المسألة الثالثة : اختلفوا في ﴿الانسَـانَ﴾ في قوله :﴿وَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ الضُّرُّ﴾ فقال بعضهم : إنه الكافر، ومنهم من بالغ وقال : كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان، فالمراد هو الكافر، وهذا باطل، لأن قوله :﴿فَوْقَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ ثَمَـانِيَةٌ * يَوْمَـاـاِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَه بِيَمِينِه ﴾ (الانشقاق : ٦، ٧) لا شبهة في أن المؤمن داخل فيه، وكذلك قوله :﴿هَلْ أَتَى عَلَى الانسَـانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ﴾ (الدهر : ١) وقوله :﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ﴾ (المؤمنون : ١٢) وقوله :﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِه نَفْسُه ﴾ (ق : ١٦) فالذي قالوه بعيد، بل الحق أن نقول : اللفظ المفرد المحلى بالألف واللام حكمه أنه إذا حصل هناك معهود سابق انصرف إليه، وإن لم يحصل هناك معهود سابق وجب حمله على الاستغراق صوناً له عن الإجمال والتعطيل. ولفظ ﴿الانسَـانَ﴾ ههنا لائق بالكافر، لأن العمل المذكور لا يليق بالمسلم البتة.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٢٢
المسألة الرابعة : في قوله :﴿دَعَانَا لِجَنابِه أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا﴾ وجهان :
الوجه الأول : أن المراد منه ذكر أحوال الدعاء فقوله :﴿لِجَنابِه ﴾ في موضع الحال بدليل عطف الحالين عليه، والتقدير : دعانا مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً.
فإن قالوا : فما فائدة ذكر هذه الأحوال ؟
قلنا : معناه : إن المضرور لا يزال داعياً لا يفتر عن الدعاء إلى أن يزول عنه الضر، سواء كان مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً.
والوجه الثاني : أن تكون هذه الأحوال الثلاثة تعديداً لأحوال الضر، والتقدير : وإذا مس الإنسان الضر لجنبه أو قاعداً أو قائماً دعانا وهو قول الزجاج. والأول : أصح، لأن ذكر الدعاء أقرب إلى هذه الأحوال من ذكر الضر، ولأن القول بأن هذه الأحوال أحوال للدعاء يقتضي مبالغة الإنسان في الدعاء، ثم إذا ترك الدعاء بالكلية وأعرض عنه كان ذلك أعجب.
المسألة الخامسة : في قوله :﴿مَرَّ﴾ وجوه : الأول : المراد منه أنه مضى على طريقته الأولى / قبل مس الضر ونسي حال الجهد. الثاني : مر عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه كأنه لا عهد له به.
المسألة السادسة : قوله تعالى :﴿كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّه ﴾ تقديره : كأنه لم يدعنا، ثم أسقط الضمير عنه على سبيل التخفيف ونظيره قوله تعالى :﴿كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا ﴾ (يونس : ٤٥) قال الحسن : نسي ما دعا الله فيه، وما صنع الله به في إزالة ذلك البلاء عنه :
المسألة السابعة : قال صاحب "النظم" : قوله :﴿وَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ﴾ ﴿إِذَآ﴾ موضوعة للمستقبل.
ثم قال :﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا﴾ وهذا للماضي، فهذا النظم يدل على أن معنى الآية أنه هكذا كان فيما مضى وهكذا يكون في المستقبل. فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل، وما فيه من الفعل الماضي على ما فيه من المعنى الماضي/ وأقول البرهان العقلي مساعد على هذا المعنى وذلك لأن الإنسان جبل على الضعف والعجز وقلة الصبر، وجبل أيضاً على الغرور والبطر والنسيان والتمرد والعتو، فإذا نزل به البلاء حمله ضعفه وعجزه على كثرة الدعاء والتضرع، وإظهار الخضوع والانقياد، وإذا زال البلاء ووقع في الراحة استولى عليه النسيان فنسي إحسان الله تعالى إليه، ووقع في البغي والطغيان والجحود والكفران. فهذه الأحوال من نتائج طبيعته ولوازم خلقته، وبالجملة فهؤلاء المساكين معذورون ولا عذر لهم.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٢٢
المسألة الثامنة : في قوله تعالى :﴿كَذَالِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أبحاث :
البحث الأول : أن هذا المزين هو الله تعالى أو النفس أو الشيطان، فرع على مسألة الجبر والقدر وهو معلوم.
البحث الثاني : في بيان السبب الذي لأجله سمى الله سبحنه الكافر مسرفاً. وفيه وجوه :
الوجه الأول : قال أبو بكر الأصم : الكافر مسرف في نفسه وفي ماله ومضيع لهما، أما في النفس فلأنه جعلها عبداً للوثن، وأما في المال فلأنهم كانوا يضيعون أموالهم في البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
الوجه الثاني : قال القاضي : إن من كانت عادته أن يكون عند نزول البلاء كثير التضرع والدعاء، وعند زوال البلاء ونزول الآلاء معرضاً عن ذكر الله متغافلاً عنه غير مشتغل بشكره، كان مسرفاً في أمر دينه متجاوزاً للحد في الغفلة عنه، ولا شبهة في أن المرء كما يكون مسرفاً في الإنفاق فكذلك يكون مسرفاً فيما يتركه من واجب أو يقدم عليه من قبيح، إذا تجاوز الحد فيه.