واعلم أن الدعاء نوع من أنواع العبادة والأسئلة المذكورة واردة في جميع أنواع العبادات، فإنه يقال أن كان هذا الإنسان سعيداً في علم الله فلا حاجة إلى الطاعات والعبادات، وإن كان شقياً في علمه فلا فائدة في تلك العبادات، وأيضاً يقال وجب أن لا يقدم الإنسان على أكل الخبز وشرب الماء لأنه أن كان هذا الإنسان شبعان في علم الله تعالى فلا حاجة إلى أكل الخبز، وإن كان جائعاً فلا فائدة في أكل الخبز، وكما أن هذا الكلام باطل ههنا، فكذا فيما ذكروه، بل نقول الدعاء يفيد معرفة ذلة العبودية ويفيد معرفة عزة الربوبية، وهذا هو المقصود الأشرف الأعلى من جميع العبادات وبيانه أن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه كونه محتاجاً إلى ذلك المطلوب وكونه عاجزاً عن تحصيله وعرف من ربه وإلهه أنه يسمع دعاءه، ويعلم حاجته وهو قادر على دفع تلك الحاجة وهو رحيم تقتضي رحمته إزالة تلك الحاجة، وإذا كان كذلك فهو لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف كونه موصوفاً بالحاجة وبالعجز وعرف كون الإله سبحانه موصوفاً بكمال العلم والقدرة والرحمة، فلا مقصود من جميع التكاليف إلا معرفة ذل العبودية وعز الربوبية، فإذا كان الدعاء مستجمعاً لهذين المقامين لا جرم كان الدعاء أعظم أنواع العبادات. وقوله تعالى :﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾ إشارة إلى المعنى الذي ذكرناه لأن التضرع لا يحصل إلا من الناقص في حضرة الكامل فما لم يعتقد العبد نقصان نفسه وكمال مولاه في العلم والقدرة والرحمة لم يقدم على التضرع، فثبت أن المقصود من الدعاء ما ذكرناه، فثبت أن لفظ القرآن دليل عليه والذي يقوي ما ذكرناه ما روي أنه عليه السلام قال :"ما من شيء أكرم على الله من الدعاء والدعاء هو العبادة" ثم قرأ :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ (غافر : ٦٠) في حقائق الدعاء مذكور في سورة البقرة في تفسير قوله :﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ (البقرة : ١٨٦) والله أعلم.
المسألة الثانية : في تقرير شرائط الدعاء.
اعلم أن المقصود من الدعاء أن يصير العبد مشاهداً لحاجة نفسه ولعجز نفسه ومشاهداً لكون مولاه موصوفاً بكمال العلم والقدرة والرحمة، فكل هذه المعاني دخلت تحت قوله :﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا﴾ ثم إذا حصلت هذه الأحوال على سبيل الخلوص، فلا بد من صونها عن الرياء المبطل لحقيقة الإخلاص، وهو المراد من قوله تعالى :﴿وَخُفْيَةً ﴾ والمقصود من ذكر التضرع تحقيق الحالة الأصلية المطلوبة من الدعاء والمقصود من ذكر الإخفاء صون ذلك الأخلاص عن شوائب الرياء، وإذا عرفت هذا المعنى ظهر لك أن قوله سبحانه :﴿تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾ مشتمل على كل ما يراد تحقيقه وتحصيله في شرائط الدعاء/ وأنه لا يزيد عليه البتة بوجه من الوجوه، وأما تفصيل الكلام في تلك الشرائط، فقد بالغ في شرحها الشيخ سليمان الحليمي رحمة الله عليه في كتاب المنهاج فليطلب من هناك.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٨٦
المسألة الثالثة :"التضرع" التذلل والتخشع، وهو إظهار ذل النفس من قولهم : ضرع فلان لفلان، وتضرع له إذا أظهر الذل له في معرض السؤال "والخفية" ضد العلانية. يقال : أخفيت الشيء إذا سترته، ويقال : أيضاً بالكسر، وقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر عنه بكسر الخاء ههنا وفي الأنعام، والباقون بالضم، وهما لغتان :
واعلم أن الإخفاء معتبر في الدعاء، ويدل على وجوه : الأول : هذه الآية فإنها تدل على أنه تعالى أمر بالدعاء مقروناً باللإخفاء، وظاهر الأمر للوجوب، فإن لم يحصل الوجوب، فلا أقل من كونه ندباً.
ثم قال تعالى بعده :﴿وَخُفْيَةًا إِنَّه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ والأظهر أن المراد أنه لا يحب المعتدين في ترك هذين الأمرين المذكورين، وهما التضرع والإخفاء، فإن الله لا يحبه ومحبة الله تعالى عبارة عن الثواب، فكان المعنى أن من ترك في الدعاء التضرع والإخفاء، فإن الله لا يثيبه ألبتة، ولا يحسن إليه، ومن كان كذلك كان من أهل العقاب لا محالة، فظهر أن قوله تعالى :﴿إِنَّه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ كالتهديد الشديد على ترك التضرع والإخفاء في الدعاء.
الحجة الثانية : أنه تعالى أثنى على زكريا فقال :﴿إِذْ نَادَى رَبَّه نِدَآءً خَفِيًّا﴾ (مريم : ٣) أي أخفاه عن العباد وأخلصه لله وانقطه به إليه.
الحجة الثالثة : ما روى أبو موسى الأشعري، أنهم كانوا في غزاة فأشرفوا على واد فجعلوا يكبرون ويهللون رافعي أصواتهم فقال عليه السلام :"ارفقوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً وإنه لمعكم".