المسألة الثالثة : اختلف الحكماء في أن النفس الإمارة بالسوء ما هي ؟
والمحققون قالوا إن النفس الإنسانية شيء واحد، ولها صفات كثيرة فإذا مالت إلى العالم الإلهي كانت نفساً مطمئنة، وإذا مالت إلى الشهوة والغضب كانت أمارة بالسوء، وكونها أمارة بالسوء يفيد المبالغة والسبب فيه أن النفس من أول حدوثها قد ألفت المحسوسات والتذت بها وعشقتها، فأما شعورها بعالم المجردات وميلها إليه، فذلك لا يحصل إلا نادراً في حق الواحد، فالواحد وذلك الواحد فإنما يحصل له ذلك التجرد والانكشاف طول عمره في الأوقات النادرة فلما كان الغالب هو انجذابها إلى العالم الجسداني وكان ميلها إلى الصعود إلى العالم الأعلى نادراً لا جرم حكم عليها بكونها أمارة بالسوء، ومن الناس من زعم أن النفس المطمئنة هي النفس العقلية النطقية، وأما النفس الشهوانية والغضبية فهما مغايرتان للنفس العقلية، والكلام في تحقيق الحق في هذا الباب مذكور في المعقولات.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٧١
المسألة الرابعة : تمسك أصحابنا في أن الطاعة والإيمان لا يحصلان إلا من الله بقوله :/ ﴿إِلا مَا رَحِمَ رَبِّى ﴾ قالوا دلت الآية على أن انصراف النفس من الشر لا يكون إلا برحمته ؛ ولفظ الآية مشعر بأنه متى حصلت تلك الرحمة حصل ذلك الانصراف. فنقول : لا يمكن تفسير هذه الرحمة بإعطاء العقل والقدرة والألطاف كما قاله القاضي لأن كل ذلك مشترك بين الكافر والمؤمن فوجب تفسيرها بشيء آخر، وهو ترجيح داعية الطاعة على داعية المعصية وقد أثبتنا ذلك أيضاً بالبرهان القاطع وحينئذ يحصل منه المطلوب.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٧١
٤٧٤
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في هذا الملك فمنهم من قال : هو العزيز، ومنهم من قال : بل هو الريان الذي هو الملك الأكبر، وهذا هو الأظهر لوجهين : الأول : أن قول يوسف :﴿اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآاـاِنِ الارْضِ ﴾ يدل عليه. الثاني : أن قوله :﴿أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى ﴾ يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصاً له، وقد كان يوسف عليه السلام قبل ذلك خالصاً للعزيز، فدل هذا على أن هذا الملك هو الملك الأكبر.
المسألة الثانية : ذكروا أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام وهو في الحبس وقال :"قل اللهم اجعل لي من عندك فرجاً ومخرجاً وارزقني من حيث لا أحتسب" فقبل الله دعاءه وأظهر هذا السبب في تخليصه من السجن، وتقرير الكلام : أن الملك عظم اعتقاده في يوسف لوجوه : أحدها : أنه عظم اعتقاده في علمه، وذلك لأنه لما عجز القوم عن الجواب وقدر هو على الجواب الموافق الذي يشهد العقل بصحته مال الطبع إليه، وثانيها : أنه عظم اعتقاده في صبره وثباته، وذلك لأنه بعد أن بقي في السجن بضع سنين لما أذن له في الخروج ما أسرع إلى الخروج بل صبر وتوقف وطلب أولاً ما يدل على براءة حاله عن جميع لتهم، وثالثها : أنه عظم اعتقاده في حسن أدبه، وذلك لأنه اقتصر على قوله :﴿مَا بَالُ النِّسْوَةِ الَّـاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾ (يوسف : ٥٠) وإن كان غرضه ذكر امرأة العزيز فستر ذكرها، وتعرض لأمر سائر النسوة مع أنه وصل إليه من جهتها أنواع عظيمة من البلاء / وهذا من الأدب العجيب. ورابعها : براءة حاله عن جميع أنواع التهم فإن الخصم أقر له بالطهارة والنزاهة والبراءة عن الجرم. وخامسها : أن الشرابي وصف له جده في الطاعات واجتهاده في الإحسان إلى الذين كانوافي السجن. وسادسها : أنه بقي في السجن بضع سنين، وهذه الأمور كل واحد منها يوجب حسن الاعتقاد في الإنسان، فكيف مجموعها، فلهذا السبب حسن اعتقاد الملك فيه وإذا أراد الله شيئاً جمع أسبابه وقواها.
إذا عرفت هذا فنقول : لما ظهر للملك هذه الأحوال من يوسف عليه السلام رغب أن يتخذه لنفسه فقال :﴿ائْتُونِى بِه أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى ﴾ روي أن الرسول قال ليوسف عليه السلام ثم إلى الملك متنظفاً من درن السجن بالثياب النظيفة والهيئة الحسنة فكتب على باب السجن هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء، ولما دخل عليه قال اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ثم دخل عليه وسلم ودعا له بالعبرانية والاستخلاص طلب خلوص الشيء من شوائب الاشتراك وهذا الملك طلب أن يكون يوسف له وحده وأنه لا يشاركه فيه غيره لأن عادة الملوك أن ينفردوا بالأشياء النفيسة الرفيعة فلما علم الملك أنه وحيد زمانه وفريد أقرانه أراد أن ينفرد به.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٧٤


الصفحة التالية
Icon