واعلم أن السبيل في أصل اللغة الطريق، وشبهوا المعتقدات بها لما أن الإنسان يمر عليها إلى الجنة ادعو الله على بصيرة وحجة وبرهان أنا ومن اتبعني إلى سيرتي وطريقتي وسيرة أتباعي الدعوة إلى الله، لأن كل من ذكر الحجة وأجاب عن الشبهة فقد دعا بمقدار وسعه إلى الله وهذا يدل على أن الدعاء إلى الله تعالى إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط وهو أن يكون على بصيرة مما يقول وعلى هدى ويقين، فإن لم يكن كذلك فهو محض الغرور وقال عليه الصلاة والسلام :"العلماء أمناء الرسل على عباد الله من حيث يحفظون لما تدعونهم إليه" وقيل أيضاً يجوز أن ينقطع الكلام عند قوله ﴿أَدْعُوا إِلَى اللَّه ﴾ ثم ابتدأ وقال :﴿عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى ﴾ وقوله :﴿وَسُبْحَـانَ اللَّهِ﴾ عطف على قوله :﴿هَـاذِه سَبِيلِى ﴾ أي قل هذه سبيلي وقل سبحان الله تنزيهاً لله عما يشركون وما أنا من المشركين الذين اتخذوا مع الله ضداً ونداً وكفؤاً وولداً، وهذه الآية تدل على أن حرفة الكلام وعلم الأصول حرفة الأنبياء عليهم السلام وأن الله ما بعثهم إلى الخلق إلا لأجلها.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥٢٠
٥٢١
اعلم أنه قرأ حفص عن عاصم ﴿نُّوحِى ﴾ بالنون، والباقون بالياء ﴿أَفَلا يَعْقِلُونَ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو، ورواية حفص عن عاصم :﴿تَعْقِلُونَ﴾ بالتاء على الخطاب، والباقون : بالياء على الغائب.
واعلم أن من جملة شبه منكري نبوته عليه الصلاة والسلام أن الله لو أراد إرسال رسول لبعث ملكاً، فقال تعالى :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُّوحِى إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى ا ﴾ فلما كان الكل / هكذا فكيف تعجبوا في حقك يا محمد والآية تدل على أن الله ما بعث رسولاً إلى الحق من النسوان وأيضاً لم يبعث رسولاً من أهل البادية. قال عليه الصلاة والسلام :"من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل".
ثم قال :﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا ﴾ إلى مصارع الأمم المكذبة وقوله :﴿وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ والمعنى دار الحالة الآخرة، لأن للناس حالتين حال الدنيا وحال الآخرة، ومثله قوله صلاة الأولى أي صلاة الفريضة الأولى، وأما بيان أن الآخرة خير من الأولى فقد ذكرنا دلائله مراراً.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥٢١
٥٢٢
اعلم أنه قرأ عاصم وحمزة والكسائي ﴿كُذِبُوا ﴾ بالتخفيف، وكسر الذال والباقون بالتشديد، ومعنى التخفيف من وجهين : أحدهما : أن الظن واقع بالقوم، أي حتى إذا استيأس الرسل من إيمان القوم فظن القوم أن الرسل كذبوا فيما وعدوا من النصر والظفر.
فإن قيل : لم يجر فيما سبق ذكر المرسل إليهم فكيف يحسن عود هذا الضمير إليهم.
قلنا : ذكر الرسل يدل على المرسل إليهم وإن شئت قلت أن ذكرهم جرى في قوله :﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ (يوسف : ١٠٩) فيكون الضمير عائداً إلى الذين من قبلهم من مكذبي الرسل والظن ههنا بمعنى التوهم والحسبان.
والوجه الثاني : أن يكون المعنى أن الرسل ظنوا أنهم قد كذبوا فيما وعدوا وهذا التأويل منقول عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما قالوا : وإنما كان الأمر كذلك لأجل ضعف البشرية إلا أنه بعيد، لأن المؤمن لا يجوز أن يطن بالله الكذب، بل يخرج بذلك عن الإيمان فكيف يجوز مثله على الرسل، وأما قراءة التشديد ففيها وجهان : الأول : أن الظن بمعنى اليقين، أي وأيقنوا أن الأمم كذبوهم تكذيباً لا يصدر منهم الإيمان بعد ذلك، فحينئذ دعوا عليهم فهنالك أنزل الله سبحانه عليهم عذاب الاستئصال، وورود الظن بمعنى العلم كثير في القرآن قال تعالى :﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا رَبِّهِمْ﴾ (البقرة : ٤٦) أي يتيقنون ذلك. والثاني : أن يكون الظن بمعنى الحسبان والتقدير / حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم فظن الرسل أن الذين آمنوا بهم كذبوهم وهذا التأويل منقول عن عائشة رضي الله عنها وهو أحسن الوجوه المذكورة في الآية، روي أن ابن أبي مليكة نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : وظن الرسل أنهم كذبوا، لأنهم كانوا بشراً ألا ترى إلى قوله :﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَه مَتَى نَصْرُ اللَّه ﴾ (البقرة : ٢١٤) قال فذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها فأنكرته وقالت : ما وعد الله محمداً صلى الله عليه وسلّم شيئاً إلا وقد علم أنه سيوفيه ولكن البلاء لم يزل بالأنبياء حتى خافوا من أن يكذبهم الذين كانوا قد آمنوا بهم وهذا الرد والتأويل في غاية الحسن من عائشة.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥٢٢


الصفحة التالية
Icon