المسألة الرابعة : دلت هذه الآية على أن القبيح لا يجوز أن يقبح لوجه عائد إليه، وأن الحسن لا يجوز أن يحسن لوجه عائد إليه لأن قوله :﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ ﴾ يفيد أنه تعالى له أن يأمر بما شاء كيف شاء، ولو كان القبيح يقبح لوجه عائد إليه لما صح من الله أن يأمر إلا بما حصل منه ذلك الوجه، ولا أن ينهي إلا عما فيه وجه القبح فلم يكن متمكناً من الأمر والنهي كما شاء وأراد مع أن الآية تقتضي هذا المعنى.
المسألة الخامسة : دلت هذه الآية على أنه سبحانه قادر على خلق عوالم سوى هذا العالم كيف شاء وأراد وتقريره : إنه قال :﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُه حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ﴾ والخلق إذا أطلق أريد به الجسم المقدر أو ما يظهر تقديره في الجسم المقدر. ثم بين في آية أخرى أنه أوحي في كل سماء أمرها وبين في هذه الآية أنه تعالى خصص كل واحد من الشمس والقمر والنجوم بأمره، وذلك يدل على أن ما حدث بتأثير قدرة الله تعالى فتميز الأمر والخلق، ثم قال بعد هذا التفصيل والبيان ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ ﴾ يعني له القدرة على الخلق وعلى الأمر على الإطلاق/ فوجب أن يكون قادراً على إيجاد هذه الأشياء وعلى تكوينها كيف شاء وأراد، فلو أراد خلق ألف عالم بما فيه من العرش والكرسي والشمس والقمر والنجوم في أقل من لحظة ولمحة لقدر عليه لأن هذه الماهيات ممكنة والحق قادر على كل الممكنات ولهذا قال المعري في قصيدة طويلة له :
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٧٨
يأيها الناس كم لله من فلك
تجري النجوم به والشمس والقمر
ثم قال في أثناء هذه القصيدة :
هنا على الله ماضينا وغابرنا
فما لنا في نواحي غيره خطر
المسألة السادسة : قال قوم :﴿الْخَلْقِ ﴾ صفة من صفات الله وهو غير المخلوق، واحتجوا عليه بالآية والمعقول. أما الآية فقوله تعالى :﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ ﴾ قالوا : وعند أهل السنة ﴿الامْرُ﴾ لله لا بمعنى كونه مخلوقاً له، بل بمعنى كونه صفة له فكذلك يجب أن يكون ﴿الْخَلْقِ ﴾ لله لا بمعنى كونه مخلوقاً له بل بمعنى كونه صفة له، وهذا يدل على أن الخلق صفة قائمة بذات الله تعالى. وأما المعقول فهو أنا إذا قلنا : لم حدث هذا الشيء ولم وجد بعد أن لم يكن ؟
فنقول : في جوابه لأنه تعالى خلقه وأوجده فحينئذ يكون هذا التعليل صحيحاً، فلو كان كونه تعالى خالقاً له نفس حصول ذلك المخلوق لكان قوله أنه إنما حدث لأنه تعالى خلقه وأوجده جارياً مجرى قوله : أنه إنما حدث لنفسه ولذاته لا لشيء آخر، وذلك محال باطل، لأن صدق هذا المعنى ينفي كونه مخلوقاً من قبل الله تعالى. فثبت أن كونه تعالى خالقاً للمخلوق مغايراً لذات ذلك المخلوق، وذلك يدل على أن الخلق غير المخلوق وجوابه : لو كان الخلق غير المخلوق لكان أن كان قديماً لزم من قدمه قدم المخلوق، وإن كان حادثاً افتقر إلى خلق آخر ولزم التسلسل وهو محال.
المسألة السابعة : ظاهر الآية يقتضي أنه كما لا خلق إلا لله، فكذلك لا أمر إلا لله، وهذا يتأكد بقوله تعالى :﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّه ﴾ (الأنعام : ٥٧) وقوله :﴿فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ﴾ (غافر : ١٢) وقوله :﴿لِلَّهِ الامْرُ مِن قَبْلُ وَمِنا بَعْدُ ﴾ (الروم : ٤) إلا أنه مشكل بالآية والخبر. أما الآية فقوله تعالى :﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِه ﴾ (النور : ٦٣) وأما الخبر فقوله عليه السلام :"إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم".
والجواب : أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدل على أن أمر الله قد حصل، فيكون الموجب في الحقيقة هو أمر الله لا أمر غيره. والله أعلم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٧٨