وأما قوله :﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ فقد ذكر الزجاج فيه ثلاثة أوجه : الأول : أن كلام الملأ من قوم فرعون تم عند قوله :﴿يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِه ﴾ ثم عند هذا الكلام قال فرعون مجيباً لهم :﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ واحتجوا على صحة هذا القول بوجهين : أحدهما : أن قوله :﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ خطاب للجمع لا للواحد، فيجب أن يكون هذا كلام فرعون للقوم. أما لو جعلناه كلام القوم مع فرعون لكانوا قد خاطبوه بخطاب الواحد لا بخطاب الجمع. وأجيب عنه : بأنه يجوز أن يكونوا خاطبوه بخطاب الجمع تفخيماً لشأنه، لأن العظيم إنما يكنى عنه بكناية الجمع كما في قوله تعالى :﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾ (الحجر : ٩) ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحًا﴾ (نوح : ١) ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (القدر : ١).
والحجة الثانية : أنه تعالى لما ذكر قوله :﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ قال بعده :﴿قَالُوا أَرْجِهْ﴾ ولا شك أن هذا كلام القوم، وجعله جواباً عن قولهم :﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ فوجب أن يكون القائل لقوله :﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ غير الذي قالوا أرجه، وذلك يدل على أن قوله :﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ كلام لغير الملأ من قوم فرعون. وأجيب عنه : بأنه لا يبعد أن القوم قالوا :﴿إِنَّ هَـاذَا لَسَـاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ ثم قالوا لفرعون ولأكابر خدمه ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ ثم أتبعوه بقولهم :﴿أَرْجِهْ وَأَخَاهُ﴾ فإن الخدم والأتباع يفوضون الأمر والنهي إلى المخدوم والمتبوع أولاً، ثم يذكرون ما حضر في خواطرهم من المصلحة.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٣١
والقول الثاني : أن قوله :﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ من بقية كلام القوم، واحتجوا عليه بوجهين : الأول : أنه منسوق على كلام القوم من غير فاصل، فوجب أن يكون ذلك من بقية كلامهم. والثاني : أن الرتبة معتبرة في الأمر، فوجب أن يكون قوله :﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ خطاباً من الأدنى مع الأعلى، وذلك يوجب أن يكون هذا من بقية كلام فرعون معه.
وأجيب عن هذا الثاني : بأن الرئيس المخدوم قد يقول للجمع الحاضر عنده من رهطه ورعيته ماذا تأمرون ؟
ويكون غرضه منه تطييب قلوبهم وإدخال السرور في صدورهم وأن يظهر من نفسه كونه معظماً لهم ومعتقداً فيهم، ثم إن القائلين بأن هذا من بقية كلام قوم فرعون ذكروا وجهين : أحدهما : أن المخاطب بهذا الخطاب هو فرعون وحده، فإنه يقال للرئيس المطاع ما ترون في هذه الواقعة ؛ أي ما ترى أنت وحدك، والمقصود أنك وحدك قائم مقام الجماعة. والغرض منه التنبيه على كماله ورفعة شأنه وحاله. والثاني : أن يكون المخاطب بهذا الخطاب هو فرعون وأكابر دولته وعظماء حضرته، لأنهم هم المستقلون بالأمر والنهي، والله أعلم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٣١
٣٣٤
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع والكسائي ﴿أَرْجِهْ﴾ بغير همز وكسر الهاء والإشباع، وقرأ عاصم وحمزة ﴿أَرْجِهْ﴾ بغير الهمز وسكون الهاء. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمر بالهمز وضم الهاء، ثم أن ابن كثير أشبع الهاء على أصله والباقون لا يشبعون. قال الواحدي : رحمه الله ﴿قَالُوا أَرْجِهْ﴾ مهموز وغير مهموز لغتان يقال أرجأت الأمر وأرجيته إذا أخرته، ومنه قوله تعالى :﴿وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ﴾ (التوبة : ١٠٦) ﴿بِهَا مَن تَشَآءُ﴾ (الأجزاب : ٥١) قرىء في الآيتين باللغتين، وأما قراءة عاصم وحمزة بغير الهمز، وسكون الهاء. فقال الفراء : هي لغة العرب يقفون على الهاء المكني عنها في الوصل إذا تحرك ما قبلها وأنشد.
فيصلح اليوم ويفسده غداً
قال وكذلك يفعلون بهاء التأنيث فيقولون : هذه طلحة قد أقبلت، وأنشد.
لما رأى أن لا دعه ولا شبع
ثم قال الواحدي : ولا وجه لهذا عند البصريين في القياس. وقال الزجاج : هذا شعر لا نعرف قائله، ولو قاله شاعر مذكور لقيل له أخطأت.
المسألة الثانية : في تفسير قوله :﴿أَرْجِهْ﴾ قولان : الأول : الإرجاء التأخير فقوله :﴿أَرْجِهْ﴾ أي أخره. ومعنى أخره : أي أخر أمره ولا تعجل في أمره بحكم، فتصير عجلتك حجة عليك، والمقصود أنهم حاولوا معارضة معجزته بسحرهم، ليكون ذلك أقوى في إبطال قول موسى عليه السلام.
والقول الثاني : وهو قول الكلبي وقتادة ﴿أَرْجِهْ﴾ احبسه. قال المحققون هذا القول ضعيف لوجهين : الأول : أن الإرجاء في اللغة هو التأخير لا الحبس، والثاني : أن فرعون ما كان قادراً / على حبس موسى بعد ما شاهد حال العصا.
أما قوله :﴿وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَآاـاِنِ حَـاشِرِينَ﴾ ففيه مسألتان :
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٣٤


الصفحة التالية
Icon