والوجه السادس : أنه تعالى أودع في الرحم قوة شديدة الجذب للمني/ فإذا واقع الرجل المرأة قوي الجذب، فلم يبق شيء من المني في المجاري إلا وينفصل. أما إذا واقع الرجل فلم يحصل في ذلك العضو المعين من المفعول قوة جاذبة للمني، وحينئذ لا يكمل الجذب، فيبقى شيء من أجزأ المني في تلك المجاري، ولا ينفصل، ويعفن ويفسد ويتولد منه الأورام الشديدة والأسقام العظيمة وهذه فائدة لا يمكن معرفتها إلا بالقوانين الطبية، فهذه هي الوجوه الموجبة لقبح هذا العمل ورأيت بعض من كان ضعيفاً في الدين يقول : إنه تعالى قال :﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـافِظُونَ * إِلا عَلَى ا أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ﴾ (المؤمنون : ٥ المعارج : ٢٩) وذلك يقتضي حل وطء المملوك مطلقاً سواء كان ذكراً أو أنثى قال : ولا يمكن أن يقال أنا نخصص هذا العموم بقوله تعالى :﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَـالَمِينَ﴾ (الشعراء : ١٦٥) وقوله :﴿أَتَأْتُونَ الْفَـاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَـالَمِينَ﴾ (الأعراف : ٨٠) قال لأن هاتين الآيتين كل واحد منهما أعم من الأخرى من وجه، وأخص من وجه، وذلك لأن المملوك قد يكون ذكراً، وقد يكون أنثى، وأيضاً الذكر قد يكون مملوكاً، وقد لا يكون مملوكاً، وإذا كان الأمر كذلك لم يكن تخصيص إحداهما بالأخرى أولى من العكس، والترجيح من هذا الجانب، لأن قوله :﴿إِلا عَلَى ا أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ﴾ شرع محمد، وقصة لوط، شرع سائر الأنبياء، وشرع محمد عليه الصلاة والسلام أولى من شرع من تقدمه من الأنبياء، وأيضاً الأصل في المنافع والملاذ الحل، وأيضاً الملك مطلق للتصرف. فقل له الاستدلال إنما يقبل في موضع الاحتمال، وقد ثبت بالتواتر الظاهر من دين محمد حرمة هذا العمل، والمبالغة في المنع منه، والاستدلال إذا وقع في مقابلة النقل المتواتر، كان باطلاً.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣١١
ثم قال تعالى حكاية عن لوط أنه قال لهم :﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ﴾ والمعنى كأنه قال لهم : أنتم مسرفون في كل الأعمال، فلا يبعد منكم أيضاً إقدامكم على هذا الإسراف.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣١١
٣١١
والمراد منه أخرجوا لوطاً وأتباعه، لأنه تعالى في غير هذه السورة قال :﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِه إِلا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا ﴾ (النمل : ٥٦) ولأن الظاهر أنهم إنما سعوا في إخراج من نهاهم عن العمل الذي يشتهونه ويريدونه، وذلك الناهي ليس إلا لوطاً وقومه، وفي قوله :﴿يَتَطَهَّرُونَ﴾ وجوه : الأول :/ أن ذلك العمل تصرف في موضع النجاسة، فمن تركه فقد تطهر. والثاني : أن البعد عن الإثم يسمى طهارة فقوله :﴿يَتَطَهَّرُونَ﴾ أي يتباعدون عن المعاصي والآثام. الثالث : أنهم إنما قالوا :﴿أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ على سبيل السخرية بهم وتطهرهم من الفواحش، كما يقول الشيطان من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : ابعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣١١
٣١٢
اعلم أن قوله ﴿فَأَنجَيْنَـاهُ وَأَهْلَه ﴾ يحتمل أن يكون المراد من أهله أنصاره وأتباعه الذين قبلوا دينه ويحتمل أن يكون المراد المتصلين به بالنسب. قال ابن عباس : المراد ابنتاه. وقوله :﴿إِلا امْرَأَتَه ﴾ أي زوجته. يقال : امرأة الرجل بمعنى زوجته. ويقال : رجل المرأة بمعنى زوجها لأن الزوج بمنزلة المالك لها، وليست المرأة بمنزلة المالك للرجل، فإذا أضيفت إلى الرجل بالاسم العام، عرفت الزوجية. وملك النكاح، والرجل إذا أضيف إلى المرأة بالاسم العام، تعرف الزوجية. وقوله :﴿كَانَتْ مِنَ الْغَـابِرِينَ﴾ يقال : غبر الشيء يغبر غبوراً، إذا مكث وبقي. قال الهذلي :
فغبرت بعدهم بعيش ناصب
وأخال أني لاحق مستتبع
يعني بقيت فمعنى الآية : أنها كانت من الغابرين عن النجاة. أي من الذين بقوا عنها ولم يدركوا النجاة. يقال فلان غبر هذا الأمر. أي لم يدركه، ويجوز أن يكون المراد أنها لم تسر مع لوط وأهله، بل تخلفت عنه وبقيت في ذلك الموضع الذي هو موضع العذاب.
ثم قال :﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا ﴾ يقال : مطرت السماء وأمطرت، والأول أفصح، وأمطرهم، مطراً وعذاباً، وكذلك أمطر عليهم، والمراد أنه تعالى أمطر عليهم حجارة من السماء بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى :﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ﴾ (الحجر : ٧٤).
ثم قال :﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : ظاهر هذا اللفظ وإن كان مخصوصاً بالرسول عليه السلام إلا أن المراد سائر المكلفين ليعتبروا بذلك فينزجروا.
فإن قيل : كيف يعتبرون بذلك، وقد آمنوا من عذاب الاستئصال ؟
قلنا : إن عذاب الآخرة أعظم وأدون من ذلك، فعند سماع هذه القصة يذكرون عذاب الآخرة مؤنبة على عذاب الاستئصال، ويكون ذلك زجراً وتحذيراً.