السؤال الأول : قال في أول الآية :﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ﴾ ثم قال :﴿وَلا تُفْسِدُوا ﴾ ثم قال :﴿وَادْعُوهُ﴾ وهذا يقتضي عطف الشيء على نفسه وهو باطل.
والجواب : أن الذين قالوا في تفسير قوله :﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا﴾ أي اعبدوه إنما قالوا ذلك خوفاً من هذا الإشكال.
فإن قلنا بهذا التفسير فقد زال السؤال، وإن قلنا المراد من قوله :﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا﴾ هو الدعاء كان الجواب أن قوله :﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾ يدل على أن الدعاء لا بد وأن يكون مقروناً بالتضرع وبالإخفاء، ثم بين في قوله ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ أن فائدة الدعاء هو أحد هذين الأمرين، فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء، والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء ومنفعته.
السؤال الثاني : أن المتكلمين اتفقوا على أن من عبد ودعا لأجل الخوف من العقاب والطمع / في الثواب لم تصح عبادته، وذلك لأن المتكلمين فريقان : منهم من قال التكاليف إنما وردت بمقتضى الألهية والعبودية، فكونه إلهاً لنا وكوننا عبيداً له يقتضي أن يحسن منه أن يأمر عبيده بما شاء كيف شاء، فلا يعتبر منه كونه في نفسه صلاحاً وحسناً، وهذا قول أهل السنة. ومنهم من قال : التكليف إنما وردت لكونها في أنفسها مصالح ؛ وهذا هو قول المعتزلة.
إذا عرفت هذا فنقول : أما على القول الأول : فوجه وجوب بعض الأعمال، وحرمة بعضها مجرد أمر الله بما أوجبه. ونهيه عما حرمه، فمن أتى بهذه العبادات صحت. أما من أتى بها خوفاً من العقاب، أو طمعاً في الثواب، وجب أن لا يصح، لأنه ما أتى بها لأجل وجه وجوبها، وأما على القول الثاني : فوجه وجوبها هو كونها في أنفسها مصالح، فمن أتى بها للخوف من العقاب، أو للطمع في الثواب فلم يأت بها لوجه وجوبها، فوجب أن لا تصح، فثبت أن على كلا المذهبين من أتى بالدعاء وسائر العبادات لأجل الخوف من العقاب، والطمع في الثواب، وجب أن لا يصح.
إذا ثبت هذا فنقول : ظاهر قوله :﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ يقتضي أنه تعالى أمر المكلف بأن يأتي بالدعاء لهذا الغرض، وقد ثبت بالدليل فساده، فكيف طريق التوفيق بين ظاهر هذه الآية وبين ما ذكرناه من المعقول.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٨٦
والجواب : ليس المراد من الآية ما ظننتم، بل المراد : وادعوه مع الخوف من وقوع التقصير، في بعض الشرائط المعتبرة في قبول ذلك الدعاء، ومع الطمع في حصول تلك الشرائط بأسرها، وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل ؟
السؤال الثالث : هل تدل هذه الآية على أن الداعي لا بد وأن تحصل في قلبه هذا الخوف والطمع ؟
والجواب : أن العبد لا يمكنه أن يقطع بكونه آتياً بجميع الشرائط المعتبرة في قبول الدعاء، ولأجل هذا المعنى يحصل الخوف، وأيضاً لا يقطع بأن تلك الشرائط مفقودة، فوجب كونه طامعاً في قبولها فلا جرم.
قلنا : بأن الداعي لا يكون داعياً إلا إذا كان كذلك فقوله :﴿خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ أي أن تكونوا جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في كل أعمالكم، ولا تقطعوا أنكم وإن اجتهدتم فقد أديتم حق ربكم. ويتأكد هذا بقوله :﴿يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ (المؤمنون : ٦٠).
ثم قال تعالى :﴿وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في أن الرحمة عبارة عن إيصال الخير والنعمة أو عن إرادة / إيصال الخير والنعمة، فعلى التقدير الأول تكون الرحمة من صفات الأفعال/ وعلى هذا التقدير الثاني تكون من صفات الذات، وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ﴾ (الفاتحة : ١ النمل : ٣٠).
المسألة الثانية : قال بعض أصحابنا : ليس لله في حق الكافر رحمة ولا نعمة. واحتجوا بهذه الآية، وبيانه : أن هذه الآية تدل على أن كل ما كان رحمة فهي قريبة من المحسنين، فيلزم أن يكون كل ما لا يكون قريباً من المحسنين، أن لا يكون رحمة، والذي حصل في حق الكافر غير قريب من المحسنين، فوجب أن لا يكون رحمة من الله ولا نعمة منه.
المسألة الثالثة : قالت المعتزلة : الآية تدل على أن رحمة الله قريب من المحسنين، فلما كان كل هذه الماهية حصل للمحسنين وجب أن لا يحصل منها نصيب لغير المحسنين، فوجب أن لا يحصل شيء من رحمة الله في حق الكافرين، والعفو عن العذاب رحمة، والتخلص من النار بعد الدخول فيها رحمة، فوجب أن لا يحصل ذلك لمن لم يكن من المحسنين، والعصاة وأصحاب الكبائر ليسوا محسنين، فوجب أن لا يحصل لهم العفو عن العقاب، وأن لا يحصل لهم الخلاص من النار.


الصفحة التالية
Icon