القول الأول : أنها للنفي، وعلى هذا التقدير ففيه وجوه : الأول : أنهم كانوا قد وصفوا يوسف بالكرم واللطف وقالوا : إنا قدمنا على رجل في غاية الكرم أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلاً من آل يعقوب لمافعل ذلك، فقولهم :﴿مَا نَبْغِى ﴾ أي بهذا الوصف الذي ذكرناه كذباً ولا ذكر شيء لم يكن. الثاني : أنه بلغ في الإكرام إلى غاية ما وراءها شيء آخر، فإنه بعد أن بالغ في إكرامنا أمر ببضاعتنا فردت إلينا. الثالث : المعنى أنه رد بضاعتنا إلينا، فنحن لا نبغي منك عند رجوعنا إليه بضاعة أخرى، فإن هذه التي معنا كافية لنا.
والقول الثاني : أن كلمة "ما" ههنا للاستفهام، والمعنى : لما رأوا أنه رد إليهم بضاعتهم قالوا : ما نبغي بعد هذا، أي أعطانا الطعام، ثم رد علينا ثمن الطعام على أحسن الوجوه، فأي شيء نبغي وراء ذلك ؟
واعلم أنا إذا حملنا "ما" على الاستفهام صار التقدير أي شيء نبغي فوق هذا الإكرام إن الرجل رد دراهمنا إلينا فإذا ذهبنا إليه نمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير بسبب حضور أخينا. قال الأصمعي : يقال ماره يميره ميراً إذا أتاه بميرة أي بطعام ومنه يقال : ما عنده خير ولا مير وقوله :﴿وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ﴾ معناه : أن يوسف عليه السلام كان يكيل لكل رجل حمل بعير فإذا حضر أخوه فلا بد وأن يزداد ذلك الحمل، وأما إذا حملنا كلمة "ما" على النفي كان المعنى لا نبغي شيئاً آخر هذه بضاعتنا ردت إلينا فهي كافية لثمن الطعام في الذهاب الثاني، ثم نفعل كذا وكذا.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٨١
وأما قوله :﴿ذالِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾ ففيه وجوه : الأول : قال مقاتل : ذلك كيل يسير على هذا الرجل المحسن لسخائه وحرصه على البذل وهو اختيار الزجاج. والثاني : ذلك كيل يسير، أي قصير المدة ليس سبيل مثله أن تطول مدته بسبب الحبس والتأخير. والثالث : أن يكون المراد ذلك الذي يدفع إلينا دون أخينا شيء يسير قليل فابعث أخانا معنا حتى نتبدل تلك القلة بالكثرة.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٨١
٤٨١
اعلم أن الموثق مصدر بمعنى الثقة ومعناه : العهد الذي يوثق به فهو مصدر بمعنى المفعول يقول : لن أرسله معكم حتى تعطوني عهداً موثوقاً به وقوله :﴿مَنَّ اللَّهُ﴾ أي عهداً موثوقاً به بسبب تأكده بإشهاد الله وبسبب القسم بالله عليه، وقوله :﴿لَتَأْتُنَّنِى بِه ﴾ دخلت اللام ههنا لأجل أنا بينا أن المراد بالموثق من الله اليمين فتقديره : حتى تحلفوا بالله لتأتنني به. وقوله :﴿إِلا أَن يُحَاطَ بِكُمْ ﴾ فيه بحثان :
البحث الأول : قال صاحب "الكشاف" : هذا الاستثناء متصل. فقوله :﴿إِلا أَن يُحَاطَ بِكُمْ ﴾ مفعوله له، والكلام المثبت الذي هو قوله :﴿لَتَأْتُنَّنِى بِه ﴾ في تأويل المنفي، فكان المعنى : لا تمتنعون / من الإتيان به لعلة من العلل إلا لعلة واحدة.
البحث الثاني : قال الواحدي للمفسرين فيه قولان :
القول الأول : أن قوله :﴿إِلا أَن يُحَاطَ بِكُمْ ﴾ معناه الهلاك قال مجاهد : إلا أن تموتوا كلكم فيكون ذلك عذراً عندي، والعرب تقول أحيط بفلان إذا قرب هلاكه قال تعالى :﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِه ﴾ (الكهف : ٤٢) أي أصابه ما أهلكه. وقال تعالى :﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ﴾ (يونس : ٢٢) وأصله أن من أحاط به العدو وانسدت عليه مسالك النجاة دنا هلاكه، فقيل : لكل من هلك قد أحيط به.
والقول الثاني : ما ذكره قتادة ﴿إِلا أَن يُحَاطَ بِكُمْ ﴾ إلا أن تصيروا مغلوبين مقهورين، فلا تقدرون على الرجوع.
ثم قال تعالى :﴿فَلَمَّآ ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ يريد شهيد، لأن الشهيد وكيل بمعنى أنه موكول إليه هذا العهد فإن وفيتم به جازاكم بأحسن الجزاء، وإن غدرتم فيه كافأكم بأعظم العقوبات.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٨١
٤٨٤
اعلم أن أبناء يعقوب لما عزموا على الخروج إلى مصر. وكانوا موصوفين بالكمال والجمال وأبناء رجل واحد قال لهم :﴿لا تَدْخُلُوا مِنا بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ﴾ وفيه قولان : الأول : وهو قول جمهور المفسرين أنه خاف من العين عليهم ولنا ههنا مقامان.