اعلم أن يوسف عليه السلام لما ذكر لإخوته أن الله تعالى منَّ عليه وأن من يتق المعاصي ويصبر على أذى الناس فإنه لا يضيعه الله صدقوه فيه، واعترفوا له بالفضل والمزية ﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَـاطِاِينَ﴾ قال الأصمعي : يقال : آثرك إيثاراً، أي فضلك الله، وفلان آثر عبد فلان، إذا كان يؤثره بفضله وصلته، والمعنى : لقد فضلك الله علينا بالعلم / والحلم والعقل والفضل والحسن والملك، واحتج بعضهم بهذه الآية على أن إخوته ما كانوا أنبياء، لأن جميع المناصب التي تكون مغايرة لمنصب النبوة كالعدم بالنسبة إليه فلو شاركوه في منصب النبوة لما قالوا :﴿تَاللَّهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾ وبهذا التقدير يذهب سؤال من يقول لعل المراد كونه زائداً عليهم في الملك وأحوال الدنيا وإن شاركوه في النبوة لأنا بينا أن أحوال الدنيا لا يعبأ بها في جنب منصب النبوة.
وأما قوله :﴿وَإِن كُنَّا لَخَـاطِاِينَ﴾ قيل الخاطىء هو الذي أتى بالخطيئة عمداً وفرق بين الخاطىء والمخطىء، فلهذا الفرق يقال لمن يجتهد في الأحكام فلا يصيب إنه مخطىء، ولا يقال إنه خاطىء وأكثر المفسرين على أن الذي اعتذروا منه هو إقدامهم على إلقائه في الجب وبيعه وتبعيده عن البيت والأب، وقال أبو علي الجبائي : إنهم لم يعتذروا إليه من ذلك، لأن ذلك وقع منهم قبل البلوغ فلا يكون ذنباً فلا يعتذر منه، وإنما اعتذروا من حيث إنهم أخطؤا بعد ذلك بأن لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه، ليعلم أنه حي وأن الذئب لم يأكله وهذا الكلام ضعيف من وجوه :
الوجه الأول : أنا بينا أنه لا يجوز أن يقال إنهم أقدموا على تلك الأعمال في زمن الصبا لأنه من البعيد في مثل يعقوب أن يبعث جمعاً من الصبيان غير البالغين من غير أن يبعث معهم رجلاً عاقلاً يمنعهم عما لا ينبغي ويحملهم على ما ينبغي.
الوجه الثاني : هب أن الأمر على ما ذكره الجبائي إلا أنا نقول غاية ما في الباب أنه لا يجب الاعتذار عن ذلك إلا أنه يمكن أن يقال إنه يحسن الاعتذار عنه، والدليل عليه أن المذنب إذا تاب زال عقابه ثم قد يعيد التوبة والاعتذار مرة أخرى، فعلمنا أن الإنسان أيضاً قد يتوب عند ما لا تكون التوبة واجبة عليه.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥٠٧
واعلم أنهم لما اعترفوا بفضله عليهم وبكونهم مجرمين خاطئين قال يوسف :﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ وفيه بحثان :
البحث الأول : التثريب التوبيخ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :"إذا زنت أمة أحدكم فليضربها الحد ولا يثربها"أي ولا يعيرها بالزنا، فقوله :﴿لا تَثْرِيبَ﴾ أي لا توبيخ ولا عيب وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش. ومعناه إزالة الثرب كما أن التجليد إزالة الجلد قال عطاء الخراساني طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها إلى الشيوخ ألا ترى إلى قول يوسف عليه السلام لإخوته ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ﴾ وقوله يعقوب :﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى ﴾ (يوسف : ٩٨).
البحث الثاني : إن قوله :﴿الْيَوْمَ﴾ متعلق بماذا وفيه قولان :
القول الأول : إنه متعلق بقوله :﴿لا تَثْرِيبَ﴾ أي لا أثر بكم اليوم وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بسائر الأيام/ وفيه احتمال آخر وهو أني حكمت في هذا اليوم بأن لا تثريب مطلقاً لأن قوله :﴿لا تَثْرِيبَ﴾ نفي للماهية ونفي الماهية يقتضي انتفاء جميع أفراد الماهية، فكان ذلك مفيداً للنفي المتناول لكل الأوقات والأحوال فتقدير الكلام اليوم حكمت بهذا الحكم العام المتناول لكل الأوقات والأحوال ثم إنه لما بين لهم أنه أزال عنهم ملامة الدنيا طلب من الله أن يزيل عنهم عقاب الآخرة فقال :﴿يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ والمراد منه الدعاء.


الصفحة التالية
Icon