المسألة الثانية : لقائل أن يقول : لم طلب يوسف الإمارة والنبي عليه الصلاة والسلام قال لعبد الرحمن بن سمرة :"لا تسأل الإمارة" وأيضاً فكيف طلب الإمارة من سلطان كافر، وأيضاً لم لم يصبر مدة ولم أظهر الرغبة في طلب الأمارة في الحالة، وأيضاً لم طلب أمر الخزائن في أول الأمر، مع أن هذا يورث نوع تهمة وأيضاً كيف جوز من نفسه مدح نفسه بقوله :﴿إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ مع أنه تعالى يقول :﴿فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ﴾ (النجم : ٣٢) وأيضاً فما الفائدة في قوله :﴿إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ وأيضاً لم ترك الاستثناء في هذا فإن الأحسن أن يقول : إني حفيظ عليم إن شاء الله بدليل قوله تعالى :﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَا ىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَالِكَ غَدًا * إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه ﴾ (الكهف : ٢٣، ٢٤) فهذه أسئلة سبعة لا بد من جوابها فنقول : الأصل في جواب هذه / المسائل أن التصرف في أمور الخلق كان واجباً عليه، فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان، إنما قلنا : إن ذلك التصرف كان واجباً عليه لوجوه : الأول : أنه كان رسولاً حقاً من الله تعالى إلى الخلق، والرسول يجب عليه رعاية مصالح الأمة بقدر الإمكان، والثاني : وهو أنه عليه السلام علم بالوحي أنه سيحصل القحط والضيق الشديد الذي ربما أفضى إلى هلاك الخلق العظيم، فلعله تعالى أمره بأن يدبر في ذلك ويأتي بطريق لأجله يقل ضرر ذلك القحط في حق الخلق، والثالث : أن السعي في إيصال النفع إلى المستحقين ودفع الضرر عنهم أمر مستحسن في العقول.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٧٤
وإذا ثبت هذا فنقول : إنه عليه السلام كان مكلفاً برعاية مصالح الخلق من هذه الوجوه، وما كان يمكنه رعايتها إلا بهذا الطريق، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، فكان هذا الطريق واجباً عليه ولما كان واجباً سقطت الأسئلة بالكلية، وأما ترك الاستثناء فقال الواحدي : كان ذلك من خطيئة أوجبت عقوبة وهي أنه تعالى أخر عنه حصول ذلك المقصود سنة، وأقول : لعل السبب فيه أنه لو ذكر هذا الاستثناء لاعتقد فيه الملك أنه إنما ذكره لعلمه بأنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي فلأجل هذا المعنى ترك الاستثناء، وأما قوله لم مدح نفسه فجوابه من وجوه : الأول : لا نسلم أنه مدح نفسه لكنه بين كونه موصوفاً بهاتين الصفتين النافعتين في حصول هذا المطلوب، وبين البابين فرق وكأنه قد غلب على ظنه أنه يحتاج إلى ذكر هذا الوصف لأن الملك وإن علم كماله في علوم الدين لكنه ما كان عالماً بأنه يفي بهذا الأمر، ثم نقول هب أنه مدح نفسه إلا أن مدح النفس إنما يكون مذموماً إذا قصد الرجل به التطاول والتفاخر والتوصل إلى غير ما يحل، فأما على غير هذا الوجه فلا نسلم أنه محرم فقوله تعالى :﴿فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ﴾ (النجم : ٣٢) المراد منه تزكية النفس حال مايعلم كونها غير متزكية، والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية :﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ أما إذا كان الإنسان عالماً بأنه صدق وحق فهذا غير ممنوع منه والله أعلم.
قوله ما الفائدة في وصفه نفسه بأنه حفيظ عليم ؟
قلنا : إنه جار مجرى أن يقول حفيظ بجميع الوجوه التي منها يمكن تحصيل الدخل والمال، عليم بالجهات التي تصلح لأن يصرف المال إليها، ويقال : حفيظ بجميع مصالح الناس، عليم بجهات حاجاتهم أو يقال : حفيظ لوجوه أياديك وكرمك، عليم بوجوب مقابلتها بالطاعة والخضوع وهذا باب واسع يمكن تكثيره لمن أراده.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٧٤
٤٧٦
فيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن يوسف عليه السلام لما التمس من الملك أن يجعله على خزائن الأرض لم يحك الله عن الملك أنه قال : قد فعلت، بل الله سبحانه قال :﴿وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الارْضِ﴾ فههنا المفسرون قالوا في الكلام محذوف وتقديره : قال الملك قد فعلت، إلا أن تمكين الله له في الأرض يدل على أن الملك الملك قد أجابه إلى ما سأل. وأقول : ما قالوه حسن، إلا أن ههنا ما هو أحسن منه وهو أن إجابة الملك له سبب في عالم الظاهر وأما المؤثر الحقيقي : فليس إلا أنه تعالى مكنه في الأرض، وذلك لأن ذلك الملك كان متمكناً من القبول ومن الرد، فنسبة قدرته إلى القبول وإلى الرد على التساوي، وما دام يبقى هذ التساوي امتنع حصول القبول، فلا بد وأن يترجح القبول على الرد في خاطر ذلك الملك، وذلك الترجح لا يكون إلا بمرجح يخلقه الله تعالى، إذا خلق الله تعالى ذلك المرجح حصل القبول لا محالة، فالتمكن ليوسف في الأرض ليس إلا من خلق الله تعالى في قلب ذلك الملك بمجموع القدرة والداعية الجازمة اللتين عند حصولهما يجب الأثر، فلهذا السبب ترك الله تعالى ذكر إجابة الملك واقتصر على ذكر التمكين الإلهي، لأن المؤثر الحقيقي ليس إلا هو.


الصفحة التالية
Icon