المسألة الأولى : قرأ عاصم في رواية حفص ﴿أَمِنتُمْ﴾ بهمزة واحدة على لفظ الخبر وكذلك في طه ﴿وَالشُّعَرَآءُ﴾ وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي بهمزتين في جميع القرآن وقرأ الباقون بهمزة واحدة ممدودة في جميع على الاستفهام. قال الفراء : أما قراءة حفص ﴿أَمِنتُمْ﴾ بلفظ الخبر من غير مد، فالوجه فيها أنه يخبرهم بإيمانهم على وجه التقريع لهم والإنكار عليهم، وأما القراءة بالهمزتين فأصله على وزن أفعلتم.
المسألة الثانية : اعلم أن فرعون لما رأى أن أعلم الناس بالسحر أقر بنبوة موسى عليه السلام عند اجتماع الخلق العظيم. خاف أن يصير ذلك حجة قوية عند قومه على صحة نبوة موسى عليه السلام فألقى في الحال نوعين من الشبهة إلى إسماع العوام، لتصير تلك الشبهة مانعة للقوم من اعتقاد صحة نبوة موسى عليه السلام.
فالشبهة الأولى : قوله :﴿إِنَّ هَـاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَةِ﴾ والمعنى : أن إيمان هؤلاء بموسى عليه السلام ليس لقوة الدليل، بل لأجل أنهم تواطئوا مع موسى أنه إذا كان كذا وكذا فنحن نؤمن بك ونقر بنبوتك، فهذا الإيمان إنما حصل بهذا الطريق.
والشبهة الثانية : أن غرض موسى والسحرة فيما تواطئوا عليه إخراج القوم من المدينة وإبطال ملكهم، ومعلوم عند جميع العقلاء أن مفارقة الوطن والنعمة المألوفة من أصعب الأمور فجمع فرعون اللعين بين الشبهتين اللتين لا يوجد أقوى منهما في هذا الباب. وروى محمد بن جرير عن السدي في حديث عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم : أن موسى وأمير السحرة التقيا فقال موسى عليه السلام : أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به الحق ؟
قال الساحر : لآتين غداً بسحر لا يغلبه سحر، فوالله لئن غلبتني لأومنن بك، وفرعون ينظر إليهما ويسمع قولهما، فهذا هو قول فرعون ﴿إِنَّ هَـاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ﴾ واعلم أن هذا يحتمل أنه كان قد حصل، ويحتمل أيضاً أن فرعون ألقى هذا الكلام في البين، ليصير صارفاً للعوام عن التصديق بنبوة موسى عليه السلام. قال القاضي : وقوله :﴿قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ ﴾ دليل على مناقضة فرعون في ادعاء الإلهية، لأنه لو كان إلهاً لما جاز أن يأذن لهم في أن يؤمنوا به مع أنه يدعوهم إلى إلهية غيره، ثم قال : وذلك من خذلان الله تعالى الذي يظهر على المبطلين.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٤٠
أما قوله :﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ لا شبهة في أنه ابتداء وعيد، ثم إنه لم يقتصر على هذا الوعيد المجمل، بل فسره فقال :﴿لاقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَـافٍ ثُمَّ لاصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ وقطع اليد والرجل من خلاف معروف المعنى، وهو أن يقطعهما من جهتين مختلفتين، أما من اليد اليمنى والرجل اليسرى، أو من اليد اليسرى والرجل اليمنى، وأما الصلب فمعروف. فتوعدهم بهذين الأمرين العظيمين، واختلفوا في أنه هل وقع ذلك منه ؟
وليس في الآية ما يدل على أحد الأمرين. واحتج بعضهم على وقوعه بوجوه : الأول : أنه تعالى حكى عن الملأ من قوم فرعون أنهم قالوا له :﴿أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَه لِيُفْسِدُوا فِى الارْضِ﴾ (الأعراف : ١٢٧) ولو أنه ترك أولئك السحرة وقومه أحياء وما قتلهم، لذكرهم أيضاً ولحذرهم عن الإفساد الحاصل من جهتهم. ويمكن أن يجاب عنه بأنهم دخلوا تحت قومه فلا وجه لأفرادهم بالذكر. والثاني : أن قوله تعالى حكاية عنهم ﴿رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ يدل على أنه كان قد نزل بهم بلاء شديد عظيم، حتى طلبوا من الله تعالى أن يصبرهم عليه. ويمكن أن يجاب عنه بأنهم طلبوا من الله تعالى الصبر على الإيمان وعدم الالتفات إلى وعيده. الثالث : ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنه فعل ذلك وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وهذا هو الأظهر / مبالغة منه في تحذير القوم عن قبول دين موسى عليه السلام. وقال آخرون : إنه لم يقع من فرعون ذلك، بل استجاب الله تعالى لهم الدعاء في قولهم :﴿وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ لأنهم سألوه تعالى أن يكون توفيهم من جهته لا بهذا القتل والقطع وهذا الاستدلال قريب.
ثم حكى تعالى عن القوم ما لا يجوز أن يقع من المؤمن عند هذا الوعيد أحسن منه، وهو قولهم لفرعون :﴿وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلا أَنْ ءَامَنَّا بِـاَايَـاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا ﴾ فبينوا أن الذي كان منهم لا يوجب الوعيد ولا إنزال النقمة بهم، بل يقتضي خلاف ذلك، وهو أن يتأسى بهم في الإقرار بالحق والاحتراز عن الباطل عند ظهور الحجة والدليل. يقال : نقمت أنقم إذا بالغت في كراهية الشيء، وقد مر عند قوله :﴿قُلْ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ﴾ (المائدة : ٥٩) قال ابن عباس : يريد ما أتينا بذنب تعذبنا عليه إلا أن آمنا بآيات ربنا. والمراد : ما أتى به موسى عليه السلام من المعجزات القاهرة التي لا يقدر على مثلها إلا الله تعالى.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٤٠


الصفحة التالية
Icon