إذا عرفت هذا فنقول : اختلف العلماء في وجه كون الناقة إية. فقال بعضهم : إنها كانت آية بسبب خروجها بكمالها من الصخرة. قال القاضي : هذا إن صح فهو معجز من جهات : أحدها : خروجها من الجبل، والثانية : كونها لا من ذكر وأنثى، والثالثة : كمال خلقها من غير تدريج.
والقول الثاني : أنها إنما كانت آية لأجل أن لها شرب يوم، ولجميع ثمود شرب يوم، واستيفاء ناقة شرب أمة من الأمم عجيب، وكانت مع ذلك تأتي بما يليق بذلك الماء من / الكلأ والحشيش.
والقول الثاني : أن وجه الإعجاز فيها أنهم كانوا في يوم شربها يحلبون منها القدر الذي يقوم لهم مقام الماء في يوم شربهم. وقال الحسن : بالعكس من ذلك، فقال إنها لم تحلب قطرة لبن قط، وهذا الكلام مناف لما تقدم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٠٦
والقول الرابع : أن وجه الإعجاز فيها أن يوم مجيئها إلى الماء كان جميع الحيوانات تمتنع من الورود على الماء، وفي يوم امتناعها كانت الحيوانات تأتي.
واعلم أن القرآن قد دل على أن فيها آية، فأما ذكر أنها كانت آية من أي الوجوه فهو غير مذكور والعلم حاصل بأنها كانت معجزة من وجه ما لا محالة. والله أعلم.
المسألة الثانية : قوله :﴿هَـاذِه نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً ﴾ فقوله :﴿ءَايَةً﴾ نصب على الحال أي أشير إليها في حال كونها آية، ولفظة (هذه) تتضمن معنى الإشارة، و﴿ءَايَةً﴾ في معنى دالة. فلهذا جاز أن تكون حالاً.
فإن قيل : تلك الناقة كانت آية لكل أحد، فلماذا خص أولئك الأقواك بها ؟
فقال :﴿هَـاذِه نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً ﴾.
قلنا : فيه وجوه : أحدها : أنهم عاينوها وغيرهم أخبروا عنها، وليس الخبر كالمعاينة. وثانيها : لعله يثبت سائر المعجزات، إلا أن القوم التمسوا منه هذه المعجزة نفسها على سبيل الاقتراح، فأظهرها الله تعالى لهم، فلهذا المعنى حسن هذا التخصيص.
فإن قيل : ما الفائدة في تخصيص تلك الناقة بأنها ناقة الله ؟
قلنا : فيه وجوه : قيل أضافها إلى الله تشريفاً وتخصيصاً كقوله : بيت الله، وقيل : لأنه خلقها بلا واسطة، وقيل : لأنها لا مالك لها غير الله. وقيل : لأنها حجة الله على القوم.
ثم قال :﴿فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّه ﴾ أي الأرض أرض الله، والناقة ناقة الله، فذروها تأكل في أرض ربها، فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات من إنباتكم، ولا تمسوها بسوء ولا تضربوها ولا تطردوها ولا تقربوا منها شيئاً من أنواع الأذى. عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"يا علي أشقى الأولين عاقر ناقة صالح وأشقى الآخرين قاتلك".
ثم قال تعالى :﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِنا بَعْدِ عَادٍ﴾ قيل إنه تعالى لما أهلك عاداً عمر ثمود بلادها، وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعماراً طوالاً.
ثم قال :﴿وَبَوَّأَكُمْ فِى الارْضِ﴾ أنزلكم، والمبوأ : المنزل من الأرض، أي في أرض الحجر بين الحجاز والشام.
ثم قال :﴿تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا﴾ أي تبوؤن القصور من سهولة الأرض، فإن القصور إنما تبنى من الطين واللبن والآجر، وهذه الأشياء إنما تتخذ من سهولة الأرض ﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا﴾ (الشعراء : ١٤٩) يريد تنحتون بيوتاً من الجبال تسقفونها.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٠٦
فإن قالوا : علام انتصب بيوتاً ؟
قلنا : على الحال كما يقال : خط هذا الثوب قميصاً وأبر هذه القصبة قلما، وهي من الحال المقدرة، لأن الجبل لا يكون بيتاً في حال النحت، ولا الثوب والقصبة قميصاً، وقلما في حال الخياطة والبري. وقيل : كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء، وهذا يدل على أنهم كانوا متنعمين مترفهين.
ثم قال :﴿فَاذْكُرُوا ءَالاءَ اللَّهِ﴾ يعني قد ذكرت لكم بعض أقسام ما آتاكم الله من النعم/ وذكر الكل طويل. فاذكروا أنتم بعقولكم ما فيها ﴿وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ﴾ قيل المراد منه : النهي عن عقر الناقة، والأولى أن يحمل على ظاهره وهو المنع عن كل أنواع الفساد.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٠٦
٣٠٩


الصفحة التالية
Icon