المسألة الثالثة : تمسك أصحابنا في بيان أن الإيمان من الله تعالى بقوله ﴿تَوَفَّنِى مُسْلِمًا﴾ وتقريره أن تحصيل الإسلام وإبقاءه إذا كان من العبد كان طلبه من الله فاسداً وتقريره كأنه يقول افعل يا من لا يفعل والمعتزلة أبداً يشنعون علينا ويقولون إذا كان الفعل من الله فكيف يجوز أن يقال للعبد افعل مع أنك لست فاعلاً، فنحن نقول ههنا أيضاً إذا كان تحصيل الإيمان وإبقاؤه من العبد لا من الله تعالى، فكيف يطلب ذلك من الله قال الجبائي والكعبي معناه : اطلب اللطف لي في الإقامة على الإسلام إلى أن أموت عليه. فهذا الجواب ضعيف لأن السؤال وقع على السلام فحمله على اللطف عدول عن الظاهر وأيضاً كل ما في المقدور من الألطاف فقد فعله فكان طلبه من الله محالاً.
المسألة الرابعة : لقائل أن يقول : الأنبياء عليهم السلام يعلمون أنهم يموتون لا محالة على الإسلام، فكان هذا الدعاء حاصله طلب تحصيل الحاصل وأنه لا يجوز.
والجواب : أحسن ما قيل فيه أن كمال حال المسلم أن يستسلم لحكم الله تعالى على وجه يستقر قلبه على ذلك الإسلام ويرضى بقضاء الله وقدره، ويكون مطمئن النفس منشرح الصدر منفسح القلب في هذا الباب، وهذه الحالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر، فالمطلوب ههنا هو الإسلام بهذا المعنى.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥١٨
المسألة الخامسة : أن يوسف عليه السلام كان من أكابر الأنبياء عليهم السلام/ والصلاح أول درجات المؤمنين، فالواصل إلى الغاية كيف يليق به أن يطلب البداية. قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من المفسرين : يعني بآبائه إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب، والمعنى : ألحقني بهم في ثوابهم ومراتبهم ودرجاتهم، وههنا مقام آخر من تفسير هذه الآية على لسان أصحاب المكاشفات، وهو أن النفوس المفارقة أذا أشرقت بالأنوار الإلهية واللوامع القدسية، فإذا كانت متناسبة متشاكلة / انعكس النور الذي في كل واحدة منها إلى الأخرى بسبب تلك الملازمة والمجانسة، فتعظم تلك الأنوار وتقوى تلك الأضواء، ومثال تلك الأحوال المرآة الصقيلة الصافية إذا وضعت وضعاً متى أشرقت الشمس عليها انعكس الضوء من كل واحدة منها إلى الأخرى، فهناك يقوى الضوء ويكمل النور، وينتهي في الإشراق والبريق اللمعان إلى حد لا تطيقه العيون والأبصار الضعيفة، فكذا ههنا.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥١٨
٥١٨
اعلم أن قوله :﴿ذَالِكَ﴾ رفع بالابتداء وخبره ﴿مِنْ أَنابَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾ خبر ثان ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ﴾ أي ما كنت عند إخوة يوسف ﴿إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ﴾ أي عزموا على أمرهم وذكرنا الكلام في هذا اللفظ عند قوله :﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ﴾ وقوله :﴿وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ أي بيوسف، واعلم أن المقصد من هذا إخبار عن الغيب فيكون معجزاً. بيان إن إخبار عن الغيب أن محمداً صلى الله عليه وسلّم ما طالع الكتب ولم يتلمذ لأحد وما كانت البلدة بلدة العلماء فإتيانه بهذه القصة الطويلة على وجه لم يقع فيه تحريف ولا غلط من غير مطالعة ولا تعلم، ومن غير أن يقال : إنه كان حاضراً معهم لا بد وأن يكون معجزاً وكيف يكون معجزاً وقد سبق تقرير هذه المقدمة في هذا الكتاب مراراً، وقوله :﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ﴾ أي وما كنت هناك ذكر على سبيل التهكم بهم، لأن كل أحد يعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلّم ما كان معهم.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥١٨
٥٢٠
اعلم أن وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا هذه القصة من رسول الله صلى الله عليه وسلّم على سبيل التعنت، واعتقد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه إذا ذكرها فربما آمنوا، فلما ذكرها أصروا على كفرهم فنزلت هذه الآية، وكأنه إشارة إلى ما ذكره الله تعالى في قوله :﴿إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ﴾ (القصص : ٥٦) قال أبو بكر بن الأنباري : جواب ﴿لَوْ﴾ محذوف، لأن جواب ﴿لَوْ﴾ لا يكون مقدماً عليها فلا يجوز أن يقال. وقال الفراء في "المصادر" يقال : حرص يحرص حرصاً، ولغة أخرى شاذة : حرص يحرص حريصاً. ومعنى الحرص : طلب الشيء بأقصى ما يمكن من الاجتهاد. وقوله :﴿وَمَا تَسْـاَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾ معناه ظاهر وقوله :﴿إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَـالَمِينَ﴾ أي هو تذكرة لهم في دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد والقصص والتكاليف والعبادات، ومعناه : أن هذا القرآن يشتمل على هذه المنافع العظيمة، ثم لا تطلب منهم مالاً ولا جعلاً، فلو كانوا عقلاء لقبلوا ولم يتمردوا. وقوله تعالى :﴿وَكَأَيِّن مِّنْ ءَايَةٍ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ يعني : أنه لا عجب إذا لم يتأملوا في الدلائل الدالة على نبوتك، فإن العالم مملوء من دلائل التوحيد والقدرة والحكمة ثم إنهم يمرون عليها ولا يلتفتون إليها.


الصفحة التالية
Icon