ثم قال :﴿فَأَخْرَجْنَا بِه مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾ الكناية عائدة إلى الماء، لأن إخراج الثمرات كان بالماء. قال الزجاج : وجائز أن يكون التقدير فأخرجنا بالبلد من كل الثمرات، لأن البلد ليس يخص به هنا بلد دون بلد، وعلى القول الأول، فالله تعالى إنما يخلق الثمرات بواسطة الماء. وقال أكثر المتكلمين : إن الثمار غير متولدة من الماء، بل الله تعالى أجرى عادته بخلق النبات ابتداء عقيب اختلاط الماء بالتراب، وقال جمهور الحكماء : لا يمتنع أن يقال إنه تعالى أودع في الماء قوة طبيعية، ثم إن تلك القوة الطبيعية توجب حدوث الأحوال المخصوصة عند امتزاج / الماء بالتراب وحدوث الطبائع المخصوصة. والمتكلمون احتجوا على فساد هذا القول، بأن طبيعة الماء والتراب واحدة. ثم إنا نرى أنه يتولد في النبات الواحد أحوال مختلفة مثل العنب فإن قشره بارد يابس، ولحمه وماؤه حار رطب، وعجمه بارد يابس، فتولد الأجسام الموصوفة بالصفات المختلفة من الماء والتراب، يدل على أنها إنما حدثت بأحداث الفاعل المختار لا بالطبع والخاصة.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٩٣
ثم قال تعالى :﴿كَذَالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى ﴾ وفيه قولان : الأول : أن المراد هو أنه تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال الأمطار، فكذلك يحيي الموتى بواسطة مطر ينزله على تلك الأجسام الرميمة. وروي أنه تعالى يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطراً كالمني أربعين يوماً، وإنهم ينبتون عند ذلك ويصيرون أحياء. قال مجاهد : إذا أراد الله أن يبعثهم أمطر السماء عليهم حتى تنشق عنهم الأرض كما ينشق الشجر عن النور والثمر، ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها.
والقول الثاني : أن التشبيه إنما وقع بأصل الأحياء بعد أن كان ميتاً، والمعنى : أنه تعالى كما أحيا هذا البلد بعد خرابه، فأنبت فيه الشجر وجعل فيه الثمر، فكذلك يحيي الموتى بعد أن كانوا أمواتاً، لأن من يقدر على إحداث الجسم، وخلق الرطوبة والطعم فيه، فهو أيضاً يكون قادراً على إحداث الحياة في بدن الميت، والمقصود منه إقامة الدلالة على أن البعث والقيامة حق.
واعلم أن الذاهبين إلى القول الأول إن اعتقدوا أنه لا يمكن بعث الأجساد إلا بأن يمطر على تلك الأجساد البالية مطراً على صفة المني/ فقد أبعد، ولأن الذي يقدر على أن يحدث في ماء المطر الصفات التي باعتبارها صار المني منياً ابتداء، فلم لا يقدر على خلق الحياة والجسم ابتداء ؟
وأيضاً فهب أن ذلك المطر ينزل إلا أن أجزاء الأموات غير مختلطة، فبعضها يكون بالمشرق، وبعضها يكون بالمغرب، فمن أين ينفع إنزال ذلك المطر في توليد تلك الأجساد ؟
فإن قالوا : إنه تعالى بقدرته وبحكمته يخرج تلك الأجزاء المتفرقة فلم لم يقولوا إنه بقدرته وحكمته يخلق الحياة في تلك الأجزاء ابتداء من غير واسطة ذلك المطر ؟
وإن اعتقدوا أنه تعالى قادر على إحياء الأموات ابتداء، إلا أنه تعالى إنما يحييهم على هذا الوجه كما أنه قادر على خلق الأشخاص في الدنيا ابتداء، إلا أنه أجرى عادته بأنه لا يخلقهم إلا من الأبوين فهذا جائز.
ثم قال تعالى :﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ والمعنى : أنكم لما شاهدتم أن هذه الأرض كانت مزينة وقت الربيع والصيف بالأزهار والثمار، ثم صارت عند الشتاء ميتة عارية عن تلك الزينة، ثم إنه تعالى أحياها مرة أخرى، فالقادر على إحيائها بعد موتها يجب كونه أيضاً قادراً على إحياء الأجساد بعد موتها، فقوله :﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ المراد منه تذكر أنه لما لم يمتنع هذا المعنى في إحدى الصورتين وجب أن لا يمتنع في الصورة الأخرى.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٩٣
ثم قال تعالى :﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُه بِإِذْنِ رَبِّه ا وَالَّذِى خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا ﴾.
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في هذه الآية قولان :
القول الأول : وهو المشهور أن هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر بالأرض الخيرة والأرض السبخة، وشبه نزول القرآن بنزول المطر، فشبه المؤمن بالأرض الخيرة التي نزل عليها المطر فيحصل فيها أنواع الأزهار والثمار، وأما الأرض السبخة فهي وإن نزل المطر عليها لم يحصل فيها من النبات إلا النزر القليل، فكذلك الروح الطاهرة النقية عن شوائب الجهل والأخلاق الذميمة إذا اتصل به نور القرآن ظهرت فيه أنواع من الطاعات والمعارف والأخلاق الحميدة، والروح الخبيثة الكدرة وإن اتصل به نور القرآن لم يظهر فيه من المعارف والأخلاق الحميدة إلا القليل.