل النجاد وللرجل الذي يكثر / الضيافة كثير الرماد، وللرجل الشيخ فلان اشتعل رأسه شيباً، وليس المراد في شيء من هذه الألفاظ إجراؤها على ظواهرها، إنما المراد منها تعريف المقصود على سبيل الكناية فكذا ههنا يذكر الاستواء على العرش، والمراد نفاذ القدرة وجريان المشيئة، ثم قال القفال رحمه الله تعالى : والله تعالى لما دل على ذاته وعلى صفاته وكيفية تدبيره العالم على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم ورؤسائهم استقر في قلوبهم عظمة الله وكمال جلاله، إلا أن كل ذلك مشروط بنفي التشبيه، فإذا قال : إنه عالم فهموا منه أنه لا يخفى عليه تعالى شيء، ثم علموا بعقولهم أنه لم يحصل ذلك العلم بفكرة ولا روية ولا باستعمال حاسة، وإذا قال : قادر علموا منه أنه متمكن من إيجاد الكائنات، وتكوين الممكنات، ثم علموا بعقولهم أنه غني في ذلك الإيجاد، والتكوين عن الآلات والأدوات، وسبق المادة والمدة والفكرة والروية، وهكذا القول في كل صفاته، وإذا أخبر أن له بيتاً يجب على عباده حجة فهموا منه أنه نصب لهم موضعاً يقصدونه لمسألة ربهم وطلب حوائجهم كما يقصدون بيوت الملوك والرؤساء لهذا المطلوب، ثم علموا بعقولهم نفي التشبيه، وإنه لم يجعل ذلك البيت مسكناً لنفسه، ولم ينتفع به في دفع الحر والبرد بعينه عن نفسه، فإذا أمرهم بتحميده وتمجيده فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه، ثم علموا بعقولهم أنه لا يفرح بذلك التحميد والتعظيم ولا يغتم بتركه والإعراض عنه.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٧٨
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنه تعالى أخبر أنه خلق السموات والأرض كما أراد وشاء من غير منازع ولا مدافع، ثم أخبر بعده أنه استوى على العرش، أي حصل له تدبير المخلوقات على ما شاء وأراد، فكان قوله :﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ أي بعد أن خلقها استوى على عرش الملك والجلال. ثم قال القفال : والدليل على أن هذا هو المراد قوله في سورة يونس :﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِا يُدَبِّرُ الامْرَ ﴾ (يونس : ٣) فقوله :﴿يُدَبِّرُ الامْرَ ﴾ جرى مجرى التفسير لقوله :﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ وقال في هذه الآية التي نحن في تفسيرها :﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُه حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ وهذا يدل على أن قوله :﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ إشارة إلى ما ذكرناه.
فإن قيل : فإذا حملتم قوله :﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ على أن المراد : استوى على الملك، وجب أن يقال : الله لم يكن مستوياً قبل خلق السموات والأرض.
قلنا : إنه تعالى إنما كان قبل خلق العوالم قادراً على تخليقها وتكوينها. وما كان مكوناً ولا موجوداً لها بأعيانها بالفعل، لأن إحياء زيد، وإماتة عمرو، وإطعام هذا وإرواء ذلك لا يحصل / إلا عند هذه الأحوال، فإذا فسرنا العرش بالملك والملك بهذه الأحوال، صح أن يقال : إنه تعالى إنما استوى على ملكه بعد خلق السموات والأرض بمعنى أنه إنما ظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها بعد خلق السموات والأرض، وهذا جواب حق صحيح في هذا الموضع.
والوجه الثاني : في الجواب أن يقال : استوى بمعنى. استولى، وهذا الوجه قد أطلنا في شرحه في سورة طه فلا نعيده هنا.
والوجه الثالث : أن نفسر العرش بالملك ونفسر استوى بمعنى : علا واستعلى على الملك فيكون المعنى : أنه تعالى استعلى على الملك بمعنى أن قدرته نفذت في ترتيب الملك والملكوت، واعلم أنه تعالى ذكر قوله :﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ في سور سبع. إحداها : ههنا. وثانيها : في يونس. وثالثها : في الرعد. ورابعها : في طه. وخامسها : في الفرقان. وسادسها : في السجدة. وسابعها : في الحديد، وقد ذكرنا في كل موضع فوائد كثيرة، فمن ضم تلك الفوائد بعضها إلى بعض كثرت وبلغت مبلغاً كثيراً وافياً بإزالة شبه التشبيه عن القلب والخاطر.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٧٨
أما قوله :﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ﴾ ففيه مسائل :