والجواب عنه من وجوه : الأول : أنه عليه الصلاة والسلام إنما أمرهم بشرط أن يعلموا في فعلهم أن يكون حقاً. فإذا لم يكن كذلك فلا أمر هناك. كقول القائل منا لغيره اسقني الماء من الجرة فهذا الكلام إنما يكون أمراً بشرط حصول الماء في الجرة، فأما إذا لم يكن فيها ماء فلا أمر ألبتة كذلك ههنا. الثاني : أن القوم إنما جاؤوا لإلقاء تلك الحبال والعصي، وعلم موسى عليه السلام أنهم / لا بد وأن يفعلوا ذلك وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير/ فعند ذلك أذن لهم في التقديم ازدراء لشأنهم، وقلة مبالاة بهم، وثقة بما وعده الله تعالى به من التأييد والقوة، وأن المعجزة لا يغلبها سحر أبداً. الثالث : أنه عليه الصلاة والسلام كان يريد إبطال ما أتوا به من السحر، وإبطاله ما كان يمكن إلا بإقدامهم على إظهاره، فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليمكنه الإقدام على إبطاله. ومثاله أن من يريد سماع شبهة ملحد ليجيب عنها ويكشف عن ضعفها وسقوطها ؛ يقول له هات، وقل، واذكرها، وبالغ في تقريرها، ومراده منه أنه إذا أجاب عنها بعد هذه المبالغة فإنه يظهر لكل أحد ضعفها وسقوطها، فكذا ههنا. والله أعلم.
ثم قال تعالى :﴿فَلَمَّآ أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ﴾ واحتج به القائلون بأن السحر محض التمويه. قال القاضي : لو كان السحر حقاً، لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم ؟
فثبت أن المراد أنهم تخيلوا أحوالاً عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان على وفق ما تخيلوه. قال الواحدي : بل المراد سحروا أعين الناس، أي قلبوها عن صحة أدراكها بسبب تلك التمويهات، وقيل إنهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق، وجعلوا الزئبق في دواخل تلك العصي، فلما أثر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض وكانت كثيرة جداً، فالناس تخيلوا أنها تتحرك وتلتوي باختيارها وقدرتها.
وأما قوله :﴿وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ فالمعنى : أن العوام خافوا من حركات تلك الحبال والعصي. قال المبرد : أرهبوهم، والسين زائدة. قال الزجاج : استدعوا رهبة الناس حتى رهبهم الناس، وذلك بأن بعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك : أيها الناس احذروا، فهذا هو الاسترهاب. وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه خيل إلى موسى عليه السلام أن حبالهم وعصيهم حيات مثل عصا موسى، فأوحى الله عز وجل إليه ﴿مُوسَى ا أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ﴾ قال المحققون : إن هذا غير جائز، لأنه عليه السلام لما كان نبياً من عند الله تعالى كان على ثقة ويقين من أن القوم لم يغالبوه، وهو عالم بأن ما أتوا به على وجه المعارضة فهو من باب السحر والباطل، ومع هذا الجزم فإنه يمتنع حصول الخوف.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٣٧
فإن قيل : أليس أنه تعالى قال :﴿فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِه خِيفَةً مُّوسَى ﴾ (طه : ٦٧).
قلنا : ليس في الآية أن هذه الخيفة إنما حصلت لأجل هذا السبب، بل لعله عليه السلام خاف من وقوع التأخير في ظهور حجة موسى عليه السلام على سحرهم.
ثم إنه تعالى قال في صفة سحرهم :﴿وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ روي أن السحرة قالوا قد علمنا / سحراً لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمراً من السماء، فإنه لا طاقة لنا به. وروي أنهم كانوا ثمانين ألفاً. وقيل : سبعين ألفاً. وقيل : بضعة وثلاثين ألفاً. واختلفت الروايات، فمن مقل ومن مكثر، وليس في الآية ما يدل على المقدار والكيفية والعدد.
ثم قال تعالى :﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى ا أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ﴾ يحتمل أن يكون المراد من هذا الوحي حقيقة الوحي. وروى الواحدي عن ابن عباس : أنه قال : يريد وألهمنا موسى أن ﴿أَلْقِ عَصَاكَ ﴾.
ثم قال :﴿فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : فيه حذف وإضمار والتقدير ﴿أَنْ أَلْقِ عَصَاكَا فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ﴾.
المسألة الثانية : قرأ حفص عن عاصم ﴿تَلْقَفْ﴾ ساكنة اللام خفيف القاف، والباقون بتشديد القاف مفتوحة اللام. وروي عن ابن كثير ﴿تَلْقَفْ﴾ بتشديد القاف. وعلى هذا الخلاف في طه والشعراء. أما من خفف فقال ابن السكيت : اللقف مصدر لقفت الشيء ألقفه لقفاً إذا أخذته، فأكلته أو ابتلعته، ورجل لقف سريع الأخذ، وقال اللحياني : ومثله ثقف يثقف ثقاً وثقيف كلقيف بين الثقافة واللقافة/ وأما القراءة بالتشديد فهو من تلقف يتلقف، وأما قراءة بن كثير فأصلها تتلقف أدغم إحدى التاءين في الأخرى.


الصفحة التالية
Icon