ثم قال تعالى :﴿حَتَّى ا إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا﴾ يقال : أقل فلان الشيء إذا حمله قال صاحب "الكشاف" : واشتقاق الإقلال من القلة، لأن من يرفع شيئاً فإنه يرى ما يرفعه قليلاً، وقوله :﴿سَحَابًا ثِقَالا﴾ أي بالماء جمع سحابة، والمعنى حتى إذا حملت هذه الرياح سحاباً ثقالاً بما فيها من الماء والمعنى أن السحاب الكثيف المستطير للمياه العظيمة إنما يبقى معلقاً في الهواء لأنه تعالى دبر بحكمته أن يحرك الرياح تحريكاً شديداً، فلأجل الحركات الشديدة التي في تلك الرياح تحصل فوائد : إحداها : أن أجزاء السحاب ينضم بعضها إلى البعض ويتراكم وينعقد السحاب الكثيف الماطر. وثانيها : أن بسبب تلك الحركات الشديدة التي في تلك الرياح يمنة ويسرة يمتنع على تلك الأجزاء المائية النزول، فلا جرم يبقى متعلقاً في الهواء. وثالثها : أن بسبب حركات تلك الرياح ينساق السحاب من موضع إلى موضع آخر وهو الموضع الذي علم الله تعالى احتياجهم إلى نزول الأمطار وانتفاعهم بها. ورابعها : أن حركات الرياح تارة تكون جامعة لأجزاء السحاب موجبة لانضمام بعضها إلى البعض حتى ينعقد السحاب الغليظ، وتارة تكون مفرقة لأجزاء السحاب مبطلة لها. وخامسها : أن هذه الرياح تارة تكون مقوية للزروع والأشجار مكملة لما فيها من النشو والنماء وهي الرياح اللواقح، وتارة تكون مبطلة لها كما تكون في الخريف. وسادسها : أن هذه الرياح تارة تكون طيبة لذيذة موافقة للأبدان، وتارة تكون مهلكة إما بسبب ما فيها من الحر الشديد كما في السموم أو بسبب ما فيها من البرد الشديد كما في الرياح الباردة المهلكة جداً. وسابعها : أن هذه الرياح تارة تكون شرقية، وتارة تكون غربية وشمالية وجنوبية. وهذا ضبط ذكره بعض الناس وإلا فالرياح تهب من كل جانب من جوانب العالم ولا ضبط لها، ولا اختصاص لجانب من جوانب العالم بها. وثامنها : أن هذه الرياح تارة تصعد من قعر الأرض فإن من ركب البحر يشاهد أن البحر يحصل غليان شديد فيه بسبب تولد الرياح في قعر البحر إلى ما فوق البحر، وحينئذ يعظم هبوب الرياح في وجه البحر، وتارة ينزل الريح من جهة فوق فاختلاف الرياح بسبب هذه المعاني أيضاً عجيب، وعن ابن عمر رضي الله عنهما : الرياح ثمان : أربع منها : عذاب، وهو القاصف، والعاصف، والصرصر، والعقيم، وأربعة منها رحمة : الناشرات، والمبشرات، والمرسلات، والذاريات، / وعن النبي صلى الله عليه وسلّم :"نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور" والجنوب من ريح الجنة، وعن كعب : لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر الأرض، وعن السدي : أنه تعالى يرسل الرياح فيأتي بالسحاب ثم إنه تعالى يبسطه في السماء كيف يشاء ثم يفتح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك، ورحمته هو المطر.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٩٣
إذا عرفت هذا فنقول : اختلاف الرياح في الصفات المذكورة/ مع أن طبيعة الهواء واحدة، وتأثيرات الطبائع والأنجم والأفلاك واحدة، يدل على أن هذه الأحوال. لم تحصل إلا بتدبير الفاعل المختار سبحانه وتعالى.
ثم قال تعالى :﴿سُقْنَـاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ﴾ والمعنى أنا نسوق ذلك السحاب إلى بلد ميت لم ينزل فيه غيث ولم ينبت فيه خضرة.
فإن قيل : السحاب إن كان مذكراً يجب أن يقول : حتى إذا أقلت سحاباً ثقيلاً، وإن كان مؤنثاً يجب أن يقول سقناه فكيف التوفيق ؟
والجواب : أن السحاب لفظه مذكر وهو جمع سحابة. فكان ورود الكناية عنه على سبيل التذكير جائزاً، نظراً إلى اللفظ، وعلى سبيل التأنيث أيضاً جائزاً، نظراً إلى كونه جمعاً، أما "اللام" في قوله :﴿سُقْنَـاهُ لِبَلَدٍ﴾ ففيه قولان : قال بعضهم هذه "اللام" بمعنى إلى يقال هديته للدين وإلى الدين. وقال آخرون : هذه "اللام" بمعنى من أجل، والتقدير سقناه لأجل بلد ميت ليس فيه حياً يسقيه. وأما البلد فكل موضع من الأرض عامر أو غير عامر، خال أو مسكون فهو بلد والطائفة منه بلدة والجميع البلاد والفلاة تسمى بلدة. قال الأعشى :
وبلدة مثل ظهر الترس موحشة
للجن بالليل في حافاتها زجل
ثم قال تعالى :﴿فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ﴾ اختلفوا في أن الضمير في قوله :﴿بِه ﴾ إلى ماذا يعود ؟
قال الزجاج وابن الأنباري : جائز أن يكون فأنزلنا بالبلد الماء، وجائز أن يكون فأنزلنا بالسحاب الماء، لأن السحاب آلة لإنزال الماء.