المسألة الثانية : لا شك أن المراد من قوله :﴿وَلاجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ شرح حال يوسف عليه السلام فوجب أن يصدق في حقه أنه من الذين آمنوا وكانوا يتقون، وهذا تنصيص من الله عز وجل. على أنه كان في الزمان السابق من المتقين، وليس ههنا زمان سابق ليوسف عليه السلام يحتاج إلى بيان أنه كان فيه من المتقين إلا ذلك الوقت الذي قال الله فيه :﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِه ا وَهَمَّ بِهَا﴾ (يوسف : ٢٤) فكان هذا شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتقين، وأيضاً قوله :﴿وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان من المحسنين، وقوله :﴿إِنَّه مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ شهادة من الله تعالى على أنه من المخلصين فثبت أن الله تعالى شهد بأن يوسف عليه السلام كان من المتقين ومن المحسنين ومن المخلصين/ والجاهل الحشوي يقول : إنه كان من الأخسرين المذنبين، ولا شك أن من لم يقل بقول الله سبحانه وتعالى مع هذه التأكيدات كان من الأخسرين.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٧٦
المسألة الثالثة : قال القاضي : قوله تعالى :﴿وَلاجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ يدل على بطلان قول المرجئة : الذين يزعمون أن الثواب يحصل في الآخرة لمن لم يتق الكبائر.
قلنا : هذا ضعيف، لأنا إن حملنا لفظ خير على أفعل التفضيل لزم أن يكون الثواب الحاصل للمتقين أفضل ولا يلزم أن لا يحصل لغيرهم أصلاً، وإن حملناه على أصل معنى الخيرية، فهذا يدل على حصول هذا الخير للمتقين ولا يدل على أن غيرهم لا يحصل لهم هذا الخير.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٧٦
٤٧٨
اعلم أنه لما عم القحط في البلاد، ووصل أيضاً إلى البلدة التي كان يسكنها يعقوب عليه السلام وصعب الزمان عليهم فقال لبنيه إن بمصر رجلاً صالحاً يمير الناس فاذهبوا إليه بدراهمكم وخذوا الطعام فخرجوا إليه وهم عشرة ودخلوا على يوسف عليه السلام وصارت هذه الواقعة كالسبب في اجتماع يوسف عليه السلام مع إخوته وظهور صدق ما أخبر الله تعالى عنه في قوله ليوسف عليه السلام حال ما ألقوه في الجب ﴿لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـاذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ (يوسف : ١٥) وأخبر تعالى أن يوسف عرفهم وهم ما عرفوه ألبتة، أما أنه عرفهم فلأنه تعالى كان قد أخبره في قوله :﴿لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ﴾ بأنهم يصلون إليه ويدخلون عليه، وأيضاً الرؤيا التي رآها كانت دليلاً على أنهم يصلون إليه، فلهذا السبب كان يوسف عليه السلام مترصداً لذلك الأمر، وكان كل من وصل إلى بابه من البلاد البعيدة يتفحص عنهم ويتعرف أحوالهم ليعرف أن هؤلاء الواصلين هل هم إخوته أم لا فلما وصل إخوة / يوسف إلى باب داره تفحص عن أحوالهم تفحصاً ظهر له أنهم إخوته، وأما أنهم ما عرفوه فلوجوه : الأول : أنه عليه السلام أمر حجابه بأن يوقفوهم من البعد وما كان يتكلم معهم إلا بالواسطة ومتى كان الأمر كذلك لا جرم أنهم لم يعرفوه لا سيما مهابة الملك وشدة الحاجة يوجبان كثرة الخوف، وكل ذلك مما يمنع من التأمل التام الذي عنده يحصل العرفان. والثاني : هو أنهم حين ألقوه في الجب كان صغيراً. ثم إنهم رأوه بعد وفور اللحية، وتغير الزي والهيئة فإنهم رأوه جالساً على سريره، وعليه ثياب الحرير، وفي عنقه طوق من ذهب، وعلى رأسه تاج من ذهب، والقوم أيضاً نسوا واقعة يوسف عليه السلام لطول المدة. فيقال : إن من وقت ما ألقوه في الجب إلى هذا الوقت كان قد مضى أربعون سنة، وكل واحد من هذه الأسباب يمنع من حصول المعرفة، لا سيما عند اجتماعها، والثالث : أن حصول العرفان والتذكير بخلق الله تعالى، فلعله تعالى ما خلق ذلك العرفان والتذكير في قلوبهم تحقيقاً لما أخبره عنه بقوله :﴿لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـاذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ وكان ذلك من معجزات يوسف عليه السلام.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٧٨
ثم قال تعالى :﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ﴾ قال الليث : جهزت القوم تجهيزاً إذا تكلفت لهم جهازهم للسفر، وكذلك جهاز العروس والميت وهو ما يحتاج إليه في وجهه. قال : وسمعت أهل البصرة يقولون : الجهاز بالكسر. قال الأزهري : القراء كلهم على فتح الجيم، والكسر لغة ليست بجيدة، قال المفسرون : حمل لكل رجل منهم بعيراً وأكرمهم أيضاً بالنزول وأعطاهم ما احتاجوا إليه في السفر، فذلك قوله :﴿جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ﴾ ثم بين تعالى أنه لما جهزهم بجهازهم قال :﴿ائْتُونِى بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ ﴾.
واعلم أنه لا بد من كلام سابق حتى يصير ذلك الكلام سبباً لسؤال يوسف عن حال أخيهم، وذكروا فيه وجوهاً :


الصفحة التالية
Icon