ثم قال :﴿أَتُجَـادِلُونَنِي فِى أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـانٍ ﴾ والمراد منه : الاستفهام على سبيل الإنكار، وذلك لأنهم كانوا يسمون الأصنام بالآلهة، مع أن معنى الإلهية فيها معدوم، وسموا واحداً منها بالعزى مشتقاً من العز، والله ما أعطاه عزاً أصلاً، وسموا آخر منها باللات، وليس له من الإلهية شيء. وقوله :﴿مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـانٍ ﴾ عبارة عن خلو مذاهبهم عن الحجة والبينة، ثم إنه عليه السلام ذكر لهم وعيداً مجددا فقال :﴿فَانتَظِرُوا ﴾ ما يحصل لكم من عبادة هذه الأصنام ﴿إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ﴾.
ثم إنه تعالى أخبر عن عاقبة هذه الواقعة فقال :﴿فَأَنجَيْنَـاهُ وَالَّذِينَ مَعَه بِرَحْمَةٍ مِّنَّا﴾ إذ كانوا مستحقين للرحمة بسبب إيمانهم، وقطعنا دابر الذين كذبوا بالآيات التي جعلناها معجزة لهود، والمراد أنه تعالى أنزل عليهم عذاب الاستئصال الذي هو الريح، وقد بين الله كيفيته في غير هذا الموضع، وقطع الدابر : هو الاستئصال، فدل بهذا اللفظ أنه تعالى ما أبقى منهم أحداً، ودابر الشيء آخره.
فإن قيل : لما أخبر عنهم بأنهم كانوا مكذبين بآيات الله لزم القطع بأنهم ما كانوا مؤمنين، فما الفائدة في قوله بعد ذلك :﴿وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾.
قلنا : معناه أنهم مكذبون، وعلم الله منهم أنهم لو بقوا لم يؤمنوا أيضاً، ولو علم تعالى أنهم سيؤمنون لأبقاهم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٠٤
٣٠٦
اعلم أن هذا هو القصة الثالثة، وهو قصة صالح.
أما قوله :﴿وَإِلَى ثَمُودَ﴾ فالمعنى ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا﴾ (الأعراف : ٥٩) ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ﴾ (الأعراف : ٦٥) ﴿إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَـالِحًا﴾ (هود : ٦١) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال أبو عمرو بن العلاء : سميت ثموداً لقلة مائها من الثمد، وهو الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام. وإلى وادي القرى، وقيل سميت ثمود لأنه اسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عاد بن إرم بن سام بن نوع عليه السلام.
المسألة الثانية : قرىء ﴿وَإِلَى ثَمُودَ﴾ يمنع التصرف بتأويل القبيلة ﴿وَإِلَى ثَمُودَ﴾ بالصرف بتأويل الحي أو باعتبار الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر، وقد ورد القرآن بهما صريحاً. قال تعالى :﴿أَلا إِنَّ ثَمُودَا كَفرُوا رَبَّهُم أَلا بُعْدًا لِّثَمُودَ﴾ (هود : ٦٨).
واعلم أنه تعالى حكى عنه أنه أمرهم بعبادة الله ونهاهم عن عبادة غير الله كما ذكره من قبله من الأنبياء.
ثم قال :﴿قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ وهذه الزيادة مذكورة في هذه القصة، وهي تدل على أن كل من كان قبله من الأنبياء كانوا يذكرون الدلائل على صحة التوحيد والنبوة، لأن التقليد وحده لو كان كافياً لكانت تلك البينة ههنا لغواً، ثم بين أن تلك البينة هي الناقة فقال :﴿هَـاذِه نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً ﴾ وفيه مسائل :
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٠٦
المسألة الأولى : ذكروا أنه تعالى لما أهلك عاداً قام ثمود مقامهم، وطال عمرهم وكثر تنعمهم، ثم عصوا الله، وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم صالحاً وكان منهم، فطالبوه بالمعجزة. فقال : ما تريدون. فقالوا : تخرج معنا في عيدنا، ونخرج أصنامنا وتسأل إلهك ونسأل أصنامنا، فإذا ظهر أثر دعائك اتبعناك، وإن ظهر أثر دعائنا اتبعتنا، فخرج معهم فسألون أن يخرج لهم ناقة كبيرة من صخرة معينة، فأخذ مواثيقهم أنه إن فعل ذلك آمنوا فقبلوا، فصلى ركعتين ودعا الله فتمخضت تلك الصخرة كما تتمخض الحامل، ثم انفرجت وخرجت الناقة من وسطها، وكانت في غاية الكبر وكان الماء عندهم قليلاً فجعلوا ذلك الماء بالكلية شرباً لها في يوم، وفي اليوم الثاني شرباً لكل القوم قال السدي : وكانت الناقة في اليوم التي تشرب فيه الماء تمر بين الجبلين فتعلوهما ثم تأتي فتشرب فتحلب ما يكفي الكل، وكأنها كانت تصب اللبن صباً، وفي اليوم الذي يشربون الماء فيه لا تأتيهم وكان معها فصيل لها. فقال لهم صالح : يولد في شهركم هذا غلام يكون هلاككم على يديه، فذبح تسعة نفر منهم أبناءهم، ثم ولد العاشر فأبى أن يذبحه أبوه، فنبت نباتاً سريعاً، ولما كبر الغلام جلس مع قوم يصيبون من الشراب، فأرادوا ماء يمزجونه به، وكان يوم شرب الناقة فما وجدوا الماء، واشتد ذلك عليهم، فقال الغلام : هل لكم في أن أعقر هذه الناقة ؟
فشد عليها، فلما بصرت به شدت عليه، فهرب منها إلى خلف صخرة فأحاشوها عليه، فلما مرت به تناولها فعثرها فسقطت. فذلك قوله :﴿فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ﴾ وأظهروا حينئذ كفرهم وعتوا من أمر ربهم/ فقال لهم صالح : إن آية العذابأن تصبحوا غداً حمراً، واليوم الثاني صفراً، واليوم الثالث سوداً، فلما صبحهم العذاب تحنطوا واستعدوا.


الصفحة التالية
Icon