المسألة الثانية : مذهب الشافعي رضي الله عنه : أن اللواطة توجب الحد. وقال أبو حنيفة : لا توجبه. وللشافعي رحمه الله : أن يحتج بهذه الآية من وجوه : الأول : أنه ثبت في شريعة لوط عليه السلام رجم اللوطي، والأصل في الثابت البقاء، إلا أن يظهر طريان الناسخ، ولم يظهر في شرع محمد عليه الصلاة والسلام ناسخ هذا الحكم، فوجب القول ببقائه. الثاني : قوله تعالى :﴿ أولئك الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ (الأنعام : ٩٠) قد بينا في تفسير هذه الآية أنها تدل على أن شرع من قبلنا حجة علينا. والثالث : أنه تعالى قال :﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾ والظاهر أن المراد من هذه العاقبة ما سبق ذكره وهو إنزال الحجر عليهم. ومن المجرمين، الذين يعملون عمل قوم لوط، لأن ذلك هو المذكور السابق فينصرف إليه، فصار تقدير الآية : فانظر كيف أمطر الله الحجارة على من يعمل ذلك العمل المخصوص، وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب، يدل على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم، فهذه الآية تقتضي كون هذا الجرم المخصوص علة لحصول هذا الزاجر المخصوص، وإذا ظهرت العلة، وجب أن يحصل هذا الحكم أينما حصلت هذه العلة.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣١٢
٣١٤
اعلم أن هذا هو القصة الخامسة، وقد ذكرنا أن التقدير :﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ﴾ وذكرنا أن هذه الأخوة كانت في النسب لا في الدين، وذكرنا الوجوه فيه، واختلفوا في مدين. فقيل : أنه اسم البلد، وقيل : إنه اسم القبيلة بسبب أنهم أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام، ومدين صار / اسماً للقبيلة، كما يقال : بكر وتميم. وشعيب من أولاده، وهو : شعيب بن نويب بن مدين بن إبراهيم خليل الرحمن.
واعلم أنه تعالى حكى عن شعيب أنه أمر قومه في هذه الآية بأشياء : الأول : أنه أمرهم بعبادة الله ونهاهم عن عبادة غير الله، وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء. فقال :﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه ﴾ والثاني : أنه ادعى النبوة فقال :﴿قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ ويجب أن يكون المراد من البينة ههنا المعجزة، لأنه لا بد لمدعي النبوة منها، وإلا لكان متنبئاً لا نبياً، فهذه الآية دلت على أنه حصلت له معجزة دالة على صدقه. فأما أن تلك المعجزة من أي الأنواع كانت فليس في القرآن دلالة عليه، كما لم يحصل في القرآن الدلالة على كثير من معجزات رسولنا. قال صاحب "الكشاف" : ومن معجزات شعيب : أنه دفع إلى موسى عصاه، وتلك العصا حاربت التنين، وأيضاً قال لموسى : أن هذه الأغنام تلد أولاداً فيها سواد وبياض، وقد وهبتها منك، فكان الأمر كما أخبر عنه. ثم قال : وهذه الأحوال كانت معجزات لشعيب عليه السلام، لأن موسى في ذلك الوقت ما ادعى الرسالة.
واعلم أن هذا الكلام بناء على أصل مختلف بين أصحابنا، وبين المعتزلة. وذلك لأن عندنا أن الذي يصير نبياً ورسولاً بعد ذلك، يجوز أن يظهر الله عليه أنواع المعجزات قبل إيصال الوحي، ويسمى ذلك إرهاصاً للنبوة، فهذا الإرهاص عندنا جائز، وعند المعتزلة غير جائز، فالأحوال التي حكاها صاحب "الكشاف" هي عندنا إرهاصات لموسى عليه السلام، وعند المعتزلة معجزات لشعيب لما أن الإرهاص عندهم غير جائز، والثالث : أنه قال :﴿فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ﴾.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣١٤
واعلم أن عادة الأنبياء عليهم السلام إذا رأوا قومهم مقبلين على نوع من أنواع المفاسد إقبالاً أكثر من إقبالهم على سائر أنواع المفاسد بدأوا يمنعهم عن ذلك النوع، وكان قوم شعيب مشغوفين بالبخس والتطفيف، فلهذا السبب بدأ بذكر هذه الواقعة فقال :﴿فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ﴾ وههنا سؤالان :
السؤال الأول : الفاء في قوله :﴿فَأَوْفُوا ﴾ توجب أن تكون للأمر بإيفاء الكيل كالمعلول والنتيجة عما سبق ذكره وهو قوله :﴿قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ فكيف الوجه فيه ؟
والجواب : كأنه يقول البخس والتطفيف عبارة عن الخيانة بالشيء القليل. وهو أمر مستقبح في العقول، ومع ذلك قد جاءت البينة والشريعة الموجبة للحرمة، فلم يبق لكم فيه عذر ﴿فَأَوْفُوا الْكَيْلَ﴾.
السؤال الثاني : كيف قال الكيل والميزان، ولم يقل المكيال والميزان كما في سورة هود ؟


الصفحة التالية
Icon