﴿لَوْلا أَن تُفَنِّدُونِ﴾ قال أبو بكر ابن الأنباري : أفند الرجل إذا حزن وتغير عقله وفند إذا جهل ونسب ذلك إليه، وعن الأصمعي إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو المفند قال صاحب "الكشاف" : يقال شيخ مفند ولا يقال عجوز مفندة، لأنها لم يكن في شبيبتها ذات رأي حتى تفند في كبرها فقوله :﴿لَوْلا أَن تُفَنِّدُونِ﴾ أي لولا أن تنسبوني إلى الخرف، ولما ذكر يعقوب ذلك قال الحاضرون عنده :﴿تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَـالِكَ الْقَدِيمِ﴾ وفي الضلال ههنا وجوه : الأول : قال مقاتل : يعني بالضلال ههنا الشقاء/ يعني شقاء الدنيا والمعنى : إنك لفي شقائك القديم بما تكابد من الأحزان على يوسف، واحتج مقاتل بقوله :﴿إِنَّآ إِذًا لَّفِى ضَلَـالٍ وَسُعُرٍ﴾ (القمر : ٢٤) يعنون لفي شقاء دنيانا، وقال قتادة : لفي ضلالك القديم، أي لفي حبك القديم لا تنساه ولا تذهل عنه وهو كقولهم :﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ﴾ (يوسف : ٨) ثم قال قتادة : قد قالوا كلمة غليظة ولم يكن يجوز أن يقولوها لنبي الله، وقال الحسن إنما خاطبوه بذلك لاعتقادهم أن يوسف قد مات وقد كان يعقوب في ولوعه بذكره، ذاهباً عن الرشد والصواب وقوله :﴿فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ﴾ في "أن" قولان : الأول : أنه لا موضع لها من الإعراب وقد تذكر تارة كما ههنا، وقد تحذف كقوله :﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ﴾ (هود : ٧٤) والمذهبان جميعاً موجودان في أشعار العرب. والثاني : قال البصريون هي مع "ما" في موضع رفع بالفعل المضمر تقديره : فلما ظهر أن جاء البشير، أي ظهر مجيء البشير فأضمر الرافع قال جمهور المفسرين البشير هو يهودا قال أنا ذهبت بالقميص الملطخ بالدم وقلت إن يوسف أكله / الذئب فأذهب اليوم بالقميص فأفرحه كما أحزنته قوله :﴿أَلْقَـاـاهُ عَلَى وَجْهِه ﴾ أي طرح البشير القميص على وجه يعقوب أو يقال ألقاه يعقوب على وجه نفسه ﴿فَارْتَدَّ بَصِيرًا ﴾ أي رجع بصيراً ومعنى الارتداد انقلاب الشيء إلى حالة قد كان عليها وقوله :﴿فَارْتَدَّ بَصِيرًا ﴾ أي صيره الله بصيراً كما يقال طالت النخلة والله تعالى أطالها واختلفوا فيه فقال بعضهم : إنه كان قد عمي بالكلية فالله تعالى جعله بصيراً في هذا الوقت. وقال آخرون : بل كان قد ضعف بصره من كثرة البكاء وكثرة الأحزان، فلما ألقوا القميص على وجهه، وبشر بحياة يوسف عليه السلام عظم فرحه وانشرح صدره وزالت أحزانه، فعند ذلك قوي بصره وزال النقصان عنه، فعند هذا قال :
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥٠٩
﴿أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ والمراد علمه بحياة يوسف من جهة الرؤيا، لأن هذا المعنى هو الذي له تعلق بما تقدم، وهو إشارة إلى ما تقدم من قوله :﴿إِنَّمَآ أَشْكُوا بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ (يوسف : ٨٦) روي أنه سأل البشير وقال : كيف يوسف قال هو ملك مصر، قال : ما أصنع بالملك على أي دين تركته قال : على دين الإسلام قال : الآن تمت النعمة، ثم إن أولاد يعقوب أخذوا يعتذرون إليه ﴿قَالُوا يَـا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَـاطِاِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى ا إِنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ وظاهر الكلام أنه لم يستغفر لهم في الحال، بل وعدهم بأنه يستغفر لهم بعد ذلك، واختلفوا في سبب هذا المعنى على وجوه : الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : والأكثرون أراد أن يستغفر لهم في وقت السحر، لأن هذا الوقت أوفق الأوقات لرجاء الإجابة. الثاني : قال ابن عباس رضي الله عنهما : في رواية أخرى أخر الاستغفار إلى ليلة الجمعة، لأنها أوفق الأوقات للإجابة. الثالث : أراد أن يعرف أنهم هل تابوا في الحقيقة أم لا، وهل حصلت توبتهم مقرونة بالإخلاص التام أم لا. الرابع : استغفر لهم في الحال، وقوله :﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ﴾ معناه أني أداوم على هذا الاستغفار في الزمان المستقبل، فقد روي أنه كان يستغفر لهم في كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة، وقيل : قام إلى الصلاة في وقت فلما فرغ رفع يده إلى السماء وقال :"اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عليه، واغفر لأولادي ما فعلوه في حق يوسف عليه السلام" فأوحى الله تعالى إليه : قد غفرت لك ولهم أجمعين. وروي أن أبناء يعقوب عليه السلام قالوا ليعقوب وقد غلبهم الخوف والبكاء : ما يغني عنا إن لم يغفر لنا، فاستقبل الشيخ القبلة قائماً يدعو، وقام يوسف خلفه يؤمن وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة حتى قل صبرهم فظنوا أنها الهلكة فنزل جبريل عليه السلام وقال :"إن الله تعالى أجاب دعوتك في ولدك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة" وقد اختلف الناس في نبوتهم وهو مشهور.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥٠٩
٥١٤


الصفحة التالية
Icon