روي أن الملك قال ليوسف عليه السلام ما من شيء إلا وأحب أن تشركني فيه إلا في أهلي وفي أن لا تأكل معي فقال يوسف عليه السلام، أما ترى أن آكل معك، وأنا يوسف بن يعقوب بن إسحق الذبيح بن إبراهيم الخليل عليه السلام، ثم قال :﴿فَلَمَّا كَلَّمَه ﴾ وفيه قولان : أحدهما : أن المراد فلما كلم الملك يوسف عليه السلام قالوا لأن في مجالس الملوك لا يحسن لأحد أن يبتدىء بالكلام وإنما الذي يبتدىء به هو الملك، والثاني : أن المراد : فلما كلم يوسف الملك قيل : لما صار يوسف إلى الملك وكان ذلك الوقت ابن ثلاثين سنة/ فلما رآه الملك حدثاً شاباً قال للشرابي : هذا هو الذي علم تأويل رؤياي مع أن السحرة والكهنة ماعلموها قال نعم، فأقبل على يوسف وقال : إني أحب أن أسمع تأويل الرؤيا منك شفاهاً، فأجاب بذلك الجواب شفاهاً وشهد قلبه بصحته، فعند ذلك قال له :﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ يقال : فلان مكين عند فلان بين المكانة أي المنزلة، وهي حالة يتمكن بها صاحبها مما يريد. وقوله :﴿أَمِينٌ﴾ أي قد عرفنا أمانتك وبراءتك مما نسبت إليه.
واعلم أن قوله :﴿مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه من الفضائل والمناقب، وذلك لأنه لا بد في كونه مكيناً من القدرة والعلم. أما القدرة فلأن بها يحصل المكنة. وأما العلم فلأن كونه متمكناً من أفعال الخير لا يحصل إلا به إذ لو لم يكن عالماً بما ينبغي وبما لا ينبغي لا يمكنه تخصيص ما ينبغي / بالفعل، وتخصيص ما لا ينبغي بالترك، فثبت أن كونه مكيناً لا يحصل إلا بالقدرة والعلم. أما كونه أميناً فهو عبارة عن كونه حكيماً لا يفعل الفعل لداعي الشهوة بل إنما يفعله لداعي الحكمة، فثبت أن كونه مكيناً أميناً يدل على كونه قادراً، وعلى كونه عالماً بمواقع الخير والشر والصلاح والفساد، وعلى كونه بحيث يفعل لداعي الحكمة لا لداعية الشهوة، وكل من كان كذلك فإنه لا يصدر عنه فعل الشر والسفه فلهذا المعنى لما حاولت المعتزلة إثبات أنه تعالى لا يفعل القبيح قالوا إنه تعالى لا يفعل القبيح لأنه تعالى عالم بقبح القبيح عالم بكونه غنياً عنه وكل من كان كذلك لم يفعل القبيح قالوا : وإنما يكون غنياً عن القبيح إذا كان قادراً، وإذا كان منزهاً عن داعية السفه فثبت أن وصفه بكونه مكيناً أميناً نهاية ما يمكن ذكره في هذا الباب ثم حكى تعالى أن يوسف عليه السلام قال في هذا المقام ﴿اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآاـاِنِ الارْضِا إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ وفيه مسائل :
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٧٤
المسألة الأولى : قال المفسرون : لما عبر يوسف عليه السلام رؤيا الملك بين يديه قال له الملك : فما ترى أيها الصديق قال : أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعاً كثيراً وتبني الخزائن وتجمع فيها الطعام فإذا جاءت السنون المجدبة بعنا الغلات فيحصل بهذا الطريق مال عظيم فقال الملك ومن لي بهذا الشغل فقال يوسف :﴿اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآاـاِنِ الارْضِ ﴾ أي على خزائن أرض مصر وأدخل الألف واللام على الأرض، والمراد منه المعهود السابق. روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلّم في هذه الآية أنه قال :"رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لأستعمله من ساعته لكنه لما قال ذلك أخره عنه سنة" وأقول هذا من العجائب لأنه لما تأبى عن الخروج من السجن سهل الله عليه ذلك على أحسن الوجوه ولما تسارع في ذكر الالتماس أخر الله تعالى ذلك المطلوب عنه وهذا يدل على أن ترك التصرف والتفويض بالكلية إلى الله تعالى أولى.


الصفحة التالية