المسألة الثانية : روي أن الملك توجه وأخرج خاتم الملك وجعله في أصبعه وقلد بسيفه ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت، فقال يوسف عليه السلام : أما السرير فأشد به ملكك وأما الخاتم فأدبر به أمرك، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي، وجلس على السرير ودانت له القوم، وعزل الملك قطفير زوج المرأة المعلومة ومات بعد ذلك وزوجه الملك امرأته، فلما دخل عليها قال أليس هذا خيراً مما طلبت، فوجدها عذراء فولدت له ولدين أفرايم وميشا وأقام العدل بمصر وأحبته الرجال والنساء، وأسلم على يده الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدراهم والدنانير في السنة الأولى ثم بالحلي والجواهر في السنة الثانية / ثم بالدواب ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم حتى استرقهم سنين فقالوا والله ما رأينا ملكاً أعظم شأناً من هذا الملك حتى صار كل الخلق عبيداً له فلما سمع ذلك قال إني أشهد الله أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم، وكان لا يبيع لأحد ممن يطلب الطعام أكثر من حمل البعير لئلا يضيق الطعام على الباقين هكذا رواه صاحب "الكشاف" والله أعلم.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٧٦
المسألة الثالثة : قوله :﴿وَكَذالِكَ﴾ الكاف منصوبة بالتمكين، وذلك إشارة إلى ما تقدم يعني به ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبنا إياه من قلب الملك وإنجائنا إياه من غم الحبس، وقوله :﴿مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الارْضِ﴾ أي أقدرناه على ما يريد برفع الموانع وقوله :﴿يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ ﴾ يتبوأ في موضع نصب على الحال تقديره مكناه متبوأ وقرأ ابن كثير :﴿نَّشَآءُ ﴾ بالنون مضافاً إلى الله تعالى والباقون بالياء مضافاً إلى يوسف.
واعلم أن قوله :﴿يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ ﴾ يدل على أنه صار في الملك بحيث لا يدافعه أحد، ولا ينازعه منازع بل صار مستقلاً بكل ما شاء وأراد ثم بين تعالى ما يؤكد أن ذلك من قبله فقال :﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ ﴾.
واعلم أنه تعالى ذكر أولاً أن ذلك التمكين كان من الله لا من أحد سواه وهو قوله :﴿وَكَذَالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الارْضِ﴾ ثم أكد ذلك ثانياً بقوله :﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ ﴾ وفيه فائدتان :
الفائدة الأولى : أن هذا يدل على أن الكل من الله تعالى. قال القاضي : تلك المملكة لما لم تتم إلا بالأمور فعلها الله تعالى صارت كأنها حصلت من قبله تعالى.
وجوابه : أنا ندعي أن نفس تلك المملكة إنما حصلت من قبل الله تعالى، لأن لفظ القرآن يدل على قولنا، والبرهان القاطع الذي ذكرناه يقوي قولنا، فصرف هذا اللفظ إلى المجاز لا سبيل إليه.
الفائدة الثانية : أنه أتاه ذلك بمحض المشيئة الإلهية والقدرة النافذة. قال القاضي : هذه الآية تدل على أنه تعالى يجري أمر نعمه على ما يقتضيه الصلاح.
قلنا : الآية تدل على أن الأمور معلقة بالمشيئة الإلهية والقدرة المحضة فأمارعاية قيد الصلاح، فأمر اعتبرته أنت من نفسك مع أن اللفظ لا يدل عليه.
ثم قال تعالى :﴿وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ وذلك لأن إضاعة الأجر إما أن يكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حق الله تعالى، فكانت الإضاعة ممتنعة.
واعلم أن هذا شهادة من الله تعالى على أن يوسف عليه السلام كان من المحسنين ولو صدق القول / بأنه جلس بين شعبها الأربع لامتنع أن يقال : إنه كان من المحسنين، فههنا لزم إما تكذيب الله في حكمه على يوسف بأنه كان من المحسنين وهو عين الكفر أو لزم تكذيب الحشوي فيما رواه وهو عين الإيمان والحق.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٧٦
ثم قال تعالى :﴿وَلاجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأول : في تفسير هذه الآية قولان :
القول الأول : المراد منه أن يوسف عليه السلام وإن كان قد وصل إلى المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الدنيا إلا أن الثواب الذي أعده الله له في الآخرة خير وأفضل وأكمل وجهات الترجيح قد ذكرناها في هذا الكتاب مراراً وأطواراً، وحاصل تلك الوجوه أن الخير المطلق هو الذي يكون نفعاً خالصاً دائماً مقروناً بالتعظيم، وكل هذه القيود الأربعة حاصلة في خيرات الآخرة ومفقودة في خيرات الدنيا.
القول الثاني : أن لفظ الخير قد يستعمل لكون أحد الخيرين أفضل من الآخر كما يقال : الجلاب خير من الماء وقد يستعمل لبيان كونه في نفسه خيراً من غير أن يكون المراد منه بيان التفضيل كما يقال : الثريد خير من الله يعني الثريد خير من الخيرات حصل بإحسان من الله.
إذا ثبت هذا فقوله :﴿وَلاجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ إن حملناه على الوجه الأول لزم أن تكون ملاذ الدنيا موصوفة بالخيرية أيضاً، وأما إن حملناه على الوجه الثاني لزم أن لا يقال إن منافع الدنيا أيضاً خيرات بل لعله يفيد أن خير الآخرة هو الخير، وأما ما سواه فعبث.