اعلم أن قوم موسى عليه السلام، لما سمعوا ما ذكره فرعون من التهديد والوعيد خافوا وفزعوا، وقالوا قد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا وذلك، لأن بني إسرائيل كانوا قبل / مجيء موسى عليه السلام مستضعفين في يد فرعون اللعين، فكان يأخذ منهم الجزية ويستعملهم في الأعمال الشاقة ويمنعهم من الترفه والتنعم ويقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، فلما بعث الله تعالى موسى عليه السلام قوي رجاؤهم في زوال تلك المضار والمتاعب، فلما سمعوا أن فرعون أعاد التهديد مرة ثانية عظم خوفهم وحزنهم، فقالوا هذا الكلام.
فإن قيل : أليس هذا القول يدل على أنهم كرهوا مجيء موسى عليه السلام وذلك يوجب كفرهم ؟
والجواب : أن موسى عليه السلام لما جاء، وعدهم بزوال تلك المضار فظنوا أنها تزول على الفور. فلما رأوا أنها ما زالت، رجعوا إليه في معرفة كيفية ذلك الوعد فبين موسى عليه السلام أن الوعد بإزالتها لا يوجب الوعد بإزالتها في الحال، وبين لهم أنه تعالى سينجز لهم ذلك الوعد في الوقت الذي قدره له، والحاصل أن هذا ما كان بنفرة عن مجيء موسى عليه السلام بالرسالة، بل استكشافاً لكيفية ذلك الوعد. والله أعلم.
واعلم أن القوم لما ذكروا ذلك قال موسى عليه السلام :﴿عَسَى رَبُّكُمْ﴾ قال سيبويه :﴿عَسَى ﴾ طمع وإشفاق. قال الزجاج : وما يطمع الله تعالى فيه فهو واجب.
ولقائل أن يقول : هذا ضعيف لأن لفظ ﴿عَسَى ﴾ ههنا ليس كلام الله تعالى بل هو حكاية عن كلام موسى عليه السلام، إلا أنا نقول مثل هذا الكلام إذا صدر عن رسول ظهرت حجة نبوته عليه الصلاة والسلام بالمعجزات الباهرة أفاد قوة النفس وأزال ما خامرها من الانكسار والضعف فقوى موسى عليه السلام قلوبهم بهذا القول وحقق عندهم الوعد ليتمسكوا بالصبر ويتركوا الجزع المذموم ثم بين بقوله :﴿فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ ما يجري مجرى الحث لهم على التمسك بطاعة الله تعالى.
واعلم أن النظر قد يراد به النظر الذي يفيد العلم. وهو على الله محال، وقد يراد به تقليب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته. وهو أيضاً على الله محال، وقد يراد به الانتظار. وهو أيضاً على الله محال، وقد يراد به الرؤية، ويجب حمل اللفظ ههنا عليها. قال الزجاج : أي يرى ذلك بوقوع ذلك منكم لأن الله تعالى لا يجازيهم على ما يعلمه منهم، وإنما يجازيهم على ما يقع منهم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٤٣
فإن قيل : إذا حملتم هذا النظر على الرؤية لزم الإشكال، لأن الفاء في قوله :﴿فَيَنظُرَ﴾ للتعقيب فيلزم أن تكون رؤية الله تعالى لتلك الأعمال متأخرة عن حصول تلك الأعمال، وذلك يوجب حدوث صفة الله تعالى.
قلنا : تعلق رؤية الله تعالى بذلك الشيء نسبة حادثة والنسب والإضافات لا وجود لها في / الأعيان فلم يلزم حدوث الصفة الحقيقية في ذات الله تعالى. والله أعلم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٤٣
٣٤٥
اعلم أنه تعالى لما حكى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه :﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ﴾ (الأعراف : ١٢٩) لا جرم بدأ ههنا بذكر ما أنزله بفرعون وبقومه من المحن حالاً بعد حال، إلى أن وصل الأمر إلى الهلاك تنبيهاً للمكلفين على الزجر عن الكفر والتمسك بتكذيب الرسل، خوفاً من نزول هذه المحن بهم. فقال :﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ﴾ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : السنين جميع السنة قال أبو علي الفارسي : السنة على معنيين : أحدهما : يراد بها ـ الحول والعام ـ والآخر يراد بها ـ الجدب ـ وهو خلاف الخصب فمما أريد به الجدب هذه الآية وقوله صلى الله عليه وسلّم :"اللهم اجعلها عليهم سنيناً كسنين يوسف" وقول عمر رضي الله عنه : إنا لا نقع في عام السنة، فلما كانت السنة يعني بها الجدب، اشتقوا منها كما يشتق من الجدب. ويقال : أسنتوا، كما يقال أجدبوا. قال الشاعر :
ورجال مكة مسنتون عجاف
قال أبو زيد : بعض العرب تقول، هذه سنين ورأيت سنيناً، فتعرب النون. ونحوه. قال الفراء : ومنه قول الشاعر :
دعاني من نجد فإن سنينه
لعبن بنا وشيبننا مردا
قال الزجاج : السنين في كلام العرب الجدوب، يقال مستهم السنة ومعناه : جدب السنة. وشدة السنة.
إذا عرفت هذا فنقول : قال المفسرون :﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ﴾ يريد الجوع والقحط عاماً بعد عام، فالسنون لأهل البوادي ﴿وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ﴾ لأهل القرى.
ثم قال تعالى :﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : ظاهر الآية أنه تعالى إنما أنزل عليهم هذه المضار لأجل أن يرجعوا عن طريقة التمرد والعناد إلى الانقياد والعبودية، وذلك لأن أحوال الشدة ترقق القلب وترغب فيما عند الله، والدليل عليه قوله تعالى :﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاه ﴾ (ا"سراء : ٦٧) وقوله :﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ﴾ (فصلت : ٥١).


الصفحة التالية
Icon