والجواب : قيل المراد ليعلم الملك أني لم أخن العزيز بالغيبة، وقيل إنه إذا خان وزيره فقد خانه من بعض الوجوه، وقيل إن الشرابي لما رجع إلى يوسف عليه السلام وهو في السجن قال ذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب ثم ختم الكلام بقوله :﴿وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى كَيْدَ الْخَآاـاِنِينَ﴾ ولعل المراد منه أني لو كنت خائناً لما خلصني الله تعالى من هذه الورطة، وحيث خلصني منها ظهر أني كنت مبرأ عما نسبوني إليه.
والقول الثاني : أن قوله :﴿ذَالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ كلام امرأة العزيز والمعنى : أني وإن أحلت الذنب عليه عند حضوره لكني ما أحلت الذنب عليه عند غيبته، أي لم أقل فيه وهو في السجن خلاف الحق. ثم إنها بالغت في تأكيد الحق بهذا القول، وقالت :﴿وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى كَيْدَ الْخَآاـاِنِينَ﴾ يعني أني لما أقدمت على الكيد والمكر لا جرم افتضحت وأنه لما كان بريئاً عن الذنب لا جرم طهره الله تعالى عنه. قال صاحب هذا القول : والذي يدل على صحته أن يوسف عليه السلام ما كان حاضراً في ذلك المجلس حتى يقال لما ذكرت المرأة قولها :﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِه ا قُلْنَ حَـاشَ﴾ ففي تلك الحالة يقول يوسف :﴿ذَالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ بل يحتاج فيه إلى أن يرجع الرسول من ذلك المجلس إلى السجن ويذكر له تلك الحكاية، ثم إن يوسف يقول ابتداء ﴿ذَالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ ومثل هذا الوصل بين الكلامين الأجنبيين ما جاء ألبتة في نثر ولا نظم فعلمنا أن هذا من تمام كلام المرأة.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٦٩
المسألة الرابعة : هذه الآية دالة على طهارة يوسف عليه السلام من الذنب من وجوه كثيرة : الأول : أن الملك لما أرسل إلى يوسف عليه السلام وطلبه فلو كان يوسف متهماً بفعل قبيح وقد كان صدر منه ذنب وفحش لاستحال بحسب العرف والعادة أن يطلب من الملك أن يتفحص عن تلك الواقعة، لأنه لو كان قد أقدم على الذنب ثم إنه يطلبه من الملك أن يتفحص عن تلك الواقعة كان ذلك سعياً منه في فضيحة نفسه وفي تجديد العيوب التي صارت مندرسة مخفية والعاقل لا يفعل ذلك/ وهب أنه وقع الشك لبعضهم في عصمته أو في نبوته إلا أنه لا شك أنه كان عاقلاً، والعاقل يمتنع أن يسعى في فضيحة نفسه وفي حمل الأعداء على أن يبالغوا في إظهار عيوبه. والثاني : أن النسوة شهدن في المرة الأولى بطهارته ونزاهته حيث قلن :﴿حَـاشَ لِلَّهِ مَا هَـاذَا بَشَرًا إِنْ هَـاذَآ إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ (يوسف : ٣١) وفي المرة الثانية حيث قلن :﴿حَـاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُواءٍ ﴾ والثالث : أن امرأة العزيز أقرت في المرة الأولى بطهارته حيث قالت :﴿وَلَقَدْ رَاوَدتُّه عَن نَّفْسِه فَاسْتَعْصَمَ ﴾ (يوسف : ٣٢) وفي المرة الثانية في هذه الآية.
واعلم أن هذه الآية دالة على طهارته من وجوه : أولها : قول المرأة :﴿وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِه ﴾ وثانيها : قولها :﴿وَإِنَّه لَمِنَ الصَّـادِقِينَ﴾ وهو إشارة إلى أنه صادق في قوله :﴿هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى ﴾ (يوسف : ٢٦) وثالثها : قول يوسف عليه السلام :﴿ذَالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ والحشوية يذكرون أنه لما قال يوسف هذا الكلام قال جبريل عليه السلام، ولا حين هممت، وهذا من رواياتهم الخبيثة وما صحت هذه الرواية في كتاب معتمد، بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعياً منهم في تحريف ظاهر القرآن. ورابعها : قوله :﴿وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى كَيْدَ الْخَآاـاِنِينَ﴾ يعني أن صاحب الخيانة لا بد وأن يفتضح، فلو كنت خائناً لوجب أن افتضح وحيث لم افتضح وخلصني الله تعالى من هذه الورطة، فكل ذلك يدل على أني ما كنت من الخائنين، وههنا وجه آخر وهو أقوى من الكل، وهو أن في هذا الوقت تلك الواقعة صارت مندرسة، وتلك المحنة صارت منتهية، فإقدامه على قوله :﴿ذَالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ مع أنه خانه بأعظم وجوه الخيانة إقدام على وقاحة عظيمة، وعلى كذب عظيم من غير أن يتعلق به مصلحة بوجه ما، والإقدام على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلاً لا يليق بأحد من العقلاء، فكيف يليق إسناده إلى سيد العقلاء، وقدوة الأصفياء ؟
فثبت أن هذه الآية تدل دلالة قاطعة على / براءته مما يقوله الجهال والحشوية.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٦٩
٤٧١
وفي الآية مسائل :


الصفحة التالية
Icon