المقام الأول : إثبات أن العين حق والذي يدل عليه وجوه : الأول : إطباق المتقدمين من المفسرين على أن المراد من هذه الآية ذلك. والثاني : ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يعوذ الحسن والحسين فيقول :"أعيذ كما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة" ويقول هكذا كان يعوذ إبراهيم إسمعيل وإسحق صلوات الله عليهم. والثالث : ما روى عبادة بن الصامت قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أول النهار فرأيته شديد الوجع ثم / عدت إليه آخر النهار فرأيته معافى فقال :"إن جبريل عليه السلام أتاني فرقاني فقال : بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن كل عين وحاسد الله يشفيك" قال فأفقت، والرابع : روي أن بني جعفر ابن أبي طالب كانوا غلمناً بيضاً فقالت أسماء : يا رسول الله إن العين إليهم سريعة أفأسترقي لهم من العين فقال لها نعم. والخامس : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بيت أم سلمة وعندها صبي يشتكي فقالوا : يا رسول الله أصابته العين فقال أفلا تسترقون له من العين. والسادس : قوله عليه السلام :"العين حق ولو كان شيء يسبق القدر لسبقت العين القدر" والسابع : قالت عائشة رضي الله عنها : كن يأمر العائن أن يتوضأ ثم يغسل منه المعين الذي أصيب بالعين.
المقام الثاني : في الكشف عن ماهيته فنقول : إن أبا علي الجبائي أنكر هذا المعنى إنكاراً بليغاً ولم يذكر في إنكاره شبهة فضلاً عن حجة، وأما الذين اعترفوا به وأقروا بوجوده فقد ذكروا فيه وجوهاً : الأول : قال الحافظ : إنه يمتد من العين أجزاء فتصل بالشخص المستحسن فتؤثر فيه وتسري فيه كتأثير اللسع والسم والنار، وإن كان مخالفاً في جهة التأثير لهذه الأشياء قال القاضي : وهذا ضعيف لأنه لو كان الأمر كما قال، لوجب أن يؤثر في الشخص الذي لا يستحسن كتأثيره في المستحسن واعلم أن هذا الاعتراض ضعيف وذلك لأنه إذا استحسن شيئاً فقد يحب بقاءه كما إذا استحسن ولد نفسه وبستان نفسه، وقد يكره بقاءه أيضاً كما إذا أحس الحاسد بشيء حصل لعدوه، فإن كان الأول فإنه يحصل له عند ذلك الاستحسان خوف شديد من زواله والخوف الشديد يوجب انحصار الروح في داخل القلب فحينئذ يسخن القلب والروح جداً، ويحصل في الروح الباصرة كيفية قوية مسخنة وإن كان الثاني : فإنه يحصل عند ذلك الاستحسان حسد شديد وحزن عظيم بسبب حصول تلك النعمة لعدوه. والحزن أيضاً يوجب انحصار الروح في داخل القلب ويحصل فيه سخونة شديدة، فثبت أن عند الاستحسان القوي تسخن الروح جداً فيسخن شعاع العين بخلاف ما إذا لم يستحسن فإنه لا تحصل هذه السخونة فظهر الفرق بين الصورتين، ولهذا السبب أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم العائن بالوضوء ومن أصابته العين بالاغتسال.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٨٤
الوجه الثاني : قال أبو هاشم وأبو القاسم البلخي إنه لا يمتنع أن تكون العين حقاً، ويكون معناه أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به استحساناً كان المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشخص وذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف متعلقاً به/ فهذا المعنى غير ممتنع، ثم لا يبعد أيضاً أنه لو ذكر ربه عند تلك الحالة وعدل عن الإعجاب وسأل ربه تقية ذلك، فعنده تتعين المصلحة ولما كانت هذه العادة مطردة لا جرم قيل العين حق.
الوجه الثالث : وهو قول الحكماء قالوا هذا الكلام مبني على مقدمة وهي أنه ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة بل قد يكون التأثير نفسانياً محضاً، ولا يكون للقوى الجسمانية بها تعلق والذي يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل العرض إذا كان موضوعاً على الأرض، قدر الإنسان على المشي عليه ولو كان موضوعاً فيما بين جدارين عاليين لعجز الإنسان على المشي عليه، وما ذاك إلا لأن خوفه من السقوط منه يوجب سقوطه، فعلمنا أن التأثيرات النفسانية موجودة، وأيضاً أن الإنسان إذا تصور كون فلان مؤذياً له حصل في قلبه غضب، ويسخن مزاجه جداً فمبدأ تلك السخونة ليس إلا ذلك التصور النفساني، ولأن مبدأ الحركات البدنية ليس إلا التصورات النفسانية، فلما ثبت أن تصور النفس يوجب تغير بدنه الخاص لم يبعد أيضاً أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدى تأثيراتها إلى سائر الأبدان. فثبت أنه لا يمتنع في العقل كون النفس مؤثرة في سائر الأبدان وأيضاً جواهر النفوس المختلفة بالماهية فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث يؤثر في تغيير بدن حيوان آخر بشرط أن يراه ويتعجب منه، فثبت أن هذا المعنى أمر محتمل والتجارب من الزمن الأقدم ساعدت عليه والنفوس النبوية نطقت به فعنده لا يبقى في وقوعه شك.
وإذا ثبت هذا ثبت أن الذي أطبق عليه المتقدمون من المفسرين في تفسير هذه الآية بإصابة العين كلام حق لا يمكن رده.