إذا ثبت هذا فنقول : الشهادة عبارة عن الحكم الذهني وهو الذي يسميه المتكلمون بكلام النفس، وأما قوله :﴿وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَـافِظِينَ﴾ ففيه وجوه : الأول : أنا قد رأينا أنهم أخرجوا الصواع من رحله، وأما حقيقة الحال فغير معلومة لنا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله. والثاني : قال عكرمة معناه : لعل الصواع دس في متاعه بالليل، فإن الغيب اسم لليل على بعض اللغات. والثالث : قال مجاهد والحسن وقتادة : وما كنا نعلم أن ابنك يسرق، ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به إلى الملك وما أعطيناك موثقاً من الله في رده إليك. والرابع : نقل أن يعقوب عليه السلام قال لهم : فهب أنه سرق ولكن كيف عرف الملك أن شرع بني إسرائيل أن من سرق يسترق، بل أنتم ذكرتموه له لغرض لكم فقالوا عند هذا الكلام : أنا قد ذكرنا له هذا الحكم قبل وقوعنا في هذه الواقعة وما كنا نعلم أن هذه الواقعة نقع فيها فقوله :﴿وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَـافِظِينَ﴾ إشارة إلى هذا المعنى.
فإن قيل : فهل يجوز من يعقوب عليه السلام أن يسعى في إخفاء حكم الله تعالى على هذا القول.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٩٥
قلنا : لعله كان ذلك الحكم مخصوصاً بما إذا كان المسروق منه مسلماً فلهذا أنكر ذكر هذا الحكم عند الملك الذي ظنه كافراً.
ثم حكى تعالى عنهم أنهم قالوا :﴿وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا ﴾.
واعلم أنهم لما كانوا متهمين بسبب واقعة يوسف عليه السلام بالغوا في إزالة التهمة عن أنفسهم فقالوا :﴿وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا﴾ والأكثرون اتفقوا على أن المراد من هذه القرية مصر وقال قوم، بل المراد منه قرية على باب مصر جرى فيها حديث السرقة والتفتيش، ثم فيه قولان : الأول : المراد واسأل أهل القرية إلا أنه حذف المضاف للإيجاز والاختصار، وهذا النوع من المجاز مشهور في لغة العرب قال أبو علي الفارسي ودافع جواز هذا في اللغة كدافع الضروريات وجاحد المحسوسات. والثاني : قال أبو بكر الأنباري المعنى : اسأل القرية والعير والجدار والحيطان فإنها تجيبك وتذكر لك صحة ما ذكرناه لأنك من أكابر أنبياء الله فلا يبعد أن ينطق الله هذه الجمادات معجزة لك حتى تخبر بصحة ما ذكرناه، وفيه وجه ثالث، وهو أن الشيء إذا ظهر ظهوراً تاماً كاملاً فقد يقال فيه، سل السماء والأرض وجميع الأشياء عنه، والمراد أنه بلغ في الظهور إلى الغاية التي / ما بقي للشك فيه مجال.
أما قوله :﴿وَالْعِيْرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا ﴾ فقال المفسرون كان قد صحبهم قوم من الكنعانيين فقالوا : سلهم عن هذه الواقعة. ثم إنهم لما بالغوا في التأكيد والتقرير قالوا :﴿وَإِنَّا لَصَـادِقُونَ﴾ يعني سواء نسبتنا إلى التهمة أو لم تنسبنا إليها فنحن صادقون، وليس غرضهم أن يثبتوا صدق أنفسهم بأنفسهم لأن هذا يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه، بل الإنسان إذا قدم ذكر الدليل القاطع على صحة الشيء فقد يقول بعده وأنا صادق في ذلك يعني فتأمل فيما ذكرته من الدلائل والبينات لتزول عنك الشبهة.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٩٥
٤٩٦
اعلم أن يعقوب عليه السلام لما سمع من أبنائه ذلك الكلام لم يصدقهم فيما ذكروا كما في واقعة يوسف فقال :﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ فذكر هذا الكلام بعينه في هذه الواقعة إلا أنه قال في واقعة يوسف عليه السلام :﴿وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ (يوسف : ١٨) وقال ههنا :﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال بعضهم إن قوله :﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ﴾ ليس المراد منه ههنا الكذب والاحتيال كما في قوله في واقعة يوسف عليه السلام حين قال :﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ﴾ لكنه عنى سولت لكم أنفسكم إخراج بنيامين عني والمصير به إلى مصر طلباً للمنفعة فعاد من ذلك شر وضرر وألححتم علي في إرساله معكم ولم تعلموا أن قضاء الله إنما جاء على خلاف تقديركم وقيل : بل المعنى سولت لكم أنفسكم أمراً خيلت لكم أنفسكم أنه سرق وما سرق.


الصفحة التالية
Icon