اعلم أنا ذكرنا أن الملأ عبارة عن القوم الذين تمتلىء القلوب من هيبتهم، ومعنى الآية قال الملأ وهم الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا، يريد المساكين الذين آمنوا به، وقوله :﴿لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ﴾ بدل من قوله :﴿لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ﴾ لأنهم المؤمنون. واعلم أنه وصف أولئك الكفار بكونهم مستكبرين، ووصف أولئك المؤمنين بكونهم مستضعفين، وكونهم مستكبرين فعل استوجبوا به الذم، وكون المؤمنين مستضعفين معناه : أن غيرهم يستضعفهم ويستحقرهم، وهذا ليس فعلاً صادراً عنهم بل عن غيرهم، فهو لا يكون صفة ذم في حقهم، بل الذم عائد إلى الذين يستحقرونهم ويستضعفونهم. ثم حكى تعالى أن هؤلاء المستكبرين سألوا المستضعفين عن حال صالح فقال المتضعفون نحن موقنون مصدقون بما جاء به صالح. وقال المستكبرون : بل نحن كافرون بما جاء به صالح، وهذه الآية من أعظم ما يحتج به في بيان أن الفقر خير من الغنى، وذلك لأن الاستكبار إنما يتولد من كثرة المال والجاه، والاستضعاف إنما يحصل من قلتهما، فبين تعالى أن كثرة المال والجاه حملهم على التمرد، والإباء، والإنكار، والكفر. وقلة المال والجاه حملهم على الإيمان، والتصديق والانقياد، وذلك يدل على أن الفقر خير من الغنى.
ثم قال تعالى :﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ﴾ قال الأزهري : العقر عند العرب، كشف عرقوب البعير، ولما كان العقر سبباً للنحر أطلق العقر على النحر إطلاقاً لاسم السبب على المسبب. واعلم أنه أسند العقر إلى جميعهم، لأنه كان برضاهم مع أنه ما باشره إلا بعضهم، وقد يقال للقبيلة العظيمة : أنتم فعلتم كذا مع أنه ما فعله إلا واحد منهم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٠٩
ثم قال :﴿وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾ يقال : عتا يعتو عتواً، إذا استكبر. ومنه يقال : جبار عات قال مجاهد : العتو الغلو في الباطل وفي قوله :﴿عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾ وجهان : الأول : معناه استكبروا عن امتثال أمر ربهم وذلك الأمر هو الذي أوصله الله إليهم على لسان صالح عليه السلام وهو قوله :﴿فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّه ﴾ (الأعراف : ٨٣) الثاني : أن يكون المعنى وصدر عتوهم عن أمر ربهم، فكان أمر ربهم بتركها صار سبباً في إقدامهم على ذلك العتو، كما يقال : الممنوع متبوع ﴿وَقَالُوا يَـاصَـالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ وإنما قالوا ذلك، لأنهم كانوا مكذبين له في كل ما أخبر عنه من الوعد والوعيد.
ثم قال تعالى :﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ قال الفراء والزجاج : هي الزلزلة الشديدة. قال تعالى :﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الارْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلا﴾ (المزمل : ١٤) قال الليث : يقال رجف الشيء يرجف رجفاً ورجفانا، كرجفان البعير تحت الرحل، وكما يرجف الشجر إذا أرجفته الريح.
ثم قال :﴿فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَـاثِمِينَ﴾ يعني في بلدهم ولذلك وحد الدار، كما يقال : دار الحرب / ومررت بدار البزازين، وجمع في آية أخرى فقال :﴿فِى دِيَـارِهِمْ﴾ (هود : ٩٤) لأنه أراد بالدار ما لكل واحد منهم من منزله الخاص به. وقوله :﴿جَـاثِمِينَ﴾ قال أبو عبيدة : الجثوم للناس والطير، بمنزلة البروك للإبل، فجثوم الطير هو وقوعه لاطئاً بالأرض في حال سكونه بالليل، والمعنى : أنهم أصبحوا جاثمين خامدين لا يتحركون موتى، يقال : الناس جثم. أي قعود لا حراك بهم ولا يحسون بشيء، ومنه المجثمة التي جاء النهي عنها، وهي البهيمة التي تربط لترمى، فثبت أن الجثوم عبارة عن السكون والخمود، ثم اختلفوا، فمنهم من قال : لما سمعوا الصيحة العظيمة تقطعت قلوبهم وماتوا جاثمين على الركب، وقيل بل سقطوا على وجوههم، وقيل وصلت الصاعقة إليهم فاحترقوا وصاروا كالرماد. وقيل : بل عند نزول العذاب عليهم سقط بعضهم على بعض، والكل متقارب. وههنا سؤالات :
السؤال الأول : أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم قالوا :﴿يَـاصَـالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ قال تعالى :﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ والفاء للتعقيب وهذا يدل على أن الرجفة أخذتهم عقيب ما ذكروا ذلك الكلام وليس الأمر كذلك، لأنه تعالى قال في آية أخرى :﴿فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلَـاثَةَ أَيَّامٍا ذالِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ (هود : ٦٥).
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٠٩
والجواب : أن الذي يحصل عقيب الشيء بمدة قليلة قد يقال فيه أنه حصل عقيبه فزال السؤال.
السؤال الثاني : طعن قوم من الملحدين في هذه الآيات بأن ألفاظ القرآن قد اختلفت في حكاية هذه الواقعة، وهي الرجفة والطاغية والصيحة، وزعموا أن ذلك يوجب التناقض.