والسبب الثاني : لتمنى الموت أن الخطباء والبلغاء وإن أطنبوا في مذمة الدنيا إلا أن حاصل كلامهم يرجع إلى أمور ثلاثة : أحدها : أن هذه السعادات سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها. وثانيها : أنها غير خالصة بل هي ممزوجة بالمنغصات والمكدرات. وثالثها : أن الأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها بل ربما كان حصة الأراذل أعظم بكثير من حصة الأفاضل، فهذه الجهات الثلاثة منفرة عن هذه اللذات، ولما عرف العاقل أنه لا سبيل إلى تحصيل هذه اللذات إلا مع هذه الجهات الثلاثة المنفرة لا جرم يتمنى الموت ليتخلص عن هذه الآفات.
والسبب الثالث : وهو الأقوى عند المحققين رحمهم الله أجمعين أن هذه اللذات الجسمانية لا حقيقة لها، وإنما حاصلها دفع الآلام، فلذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع، ولذة الوقاع عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب الدغدغة المتولدة من حصول المني في أوعية المني. ولذة الإمارة والرياسة عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب شهوة الانتقام وطلب الرياسة وإذا كان حاصل هذه اللذات ليس إلا دفع الألم لا جرم صارت عند العقلاء حقيرة خسيسة نازلة ناقصة وحينئذ يتمنى الإنسان الموت ليتخلص عن الاحتياج إلى هذه الأحوال الخسيسة.
والسبب الرابع : أن مداخل اللذات الدنيوية قليلة وهي ثلاثة أنواع : لذة الأكل ولذة الوقاع / ولذة الرياسة ولكل واحدة منها عيوب كثيرة. أما لذة الأكل ففيها عيوب : أحدها : أن هذه اللذات ليست قوية فإن الشعور بألم القولنج الشديد والعياذ بالله منه أشد من الشعور باللذة الحاصلة عند أكل الطعام. وثانيها : أن هذه اللذة لا يمكن بقاؤها فإن الإنسان إذا أكل شبع وإذا شبع لم يبق شوقه للالتذاذ بالأكل فهذه اللذة ضعيفة، ومع ضعفها غير باقية. وثالثها : أنها في نفسها خسيسة فإن الأكل عبارة عن ترطيب ذلك الطعام بالبزاق المجتمع في الفم ولا شك أنه شيء منفر مستقذر ثم لما يصل إلى المعدة تظهر فيه الاستحالة إلى الفساد والنتن والعفونة، وذلك أيضاً منفر. ورابعها : أن جميع الحيوانات الخسيسة مشاركة فيها فإن الروث في مذاق الجعل كاللوزنيج في مذاق الإنسان وكما أن الإنسان يكره تناول غذاء الجعل، فكذلك الجعل يكره تناول غذاء الإنسان، وأما اللذة فمشتركة فيما بين الناس. وخامسها : أن الأكل إنما يطيب عند اشتداد الجوع وتلك حاجة شديدة والحاجة نقص وافر. وسادسها : أن الأكل يستحقر عند العقلاء. قيل : من كان همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه، فهذا هو الإشارة المختصرة في معايب الأكل، وأما لذة النكاح، فكل ما ذكرناه في الأكل حاصل ههنا مع أشياء أخرى/ وهي أن النكاح سبب لحصول الولد، وحينئذ تكثر الأشخاص فتكثر الحاجة إلى المال فيحتاج الإنسان بسببها إلى الاحتيال في طلب المال بطرق لا نهاية لها، وربما صار هالكاً سبب طلب المال، وأما لذة الرياسة فعيوبها كثيرة والذي نذكره ههنا بسبب واحد وهو أن كل أحد يكره بالطبع أن يكون خادماً مأموراً ويحب أن يكون مخدوماً آمراً، فإذا سعى الإنسان في أن يصير رئيساً آمراً كان ذلك دالاً على مخالفة كل ما سواه، فكأنه ينازع كل الخلق في ذلك، وهو يحاول تحصيل تلك الرياسة، وجميع أهل الشرق والغرب يحاولون إبطاله ودفعه، ولا شك أن كثرة الأسباب توجب قوة حصول الأثر وإذا كان كذلك كان حصول هذه الرياسة كالمعتذر ولو حصل فإنه يكون على شرف الزوال في كل حين وأوان بكل سبب من الأسباب وكان صاحبها عند حصولها في الخوف الشديد من الزوال وعند زوالها في الأسف العظيم والحزن الشديد بسبب ذلك الزوال.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥١٨
واعلم أن العاقل إذا تأمل هذه المعاني علم قطعاً أنه لا صلاح له في طلب هذه اللذات والسعي في هذه الخيرات ألبتة. ثم إن النفس خلقت مجبولة على طلبها، والعشق الشديد عليها، والرغبة التامة في الوصول إليها وحينئذ ينعقد ههنا قياف، وهو أن الإنسان ما دام يكون في هذه الحياة الجسمانية فإنه يكون طالباً لهذه اللذات وما دام يطلبها كان في عين الآفات وفي لجة الحسرات، وهذا اللازم مكروه فالملزوم أيضاً مكروه فحينئذ يتمنى زوال هذه الحياة الجسمانية والسبب في الأمور / المرغبة في الموت أن موجبات هذه اللذة الجسمانية متكررة ولا يمكن الزيادة عليها والتكرير يوجب الملالة أما سعادات الآخرة فهي أنواع كثيرة غير متناهية.
قال الإمام فخر الدين الرازي رحمة الله عليه وهو مصنف هذا الكتاب أنار الله برهانه. أنا صاحب هذه الحالة والمتوغل فيها، ولو فتحت الباب وبالغت في عيوب هذه اللذات الجسمانية فربما كتبت المجلدات وما وصلت إلى القليل منها فلهذا السبب صرت مواظباً في أكثر الأوقات على ذكر هذا الذي ذكره يوسف عليه السلام وهو قوله :﴿رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاحَادِيثِا فَاطِرَ﴾.