المسألة الأولى : هذه الآية تدل على أن السحرة كانوا كثيرين في ذلك الزمان وإلا لم يصح قوله :﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَآاـاِنِ حَـاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَـاحِرٍ عَلِيمٍ﴾ ويدل على أن في طباع الخلق معرفة المعارفة، وإنها إذا أمكنت فلا نبوة، وإذا تعذرت فقد صحت النبوة، وأما بيان أن السحر ما هو وهل له حقيقة أم لا بل هو محض التمويه، فقد سبق الاستقصاء فيه، في سورة البقرة.
المسألة الثانية : نقل الواحدي عن أبي القاسم الزجاجي : أنه قال ختلف أصحابنا في المدينة على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنها فعيلة لأنها مأخوذة من قولهم مدن بالمكان يمدن مدونا إذا أقام به، وهذا القائل يستدل بإطباق القراء على همز المدائن، وهي فعائل كصحائف وصحيفة وسفائن وسفينة والياء إذا كانت زائدة في الواحد همزت في الجمع كقبائل وقبيلة، وإذا كانت من نفس الكلمة لم تهمز في الجمع نحو معايش ومعيشة.
والقول الثاني : أنها مفعلة، وعلى هذا الوجه، فمعنى المدينة المملوكة من دانه يدينه، فقولنا مدينة من دان، مثل معيشة من عاش، وجمعها مداين على مفاعل. كمعايش، غير مهموز، ويكون اسماً لمكان والأرض التي دانهم السلطان فيها أي ساسهم وقهرهم.
والقول الثالث : قال المبرد مدينة أصلها مديونة من دانه إذا قهره وساسه، فاستثقلوا حركة الضمة على الياء فسكنوها ونقلوا حركتها إلى ما قبلها/ واجتمع ساكنان الواو المزيدة التي هي واو المفعول، والياء التي هي من نفس الكلمة، فحذفت الواو لأنها زائدة، وحذف الزائد أولى من حذف الحرف الأصلي، ثم كسروا الدال لتسلم الياء، فلا تنقلب واواً لانضمام ما قبلها فيختلط ذوات الواو بذوات الياء، وهكذا القول في المبيع والمخيط والمكيل، ثم قال الواحدي : والصحيح أنها فعيلة لاجتماع القراء على همز المدائن.
المسألة الثالثة :﴿وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَآاـاِنِ حَـاشِرِينَ﴾ يريد وأرسل في مدائن صعيد مصر رجالاً يحشروا إليك ما فيها من السحرة. قال ابن عباس : وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد، ونقل القاضي عن ابن عباس، أنهم كانوا سبعين ساحراً سوى رئيسهم، وكان الذي يعلمهم رجلاً مجوسياً من أهل نينوى بلدة يونس عليه السلام، وهي قرية بالموصل. وأقول هذا النقل مشكل، لأن المجوس أتباع زرادشت، وزرادشت إنما جاء بعد مجيء موسى عليه السلام.
أما قوله :﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَـاحِرٍ عَلِيمٍ﴾ ففيه مسائل :
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٣٤
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي بكل سحار، والباقون بكل ساحر، فمن قرأ سحار فحجته أنه قد وصف بعليم، ووصفه به يدل على تناهيه فيه وحذقه به، فحسن لذلك أن يذكر بالاسم الدال على المبالغة في السحر، ومن قرأ ساحر فحجته قوله :﴿وَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ﴾ (الأعراف : ١٢٠) ﴿لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ﴾ (الشعراء : ٤٠) والسحرة جمع ساحر مثل كتبه وكاتب وفجرة وفاجر. واحتجوا أيضاً بقوله :﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ﴾ (الأعراف : ١١٦) واسم الفاعل من سحروا ساحر.
المسألة الثانية : الباء في قوله :﴿بِكُلِّ سَـاحِرٍ﴾ يحتمل أن تكون بمعنى مع، ويحتمل أن تكون باء التعدية. والله أعلم.
المسألة الثالثة : هذه الآية تدل على أن السحرة كانوا كثيرين في ذلك الزمان، وهذا يدل على صحة ما يقوله المتكلمون، من أنه تعالى يجعل معجزة كل نبي من جنس ما كان غالباً على أهل ذلك الزمان فلما كان السحر غالباً على أهل زمان موسى عليه السلام كانت معجزته شبيهة بالسحر وإن كان مخالفاً للسحر في الحقيقة، ولما كان الطب غالباً على أهل زمان عيسى عليه السلام كانت معجزته من جنس الطب، ولما كانت الفصاحة غالبة على أهل زمان محمد عليه الصلاة والسلام لا جرم كانت معجزته من جنس الفصاحة.
ثم قال تعالى :﴿وَجَآءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لاجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَـالِبِينَ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع، وابن كثير، وحفص، عن عاصم، أن لنا لأجراً بكسر الألف على الخبر والباقون على الاستفهام، ثم اختلفوا، فقرأ أبو عمرو بهمزة ممدودة على أصله والباقون بهمزتين قال الواحدي رحمه الله : الاستفهام أحسن في هذا الموضع، لأنهم أرادوا أن يعلموا هل لهم أجر أم لا ؟
ويقطعون على أن لهم الأجر ويقوي ذلك إجماعهم في سورة الشعراء على الهمز للاستفهام وحجة نافع وابن كثير على أنهما أرادا همزة الاستفهام، ولكنهما حذفا ذلك من اللفظ وقد تحذف همزة الاستفهام من اللفظ، وإن كانت باقية في المعنى كقوله تعالى :﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ﴾ (الشعراء : ٢٢) فإنه يذهب كثير من الناس إلى أن معناه أو تلك بالاستفهام، وكما في قوله :﴿هَـاذَا رَبِّى ﴾ (الأنعام : ٧٧، ٧٨) والتقدير. أهذا ربي. وقيل : أيضاً المراد أن السحرة أثبتوا لأنفسهم أجراً عظيماً، لأنهم قالوا : لا بد لنا من أجر، والتنكير للتعظيم. كقول العرب : إن له لإبلاً، وإن له لغنماً، يقصدون الكثرة.