القول الثاني : وهو قول أبي علي الجبائي : أن أبناء يعقوب اشتهروا بمصر وتحدث الناس بهم وبحسهم وكمالهم. فقال :﴿لا تَدْخُلُوا ﴾ تلك المدينة ﴿مِنا بَابٍ وَاحِدٍ﴾ على ما أنتم عليه من العدد والهيئة فلم يأمن عليهم حسد الناس أو يقال : لم يأمن عليهم أن يخافهم الملك الأعظم على ملكه فيحبسهم، واعلم أن هذا الوجه محتمل لا إنكار فيه إلا أن القول الأول قد بينا أنه لا امتناع فيه بحسب العقل والمفسرون أطبقوا عليه فوجب المصير إليه، ونقل عن الحسن أنه قال : خاف عليهم العين، فقال :﴿لا تَدْخُلُوا مِنا بَابٍ وَاحِدٍ﴾ ثم رجع إلى علمه وقال :﴿وَمَآ أُغْنِى عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ ﴾ وعرف أن العين ليست بشيء وكان قتادة يفسر الآية بإصابة العين ويقول : ليس في قوله :﴿وَمَآ أُغْنِى عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ ﴾ إبطال له لأن العين وإن صح فالله قادر على دفع أثره.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٨٤
القول الثالث : أنه عليه السلام كان عالماً بأن ملك مصر هو ولده يوسف إلا أن الله تعالى ما أذن له في إظهار ذلك فلما بعث أبناءه إليه قال :﴿لا تَدْخُلُوا مِنا بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ﴾ وكان غرضه أن يصل بنيامين إلى يوسف في وقت الخلوة، وهذا قول إبراهيم النخعي، فأما / قوله :﴿وَمَآ أُغْنِى عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ ﴾ فاعلم أن الإنسان مأمور بأن يراعي الأسباب المعتبرة في هذا العالم ومأمور أيضاً بأن يعتقد ويجزم بأنه لا يصل إليه إلا ما قدره الله تعالى وأن الحذر لا ينجي من القدر، فإن الإنسان مأمور بأن يحذر عن الأشياء المهلكة، والأغذية الضارة، ويسعى في تحصيل المنافع ودفع المضار بقدر الإمكان ثم إنه مع ذلك ينبغي أن يكون جازماً بأنه لا يصل إليه إلا ما قدره الله ولا يحصل في الوجود إلا ما أراده الله فقوله عليه السلام :﴿لا تَدْخُلُوا مِنا بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ﴾ فهو إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم/ وقوله :﴿وَمَآ أُغْنِى عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ ﴾ إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب وإلى التوحيد المحض والبراءة عن كل شيء سوء الله تعالى وقول القائل : كيف السبيل إلى الجمع بين هذين القولين، فهذا السؤال غير مختص به، وذلك لأنه لا نزاع في أنه لا بد من إقامة الطاعات، والاحتراز عن المعاصي والسيئات مع أنا نعتقد أن السعيد من سعد في بطن أمه، وأن الشقي من شقي في بطن أمه فكذا ههنا نأكل ونشرب ونحترز عن السموم وعن الدخول في النار مع أن الموت والحياة لا يحصلان إلا بتقدير الله تعالى، فكذا ههنا، فظهر أن هذا السؤال غير مختص بهذا المقام، بل هو بحث عن سر مسألة الجبر والقدر، بل الحق أن العبد يجب عليه أن يسعى بأقصى الجهد والقدرة، وبعد ذلك السعي البليغ والجد الجهيد فإنه يعلم أن كل ما يدخل في الوجود فلا بد وأن يكون بقضاء الله تعالى ومشيئته وسابق حكمه وحكمته ثم إنه تعالى أكد هذا المعنى، فقال :﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّه ﴾.
واعلم أن هذا من أدل الدلائل على صحة قولنا في القضاء والقدر، وذلك لأن الحكم عبارة عن الإلزام والمنع من النقيض وسميت حكمة الدابة بهذا الاسم، لأنها تمنع الدابة عن الحركات الفاسدة والحكم إنما سمي حكماً لأنه يقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بحيث يصير الطرف الآخر ممتنع الحصول، فبين تعالى أن الحكم بهذا التفسير ليس إلا لله سبحانه وتعالى، وذلك يدل على أن جميع الممكنات مستندة إلى قضائه وقدره ومشيئته وحكمه، إما بغير واسطة وإما بواسطة ثم قال :﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُا وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ ومعناه أنه لما ثبت أن الكل من الله ثبت أنه لا توكل إلا على الله وأن الرغبة ليست إلا في رجحان وجود الممكنات على عدمها وذلك الرجحان المانع عن النقيض هو الحكم، وثبت بالبرهان أنه لا حكم إلا لله فلزم القطع بأن حصول كل الخيرات ودفع كل الآفات من الله، ويوجب أنه لا توكل إلا على الله فهذا مقام شريف عال ونحن قد أشرنا إلى ما هو البرهان الحق فيه والشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله أطنب في تقرير هذا المعنى في كتاب التوكل من كتاب "إحياء علوم الدين" فمن أراد الاستقصاء فيه فليطالع ذلك الكتاب.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٨٤
٤٨٥
قال المفسرون : لما قال يعقوب :﴿وَمَآ أُغْنِى عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ ﴾ (يوسف : ٦٧) صدقه الله في ذلك فقال : وما كان ذلك التفرق يغني من الله من شيء وفيه بحثان :


الصفحة التالية
Icon