إذا عرفت هذه التفاصيل فنقول : ذوات الأجسام متماثلة في تمام الماهية وكل ما صح على الشيء صح على مثله/ فوجب أن يصح على كل جسم ما صح على غيره، فإذا صح على بعض الأجسام صفة من الصفات وجب أن يصح على كلها مثل تلك الصفة، وإذا كان كذلك كان جسم العصا قابلاً للصفات التي باعتبارها تصير ثعباناً، وإذا كان كذلك كان انقلاب العصا ثعباناً أمراً ممكناً لذاته، وثبت أنه تعالى قادر على جميع الممكنات، فلزم القطع بكونه تعالى قادراً على قلب العصا ثعباناً، وذلك هو المطلوب، وهذا الدليل موقوف على إثبات مقدمات ثلاث : إثبات أن الأجسام متماثلة في تمام الذات، وإثبات أن حكم الشيء حكم مثله، وإثبات أنه تعالى قادر على كل الممكنات ومتى قامت الدلالة على صحة هذه المقدمات الثلاثة فقد حصل المطلوب التام والله أعلم. قوله :: ﴿فَإِذَا هِىَ﴾ أي العصا وهي مؤنثة، والثعبان الحية الضخمة الذكر في قول جميع أهل اللغة. فأما مقدارها فغير مذكور في القرآن، ونقل عن المفسرين في صفتها أشياء، فعن ابن عباس : إنها ملأت ثمانين ذراعاً ثم شدت على فرعون لتبتلعه فوثب فرعون عن سريره هارباً وأحدث، وانهزم الناس ومات منهم خمسة وعشرون ألفاً. وقيل : كان بين لحييها أربعون ذراعاً ووضع لحيها الأسفل على الأرض، والأعلى على سور القصر، وصاح فرعون يا موسى خذها. فأنا أومن بك، فلما أخذها موسى عادت عصا كما كانت، وفي وصف ذلك الثعبان بكونه مبيناً وجوه : الأول : تمييز ذلك عما جاءت به السحرة من التمويه الذي يلتبس على من لا يعرف سببه، وبذلك تتميز معجزات الأنبياء من الحيل والتمويهات. والثاني : في المراد أنهم شاهدوا كونه حية لم يشتبه الأمر عليهم فيه. الثالث : المراد أن ذلك الثعبان أبان قول موسى عليه السلام عن قول المدعي الكاذب.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٣١
وأما قوله :﴿وَنَزَعَ يَدَه ﴾ فالنزع في اللغة عبارة عن إخراج الشيء عن مكانه فقوله :﴿وَنَزَعَ يَدَه ﴾ أي أخرجها من جيبه أو من جناحه، بدليل قوله تعالى :﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ﴾ وقوله :﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ﴾ وقوله :﴿فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّـاظِرِينَ﴾ قال ابن عباس : وكان لها نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض.
واعلم أنه لما كان البياض كالعيب بين الله تعالى في غير هذه الآية أنه كان من غير سوء.
فإن قيل : بم يتعلق قوله :﴿لِلنَّـاظِرِينَ﴾.
قلنا : يتعلق بقوله :﴿بَيْضَآءَ﴾ والمعنى : فإذا هي بيضاء للنظارة، ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضها بياضاً عجيباً خارجاً عن العادة يجتمع الناس للنظر إليه كما تجتمع النظارة للعجائب. وبقي ههنا مباحث : فأولها : أن انقلاب العصا ثعباناً، من كم وجه يدل على المعجز ؟
والثاني : أن هذا المعجز كان أعظم أم اليد البيضاء ؟
وقد استقصينا الكلام في هذين المطلوبين في سورة طه. والثالث : أن المعجز الواحد كان كافياً، فالجمع بينهما كان عبثاً.
وجوابه : أن كثرة الدلائل توجب القوة في اليقين وزوال الشك، ومن الملحدين من قال : المراد بالثعبان وباليد البيضاء شيء واحد، وهو أن حجة موسى عليه السلام كانت قوية ظاهرة قاهرة، فتلك الحجة من حيث إنها أبطلت أقوال المخالفين، وأظهرت فسادها، كانت كالثعبان العظيم الذي يتلقف حجج المبطلين، ومن حيث كانت ظاهرة في نفسها، وصفت باليد البيضاء، كما يقال في العرف : لفلان يد بيضاء في العلم الفلاني. أي قوة كاملة، ومرتبة ظاهرة. واعلم أن حمل هذين المعجزين على هذا الوجه يجري مجرى دفع التواتر وتكذيب الله ورسوله. ولما بينا أن انقلاب العصا حية أمر ممكن في نفسه، فأي حامل يحملنا على المصير إلى هذا التأويل ؟
ولما ذكر الله تعالى أن موسى عليه السلام أظهر هذين النوعين من المعجزات. حكى عن قوم فرعون أنهم قالوا :﴿إِنَّ هَـاذَا لَسَـاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ وذلك لأن السحر كان غالباً في ذلك الزمان/ ولا شك أن مراتب السحرة كانت متفاضلة متفاوتة، ولا شك أنه يحصل فيهم من يكون غاية في ذلك العلم ونهاية فيه. فالقوم زعموا أن موسى عليه السلام. لكونه في النهاية من علم السحر، أتى بتلك الصفة، ثم ذكروا أنه إنما أتى بذلك السحر لكونه طالباً للملك والرياسة.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٣١
فإن قيل : قوله :﴿إِنَّ هَـاذَا لَسَـاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ حكاه الله تعالى في سورة الشعراء أنه قاله فرعون لقومه، وحكى ههنا أن قوم فرعون قالوه، فكيف الجمع بينهما ؟
وجوابه من وجهين : الأول : لا يمتنع أنه قد قاله هو وقالوه هم، فحكى الله تعالى قوله ثم، وقولهم ههنا. والثاني : لعل فرعون قاله ابتداء / فتلقنه الملأ منه فقالوه لغيره أو قالوه عنه لسائر الناس على طريق التبليغ، فإن الملوك إذا رأوا رأياً ذكروه للخاصة وهم يذكرونه للعامة، فكذا ههنا.


الصفحة التالية
Icon