والقول الثاني : قول الفلاسفة الطبيعيين وهو أن ذلك ممتنع على الإطلاق، وزعموا أنه لا يجوز حدوث هذه الأشياء ودخولها في الوجود إلا على هذا الوجه المخصوص والطريق المعين. وقالوا : وبهذا الطريق دفعنا عن أنفسنا التزام الجهالات التي ذكرناها والمحالات التي شرحناها، واعلم أنهم وإن زعموا أن ذلك غير لازم لهم، إلا أنهم في الحقيقة يلزمهم ذلك لزوماً لا دافع له، وتقريره أن هذه الحوادث التي تحدث في عالمنا هذا إما أن تحدث لا لمؤثر أو لمؤثر، وعلى التقديرين : فالقول الذي ذكرناه لازم أما على القول بأنها تحدث لا عن مؤثر، فهذا القول باطل في صريح العقل، إلا أن مع تجويزه فالإلزام المذكور لازم لأنا إذا جوزنا حدوث الأشياء لا عن مؤثر ولا عن موجد، فكيف يكون الأمان من تجويز حدوث إنسان لا عن الأبوين، ومن تجويز انقلاب الجبل ذهباً والبحر دماً ؟
فإن تجويز حدوث بعض الأشياء لا عن مؤثر ليس أبعد عند العقل من تجويز حدوث سائر الأشياء لا عن مؤثر، فثبت على هذا التقدير أن الإلزام المذكور لازم. أما على التقدير الثاني وهو إثبات مؤثر ومدبر لهذا العالم فذلك المؤثر إما أن يكون موجباً بالذات وأما أن يكون فاعلاً بالاختيار. أما على التقدير الأول فالإلزامات المذكورة لازمة، وتقريره : أنه إذا كان مؤثراً ومرجحه موجباً بالذات وجب الجزم بأن اختصاص كل وقت معين بالحادث المعين الذي حدث فيه إنما كان لأجل أنه بحسب اختلاف الأشكال الفلكية تختلف حوادث هذا العالم إذ لو لم يعتبر هذا المعنى لامتنع أن تكون العلة القديمة الدائمة سبباً لحدوث المعلول الحادث المتغير.
وءذا ثبت هذا فنقول : كيف الأمان من أن يحدث في الفلك شكل غريب يقتضي حدوث إنسان دفعة واحدة لا عن الأبوين وانتقال مادة الجبل من الصورة الجبلية إلى الصورة الذهبية أو للصورة الحيوانية ؟
وحينئذ تعود جميع الإلزامات المذكورة. وأما على التقدير الثاني وهو أن يكون مؤثر العالم ومرجحه فاعلاً مختاراً، فلا شك أن جميع الأشياء المذكورة محتملة لأنه لا يمتنع أن يقال أن ذلك الفاعل المختار يخلق بإرادته إنساناً دفعة واحدة لا عن الأبوين وانتقال مادة الجبل ذهباً والبحر دماً، فثبت أن الأشياء التي ألزموها علينا واردة على جميع التقديرات وعلى جميع الفرق وأنه لا دافع لها ألبتة.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٣١
والقول الثالث : وهو قول المعتزلة فإنهم يجوزون انخراق العادات وانقلابها عن مجاريها في بعض الصور دون بعض، فأكثر شيوخهم يجوزون حدوث الإنسان دفعة واحدة لا عن الأبوين، ويجوزون انقلاب الماء ناراً وبالعكس، ويجوزون حدوث الزرع لا عن سابقة بذر. ثم قالوا إنه لا يجوز أن يكون الجوهر الفرد موصوفاً بالعلم والقدرة والحياة، بل صحة هذه الأشياء مشروطة بحصول بنية مخصوصة ومزاج مخصوص، وزعموا أن عند كون الحاسة سليمة وكون المرئي حاضراً وعدم القرب القريب والبعد البعيد يجب حصول الإدراك وعند فقدان أحد هذه الشروط يمتنع حصول الإدراك، وبالجملة فالمعتزلة في بعض الصور لا يعتبرون مجاري العادات ويزعمون أن انقلابها ممكن وانخراقها جائز، وفي سائر الصور يزعمون أنها واجبة ويمتنع زوالها وانقلابها، وليس لهم بين الناس قانون مضبوط ولا ضابط معلوم، فلا جرم كان قولهم أدخل الأقاويل في الفساد.