ثم حكى تعالى عن يوسف عليه السلام في هذا المقام أنه قال :﴿هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ قيل إنه لما قرأ كتاب أبيه يعقوب ارتعدت مفاصله واقشعر جلده ولان قلبه وكثر بكاؤه وصرح بأنه يوسف. وقيل : إنه لما رأى إخوته تضرعوا إليه ووصفوا ما هم عليه من شدة الزمان وقلة الحيلة أدركته الرقة فصرح حينئذ بأنه يوسف، وقوله :﴿هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ﴾ استفهام يفيد تعظيم الواقعة، ومعناه : ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه، وهو كما يقال للمذنب هل تدري من عصيت وعل تعرف من خالفت ؟
واعلم أن هذه الآية تصديق لقوله تعالى :﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـاذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ (يوسف : ١٥) وأما قوله :﴿وَأَخِيهِ﴾ فالمراد ما فعلوا به من تعريضه للغم بسبب إفراده عن أخيه لأبيه وأمه، وأيضاً كانوا يؤذونه ومن جملة أقسام ذلك الإيذاء قالوا في حقه :﴿إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّه مِن قَبْلُ ﴾ (يوسف : ٧٧) وأما قوله :﴿إِذْ أَنتُمْ جَـاهِلُونَ﴾ فهو يجري مجرى العذر كأنه قال : أنتم إنما أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال ما كنتم في جهالة الصبا أو في جهالة الغرور، يعني والآن لستم كذلك، ونظيره ما يقال في تفسير قوله تعالى :﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ (الأنفطار : ٦) قيل إنما ذكر تعالى هذا الوصف المعين ليكون ذلك جارياً مجرى الجواب وهو أن يقول العبد يا رب غرني كرمك فكذا ههنا إنما ذكر ذلك الكلام إزالة للخجالة عنهم وتخفيفاً للأمر عليهم. ثم إن إخوته قالوا :﴿أَءِنَّكَ لانتَ يُوسُفُا قَالَ أَنَا يُوسُفُ﴾ قرأ ابن كثير ﴿إِنَّكَ﴾ على لفظ الخبر، وقرأ نافع ﴿أَءِنَّكَ لانتَ يُوسُفُ ﴾ بفتح الألف غير ممدودة وبالياء وأبو عمرو بمد الألف وهو رواية قالون عن نافع، والباقون بهمزتين وكل ذلك على الاستفهام، وقرأ أبي ﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَـاهِلُونَ﴾ فحصل من هذه القراءات أن من القراء من قرأ بالاستفهام ومنهم من قرأ بالخبر. أما الأولون فقالوا : إن يوسف لما قال لهم :﴿هَلْ عَلِمْتُم﴾ وتبسم فأبصروا ثناياه، وكانت كاللؤلؤ المنظوم شبهوه بيوسف، فقالوا له استفهاماً ﴿أَءِنَّكَ لانتَ يُوسُفُ ﴾ ويدل على صحة الاستفهام أنه ﴿قَالَ أَنَا يُوسُفُ﴾ وإنما أجابهم عما استفهموا عنه. وأما من قرأ على الخبر فحجته ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج عن رأسه، وكان في فرقه علامة وكان ليعقوب وإسحق مثلها شبه الشامة، فلما رفع التاج عرفوه بتلك العلامة، فقالوا :﴿إِنَّكَ لانتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ ويجوز أن يكون ابن كثير أراد الاستفهام ثم حذف حرف الاستفهام وقوله :﴿قَالَ أَنَا يُوسُفُ﴾ فيه بحثان :
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥٠٥
البحث الأول : اللام لام الابتداء، وأنت مبتدأ ويوسف خبره، والجملة خبر إن.
البحث الثاني : أنه إنما صرح بالاسم تعظيماً لما نزل به من ظلم إخوته وماعوضه الله من / الظفر والنصر ؛ فكأنه قال : أنا الذي ظلمتموني على أعظم الوجوه والله تعالى أوصلني إلى أعظم المناصب، أنا ذلك العاجز الذي قصدتم قتله وإلقاءه في البئر ثم صرت كما ترون، ولهذا قال :﴿وَهَـاذَآ أَخِى ﴾ مع أنهم كانوا يعرفونه لأن مقصوده أن يقول : وهذا أيضاً كان مظلوماً كما كنت ثم إنه صار منعماً عليه من قبل الله تعالى كما ترون وقوله :﴿قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما بكل عز في الدنيا والآخرة وقال آخرون بالجمع بيننا بعد التفرقة وقوله :﴿إِنَّه مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ﴾ معناه : من يتق معاصي الله ويصبر على أذى الناس ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ والمعنى : إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجرهم فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين. وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : اعلم أن يوسف عليه السلام وصف نفسه في هذا المقام الشريف بكونه متقياً ولو أنه قدم على ما يقوله الحشوية في حق زليخا لكان هذا القول كذباً منه وذكر الكذب في مثل هذا المقام الذي يؤمن فيه الكافر ويتوب فيه العاصي لا يليق بالعقلاء.
المسألة الثانية : قال الواحدي روي عن ابن كثير في طريق قنبل :﴿إِنَّه مَن يَتَّقِ﴾ بإثبات الياء في الحالين ووجهه أن يجعل "من" بمنزلة الذي فلا يوجب الجزم ويجوز على هذا الوجه أن يكون قوله :﴿وَيَصْبِرْ﴾ في موضع الرفع إلا أنه حذف الرفع طلباً للتخفيف كما يخفف في عضد وشمع والباقون بحذف الياء في الحالين.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥٠٥
٥٠٧