المسألة الثانية : اتفق الأكثرون على أن إخوة يوسف ما كانوا عالمين بجعل البضاعة في رحالهم ومنهم من قال إنهم كانوا عارفين به، وهو ضعيف لأن قوله :﴿لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ﴾ يبطل ذلك ثم اختلفوا في السبب الذي لأجله أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم على وجوه : الأول : أنهم متى فتحوا المتاع فوجدوا بضاعتهم فيه، علموا أن ذلك كان كرماً من يوسف وسخاء محضاً فيبعثهم ذلك على العود إليه والحرص على معاملته. الثاني : خاف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى / الثالث : أراد به التوسعة على أبيه لأن الزمان كان زمان القحط. الرابع : رأى أن أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته مع شدة حاجتهم إلى الطعام لؤم. الخامس : قال الفراء : إنهم متى شاهدوا بضاعتهم في رحالهم وقع في قلوبهم أنهم وضعوا تلك البضاعة في رحالهم على سبيل السهو وهم أنبياء وأولاد الأنبياء فرجعوا ليعرفوا السبب فيه، أو رجعوا ليردوا المال إلى مالكه. السادس : أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم به عيب ولا منة. السابع : مقصوده أن يعرفوا أنه لا يطلب ذلك الأخ لأجل الإيذاء والظلم ولا لطلب زيادة في الثمن. الثامن : أراد أن يعرف أبوه أنه أكرمهم وطلبه له لمزيد الإكرام فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه. التاسع : أراد أن يكون ذلك المال معونة لهم على شدة الزمان، وكان يخاف اللصوص من قطع الطريق، فوضع تلك الدراهم في رحالهم حتى تبقى مخفية إلى أن يصلوا إلى أبيهم. العاشر : أراد أن يقابل مبالغتهم في الإساءة بمبالغته في الإحسان إليهم.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٨٠
ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم لما رجعوا إلى أبيهم قالوا :﴿قَالُوا يَـا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ﴾ وفيه قولان : الأول : أنهم لما طلبوا الطعام لأبيهم وللأخ الباقي عنده منعوا منه، فقولهم :﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ﴾ إشارة إليه. والثاني : أنه منع الكيل في المستقبل وهو إشارة إلى قول يوسف :﴿فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِه فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِى﴾ (يوسف : ٦٠) والدليل على أن المراد ذلك قولهم :﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ﴾ قرأ حمزة والكسائي : بالياء، والباقون بالنون، والقراءة الأولى تقوى القول الأول، والقراءة الثانية تقوي القول الثاني. ثم قالوا :﴿وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَه لَحَـافِظُونَ﴾ ضمنوا كونهم حافظين له، فلما قالوا ذلك قال يعقوب عليه السلام :﴿هَلْ ءَامَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى ا أَخِيهِ مِن قَبْلُ ﴾ والمعنى أنكم ذكرتم قبل هذا الكلام في يوسف وضمنتم لي حفظه حيث قلتم :﴿وَإِنَّا لَه لَحَـافِظُونَ﴾ (يوسف : ١٢) ثم ههنا ذكرتم هذا اللفظ بعينه فهل يكون ههنا أماني إلا ما كان هناك يعني لما لم يحصل الأمان هناك فكذلك لا يحصل ههنا.
ثم قال :﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَـافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الراَّحِمِينَ﴾ قرأ حمزة والكسائي ﴿حَـافِظًا ﴾ بالألف على التمييز والتفسير على تقدير هو خير لكم حافظاً كقولهم : هو خيرهم رجلاً ولله دره فارساً، وقيل : على الحال والباقون :﴿حَـافِظًا ﴾ بغير ألف على المصدر يعني خيركم حفظاً يعني حفظ الله لبنيامين خير من حفظكم، وقرأ الأعمش ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَـافِظًا ﴾ وقرأ أبو هريرة رضي الله عنه ﴿خَيْرٌ حَـافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الراَّحِمِينَ﴾ وقيل : معناه وثقت بكم في حفظ يوسف عليه السلام فكان ما كان فالآن أتوكل على الله في حفظ بنيامين.
فإن قيل : لم بعثه معهم وقد شاهد ما شاهد.
قلنا : لوجوه : أحدها : أنهم كبروا ومالوا إلى الخير والصلاح، وثانيها : أنه كان يشاهد أنه ليس بينهم وبين بنيامين من الحسد والحقد مثل ما كان بينهم وبين يوسف عليه السلام، وثالثها : أن ضرورة القحط أحوجته إلى ذلك، ورابعها : لعله تعالى أوحى إليه وضمن حفظه وإيصاله إليه.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٨٠
فإن قيل : هل يدل قوله :﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَـافِظًا ﴾ على أنه أذن في ذهاب ابنه بنيامين في ذلك الوقت.
قلنا : الأكثرون قالوا : يدل عليه. وقال آخرون : لا يدل عليه، وفيه وجهان : الأول : التقدير أنه لو أذن في خروجه معهم لكان في حفظ الله لا في حفظهم. الثاني : أنه لما ذكر يوسف قال :﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَـافِظًا ﴾ أي ليوسف لأنه كان يعلم أنه حي.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٨٠
٤٨١
اعلم أن المتاع ما يصلح لأن يستمتع به وهو عام في كل شيء، ويجوز أن يراد به ههنا الطعام الذي حملوه، ويجوز أن يراد به أوعية الطعام.
ثم قال :﴿وَجَدُوا بِضَـاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ﴾ واختلف القراء في ﴿رُدَّتْ﴾ فالأكثرون بضم الراء، وقرأ علقمة بكسر الراء. قال صاحب "الكشاف" : كسرة الدال المدغمة نقلت إلى الراء كما في قيل وبيع. وحكى قطرب أنهم قالوا في قولنا : ضرب زيد على نقل كسرة الراء فيمن سكنها إلى الضاد. وأما قوله :﴿مَا نَبْغِى ﴾ ففي كلمة ﴿مَآ﴾ قولان :