الوجه الأول : وهو أحسنها إن عادة يوسف عليه السلام مع الكل أن يعطيه حمل بعير لا أزيد عليه ولا أنقص، وإخوة يوسف الذين ذهبوا إليه كانوا عشرة، فأعطاهم عشرة أحمال/ فقالوا : إن لنا أباً شيخاً كبيراً وأخاً آخر بقي معه، وذكروا أن أباهم لأجل سنه وشدة حزنه لم يحضر، وأن أخاهم بقي في خدمة أبيه ولا بد لهما أيضاً من شيء من الطعام فجهز لهما أيضاً بعيرين آخرين من الطعام فلما ذكروا ذلك قال يوسف فهذا يدل على أن أحب أبيكم له أزيد من حبه لكم، وهذا شيء عجيب لأنكم مع جمالكم وعقلكم وأدبكم إذا كانت محبة أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم دل هذا على أن ذلك أعجوبة في العقل، وفي الفضل والأدب فجيئوني به حتى أراه فهذا السبب محتمل مناسب.
والوجه الثاني : أنهم لما دخلوا عليه، عليه السلام وأعطاهم الطعام قال لهم : من أنتم ؟
قالوا : نحن قوم رعاة من أهل الشام أصابنا الجهد فجئنا نمتار فقال : لعلكم جئتم عيوناً فقالوا معاذ الله نحن إخوة بنو أب واحد شيخ صديق نبي اسمه يعقوب قال : كم أنتم قالوا : كنا اثني عشر فهلك منا واحد وبقي واحد مع الأب يتسلى به عن ذلك الذي هلك، ونحن عشرة وقد جئناك قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخ لكم من أبيكم ليبلغ إلي رسالة أبيكم فعند هذا أقرعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون، وكان أحسنهم رأيا في يوسف فخلفوه عنده.
والوجه الثالث : لعلهم لما ذكروا أباهم قال يوسف : فلم تركتموه وحيداً فريداً ؟
قالوا : ما تركناه وحيداً، بل بقي عنده واحد. فقال لهم : لم استخلصه لنفسه ولم خصه بهذا المعنى لأجل نقص في جسده ؟
فقالوا : لا. بل لأجل أنه يحبه أكثر من محبته لسائر الأولاد فعند هذا قال يوسف لما ذكرتم أن أباكم رجل عالم حكيم بعيد عن المجازفة، ثم إنه خصه بمزيد المحبة وجب أن يكون زائداً عليكم في الفضل، وصفات الكمال مع أني أراكم فضلاء علماء حكماء فاشتاقت نفسي إلى رؤية ذلك الأخ فائتوني به، والسبب الثاني : ذكره المفسرون، والأول والثالث محتمل والله أعلم.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٧٨
ثم إنه تعالى حكى عنه أنه قال :﴿أَلا تَرَوْنَ أَنِّى أُوفِى الْكَيْلَ﴾ أي أتمه ولا أبخسه، وأزيدكم حمل بعير آخر لأجل أخيكم، وأنا خير المنزلين، أي خير المضيفين لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم. وأقول : هذا الكلام يضعف الوجه الثاني وهو الذي نقلناه عن المفسرين، لأن مدار ذلك الوجه على أنه اتهمهم ونسبهم إلى أنهم جواسيس، ولو شافههم بذلك الكلام فلا يليق به أن يقوم لهم :﴿أَلا تَرَوْنَ أَنِّى أُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ﴾ وأيضاً يبعد من يوسف عليه السلام مع كونه صديقاً أن يقول لهم أنتم جواسيس وعيون، مع أنه يعرف براءتهم عن هذه التهمة، لأن البهتان لا يليق بحال الصديق.
ثم قال :﴿فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِه فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلا تَقْرَبُونِ﴾.
واعلم أنه عليه السلام لما طلب منهم إحضار ذلك الأخ جمع بين الترغيب والترهيب. أما الترغيب : فهو قوله :﴿أَلا تَرَوْنَ أَنِّى أُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ﴾ وأما الترهيب : فهو قوله :﴿فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِه فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلا تَقْرَبُونِ﴾ وذلك لأنهم كانوا في نهاية الحاجة إلى تحصيل الطعام، وما كان يمكنهم تحصيله إلا من عنده، فإذا منعهم من الحضور عنده كان ذلك نهاية الترهيب والتخويف، ثم إنهم لما سمعوا هذا الكلام من يوسف قالوا :﴿سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَـاعِلُونَ﴾ أي سنجتهد ونحتال على أن ننزعه من يده، وإنا لفاعلون هذه المراودة، والغرض من التكرير / التأكيد، ويحتمل أن يكون ﴿وَإِنَّا لَفَـاعِلُونَ﴾ أن نجيئك به، ويحتمل ﴿وَإِنَّا لَفَـاعِلُونَ﴾ كل ما في وسعنا من هذا الباب.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٧٨
٤٨٠
في الآية مسائل :
المسائل الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم لفتيانه بالألف والنون والباقون بالتاء من غير ألف، وهما لغتان كالصبيان والصبية، والإخوان والإخوة قال أبو علي الفارسي الفتية جمع فتى في العدد القليل والفتيان للكثير، فوجه البناء الذي للعدد القليل أن الذين يحيطون بما يجعلون بضاعتهم فيه من رحالهم يكونون قليلين لأن هذا من باب الأسرار فوجب صونه إلا عن العدد القليل ووجه الجمع الكثير أنه قال :﴿لِفِتْيَـانِهِ اجْعَلُوا بِضَـاعَتَهُمْ فِى رِحَالِهِمْ﴾ والرحال تفيد العدد الكثير فوجب أن يكون الذين يباشرون ذلك العمل كثيرين.